بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد رضا المظفّر

بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN: 964-470-180-1
ISBN الدورة:
964-470-180-1

الصفحات: ٣٢٠
الجزء ١ الجزء ٢

٤ ـ عقيدتنا في المجتهد

وعقيدتنا في المجتهد الجامع للشرائط أنه نائب للإمام عليه‌السلام في حال غيبته ، وهو الحاكم والرئيس المطلق ، له ما للإمام في الفصل في القضايا والحكومة بين الناس ، والراد عليه راد على الإمام والراد على الإمام راد على الله تعالى ، وهو على حد الشرك بالله كما جاء في الحديث عن صادق آل البيت عليهم‌السلام (١).

فليس المجتهد الجامع للشرائط مرجعا في الفتيا فقط ، بل له الولاية العامة فيرجع إليه في الحكم والفصل والقضاء ، وذلك من مختصاته

______________________________________________________

(١) رواه في الوسائل عن الكافي بسند مقبول عند جلّ الفقهاء وهو هكذا : عن محمّد بن يعقوب ، عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن عيسى ، عن صفوان بن يحيى ، عن داود بن الحصين ، عن عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحلّ ذلك؟ قال : من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقا ثابتا له ؛ لأنه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يكفر به قال الله

٢١

لا يجوز لأحد أن يتولاها دونه ، إلّا بإذنه ، كما لا تجوز إقامة الحدود والتعزيرات إلّا بأمره وحكمه.

ويرجع إليه أيضا في الأموال التي هي من حقوق الإمام ومختصاته.

وهذه المنزلة أو الرئاسة العامة أعطاها الإمام عليه‌السلام للمجتهد الجامع للشرائط ليكون نائبا عنه في حال الغيبة ، لذلك يسمى «نائب الإمام».

______________________________________________________

تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) (٢) قلت : فكيف يصنعان؟ قال : ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله ـ الحديث (٣).

ثم إن أدلة النيابة العامة لا تنحصر في هذا الحديث ، بل هي متعددة مذكورة في محله.

__________________

(٢) النساء : ٦٠.

(٣) الوسائل ج ١٨ ص ٩٨.

٢٢

الفصل الأوّل

الإلهيات

١ ـ عقيدتنا في الله تعالى

٢ ـ عقيدتنا في التوحيد

٣ ـ عقيدتنا في صفاته تعالى

٤ ـ عقيدتنا بالعدل

٥ ـ عقيدتنا في التكليف

٦ ـ عقيدتنا في القضاء والقدر

٧ ـ عقيدتنا في البداء

٨ ـ عقيدتنا في أحكام الدين

٢٣
٢٤

١ ـ عقيدتنا في الله تعالى

نعتقد أن الله تعالى واحد أحد ليس كمثله شيء ، قديم لم يزل ولا يزال ، هو الأول والآخر ، عليم حكيم عادل حي قادر غني سميع بصير ، ولا يوصف بما توصف به المخلوقات ، فليس هو بجسم ولا صورة ، وليس جوهرا ولا عرضا ، وليس له ثقل أو خفة ، ولا حركة أو سكون ، ولا مكان ولا زمان ، ولا يشار إليه ، كما لا ندّ له ولا شبه ، ولا ضد ولا صاحبة له ولا ولد ، ولا شريك ، ولم يكن له كفوا أحد ، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار (١).

______________________________________________________

(١) ولا يخفى عليك أن المصنف ـ قدس‌سره ـ اكتفى بذكر صفات المبدأ المتعالي ونفى الشريك له ولم يذكر أدلة المذكورات ، كما لم يذكر إثبات المبدأ المتعالي فالأولى أن نفصّل المطالب في ضمن امور :

الأمر الأول : في إثبات المبدأ المتعالي

والأدلة على إثبات الواجب تعالى متعددة مختلفة في جوهرها أو اسلوبها.

الأول : الفطرة ، وهي بحسب اللغة من الفطر وهو بمعنى الخلق ومنه قوله

٢٥

تعالى : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (١) والفطرة كفعلة لبيان كيفية في الخلقة كالجلسة فالمراد من فطرة الإنسان هي كيفية في خلقة الإنسان وهي ترجع إلى كيفية في هويته (٢) التي منها : إدراكه بالعقل البديهي وسيأتي الإشارة إليه في الأدلة العقلية. وهذا هو الذي عبر عنه في المنطق بالفطريات أي القضايا التي قياساتها معها كقولهم : الاثنين خمس العشرة. وهذا النوع من الإدراك الذي من خصائص خلقة الإنسان يتوقف على تشكيل القياس وأخذ النتيجة ، ولذا يكون من أقسام العلم الحصولي لا العلم الحضوري ، وسمي هذا الإدراك بفطرة العقل البديهي.

