بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد رضا المظفّر

بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN: 964-470-180-1
ISBN الدورة:
964-470-180-1

الصفحات: ٣٢٠
الجزء ١ الجزء ٢

ـ مضافا إلى النظم والتناسب الموجود فيه ـ أنه تحت تدبير شاعر حكيم بحيث يهدي كلّ موجود إلى وظائفه بالهداية التكوينية والغريزية ، فالنحل والنمل وغيرهما من الحيوانات البرية والبحرية تعرف وظائفها من بناء محلها ومسكنها وذهابها إلى موطن ارتزاقها وإيابها إلى مأواها وغير ذلك مما يطول الكلام ، وهذه الوظائف دقيقة جدا بحيث إذا تأملناها نجدها عجيبة جدا ، يكفيك كيفية ارتزاق النحل عن الزهر وعودها إلى محلها وتبنية المسدسات ، حتى تملأها بالعسل ، وكيفية تنظيم اجتماعاتها بالمقررات اللازمة وغيرها ، فهذه الامور كلّها تحت تدبير وهداية ومن وراء ذلك هو تدبير امورها على نحو يحصل للإنسان ما يلزمه في تعيشه وحياته ، وهذا المدد غير المرئي على الدوام لا يختص بالحيوانات ، بل يهدي كلّ شيء إلى وظائفه ، كما أشار إليه في القرآن الكريم قال : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (١) (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٢) (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) (٣).

وهكذا الفعل والانفعال الحاصل في بدن الإنسان يهتدي بهذه الهداية ، وعليك بالتأمل حول دفاع البدن نحو الجراثيم والميكروبات الخارجية المهاجمة التي أرادت تخريب البدن ، وغير ذلك من الامور العجيبة جدا.

هذا مضافا إلى ما رأيناه في امورنا من مبدأ الولادة إلى آخر عمرنا من التدبيرات الخفية التي يجدها كل أحد في تعيشه الشخصية لو تأمل حولها حق التأمل من تقدير الرزق وتهيئة أسبابه وتقدير الأزواج وتهيئة مقدماته وبعض المنامات وغير ذلك من الامور كامداد الحق وابطال الباطل طيلة التاريخ.

ثم إن التدبير والهداية سيما إذا كان مستمرا وشايعا ليس إلّا أثر الشاعر العالم فالعالم تحت تدبير عالم شاعر وحيث ان ذلك أثر عظيم فلا يسانخ إلّا

__________________

(١) طه : ٥٠.

(٢) الاعلى : ٣.

(٣) يونس : ٣.

٤١

للواجب المتعالي. وان أبيت عن ذلك فهو لا محالة ينتهي إلى الواجب بالبراهين السابقة أو يكون من منبهات الفطرة التوحيدية ، فالعالم تحت تدبير الله تعالى الحكيم المتعال.

هذه جملة من محكمات الأدلة الدالة على إثبات المبدأ المتعال ، وكلّها عدا دليل الفطرة أدلة عقلية بعضها بديهي والبعض الآخر نظري. وكيف كان فكلّها منبهات بالنسبة إلى ما تسوق إليه الفطرة من المعرفة القلبية نوّر الله قلوبنا بنور الإيمان وثبتنا عليه إلى يوم لقائه.

الأمر الثاني : في بيان أنواع صفاته تعالى

ولا يخفى عليك أن مقتضى الأدلة السابقة الدالة على إثبات المبدأ المتعال هو أنه تعالى واجب الوجود ومطلق وصرف ، فإذا كان كذلك فخصائص الممكنات مسلوبة عنه ؛ لمنافاتها مع وجوب وجوده وإطلاق كماله ، فإذا كانت الخصائص المذكورة منفية عنه ، فواضح أنه ليس بجسم ولا مركب ولا مرئي ولا صورة ولا جوهر ولا عرض ، كما أنه لا ثقل ولا خفة ولا جهة ولا قيد ولا شرط ولا حركة ولا سكون ولا نقصان ولا مكان ولا زمان له ؛ لأن كلّ هذه الامور من لوازم الإمكان والمحدودية وخصائصها ، وبالآخرة هذه السوالب تستلزم اتصاف ذاته بالصفات الكمالية ، فإن سلب أحد النقيضين في حكم إثبات النقيض الآخر ، وإلّا لزم ارتفاع النقيضين وهو محال.

فاذا كان المبدأ المتعالي مسلوبا عنه النقائص والعيوب ، فهو لا محالة يكون صرف الوجود وصرف الكمال وغنيا ومستقلا في ذاته ، وثابتا ومطلقا وواجدا لجميع الأوصاف الكمالية ، وإلّا لزم المحدودية وهي من خصائص الممكنات.

فالأدلة الدالة على إثبات المبدأ تدل بالإجمال على الصفات السلبية والثبوتية أيضا. هذا كلّه بيان إجمالي للصفات ، وأما تفصيلها فهو بأن يقال :

٤٢

إن الصفات على قسمين : ثبوتية وسلبية.

أما الثبوتية : فهي أيضا على قسمين : صفات الذات : وهي التي يكفي في انتزاعها ملاحظة الذات فحسب. وصفات الفعل : وهي التي يتوقف انتزاعها على ملاحظة الغير ، وإذ لا موجود غيره تعالى إلّا فعله فالصفات الفعلية ، هي المنتزعة من مقام الفعل : فمن الأول حياته تعالى وعلمه بنفسه ، ومن الثاني الخلق والرزق والغفران والإحياء ونحوها.

