بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد رضا المظفّر

بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN: 964-470-180-1
ISBN الدورة:
964-470-180-1

الصفحات: ٣٢٠
الجزء ١ الجزء ٢

أو الحديث (٦) وأنكروا عقولهم وتركوها وراء

______________________________________________________

أو المراد منها هو جزاء ربهم ، إذ من لقي الملك جزاه بما يستحقه ، أو غير ذلك ، وبالجملة فهو من باب ذكر السبب وإرادة المسبب.

وكقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (١) وقد استدل به الاشاعرة على جواز رؤيته. واجيب عنه :

بأن المراد هو الشهود القلبي والعلم الحضوري كما روي عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ينظرون إلى ربهم بلا كيفية ولا حد محدود ولا صفة محدودة (٢).

أو المراد هو الرجاء كما يقال : إن زيدا كان نظره إلى عمرو ومعناه أنه رجا به.

أو المراد هو النظر إلى ثواب ربها بتقدير المضاف ، أو غير ذلك.

هذا كله مضافا إلى أن مقتضى الجمع بين تلك الآيات والآيات المحكمة الاخرى وكقوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) وقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وقوله :

(لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) هو حمل تلك الآيات على وجوه لا تنافيها حملا للمجمل على المبين.

(٦) كما روي عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : من «أن الله خلق آدم على صورته» (٣) بدعوى رجوع الضمير في قوله : (على صورته) إلى الله ـ تعالى الله عنه ـ ، مع احتمال كون الاضافة تشريفية كإضافة الكعبة إليه أو الروح إليه ، كما هو المروي. هذا مضافا إلى ما ورد من أن الناس حذفوا أول الحديث أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ مر برجلين يتسابان ، فسمع أحدهما يقول لصاحبه : قبّح

__________________

(١) القيامة : ٢٢.

(٢) الميزان : ج ٢٠ ص ٢٠٤.

(٣) راجع اللوامع الالهية : ص ١٠١.

٦١

ظهورهم (٧) فلم يستطيعوا أن يتصرفوا بالظواهر حسبما يقتضيه النظر والدليل وقواعد الاستعارة والمجاز.

______________________________________________________

الله وجهك ووجه من يشبهك ، فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «يا عبد الله لا تقل هذا لأخيك ، فإن الله عزوجل خلق آدم على صورته» (١). ومضافا إلى أن من المحتمل أن المراد منه أن الله تعالى خلق آدم على الصورة الإنسانية من أول الأمر ، لا صورة حيوان آخر بالمسخ ، أو أن المراد من الصورة الصفة ، فيكون المعنى أن آدم ـ عليه‌السلام ـ امتاز عن سائر الأشخاص والأجسام بكونه عالما بالمعقولات وقادرا على استنباط الحرف والصناعات ، وهذه صفات شريفة للشخص نفسه مناسبة لصفات الله تعالى من بعض الوجوه (٢) ، وهكذا هنا روايات اخرى عن طرق العامة يستدل بها على جواز الرؤية في الآخرة ، ولكنها مخدوشة من جهات مختلفة مذكورة في كتب أصحابنا الإمامية ، وإليك ما ألّفه العلّامة السيد عبد الحسين شرف الدين ـ قدس‌سره ـ تحت عنوان «كلمة حول الرؤية» واحقاق الحق (٣). على أن هذه الروايات مضافا إلى ضعفها معارضة مع روايات كثيرة اخرى فلا تغفل.

(٧) مع أن الظواهر لا حجية لها عند قيام القرائن القطعية على خلافها ، وأي قرينة أحسن من الأدلة العقلية القطعية التي لا مجال للتشكيك والترديد فيها. هذا مضافا إلى أن الظن لا يغني في الاصول الاعتقادية كما لا يخفى.

__________________

(١) مصابيح الأنوار : ج ١ ص ٢٠٦.

(٢) راجع اللوامع الالهية : ص ١٠٤.

(٣) احقاق الحق : ج ٤ ص ١٣٣.

٦٢

٢ ـ عقيدتنا في التوحيد

ونعتقد بانه يجب توحيد الله تعالى من جميع الجهات ، فكما يجب توحيده في الذات ونعتقد بأنه واحد في ذاته ووجوب وجوده ، كذلك يجب ـ ثانيا ـ توحيده في الصفات ، وذلك بالاعتقاد بأن صفاته عين ذاته كما سيأتي بيان ذلك ، وبالاعتقاد بأنه لا شبه له في صفاته الذاتية ، فهو في العلم والقدرة لا نظير له وفي الخلق والرزق لا شريك له وفي كل كمال لا ندّ له (١).