ومنها : إدراكه بقلبه كعلم النفس بالنفس فلا يحتاج إلى وساطة شكل قياسي كما لا يخفى ، ولذا يعدّ من أقسام العلم الحضوري فالإنسان بفطرته يعلم بنفسه ويحب الكمال والجمال. وسمي هذا الإدراك بفطرة القلب.

ثم بعد وضوح معنى الفطرة ، فليعلم أن المستدل بالفطرة على إثبات المبدأ المتعالي وصفاته وتوحيده أراد الفطرة القلبية وقال : إن القلب يعلم بالعلم الحضوري ربّه ويعرفه والدليل عليه هو رجاؤه بالقادر المطلق عند تقطع الأسباب الظاهرية المحدودة وحبه له وإن غفل عنه كثير من الناس بسبب الاشتغال بالدنيا في الأحوال العادية. إذ الرجاء والحب فرع معرفته به وإلّا لم يرجه ولم يحبّه مع أن الرجاء به أمر واضح عند تقطع الأسباب الظاهرية كما يشهد له رجاء من كسرت سفينته في موضع من البحر لا يكون أحد ولا إمداد ، بقدرة وراء الامور العادية (٣) ؛ ومع أن حب الكمال المطلق لا خفاء فيه حيث إذا

__________________

(١) الأنعام : ٧٩.

(٢) لأن الخلق والمخلوق كالإيجاد والوجود حقيقة واحدة وانما الاختلاف بينهما بالاعتبار من جهة الاضافة الى الفاعل والقابل فالكيفية في الخلق تؤول إلى كيفية في المخلوق.

(٣) روي في توحيد الصدوق عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ما يدل على ذلك ، راجع : ص ٢٢١.

٢٦

نرى أنفسنا عند عدم إشباع كمال من الكمالات غير آيسين من النيل إلى كمال فوقه إلى أن ينتهى إلى كمال لا نهاية له وهو الذي يوجب السكون والاطمئنان ولا نشبع من حبه ولا نشمئز من الخضوع والعبادة له ، (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (١).

ففطرة الرجاء وفطرة حب الكمال المطلق وفطرة عبادته والخضوع له كلّها مظاهر مختلفة للمعرفة الفطرية وهي العلم الحضوري بالرب المتعالي لأنها آثار تلك المعرفة ولا يمكن وجودها بدونها بعد كون غير الرب محدودا بمرتبة ومفقودا في بعض الاحيان.

ثم مع ثبوت هذه المعرفة الفطرية حصلت المعرفة بالواجب المتعال ؛ لأن العلم عين الكشف ولا حاجة إلى مقدمات اخرى كما ذهب إليها شيخ مشايخنا الشاه آبادي ـ قدس‌سره ـ حيث قال : بأن العشق من الصفات الإضافية يقتضي معشوقا كما كنت عاشقا بالفعل فلتحكم بوجود معشوق الفطرة في دار التحقق كما قال مولانا : «عميت عين لا تراك ... الخ» (٢).

وذلك لأن نفس المعرفة الفطرية عين المعرفة به تعالى ولا حاجة إلى ضميمة أنه لا يعقل وجود أحد المتضايفين بدون الآخر فلا تغفل.

ثم إن هذا الإدراك حيث كان من خصائص الخلقة في الإنسان ليس فيه خطأ ، كما أن السمع والبصر لا يفعلان إلّا ما قرر في خلقتهما له فالسمع لا يريد الرؤية كما أن البصر لا يريد السماع فكل شيء في خلقتنا لا يقصد إلّا ما هو له (٣). وعليه فتوجيه قلوبنا نحو وجوده تعالى أمر فطري لا خطأ فيه. وليس هذه المعرفة من باب القضايا المعقولة التي يحتمل فيها الصدق والكذب ، بل هو من

__________________

(١) الرعد : ٢٨.

(٢) رشحات البحار : كتاب الإنسان والفطرة ص ٣٧.

(٣) راجع اصول فلسفة : ج ٥ ص ٤٦.

٢٧

باب الشهود والعلم الحضوري الذي لا يحتاج إلى وساطة شيء آخر.

وهذا الادراك يؤكد بالعبادات المأثورة الشرعية إذ كلّما إزدادت النفس تزكية وصفاء كان هذا الإدراك فيها آكد وأتم.

وكلّما ازدادت النفس فسقا وفجورا كان الإدراك المذكور فيها ضعيفا ويؤول ضعفه إلى حد ربما يتخيل عدمه.