وربما قيل في الفرق بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية : إن كلّ صفة لا يجوز اجتماعها مع نقيضها ولو بالاعتبارين فيه تعالى فهي ذاتية وكلّ صفة يجوز اجتماعها مع نقيضها فهي فعلية كالغافر فإنه تعالى غافر بالنسبة إلى المؤمنين ولا يكون كذلك بالنسبة إلى المشركين. ثم إن الصفات الثبوتية الذاتية تكون من الصفات الكمالية ؛ لأنها كمال للذات ، دون الصفات الفعلية فإنها متأخرة عن رتبة الذات ، فلا تصلح لأن تكون كمالا له نعم هي ناشئة عن كمال ذاته تعالى كما لا يخفى.

وكيف كان فقد ذكر المتكلمون أنه تعالى عالم ، قادر ، مختار ، حي ، مريد ، مدرك ، سميع ، بصير ، قديم ، أزلي ، باق ، أبدي ، متكلم وصادق. ولكن من المعلوم أن الصفات الثبوتية لا تنحصر في ذلك ، بل تزيد عن ألف وألف ... كما يدل عليها الكتاب والسنة والأدعية المأثورة كالخالق والرب.

والدليل الإجمالي على اتصافه بالصفات الكمالية أنه كمال مطلق وصرف الوجود وكل الوجود ، والكمال المطلق وصرف الوجود لا يمكن أن يسلب عنه كمال وجودي قط وإلّا لزم الخلف في إطلاق الكمال وصرفيته.

وأما الصفات السلبية : فهي كل صفة لا تليق بجنابه تعالى ولا تنحصر فيما ذكر في علم الكلام والفلسفة من أنه تعالى ليس بمحدود ولا بمركب وليس بجسم ولا بمرئي ولا جوهر ولا عرض ولا يكون في جهة ولا يكون متقيدا بحد

٤٣

وشرط ولا يصح عليه اللذة والألم ولا ينفعل عن شيء ولا يكون له كفؤ ولا شريك وليس بمحتاج إلى غيره لا في ذاته ولا في صفاته ولا يفعل القبيح ولا يظلم ، وغير ذلك من الامور التي لا تليق بجنابه تعالى.

والدليل الإجمالي على تنزيهه تعالى عنها ، هو ما عرفت من أن المبدأ المتعال واجب الوجود ولا حد ولا نقص ولا حاجة له ، بل هو عين الغنى والكمال ، وكل هذه الصفات من التركيب وغيره نقص وحد وحاجة وعجز لا سبيل لها إليه تعالى ، وتكون مسلوبة عنه ، ونفيها عنه تجليل له تعالى ، ولذا سميت هذه السوالب بالصفات الجلالية ، كما أن الصفات الثبوتية الذاتية الدالة على كمال الذات تسمى بالصفات الكمالية.

ثم إن هذه الصفات ترجع بعضها إلى بعض ، أو يكون بعضها من لوازم البعض كالعلم والقدرة بالنسبة إلى الحياة ، إذ وجودهما بدونها غير ممكن ؛ لأنهما من آثارها ولذا تعرف الحياة بهما ، ويقال : إن الحي هو الدراك الفعال ، فإذا ثبت العلم والقدرة ثبتت الحياة قهرا ولا حاجة في اثباتها إلى دليل آخر وكالمدرك والسميع والبصير ، فإنها ترجع إلى العلم بعد استحالة حاجته إلى الآلات والحواس ، فإدراكه تعالى بالنسبة إلى المدركات المحسوسة هو علمه بها ولا مجال لتأثر الحاسة فيه تعالى ، وعليه فمعنى كونه سميعا أو بصيرا أنه عالم بالمسموعات أو عالم بالمبصرات ، ولعل ذكر ذلك بالخصوص لإثبات علمه تعالى بالجزئيات. وأيضا يرجع كونه قديما ، أزليا ، باقيا وأبديا ، إلى أنه واجب الوجود فإنها من اللوازم البديهية لوجوب وجوده تعالى ، إذ يستحيل العدم السابق واللاحق عليه بعد فرض كون وجوده واجبا ، وأيضا ترجع الإرادة والكراهة الذاتيتين إلى علمه تعالى بما في الفعل من المصالح والمفاسد على المشهور.

وأما على غير المشهور فهما بمعناهما بعد تجريدهما عما لا يناسب ذاته تعالى من التروي والتأمل وطرو نقصه ، وغير ذلك من الحلقات. كما أن الإرادة قد تطلق

٤٤

بمعنى الإحداث من دون حاجة الى التروي والتأمل ونحوهما فالإرادة حينئذ من صفات الأفعال لا الذات.

وهكذا الصفات السلبية ترجع بعضها إلى بعض ، إذ نفي الرؤية يرجع إلى نفي الجسمية عنه ، إذ من لا يكون جسما لا يكون مرئيا وهكذا نفي الجسمية والجوهرية والعرضية يرجع إلى نفي التركيب ، سواء كان تحليليا أو خارجيا ، وهكذا نفي التركيب ونفي الانفعال والحركة والاشتداد ونفي الجهة ونفي المكان ونحوها من لوازم نفي الحد والحاجة والافتقار ، عنه.

وأما بقية الصفات السلبية كنفي الظلم والقبيح ونفي الشريك والكفؤ والمثل فهي وإن أمكن إرجاعها إلى نفي الحد والافتقار ، ولكن فيها مباحث نافعة تليق بذكرها منفردة.

وعلى ما ذكر فالأولى هو البحث في الصفات الثبوتية عن علمه وقدرته ونحوهما مما يتضح بوضوحهما غيرهما واما التكلم فهو من صفات الأفعال وبمعنى إحداث الكلام وتوهم الكلام النفسي القديم لذاته تعالى وراء العلم والقدرة وغيرهما من الصفات الذاتية فاسد جدا ؛ لعدم تعقل شيء قديم وراء علمه تعالى ، فلا ينبغي إطالة الكلام فيه كما أن الأولى هو البحث في الصفات السلبية عن وحدته وعدم كفوء ومثل وشريك وضد له تعالى ، وعن كونه لا يفعل الظلم والقبيح ، وأما البواقي فتكفيها الإشارة المذكورة.