______________________________________________________

(١) الند هو النظير والشبيه ، ثم إن ما ذكره المصنف من نفي الشبيه والنظير في الصفات واضح بعد ما عرفت من رجوع كل شيء إليه من الوجود والحياة والقدرة والعلم وغيرها ، بخلافه تعالى ، فإنه ليس من غيره لا في وجوده ولا في كمالاته فهو قيّوم دون غيره ، وأيضا كل شيء غيره محدود بحد وليس هو محدودا بحد من الحدود ، ولا مقيدا بقيد من القيود ، بل هو صرف الكمال ، وهو الذي لا يتناهى من جميع الجهات ، وهكذا ولا ضعف فيه ولا في أوصافه ولذا لا يختلف الأشياء بالنسبة إلى علمه وقدرته ، بل كلها مقدورات ومعلومات له تعالى من دون تفاوت بينها ، ولا يعرضه الضعف والفتور ولا يشوبه العدم

٦٣

ويكون مستقلا في أفعاله وذاته بخلاف غيره تعالى.

ومن ذلك يعرف أن غيره المحدود بالحدود والقيود والمحتاج في وجوده وكماله لا يكون شبيها به تعالى ، فإن غيره المتصف بهذه الصفات محدود ومحتاج ، فكيف يكون شبيها بمن لا حد ولا حاجة له ، بل هو صرف الكمال وعين الغنى فلا ند له ولا كفؤ ، كما نص عليه القرآن الكريم بقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (١) ، بل لا غير إلّا به ، فكيف يمكن أن يكون الغير شبيها ونظيرا له في الصفات.

ومما ذكر يظهر أن نفي النظير والشبيه لا يختص بذاته وصفاته الذاتية ، بل لا نظير له في صفاته الفعلية كالخلق والرزق ، فإن كل ما في الوجود منه تعالى وليس لغيره شيء إلّا بإذنه ، فلا خالق ولا رازق بالاستقلال إلّا هو كما نص عليه بقوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) (٢) ، (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) (٣) ، (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٤) ، (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٥) ، (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٦) ، (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) (٧).

ولا ينافيه إسناد تدبير الأمر إلى غيره في قوله تعالى : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (٨) ، ونحوه ؛ لأن تدبيرها بإذنه وإرادته وينتهي إليه ، فالنظام في عين كونه مبنيا على الأسباب والمسببات يقوم به تعالى في وجوده وفاعليته ، فالملائكة مثلا لا يفعلون إلّا بأمره وإرادته ويكونون رسلا منه ، كما أشار إليه في قوله : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ

__________________

(١) الشورى : ١١.

(٢) الأنعام : ٩٥.

(٣) الرعد : ٢٦.

(٤) الأعراف : ٥٤.

(٥) الصافات : ٩٦.

(٦) الأنعام : ١٠١.

(٧) الرعد : ٣١.

(٨) النازعات : ٥.

٦٤

رُسُلاً) (١) ، وهكذا كل سبب آخر فالأمر أمره والفعل فعله وليس له معادل يعادله ، بل كل منه وبه في وجوده وفاعليته ، ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

ثم إذا عرفت أن الفاعلية بتقدير منه ومنتهية إليه تعالى فلا مجال لتقسيم الأشياء إلى الشرور والخيرات وإسناد الاولى إلى غيره تعالى ، بل كل شيء من الموجودات داخل في النظام الأحسن الذي يقوم به تعالى ، والنظام الأحسن بجملته نظام يكون صدوره أرجح من تركه ، فلذا يصدر من الحكيم المتعالي.

ثم إن للشرك في الفاعلية مراتب بعضها يوجب خروج المعتقد به عن حوزة الإسلام وزمرة أهل التوحيد ، كمن اعتقد بأن للعالم مؤثرين ، النور وهو أزلي فاعل الخير ويسمى «يزدان» والظلمة وهي حادثة فاعلة للشر وتسمى «أهريمن» كما نسب إلى المجوس (٢). وهذا من أنواع الشرك الجلي فإن المعتقد المذكور يعتقد استقلال الظلمة في الفاعلية ، والاستقلال في التأثير والفاعلية شرك.

وبعضها الآخر لا يوجب خروج المعتقد به عن زمرة أهل التوحيد كمن اعتقد بتأثير بعض الامور كالمال والولد وغيرهما من دون توجه إلى أن مقتضى الإيمان بتوحيده تعالى في الأفعال هو أنه لا تأثير لشيء إلّا بإذنه تعالى ، وهذا من أنواع الشرك الخفي ، والمعتقد به لا يعلم أنه ينافي التوحيد الأفعالي ، وهو أمر يبتلى به أكثر المؤمنين كما أشار إليه في كتابه الكريم بقوله : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (٣) أعاذنا الله تعالى من ذلك كله (٤).

__________________

(١) فاطر : ١.

(٢) راجع اللوامع الالهية : ص ٢٤١.

(٣) يوسف : ١٠٦.

(٤) راجع جهان بينى : ج ٢ ص ٩٢ ، للاستاذ الشهيد المطهري قدس‌سره.

٦٥

وكذلك يجب ـ ثالثا ـ توحيده في العبادة ، فلا تجوز عبادة غيره بوجه من الوجوه (٢) ، وكذا اشراكه في العبادة في أي نوع من أنواع العبادة ،

______________________________________________________

(٢) فإن العبادة لا تليق إلّا لمن له الخالقية والربوبية ، إذ مرجع العبادة إلى اظهار الخضوع والتذلل في قبال المالك الأصلي ومن له الأمر والحكم بما أنه رب وقائم بالأمر والخالقية والربوبية مختصة به تعالى ، فإن كل ما سواه محتاج إليه في أصل وجوده وفاعليته وبقائه واموره ، والمحتاج المذكور لا يمكن أن يؤثر من دون أن ينتهي إليه تعالى فالرب والخالق ليس إلّا هو ، والعبادة لا تليق إلّا له تعالى.