الأمر الثالث : في علمه تعالى

ولا يخفى عليك أن مقتضى صرفيته تعالى أنه لا يعزب عن علمه شيء من الامور ؛ لأن الجهل بشيء فقدان ونقص وهو ينافي اللاحدية الثابتة لذاته تعالى.

هذا مضافا إلى أن النظم والتناسب وغيرهما من الامور التي تحكي عن علم وحكمة يدل على علم الناظم وحكمته وإن كان لا يخلو الاستدلال به عن شيء

٤٥

وهو أنه يثبت العلم والحكمة بقدر ما يكون أثرهما موجودا في الموجودات وهو بالآخرة محدود بمحدودية الموجودات ، والمطلوب هو إثبات غير المحدود من العلم له تعالى. اللهم إلّا إن يقال : إن النظر إلى الدقائق والحكم المودعة في النظام يوجب الحدس القطعي على أن هذه آثار من لا نهاية لعلمه وحكمته. ثم إن مقتضى الدليل الأول أزلية علمه بتبع أزلية صرفيته. وأما الدليل الثاني فلا يدل عليه إلّا ببيان زائد ، وهو كما قال آية الله الميرزا أحمد الآشتياني ـ قدس‌سره ـ : إن ملاحظة الحكم والدقائق المودعة في النظام تثبت علمه تعالى بالأشياء الموجودة قبل وجودها وحيث أن التغيير في ذاته وصفاته غير معقول ؛ لأنه في قوة النقص والعجز فعلمه بها قبل وجودها كان من الأزل (١).

ويدل عليه أيضا إنا نجد أنفسنا عالمين بذاتنا علما حضوريا وهذا العلم ينتهي إلى الله تعالى ؛ لأنه عطاء من ناحيته كأصل وجودنا ، ومعطي الشيء لا يكون فاقدا له ، فهو تعالى عالم بذاته ، وحيث كان الله تعالى علة لكل شيء فالعلم بذاته بما هو عليه علم بكونه مبدأ ولكونه علة لجميع معلولاته ، ومن المعلوم أن العلم بحيثية المبدئية للعلية المتحدة مع ذاته لا ينفك عن العلم بمعلولاته (٢).

وهنا وجه آخر مذكور في محله (٣).

هذا كله بالنسبة الى علمه في مرتبة الذات.

وله علم آخر في مرحلة الفعل وهو عين الفعل ، إذ حقيقة العلم هو كشف

__________________

(١) چهارده رساله فارسى ميرزا احمد آشتياني : ٨٥ ـ ٨٦.

(٢) راجع شرح الاصول من الكافي لصدر المتألهين : ص ١٦٠ ، وگوهر مراد للمحقق اللاهيجي : ص ١٨٦ ـ ١٨٨ ، وشرح التجريد الطبعة الحديثة : ص ٢٨٥. ودرر الفوائد : ج ٢ ص ٣١.

(٣) راجع نهاية الحكمة : ص ٢٥٤ ، ودرر الفوائد : ج ١ ص ٤٨٥ ـ ٤٨٧ ، وچهارده رساله فارسى ميرزا احمد آشتياني.

٤٦

الشيء للشيء ، وليس سببه إلّا حضور الشيء للشيء ، فكل فعل ومعلول لكونه حاضرا عند علته فهو مكشوف ومعلوم له ، وهذا العلم الفعلي يتجدد بتجدد الفعل ، بخلاف علمه في مرتبة الذات ، فإنه عين ذاته ولا تجدد فيه أصلا.

ومما ذكر ينقدح فساد ما يتوهم من استحالة علمه بالجزئيات الزمانية بدعوى أن العلم يجب تغيره عند تغير المعلوم ، وإلّا لا نتفت المطابقة ، لكن الجزئيات الزمانية متغيرة فلو كانت معلومة لله تعالى لزم تغير علمه تعالى ، والتغير في علم الله تعالى محال (١).

وذلك ؛ لما عرفت من أن لله تعالى علمين ، أحدهما : الذاتي ، وهو لا يتغير بتغير المتغيرات فإنه في الأزل كان عالما بكل متغير أنه حدث في زمان خاص بكيفية خاصة ولا يتخلف شيء عن هذا العلم ، ويقع كما هو معلوم عند ربه ولا يحصل تغير في علمه أصلا وعلمه في الأزل بوجود المعلول في زمان خاص لا يوجب كونه موجودا في الأزل بوجوده الخاص به ، وإلّا لزم الخلف في علمه ، فكل شيء واقع كما علم فلا تغير في العلم ، بل التغير والحدوث في المتغير ، والحادث والعلم بالمتغير ليس بمتغير ، إذ حكم ذات المعلوم لا يسري إلى العلم ، كما أن العلم بالحركة ليس بحركة ، والعلم بالعدم أو الإمكان ليس عدما ولا إمكانا ، والعلم بالمتكثر ليس بمتكثر.

وثانيهما : هو العلم في مرحلة الفعل وهو عين الفعل ؛ لأن المراد من العلم الفعلي هو حضور الفعل بنفسه عند الله تعالى ، كما أن الصور المعقولة والذهنية حاضرة عندنا بنفسها وعلمنا بها عينها ، فالتغير في هذا العلم لا بأس به ؛ لأنه يرجع إلى تغير في ناحية الفعل لا في ناحية الذات ، والمحال هو الثاني كما لا يخفى.

__________________

(١) شرح التجريد الطبعة الحديثة : ص ٢٨٧ نقل ذلك عن المتوهم.