فإذا كانت المؤثرات كذلك فالأمر في غير المؤثرات أوضح ، والعجب من عبدة الأحجار والأشجار وبعض الحيوانات وغير ذلك من الأشياء ، التي لا تملك لهم شيئا من النفع أو الضرر والقبض والبسط والإماتة والإحياء.

وإليه يرشد الكتاب العزيز قال : (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ) (١) وبالجملة من عبد غير الله تعالى أشرك غيره معه من دون دليل (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢).

فلا وجه لعبادة غيره تعالى بوجه الخالقية والربوبية ؛ لما عرفت من أنها منحصرة فيه تعالى ، كما لا وجه لعبادة غيره تعالى بوجه الالوهية والوجوب ؛ لما مر من وحدة الإله الواجب فاعتقاد النصارى بالتثليث وتعدد الآلهة من الأب والابن وروح القدس فاسد ، وتخالفه الأدلة القطعية الدالة على وحدة الواجب وبساطته ، إذ تصوير التثليث ينافي الوحدة والبساطة وعدم محدودية الذات. ولذا نصّ في الكتاب العزيز بكفرهم (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) (٣).

__________________

(١) الأنبياء : ٦٦.

(٢) النمل : ٦٤.

(٣) المائدة : ٧٣.

٦٦

واجبة أو غير واجبة ، في الصلاة وغيرها من العبادات. ومن أشرك في العبادة غيره فهو مشرك كمن يرائي في عبادته ويتقرب إلى غير الله تعالى ، وحكمه حكم من يعبد الأصنام والأوثان ، لا فرق بينهما (٣).

وهكذا لا وجه لعبادة غيره بدعوى حلول الإله فيه أو الاتحاد به ؛ لما عرفت من أن الله تعالى غير محدود ولا يحل غير المحدود في المحدود ولا يتحد به ، وأيضا لا وجه لعبادة غيره بتوهم أن الأمر مفوض إليه وهو يقدر على إلزامه تعالى بالعفو والصفح أو الفضل ، ولعل يرشد إليه ما حكي عن المشركين في القرآن الكريم (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (١) ، (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٢) ؛ لأن الغير محتاج إليه في جميع اموره وشئونه ومعه كيف يقدر على إلزامه تعالى بالعفو والصفح أو الفضل. ومما ذكر يظهر وجه قول الماتن حيث قال : «فلا تجوز عبادة غيره بوجه من الوجوه».

ثم لا اشكال في كون عبادة الغير بأي وجه كانت ، شركا ، ويصير المعتقد به خارجا عن حوزة الإسلام وزمرة المسلمين. فإن من اعتقد باستحقاق غيره للعبادة يرجع عقيدته إلى أحد الامور المذكورة التي تكون إما شركا في ذاته تعالى ، أو في ملكه وسلطانه.

(٣) وفيه تأمل ، بل منع ؛ لأن الرياء من صنوف الشرك الخفي وهو في عين كونه عملا حراما في العبادة وموجبا لبطلانها وبعد الإنسان عن ساحة مقام الربوبية ، لا يخرج المرائي عن زمرة المسلمين بالضرورة من الدين ، إذ المرائي يعتقد بالتوحيد في الذات والصفات والفاعلية والربوبية ، ولكنه لضعف إيمانه

__________________

(١) الزمر : ٣.

(٢) يونس : ١٨.

٦٧

يعمل عمل المشرك المعتقد بالتعدد في الفاعلية والربوبية ، وتسميته كافرا أو مشركا في بعض الآثار (١) ليس إلّا للتنزيل والتشبيه بالمشرك أو الكافر في العمل ، نعم عليه أن يجتنب عنه اجتنابا كاملا حتى لا يصير محروما عن رحمته تعالى «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» (٢).

كما يجب عليه الاجتناب عن سائر صنوف الشرك الخفي كإطاعة النفس والطاغوت والشيطان مما يشير إليه قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) (٣) ، (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (٤) ، (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٥).

فالموحد الحقيقي هو الذي خص الله تعالى بالعبادة ولا يشرك غيره فيها ولا يرائي فيها ، وخصه تعالى أيضا بالإطاعة فلا يطيع إلّا إياه ، ومن أمر الله بإطاعتهم ، ويترك إتباع هوى نفسه وغيره ، ويجتنب من عبادة الطاغوت ، فليراقب المؤمن كمال المراقبة في الشرك الخفي فإن الابتلاء به كثير وتمييزه دقيق ، وقد نص عليه الرسول الأعظم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في حديث : «الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء وأدناه أن يحب على شيء من الجور ويبغض على شيء من العدل وهل الدين إلّا الحب والبعض في الله ، قال الله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (٦).

فالشرك في محبة الله من صنوف الشرك الخفي والموحد الحقيقي الكامل هو الذي لا يجب إلّا إياه ، وهكذا الشرك في الاستعانة من صنوف الشرك الخفي

__________________

(١) الوسائل : ج ١ ص ٤٩ ـ ٥١.

(٢) الكهف : ١١٠.

(٣) الفرقان : ٤٣.

(٤) النحل : ٣٦.

(٥) يس : ٦٠ ـ ٦١.

(٦) آل عمران : ٣١ ـ راجع الميزان ج ٣ ص ١٧٥.

٦٨

أمّا زيارة القبور وإقامة المآتم فليست هي من نوع التقرب إلى غير الله تعالى في العبادة ، كما توهمه بعض من يريد الطعن في طريقة الإمامية ، غفلة عن حقيقة الحال فيها ، بل هي من نوع التقرب إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة كالتقرب إليه بعيادة المريض وتشييع الجنائز وزيارة الإخوان في الدين ومواساة الفقير ، فإن عيادة المريض ـ مثلا ـ في نفسها عمل صالح يتقرب به العبد إلى الله تعالى ، وليس هو تقربا إلى المريض يوجب أن يجعل عمله عبادة لغير الله تعالى أو الشرك في عبادته ، وكذلك باقي أمثال هذه الأعمال الصالحة التي منها زيارة القبور ، وإقامة المآتم ، وتشييع الجنائز ، وزيارة الإخوان.

أمّا كون زيارة القبور وإقامة المآتم من الأعمال الصالحة الشرعية فذلك يثبت في علم الفقه وليس هنا موضع إثباته. والغرض أن إقامة هذه الأعمال ليست من نوع الشرك في العبادة كما يتوهمه البعض (٤) ، وليس المقصود منها عبادة الأئمة ، وإنما المقصود منها إحياء أمرهم ، وتجديد

______________________________________________________

والموحد الحقيقي لا يتوكل إلّا على الله ولا يستعين إلّا به (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

وبالجملة كل هذه الموارد من الرياء والإطاعة لغيره ، ومحبة الغير والاستعانة من الغير ، لا يوجب خروج المتصف بهما عن زمرة المسلمين ؛ لاعتقاده بالتوحيد في الذات والصفات والفاعلية والربوبية ، وإنما غفل عن اعتقاده لضعف إيمانه ويعمل عمل المشركين ويسلك مسلكهم ، وفقنا الله تعالى للاجتناب عن جميع صنوف الشرك مطلقا ، جليا كان أو خفيا.

(٤) والمتوهم تخيل أن الزائر أو مقيم المأتم مشرك بالشرك الأصغر أو

٦٩

الشرك الأكبر ، مستدلا بأن العبادة تتحقق بالتعظيم والخضوع والمحبة (١) فحضور الزائر عند القبور أو إقامة المأتم أو التوسل أو الاستشفاع بهم تعظيم لغيره تعالى وهو شرك في العبادة ، وفيه منع واضح ؛ لأن العبادة المصطلحة التي عبر عنها في اللغة العربية بالتأله وفي اللغة الفارسية ب «پرستش» لا تتحقق بمطلق التعظيم والخضوع والمحبة ، ولذا لا يكون التعظيم والخضوع للنبي الأكرم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أو أوصيائه المكرمين ـ عليهم الصلاة والسلام ـ في زمان حياتهم عبادة ، بل لا تكون تلك الامور بالنسبة إلى غيرهم كالأب والام والمعلم ممن يلزم تعظيمهم عبادة ، إذ العبادة هي التعظيم والخضوع في مقابل الغير بعنوان أنه رب يستحق العبادة ، والزائر ومقيم المأتم وهكذا المتوسل بالنبيّ أو الأئمة والمستشفع بهم لا ينوي ذلك أبدا ، بل يعتقد أن مثل النبيّ والأئمة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ مخلوقون مربوبون والأمر بيد الله تعالى ، وإنما زارهم لمجرد التعظيم والتبرك والتوسل اقتفاء بأئمة الدين والأصحاب والتابعين.

قال في كشف الارتياب : «ليس المراد من العبادة التي لا تصلح لغير الله وتوجب الشرك والكفر إذا وقعت لغيره مطلق التعظيم والخضوع ... بل عبادة خاصة لم يصدر شيء منها من أحد من المسلمين» (٢) وهذا هو الفارق بين التوسل والاستشفاع بالرسول والأئمة ـ عليهم‌السلام ـ وبين عبادة المشركين لأصنامهم ، فإنهم يعبدونها عبادة لا تليق إلّا للرب تعالى ، بخلاف من توسل إليهم واستشفع بهم فإنه تبرك بهم وجعلهم وسيلة للتقرب لما عرف من أنهم من المقربين عنده تعالى ، وأين هذا من عبادة المشركين ، والتفصيل يطلب من محله (٣).

__________________

(١) كما حكاه في كتاب فتح المجيد عن القرطبي وابن القيم راجع : ص ١٧ وص ٣٢.

(٢) كشف الارتياب : ص ١٦٧ ، للسيد محسن الامين.

(٣) كشف الارتياب : ص ١٦٨.