٤٧

ولذا صرح المحقق الطوسي ـ قدس‌سره ـ في تجريد الاعتقاد بأن تغيير الإضافات ممكن (١).

ويظهر مما ذكرنا أنه لا إشكال في حدوث العلم في مرتبة الفعل ، فإن المراد ، منه عين الفعل الحادث ، وبالجملة الفعل باعتبار صدوره منه معلوله ، وباعتبار حضوره عنده معلومه ، ولا إشكال في حدوثه ، وبذلك انقدح أنه لا مانع من إثبات العلم الزماني لله تعالى ، كما أشار إليه بعض الآيات الكريمة ، منها قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) (٢) فإن ظاهره أن العلم يحصل بعد الامتحان والتمحيص ، ومنها قوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) (٣) فإن ظاهره هو الإنباء عن حصول العلم في الآن المذكور ، وغير ذلك من الآيات.

والحاصل أن العلم الحادث في الآن أو الزمان الآتي حيث يكون عبارة عن عين الفعل ، لا يستلزم حدوثه وتغيره شيئا في ناحية العلم الذاتي كما لا يخفى (٤) ثم لا يخفى عليك انه صرحت الآيات والروايات وفقا للادلة العقلية بتعميم علمه تعالى بجميع الامور حيث قال عزوجل : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٥).

وقال مولانا أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «يعلم عجيج الوحوش في الفلوات

__________________

(١) راجع نهاية الحكمة : ص ٢٥٤ ، وراجع تعليقة النهاية : ص ٤٤٤ سيما ما نقله عن المحقق السبزواري في تعليقته على الاسفار وكشف المراد : ص ٢٨٧.

(٢) محمّد : ٣١.

(٣) الانفال : ٦٦.

(٤) راجع مجموعه معارف قرآن : ١ ـ خداشناسى ص ٢٨٧ ـ ٢٩٣.

(٥) الانعام : ٥٩.

٤٨

ومعاصي العباد في الخلوات واختلاف النينان في البحار الغامرات وتلاطم الماء بالرياح العاصفات» (١).

الأمر الرابع : في قدرته واختياره

القدرة هي تمكن الفاعل ـ العالم بما في الفعل أو الترك من المصلحة أو المفسدة ـ من الفعل وتركه والقادر هو الذي إذا شاء أن يفعل فعل ، وإذا شاء أن يترك ترك ، مع الشعور والعلم بما فيه من الخير الذي يدعوه نحوه ، فالقدرة قد تكون في مقابل العجز فإن من لم يصدر عنه فعل لفقده إياه ، عاجز عنه ، بخلاف من يمكن صدوره منه فإنه قادر بالنسبة إليه ، وقد تكون القدرة في مقابل الإيجاب فمن أمكن له الفعل والترك فهو قادر ، بخلاف من لم يمكن له الترك ، فإنه موجب كالنار بالنسبة إلى الإحراق. ثم إن صدور الفعل أو تركه عن الانسان أو ذي شعور آخر يحتاج إلى مرجح ، وهو لا يكون بدون العلم والشعور ، وعليه فالعلم والشعور من مبادي الفعل أو الترك. وإن كان في مرتبة من الضعف فالقدرة لا تطلق إلّا إذا كان للعلم والشعور مبدئية في ظهور الفعل أو تركه ، فلذا لا تطلق القدرة على القوى الطبيعية.

ثم إن هذه القدرة من الكمالات الوجودية ، ويدل على اتصاف ذاته تعالى بها امور :

منها : صرفية وجوده بحيث لا يشذ عنه كمال من الكمالات الوجودية وإلّا لزم الخلف في صرفيته.

ومنها : إنا نجد في أنفسنا القدرة وهي كسائر المعاليل منتهية إليه تعالى ، فهو واجد لأعلاها ، فإنه في رتبة العلة بالنسبة إلى غيره من الموجودات ، ومعطي

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤ ص ٩٢.

٤٩

الشيء يستحيل أن يكون فاقدا له كما لا يخفى.

هذا مضافا إلى أن مشاهدة آثاره وتدبيره في النظام ، والاختلاف المشاهد في هبة الولد أو المال ونحوهما لفرد دون فرد مع أنهما متعاكسان في القابلية والاستعداد وهكذا في طول العمر والامكانيات وغير ذلك من الامور يحكي عن كون أزمة الامور طرا بيده وقدرته وأنه يفعل ما يشاء.

ثم إن تقريب أزلية القدرة كالتقريب الماضي في أزلية العلم فلا نعيد.

ثم إن مقتضى اشتمال القدرة على العلم والشعور بما في الفعل أو الترك ، ومبدئيتهما هو عدم انفكاك القدرة عن الاختيار ، إذ ترجيح أحد الطرفين من الفعل أو الترك لا يمكن بدون الاختيار والإرادة ، ولذلك نبحث عن الاختيار والإرادة فيما يلي :

وأما الاختيار فهو بمعنى الترجيح في أحد الطرفين من الفعل أو الترك وإرادته مع العلم بما فيها وهو في أفعالنا موقوف على التأمل حول الفعل أو الترك ، حتى يحصل العلم بوجود المصلحة وارتفاع المفسدة فيه ، وربما يحتاج إلى مضي زمان ومدة ، كما إذا كان التأمل نظريا ، فالاختيار ربما يتأخر في مثلنا عن القدرة ، ولكن فيه تعالى حيث كان العلم بوجود المصلحة وارتفاع المفسدة حاصلا ومقارنا مع قدرته من دون حاجة إلى روية أو تأمل ، فلا يتأخر عن القدرة بحسب الزمان. نعم لو كان الراجح أمرا زمانيا مختصا بزمان خاص ، لا يتحقق الراجح إلّا في ظرف زمانه ؛ لأنه راجح فيه دون غيره ، ولكن اختياره وإرادته تعالى إياه من الأزل ، وليس بحادث.