٧٠

ذكرهم ، وتعظيم شعائر الله فيهم (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ـ الحج : ٣٢.

فكل هذه أعمال صالحة ثبت من الشرع استحبابها ، فإذا جاء الإنسان متقربا بها إلى الله تعالى طالبا مرضاته ، استحق الثواب منه ونال جزاءه (٥).

______________________________________________________

ولا فرق في ما ذكر بين كون الزائر يحضر المزور ويتوسل ويطلب من الله به ، وبين كونه يحضر ويطلب من المزور أن يدعو للزائر ويطلب من الله ويستشفع له في إنجاز حوائجه ، بل لا مانع عقلا ونقلا من أن يطلب من المزور شفاء دائه أو مريضه أو إنجاز حوائجه بإذن الله تعالى ، وإنما الممنوع هو أن يطلب منه استقلالا من دون أن ينتهي إلى إذنه تعالى وقدرته ؛ لأنه شرك في الفاعلية ، فالمتوهم المذكور لم يطلع على حقيقة الحال في الزيارات والتوسلات وإقامة المآتم ونحوها ، وإلّا فلم ينسب إلينا الشرك. وعلى اخواننا المسلمين أن يجتنبوا عن هذه الاتهامات ؛ لحرمتها ولكونها موجبة للافتراق مع أن الوحدة الاسلامية من أوجب الواجبات لا سيما في زماننا هذا ، الذي اتحد الكفار فيه على إطفاء نور الإسلام وإذلال المسلمين.

(٥) ويشهد له ما روي عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ «من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» ، وغير ذلك من الروايات المتكاثرة الداعية نحو الزيارات للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ والأئمة المعصومين ـ عليهم‌السلام ـ. وقد صرح في كشف الارتياب بأن أجلاء ائمة الحديث كابن حنبل وأبي داود والترمذي والنسائي والطبراني والبيهقي وغيرهم رووا الأحاديث الدالة على مشروعية زيارة قبر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ هذا مضافا

٧١

إلى أحاديث كثيرة تكاد تبلغ حد التواتر عن أئمة أهل البيت الطاهرين رواها عنهم أصحابهم وثقاتهم بالأسانيد المتصلة الصحيحة الموجودة في مظانها (١).

هذا مضافا إلى عمل أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ من زيارة قبر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ والتبرك به ، والالتزاق به ، والدعاء عنده ، والوصية بحمل جسدهم إلى قبر النبي لتجديد العهد به وغير ذلك ، بل هو سيرة الأئمة اللاحقين بالنسبة إلى الأئمة الماضين المطهرين ـ عليهم الصلوات والسلام ـ كزيارة قبر مولانا أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ وزيارة قبر سيد الشهداء ـ عليه‌السلام ـ.

ولقد رويت أخبار ذلك في المزار من الأحاديث ككتاب كامل الزيارات وغير ذلك ، بل سيرة السلف عليه ، ولقد أفاد وأجاد بعد نقل جملة من الأخبار في كتاب التبرك حيث قال : «هذه أحاديث متواترة إجمالا أو معنى تدل على أن الصحابة ـ رضي‌الله‌عنهم ـ والتابعين لهم بإحسان ، كانوا يتبركون برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وآثاره ، يتبركون بقبره ويحترمونه ويعظمونه ، وأن التبرك والاحترام والتعظيم لم يكن شركا عندهم ، بل لم يكن يخطر ذلك في بالهم ، بل يرون أن ذلك من شئون الإيمان ومظاهره وأن تعظيمه تعظيم وإجلال لله سبحانه» (٢).

وهكذا إقامة المآتم سيما لسيد الشهداء الإمام الحسين بن علي ـ عليهما‌السلام ـ من المسنونات المسلمة التي يدل على مشروعيتها الأخبار ، وعمل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وأهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ وسيرة السلف الصالح ـ رضي‌الله‌عنهم ـ كما ورد عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ الحث على البكاء على حمزة وعلى جعفر ـ عليهما‌السلام ـ. هذا مضافا إلى بكائه في موت عمه

__________________

(١) راجع الوسائل والمستدرك وكامل الزيارات وكتاب التبرك وغير ذلك.

(٢) كتاب التبرك : ص ١٧٣.

٧٢

أبي طالب ، وعمه الحمزة ، وابن عمه جعفر ، والحسين بن علي ـ عليهما‌السلام ـ بعد إخبار جبرئيل بقتله وشهادته ، وهكذا سيرة الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ على ذلك ولقد أفاد وأجاد العلّامة السيد عبد الحسين شرف الدين في المجالس الفاخرة حيث قال : «وقد استمرت سيرة الأئمة على الندب والعويل وأمروا أولياءهم بإقامة مآتم الحزن على الحسين ـ عليه‌السلام ـ جيلا بعد جيل» (١).

__________________

(١) راجع المجالس الفاخرة في مأتم العترة الطاهرة : ص ١٩.