وكيف كان فالدليل عليه واضح مما مر ، حيث إن فقدان الاختيار بالمعنى المذكور يرجع إلى صدور الفعل أو الترك عنه بلا دخل له تعالى فيه ، كالقوى الطبيعية ، بل ينتهي إلى سلب صدق القدرة عليه ؛ لأن القوى الطبيعية العاملة العادمة للشعور والعلم المؤثّر ، لا تسمى قادرة. ففقدان الاختيار نقص وهو

٥٠

يتنافى مع كونه صرف الكمال كما مر مرات عديدة ، هذا مضافا إلى أن ملاحظة النظام وتناسب كل واحد منه مع آخر وترتب الغايات الراجحة على وجودها ، توجب العلم القطعي بأن الله تعالى لم يخلقها إلّا لترجيح وجودها على عدمها ، لترتيب الغايات الراجحة عليها ، بحيث لولاها لما أوجدها (١) فهو تعالى قادر لا عاجز ، ومختار في فعله وليس بموجب.

ثم إن الإرادة والاختيار بالمعنى المذكور لا تنافي ما دل من الاخبار على أن إرادته تعالى إيجاده وإحداثه ؛ لأن النفي في تلك الأخبار إضافي لا حقيقي وإنما النظر فيها إلى العامة الذين يقولون بامكان الإرادة فيه تعالى مع ما فيها من التأمل والتروي وحدوث الجزم والقصد ومن المعلوم أن الإرادة مع هذه المقرونات محال بالنسبة إليه تعالى ؛ لأنه عالم بجميع الامور ولا يحتاج الى التأمل والتروي ولا يكون معرضا للعوارض والطوارئ ؛ ولذا نفت الأخبار المذكورة هذه الإرادة المقرونة ولا نظر لها إلى نفي الإرادة الخالية عن هذه الامور ، فلا مانع من إثبات الإرادة المجردة عن الشوائب المذكورة للذات المتعال ومن المعلوم أن الإرادة والاختيار الخالية عن المقرونات المذكورة من المعاني المدرجة في حقيقة قدرته تعالى فافهم واغتنم.

ثم إنه قد يستعمل الاختيار في مقابل الإكراه والاضطرار ، ولا إشكال ولا كلام في صدق المختار بهذا المعنى على الله تعالى ؛ لاستحالة انفعاله من غيره ، فإن الانفعال عين العجز ، وهو ينافي كونه صرف الكمال وغنيا مطلقا كما لا يخفى.

ثم إن قدرته تعالى عامة ولا اختصاص لها بشيء ، فإن الاختصاص أثر المحدودية ، وهو تعالى محيط على كل شيء ، ولا موجب بعد إحاطته وكماله

__________________

(١) گوهر مراد : ص ١٨٠.

٥١

للاختصاص ، فهو قادر على كل شيء يمكن وجوده.

وأما المحالات فالنقص من ناحيتها لا من ناحيته سبحانه وتعالى ، ومن المحالات هو : أن يخلق الله تعالى مثله لأن معناه أن يكون الممكن المخلوق واجبا وهو خلف. أما في الواجب : فإن اللازم بعد ذلك هو أن يكون المخلوق المماثل في عرضه لا في طوله ، ومعه يصير الواجب محدودا وهو خلف.

وأما في الممكن : فلأن لازم ذلك هو جعل الممكن واجبا وهو خلف في كون الإمكان ذاتيا له. ومنها أيضا : أن يخلق حجرا يعجز عن رفعه ـ نعوذ بالله ـ فإنه خلف في صرفيته وإطلاق إحاطته.

هذا مضافا إلى أن المعلول يترشح وجوده منه تعالى ، والعلة واجدة لمراتب المعلول بنحو الأشد والأعلى ، فكيف يعجز عن ناحية معلوله مع أنه لا استقلال لمعلوله ، بل هو عين ربط به تعالى. ومنها أيضا : هو أن يدخل العالم مع كبره في بيضة مع صغرها ، وإلّا لزم الخلف في صغرها أو كبره قال مولانا أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في الجواب عن إمكان إدخال العالم في البيضة مع ما عليها من الحجم : إن الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز والذي سألتني لا يكون (١).

وبالجملة أن المحال لا يكون قابلا للوجود والنقص من ناحيته ، وأما غيره من الأشياء فهو بالنسبة إلى قدرته تعالى سواء ، من دون فرق بين عظيمه وحقيره ، وكبيره وصغيره ، وقليله وكثيره ، إن الله على كل شيء قدير.

ثم إن قدرته تعالى غير متناهية ولتلك القدرة خصائص. منها : أن قدرته تعالى لا تنحصر على المجاري العادية ، بل له تعالى أن يجري الامور من طرق اخرى كالإعجاز. ومنها : أن إعمال القدرة من ناحيته تعالى لا يتوقف على وجود شرط أو عدم مانع ؛ لكونه تام الفاعلية ولعدم استقلال شيء في وجوده حتى

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤ ص ١٤٣.

٥٢

يمكن له أن يمنعه تعالى.

نعم قد يكون مصلحة شيء مترتبة على شيء آخر أو مقرونة بالمفسدة المانعة ولعل إليه يؤول قوله تعالى (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١).

ثم في ختام البحث عن العلم والقدرة نقول : إن عرفنا هما حق المعرفة واطمأننا بهما لم نذهب إلى معصية ؛ لأنه عليم بفعلنا ولم نتوكل إلّا عليه ؛ لأنه يقدر على كل شيء وهكذا تترتب عليهما الاصول الاخلافية القيمة الكثيرة التي لا مجال للإشارة إليها.