٧٣

٣ ـ عقيدتنا في صفاته تعالى

ونعتقد أن من صفاته تعالى الثبوتية الحقيقية الكمالية التي تسمى بصفات «الجمال والكمال» ، كالعلم والقدرة والغنى والإرادة والحياة ، هي كلها عين ذاته ليست هي صفات زائدة عليها ، وليس وجودها إلّا وجود الذات ، فقدرته من حيث الوجود حياته ، وحياته قدرته ، بل هو قادر من حيث هو حي ، وحي من حيث هو قادر ، لا اثنينية في صفاته ووجودها ، وهكذا الحال في سائر صفاته الكمالية.

نعم هي مختلفة في معانيها ومفاهيمها ، لا في حقائقها ووجوداتها ؛ لأنه لو كانت مختلفة في الوجود وهي بحسب الفرض قديمة وواجبة كالذات للزم تعدد واجب الوجود ولانثلمت الوحدة الحقيقية ، وهذا ما ينافي عقيدة التوحيد (١).

______________________________________________________

(١) ولا يخفى عليك أن عدة من المتكلمين والمحدثين ذهبوا إلى أن ذات الواجب لا يتصف بشيء من النعوت والصفات ؛ لكونه بسيطا محضا وأحدي الذات ، والاتصاف بالصفات المختلفة يوجب التكثر في الذات ، وهو خلف في بساطته ، وحمل هؤلاء جميع الاستعمالات القرآنية الدالة على صفاته تعالى على

٧٤

نوع من المجاز بدعوى أن اتصاف ذاته في الكتاب بالعلم والحياة ونحوهما من باب أن نوع فعله تعالى يشبه فعل ذات له علم وحياة.

وفي مقابل هؤلاء عدة اخرى من المتكلمين ذهبوا إلى أن ذاته تعالى متصف ببعض الصفات والنعوت ، وصفاته زائدة على ذاته ، بحكم مغايرة كل صفة مع الموصوف بها ، وحيث أن الموصوف بها قديم وكان هذا الاتصاف من القديم فهذه الصفات كالموصوف واجبات وقدماء ، ولذا اعتقدوا بالقدماء الثمانية في ناحية الذات وصفاته (١).

وكلا الفريقين في خطأ واضح ، فإن لازم القول الأول هو خلو الذات في مرتبته عن الأوصاف الكمالية وهو عين الحد والنقص عليه ، ولا يناسب مع إطلاقه وكونه غير محدود بحد ونهاية ، هذا مضافا إلى ما في حمل الاستعمالات الحقيقية القرآنية على المجاز ، ومضافا إلى التصريح بخلافه في قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٢) ، (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (٣). اذ تعليل شيء بشيء اخر ظاهر بل صريح في كون العلة امرا واقعيا على أن نفي الاضداد يرجع إلى اثبات الاوصاف فيما اذا كانت الاضداد مما لا ثالث لها فان نفي كل ضد يلازم وجود الاخر لعدم امكان ارتفاع الضدين اللذين لا ثالث لهما كما لا يمكن اجتماعهما فاذا نفينا عنه الجهل مثلا لزم ان نثبت له تعالى العلم بل الامر كذلك ان قلنا بان التقابل بين العلم والجهل أو القدرة والعجز تقابل السلب والايجاب اذ لا يمكن ارتفاع النقيضين فاذا نفينا الجهل لزم ان نثبت العلم له تعالى لا محالة.

__________________

(١) احدها الذات وباقيها هي الحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر والإرادة والكلام النفسي راجع شرح التجريد وشرح الباب الحادي عشر والبداية والنهاية وغيرها.

(٢) الاسراء : ١١٠.

(٣) الاعراف : ١٨٠.

٧٥

كما أن لازم القول الثاني هو تعدد الواجب وانثلام الوحدة الذاتية كما أشار إليه المصنف في المتن ، وتبطله أدلة وحدانية الواجب وبساطته ، هذا مضافا إلى أن لازمه افتقار الذات إلى الصفات الزائدة ، وهو خلف في كونه غنيا مطلقا ومضافا إلى لزوم النقص ومحدودية الذات ؛ لأنه حينئذ خال عن الصفات في مرتبة الذات ، وهو أيضا خلف في كونه كمالا مطلقا وغير محدود بحد ونهاية.

فالحق هو ما صرح به في المتن من كون صفاته عين ذاته تعالى ، وهو الذي نسب إلى الحكماء وجملة من المتكلمين ، وهو الذي يقتضيه الجمع بين الآيات والروايات. ففي عين كون صدق العالم والحي والقادر ونحوها عليه تعالى حقيقيا لا مجازيا ، وبالعناية لا يكون مصداق الصفات إلّا ذاتا واحدا بسيطا (١). هذا كله من باب إثبات المقصود من ناحية ذكر التوالي الفاسد للقولين المذكورين ، ولكن يمكن الاستدلال على وجود الصفات وعينيتها مع الذات من طريق آخر ، وهو أن ذلك مقتضى كون الواجب مطلق الكمال وصرفه ، إذ كمال المطلق لا يشذ عنه كمال من الكمالات ، ولا حاجة له إلى غيره ، وإلّا فهو خلف في كونه مطلق وكل الكمال وصرفه ، ولذا صرّح العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ بأن الحاجة والقيد لما كانا منفيين عن الله تعالى فلا بد من أن يكون كل كمال له ، عين ذاته لا خارجا عنه ، إذ الكمال الخارجي لا يمكن تصويره إلّا بحاجة الذات إليه ، وبكونه مقيدا لا مطلقا (٢).

ولعل إليه يشير ما ذكره العلّامة الحلي ـ قدس‌سره ـ في شرح التجريد حيث قال في تعليل استحالة اتصاف الذات تعالى بالصفات الزائدة : «لأن وجوب

__________________

(١) گوهر مراد : ص ١٧٢.

(٢) اصول فلسفه : ج ٥ ص ١٨٠ ، وعبارته باللغة الفارسية هكذا : چون احتياج وقيد از خدا منفى است ناچار هر صفت كمالى كه دارد عين ذاتش خواهد بود نه خارج از او زيرا كمال خارج از ذات بى احتياج وقيد صورت نمى گيرد.

٧٦

الوجود يقتضي الاستغناء عن كل شيء فلا يفتقر في كونه قادرا إلى صفة القدرة ولا في كونه عالما إلى صفة العلم ولا غير ذلك من المعاني والأحوال» (١).

ثم إنه لا استيحاش في صدق المفاهيم المختلفة على مصداق واحد بسيط من جميع الجهات فإن هذا الصدق لا يختص بهذا المورد ، بل عندنا امور لا تكثر فيها ، بل هي بسيطة ، ومع ذلك يطلق عليها المفاهيم المختلفة كإطلاق المعلوم والمقدور والموجود على المتصورات الذهنية ، مع أنه لا تكثر فيها ، بل هي بذاتها معلومة ومقدورة وموجودة لنا ، فيمكن أن يكون البسيط مصداقا للمفاهيم المختلفة فذاته تعالى من حيث أنه وجود ، موجود ، ومن حيث أنه مبدأ للانكشاف عليه ، علم ، ولمّا كان مبدأ الانكشاف عين ذاته ، فهو عالم بذاته ، وكذلك الحال في القدرة وغيرها من الصفات الذاتية الثبوتية.

روى هشام بن الحكم أن الزنديق سأل أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ أتقول :

إنه سميع بصير فقال أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : هو سميع بصير ، سميع بغير جارحة وبصير بغير آلة ، بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه ، وليس قولي : إنه يسمع بنفسه أنه شيء والنفس شيء آخر ، ولكنني أردت عبارة عن نفسي إذ كنت مسئولا وإفهاما لك إذ كنت سائلا فأقول : يسمع بكلّه لا أن كلّه له بعض ولكني أردت إفهامك والتعبير عن نفسي وليس مرجعي في ذلك إلّا إلى أنه السميع البصير العالم الخبير بلا اختلاف الذات ولا اختلاف معنى (٢). وعن الإمام الكاظم ـ عليه‌السلام ـ علم الله لا يوصف منه بأين ، ولا يوصف العلم من الله بكيف ، ولا يفرد العلم من الله ولا يبان الله منه وليس بين الله وبين علمه حد (٣).

__________________

(١) شرح التجريد : ص ١٨٢.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤ ص ٦٩.

(٣) توحيد الصدوق : ١٣٨.

٧٧

وأما الصفات الثبوتية الإضافية كالخالقية والرازقية والتقدم والعلية فهي ترجع في حقيقتها الى صفة واحدة حقيقية وهي القيّومة لمخلوقاته وهي صفة واحدة تنتزع منها عدة صفات باعتبار اختلاف الآثار والملاحظات (٢).

______________________________________________________

ثم إن من اعتقد بزيادة الصفات على الذات هل يكون خارجا عن زمرة المسلمين وحوزة الإسلام أم لا؟ صرّح الاستاذ الشهيد المطهري بأن التوحيد الصفاتي أمر يحتاج إلى تعمق زائد ، فلذا وقع علماء الأشاعرة في الشرك الصفاتي ، ولكنه حيث كان من الشرك الخفي ، لا يوجب خروجهم عن حوزة الإسلام والمسلمين (١).

ولعل وجهه أنهم كانوا أيضا من المجتنبين عن الشرك ، وحيث لم يعلموا بلازم مختارهم في التوحيد الصفاتي فهو شرك معذور ؛ لأنهم اعتقدوا بالتوحيد ولكن أخطئوا في التطبيق. نعم من التفت إلى لوازم قوله ومع ذلك اعتقد به فلا إشكال في كونه موجبا للخروج عن حوزة الإسلام والمسلمين ، فافهم.

هذا كله بالنسبة إلى الصفات الذاتية التي لا حاجة في انتزاعها إلى أمر خارج عن الذات ، وهذه الصفات تسمى بالصفات الثبوتية الحقيقية.

(٢) ولا يخفى عليك أن للصفات تقسيمات مختلفة :

منها أنها منقسمة إلى الثبوتية والسلبية ، والثبوتية منقسمة إلى الحقيقية المحضة كالحياة أو العلم بذاته ، والإضافية المحضة كالخالقية والرازقية ، والحقيقية المحضة لا يعتبر في مفهومها الإضافة المتأخرة عن وجود الطرفين ويكفى الذات لانتزاعها فهو حي سواء كان شيء آخر أم لا ، وهو عالم بنفسه وبغيره سواء

__________________

(١) جهان بينى : ص ٩٢ ـ ٩٣.