الأمر الخامس : في توحيده تعالى

وقبل أن نستدل عليه ، فليعلم أولا أن التوحيد ينقسم إلى سبعة أقسام :

١ ـ التوحيد الذاتي : والمراد به هو المعرفة بأنه تعالى واحد لا ثاني له كما نص عليه الكتاب العزيز بقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).

٢ ـ التوحيد الصفاتي : والمراد به هو المعرفة بأن ذاته تعالى عين صفاته ، بل كل صفة عين الصفة الاخرى من الصفات الثبوتية الذاتية الكمالية ؛ وسيجيء من المصنف ـ قدس‌سره ـ بأن الاعتقاد بالتوحيد الصفاتي يقتضي أيضا الاعتقاد بأنه لا شبه له في صفاته الذاتية فهو في العلم والقدرة لا نظير له.

وأما نفي التركيب المطلق وإثبات بساطته فقد مضى بيانه في الصفات السلبية ولا حاجة إلى إعادته في المقام.

٣ ـ التوحيد الأفعالي : والمراد به هو المعرفة بأن كل ما يقع في العالم من العلل والمعلولات ، والأسباب والمسببات ، والنظامات العادية وما فوقها ، يقع

__________________

(١) النحل : ٤٠.

٥٣

بإرادته في حدوثه وبقائه وتأثيره ، فكل شيء قائم به ، وهو القيوم المطلق ، ولا حول ولا قوة ولا تأثير إلّا به وبإذنه.

وهذا القسم يشمل التوحيد في الخالقية والربوبية والرازقية ونحوها من مظاهر الأفعال ، ولا حاجة إلى ذكرها على حدة كما لا يخفى.

ثم إن التوحيد في هذه الأقسام يكون من نوع المعرفة ويطلق عليه التوحيد النظري.

٤ ـ التوحيد التشريعي : والمراد به هو المعرفة بأن التقنين حق الخالق والرب ؛ لأنه يعرف مخلوقاته وصلاحهم ، فلا يجوز لغيره تعالى أن يقدم على ذلك ، فالأنبياء والرسل نقلوا ما شرعه الله تعالى ولم يقدموا على التشريع إلّا فيما أذن لهم الله تعالى وهو أيضا مستند إليه تعالى كما لا يخفى. ثم إن هذا القسم باعتبار يكون من أقسام التوحيد الأفعالي ولكن حيث كان موردا للاهتمام ذكرناه على حدة.

٥ ـ التوحيد العبادي والإطاعي : والمراد به أنه تعالى مستحق للعبادة والإطاعة لا غير ، وسبب ذلك هو التوحيد الذاتي والأفعالي فهو تعالى لكونه واحدا كاملا وخالقا وربا ولأن كل الامور بيده ، دون غيره استحق انحصار العبادة والإطاعة المطلقة.

٦ ـ التوحيد الاستعاني : والمراد به هو أن لا يستعين العبد في اموره إلّا منه تعالى وهو أثر الاعتقاد الكامل بالتوحيد الأفعالي ، ولعل إليه الإشارة بقوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

٧ ـ التوحيد الحبي : والمراد منه أن من اعتقد بأن كل كمال وجمال منه تعالى أصالة فلا يليق المحبة منه أصالة إلّا له تعالى.

وهذه الأقسام من أقسام التوحيد العملي وإن أمكن إدراجها في التوحيد النظري أيضا باعتبار أنه تعالى مستحق لهذه الانواع من التوحيد فلا تغفل.

٥٤

ثم لا يخفى عليك أن بعض الأدلة الدالة على إثبات المبدأ المتعالي تكفي أيضا للدلالة على توحيده الذاتي ، فإن دليل الفطرة مثلا يدل على أن القلب لا يتوجه إلّا إلى حقيقة واحدة ، كما يشهد له تعلق الرجاء عند تقطع الأسباب بقادر مطلق واحد لا بمتعدد. هذا مضافا إلى أن مقتضى برهان المحدودية هو اللاحدية اللازمة لصرفية المبدأ المتعال وهي لا تساعد مع التعدد ؛ لأن كل واحد على فرض التعدد محدود بحدود في قبال الآخر وخال عن وجود الآخر ؛ لأنه في عرضه لا في طوله حتى يكون واجدا لمراتب وجوده بنحو الأعلى وإلّا تم وهو خلف في صرفية المبدأ المتعال ولأحديته ، بل يحتاج كل واحد منهما في تحديد وجوده إلى حاد آخر ، ولذا اشتهر في ألسنة الإشراقيين والفلاسفة أن صرف الشيء لا يتثنى ولا يتكرر.

قال الاستاذ الشهيد المطهري ـ قدس‌سره ـ : إن الحد الوسط في هذا البرهان قد يكون هو الصرفية وقد يكون هو عدم التناهي واللاحدية ، فيمكن تقرير البرهان على الوجهين. أحدهما : أن الواجب تعالى هو لا يتناهى اذ لا ينتهى إلى زمان أو مكان أو شرط أو علة أو حيثية أو مرتبة ولا غير ذلك ، وكل ما لا يتناهى من جميع الجهات لا يقبل التعدد. وثانيهما : أن وجود الواجب صرف الوجود ، إذ لا فقد له حتى يشوبه العدم ، بل هو كل الوجود وتمامه والصرف لا يقبل التعدد فالواجب واحد (١).

قال المحقق الأصفهاني ـ قدس‌سره ـ :

وليس صرف الشيء إلّا واحدا

إذ لم يكن له بوجه فاقدا

فهو لقدس ذاته وعزته

صرف وجوده دليل وحدته

ومنه يستبين دفع ما اشتهر

عن ابن كمونة والحق ظهر

ولعل إلى برهان الصرف يشير ما رواه في الكافي عن أبي عبد الله

__________________

(١) اصول فلسفه : ج ٥ ص ١٥٢.

٥٥

ـ عليه‌السلام ـ من أنه قال في الجواب عن زنديق : لا يخلو قولك أنهما اثنان من أن يكونا قديمين قويين أو يكونا ضعيفين أو يكون أحدهما قويا والآخر ضعيفا فإن كانا قويين (مطلقين غير متناهيين) فلم لا يدفع كل واحد منهما صاحبه وينفرد بالتدبير وإن زعمت أن أحدهما قوي والآخر ضعيف يثبت أنه واحد كما نقول للعجز الظاهر في الثاني (١). بناء على أن المراد من قوله : «فان كانا قويين الخ» ؛ كما في شرح الملا صالح المازندراني أن كونهما قويين على الإطلاق يقتضي جواز دفع كل واحد منهما صاحبه ؛ لأن من شأن القوي المطلق أن يكون قاهرا على جميع ما سواه وجواز ذلك يوجب بالضرورة ضعف كل واحد منهما وعدم استقلاله ، وعدم كماله في القدرة والقوة.

هذا نقيض المفروض وكل ما يلزم من فرضه نقيضه فهو باطل (٢). ويمكن أيضا الاستدلال له بنفي التركيب بدعوى أنه لو كان في الوجود واجب آخر ، لزم تركيبهما ، لاشتراكهما في كونهما واجبي الوجود ، سواء كان وجوب الوجود تمام ذاتهما كما إذا كانا من نوع واحد ، أو جزء ذاتهما كما إذا كانا من جنس واحد ، فلا بد من مائز ، سواء كان ذاتيا كالفصل ، أو غير ذاتي كالعوارض المشخصة ، فيصيران مركبين من الجنس والفصل ، أو من الحقيقة النوعية والمشخصات الخارجية ، وكل مركب محتاج إلى أجزائه وهو يرجع إلى كونه ممكنا وهو خلف.

ولكن الاستدلال بالصرفية أولى منه لشموله ما فرضه ابن كمونة دونه كما أشار إليه المحقق الأصفهاني في أشعاره. هذا كله بالنسبة إلى التوحيد الذاتي وسيأتي الكلام إن شاء الله في التوحيد الصفاتي وأما التوحيد الأفعالي فنقول :

إذا عرفت أن ذات الواجب واحد ولا مجال للتكثر والتعدد فيه ظهر أن

__________________

(١) الكافي : ج ١ ص ٨٠.

(٢) شرح الاصول من الكافي : ج ٣ ص ٥١.

٥٦

غيره ليس إلّا من الممكنات ، وحيث إن الممكنات موجودة به تعالى فكلها في طول الله تعالى لا في عرضه ، وعليه فلا يمكن للمعلول الذي يكون في الطول أن يعارض علته ويضادها ، فليس له تعالى مضاد يضاده ، اذ وجود كل معلول حدوثا وبقاء منه تعالى ؛ لأنه في حال الحدوث والبقاء ممكن ، محتاج وفقير في جميع اموره ويتلقى الوجود منه تعالى فكيف يمكن أن يصير مستقلا في وجوده ومضادا له تعالى ، وقد انقدح بذلك أن الخالقية والربوبية أيضا واحدة ؛ لأن غيره تعالى معلول في حدوثه وبقائه له تعالى ، فكيف يمكن أن يخلق شيئا أو يربّب نفسه أو غيره من دون أن ينتهي إلى علته؟ فكل أثر منه تعالى لا غير ، كما اشتهر أنه لا مؤثر في الوجود إلّا الله تعالى ، فتوحيد الذات يستلزم بالتقرير المذكور التوحيد الأفعالي ولعل عليه يدل قوله تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (١). كما أن التوحيد الأفعالي ومنها التوحيد في الخالقية والربوبية يستلزم التوحيد في العبودية ، إذ العبادة لا تليق إلّا لمن خلق وربّب والمفروض أنه ليس إلّا هو تعالى ، وأما التوحيد التشريعي فهو أنه لما عرفنا من أن الخالق والرب ليس إلّا هو فالجدير أن التشريع حقه ، وينبغي أن لا نطيع إلّا إياه ، إذ الأمر والحكم شأن الخالق العالم بمصالح العباد وهو التوحيد التشريعي (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (٢) وينبغي أن لا نستعين ولا نطيع إلّا منه ، اذ الامور كلها بيده تعالى وهو التوحيد الاستعاني ، فالإطاعة لغيره من دون انتساب إليه تعالى باطلة كما أن الاستعانة من غيره من دون أن ينتهي إليه أوهن مما نسجته العنكبوت. وحيث علمنا بأن كل حسن وجمال يرجع إلى أصله فليكن الحب الأصيل مخصوصا به وهو التوحيد الحبي. ولعل إليه يؤول قول إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ كما جاء في القرآن الكريم : (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (٣).

__________________

(١) الانعام : ١٠١.

(٢) يوسف : ٤٠.

(٣) الانعام : ٧٦.

٥٧

ومن قال بالتشبيه في خلقه بأن صوّر له وجها ويدا وعينا ، أو أنه ينزل إلى السماء الدنيا ، أو أنه يظهر إلى أهل الجنة كالقمر ، ـ أو نحو ذلك ـ فإنه بمنزلة الكافر به جاهل بحقيقة الخالق المنزه عن النقص (٢) ، بل كل ما ميزناه بأوهامنا في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلنا مردود إلينا ـ على حد تعبير الإمام الباقر عليه‌السلام (٣) ـ وما أجله من تعبير حكيم! وما أبعده من مرمى علمي دقيق!