٧٨

كان شيء آخر أم لا ، وهو قادر في نفسه سواء كان شيء آخر أم لا وهكذا ، وهذه الصفات هي الصفات الحقيقية الثبوتية التي عرفت عينيتها مع الذات ، والإضافية المحضة هي التي يكون مفهومها مفهوما اضافيا ويتوقف انتزاعها على وجود شيء آخر مضايف ، وراء الذات كالرازقية والخالقية والتقدم والعلية والجواد ، لتقومها بالطرفين من الخالق والمخلوق والرازق والمرزوق وهكذا البواقي. فهذه الصفات معان اعتبارية انتزاعية لا حقايق عينية ، إذ ليس في الخارج إلّا وجود الواجب وتعلق وجود المخلوق المحتاج في وجوده وبقائه واستكماله إليه ، وهو الذي عبر عنه المصنف بالقيّومية لمخلوقاته ، كما عبر عنه صدر المتألهين بالإضافة الواحدة المتأخرة عن الذات وعبر عنه المحقق اللاهيجي بالمبدئية حيث قال : «فكما أن ذاته تعالى علم باعتبار ، وقدرة باعتبار ، وإرادة باعتبار ، كذلك تكون مبدئيته للأشياء خالقية باعتبار ، ورازقية باعتبار ، ورحيمية باعتبار ، ورحمانية باعتبار ، إلى غير ذلك من سائر الإضافات ولا اختلاف إلّا بحسب الاعتبار ، فجميع الإضافات والاعتبارات ينتهي إلى المبدئية المذكورة (١).

ثم إن المراد من القيّومة هو التقويم الوجودي ، لا مبالغة القيام الوجودي فإن الثاني من صفات الذات ومرادف مع وجوب وجوده والتقويم الوجودي كما أوضحه العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ في تعليقته على الأسفار هو كونه بحيث يقوم به غيره من وجود أو حيثية وجودية ، فإن الخلق والرزق والحياة والبدء والعود والعزة والهداية إلى غير ذلك حيثيات وجودية في موضوعاتها من الوجودات الإمكانية ، وهي جميعا قائمة به تعالى مفاضة من عنده (٢).

ثم إن الظاهر من كلام المصنف «فهي ترجع في حقيقتها إلى صفة واحدة حقيقية وهي القيّومة لمخلوقاته وهي صفة واحدة تنتزع منها عدة صفات ...

__________________

(١) راجع گوهر مراد : ص ١٧٧ وغير ذلك من الكتب.

(٢) الاسفار : ج ٦ ص ١٢٠.

٧٩

وأما الصفات السلبية التي تسمى بصفات «الجلال» فهي ترجع جميعها إلى سلب واحد وهو سلب الإمكان عنه ، فإن سلب الإمكان لازمه ، بل معناه سلب الجسمية والصورة والحركة والسكون والثقل والخفة وما إلى ذلك ، بل سلب كل نقص (٣). ثم إن مرجع سلب الإمكان في الحقيقة إلى وجوب الوجود ، ووجوب الوجود من الصفات

______________________________________________________

الخ» أن القيومية صفة حقيقية لا أمر اعتباري إضافي.

ولعل مراده منها هي الإضافة الإشراقية وهي القيّومية الحقيقية الظلية التي هي فعله تعالى ، لا أمرا منتزعا إضافيا عن ايجاده تعالى للمخلوقات ، وإن صح ذلك أيضا بعد وجود الأشياء بالإضافة الاشراقية ، ومن المعلوم أنها ناشئة عن كمال الذات ومن صفات الفعل ولا تصلح لأن تكون وصفا للذات لأنها متأخرة عن الذات تأخر الفعل عن فاعله وبقية الكلام في محله.

وبالجملة فالصفات الثبوتية الإضافية كالخالقية والرازقية وغيرهما امور اعتبارية انتزاعية عن مقام الفعل بعد فرض تحقق الذات قبله ، لا حقايق عينية فهي خارجة عن الصفات التي يبحث عن عينيتها مع الذات أو زيادتها عليها ، ولا كمال في نفس الإضافة حتى يكون فقدانها في الذات موجبا لنقص الذات ، إذ الكمالات حقايق عينية لا امور اعتبارية انتزاعية ، بل الإضافات المذكورة تنتزع بعد قيّومية المبدأ المتعال لكل الاشياء وهي ليس إلّا بعد تمامية الذات وكماله ، فهذه الإضافات متفرعة على كمال الذات لا أنها موجبة للكمال (١).

(٣) لما عرفت من أنه تعالى صرف الوجود وكماله المعبر عنه بواجب الوجود ، إذ مع فرض كونه واجب الوجود يستحيل أن يكون ممكن الوجود وإلّا

__________________

(١) راجع گوهر مراد للمحقق اللاهيجي : ص ١٧٧ وغيره.

٨٠