______________________________________________________

فأقسام التوحيد يستلزم بعضها بعضا كما لا يخفى. فهذه مراحل يسلكها من وحده في ذاته وأفعاله وربوبيته ، والقرآن الكريم يرشدنا في توحيده إلى هذه المراتب السامية كما لا يخفى.

(٢) لما عرفت من أن الجسمية والأجزاء عين الحاجة إلى الأجزاء والمحل وهو تعالى عين الغنى ومنزه عن خصائص الممكنات ، فمن اعتقد بإله متجسد فهو كافر بحقيقة الإله المنزه من النقص والحاجة ، وما اعتقده بعنوان الإله ليس إلّا ممكنا من الممكنات فالمجسمة والمشبهة وإن كانوا من طوائف المسلمين ولكنهم في الحقيقة من الكافرين. ثم إن من لا جسم له ولا حد له ولا مكان له وكان محيطا بكل شيء كيف يمكن أن ينزل من مكان إلى مكان آخر.

(٣) كما هو المروي في المحجة البيضاء (١) : ونحوه روايات كثيرة منها : ما عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ في قول الله عزوجل : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) قال : «لا تدركه أوهام القلوب فكيف تدركه أبصار العيون» (٢) ومنها : ما روي عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ انه قال في توصيفه تعالى : «هو أجل من أن

__________________

(١) المحجة البيضاء : ج ١ ص ٢١٩.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤ ص ٢٩.

٥٨

تدركه الابصار أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل» (١).

وبالجملة أن الإبصار لا يمكن إلّا إذا كان المبصر محدودا وفي جهة وهو لا يناسب الربّ تعالى لأنه غير محدود ولا يتناهى وهكذا ما يتخيله الإنسان وإن كان مجردا عن المادة ولكنه متقدر بالأبعاد والأشكال ، ومع التقدر المذكور يكون محدودا بحدود الأبعاد والأشكال ، فكيف يمكن للإنسان أن يتخيل المبدأ المتعالي الذي لا يكون محدودا بحد أو بعد ، فلذلك لا تناله يد البصر والوهم ، بل العقل عاجز عن درك حقيقته وكنهه إذ لا ماهية ولا جنس ولا فصل له حتى يتعقلها ويعرفه بها ذاته وكنهه ، بل يعرفه العقل بعون المفاهيم المنتزعة عن ذاته مع سلب مماثلة شيء به تعالى ، ويقال عند توصيفه : أنه موجود وحي وعالم وقادر وليس كمثله شيء ، أو أنه ليس بمحدود ، أو ليس بمتناه ، فالعقل عاجز عن درك كنهه ، ولكن له أن يعرفه بالمفاهيم المذكورة مع سلب خصائص الممكنات عنه (٢).

قال ابن ميثم البحراني : «إن ذات الله تعالى لما كان برية عن أنحاء التركيب ، لم يكن معرفته ممكنة إلّا بحسب رسوم ناقصة تتركب من سلوب وإضافات تلزم ذاته المقدسة لزوما عقليا» (٣) فافهم. ومما ذكر يظهر المراد من قول مولانا أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في نهج البلاغة : «لم يطلع العقول على تحديد صفته ولم يحجبها عن واجب معرفته» (٤).

ثم هنا سؤال وهو : أن الرؤية إذا كانت غير ممكنة فكيف روي عن علي ـ عليه‌السلام ـ أنه قال في جواب من قال له : هل رأيت ربك؟ : «لم أكن

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٣ ص ١٥.

(٢) راجع اصول فلسفه : ج ٥ ص ١٤٤ ـ ١٤٥.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني : ج ١ ص ١٢١.

(٤) الخطبة : ٤٩.

٥٩

وكذلك يلحق بالكافر من قال : إنه يتراءى لخلقه يوم القيامة ، وإن نفى عنه التشبيه بالجسم لقلقة في اللسان (٤) ، فإن أمثال هؤلاء المدعين حمدوا على ظواهر الالفاظ في القرآن الكريم (٥)

______________________________________________________

بالذي أعبد ربا لم أره» ، ولكن الجواب عن ذلك منقول أيضا عنه ـ عليه‌السلام ـ حيث قال في جواب السائل : فكيف رأيته صفه لنا؟ : «ويلك لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقايق الإيمان ويلك يا ذعلب إن ربي لا يوصف بالبعد ولا بالحركة ولا بالسكون ولا بالقيام قيام انتصاب ولا بجيئة ولا بذهاب ـ الحديث» (١) ولعل المراد من الرؤية القلبية هو الشهود والعرفان القلبي والعلم الحضوري.

(٤) لأن نفي الجسمية مع تصوير الرؤية بالعين والبصر لا يجتمعان إذ المرئي لا يكون مرئيا إلّا إذا كان جسما ، وفي جهة ، وذا أبعاد ، ثم إن المراد ممن ذهب إلى جواز الرؤية مع نفي الجسمية هم الأشاعرة (٢) ثم ان الرؤية بالروح والنفس كالرؤية في المنام أيضا مستحيلة لعدم كونه تعالى متقدرا بمقدار ومتحددا بحدود واشكال فلا مجال لرؤيته مطلقا.

(٥) كقوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) (٣) بدعوى أن الملاقاة لا تتحقق بدون الرؤية ، مع أن المراد منها هو الكناية عن مسبب اللقاء وهو ظهور قدرة الرب عليه ، فإن الرجل إذا حضر عند ملك ولقيه دخل هناك تحت حكمه وقهره دخولا لا حيلة له في رفعه (٤) ، فهو لقاء القدرة والحكومة.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤ ص ٢٧.

(٢) راجع اللوامع الالهية : ص ٨٢.

(٣) البقرة : ٤٦.

(٤) راجع اللوامع الالهية : ص ٩٨.

٦٠