وللرسل سهم وافر في ازدياد هذا الإدراك وتقويته كما أشار إليه أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ بقوله : «فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكّروهم منسي نعمته ويحتجّوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول» (١).

وكيف كان فهذا الإدراك لا يختص بزمان دون زمان وبقوم ، بل هو موجود في الإنسان من بدء حياته إلى زماننا هذا وبعده ، كما اعترف به جمع كثير من علماء الغرب أيضا على ما حكاه الاستاذ الشهيد المطهري ـ قدس‌سره ـ وهو من شواهد كون هذا الإدراك فطريا (٢).

وإلى ما ذكر يشير الإمام الباقر ـ عليه‌السلام ـ في قوله : «فطرهم على المعرفة به» (٣).

ثم إن الفطرة لا تبديل لها وإن أمكن خفاؤها ، بسبب توجه النفس إلى الدنيا والامور المادية والاشتغال بها. ولعل قوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (٤) يشير إلى ذلك.

__________________

(١) نهج البلاغة : خطبة ١.

(٢) راجع اصول فلسفه : ج ٥ ص ٧٢.

(٣) اصول الكافي : ج ٢ ص ١٣.

(٤) الروم : ٣٠.

٢٨

ثم إن الفطرة تشبه الغريزة في كونها من خصائص الخلقة ولكنها تفترق عنها بامور :

(أحدها) : أن الفطرة بعد الإشارة والتنبيه لو خليت وطبعها يعني لم تقترن بالموانع تسوق الانسان نحو الكمال المطلق بخلاف غرائز الانسانية فإنها لا جهة لها بدون أن يكون للعقل عليها تحديد واشراف.

(وثانيها) : أن حب الكمال المطلق أو الرجاء به عند تقطع الأسباب العادية أو ملائمة عبادة المعبود المطلق أو غير ذلك من الامور الفطرية ترجع كما عرفت إلى المعرفة الفطرية التي غفل عنها كثير من الناس ، بخلاف الغرائز فإنها لا ترجع إلى المعرفة أصلا كما لا يخفى.

ثم إنه يظهر مما ذكر ما في دعوى إن كلّ ما استدل به لإثبات المبدأ المتعالي متوقف على أصل العلية ؛ لما عرفت من أن المعرفة الفطرية من خصائص الخلقة كالغريزة وإن كان أساس هذه المعرفة والشهود هو معلولية الانسان. نعم تتوقف فطرة العقل على المقدمات البديهية بخلاف فطرة القلب ؛ لما عرفت.

ثم ينقدح مما ذكر جواز الاكتفاء بالمعرفة الفطرية مع شواهد وجودها من الرجاء أو الحب لكمال المطلق ؛ لإثبات المبدأ المتعالي ولو لا وساط الناس الذين غفلوا عن وجودها في أنفسهم فلا حاجة إلى الأدلّة العقلية ، كما لا يخفى.

الثاني : الإمكان ، والمراد به إما هو الامكان الماهوي أو الامكان الوجودي ، والأول وصف الماهية واريد به استواء الذات بالنسبة إلى الوجود والعدم بحيث يحتاج ترجح الوجود على العدم إلى السبب الخارجي ، أو اريد به سلب ضرورة الوجود والعدم عن الماهية. والثاني وصف الوجود واريد به افتقار الوجود بحيث يكون عين التعلق والربط والحاجة إلى العلة بحيث لا استقلال له في أصل وجوده وبقائه.

والوجود بعد كونه أصيلا لا يتصف بالإمكان حقيقة إلّا بهذا الاعتبار.

٢٩

وأما اتصافه بالإمكان الماهوي فهو باعتبار ماهيته ؛ لأن الوجود ليس له اللااقتضاء بالنسبة إلى الوجود والعدم ، بل نسبته إلى نفسه ضروري بالوجوب ؛ لأن ثبوت الشيء لنفسه ضروري وإلى العدم بالامتاع حيث أن امتناع اتصاف الشيء بنقيضه أيضا من الضروري فلا يكون متساوي النسبة بالقياس إليهما (١).

ثم إنه استدل بكلا المعنيين لإثبات المبدأ المتعال.

أما الأول : فقد نسب إلى ابن سينا وغيره رحمهم‌الله ولقد أجاد في تقريره المحقق الطوسي والعلّامة الحلي ـ قدس‌سرهم ـ وهو :

إن كلّ معقول إما أن يكون واجب الوجود في الخارج لذاته (٢) ، وإما ممكن الوجود لذاته ، وإما ممتنع الوجود لذاته.

ولا شك في أن هنا موجودا بالضرورة فإن كان واجبا لذاته فهو المطلوب ، وإن كان ممكنا افتقر إلى موجد يوجده بالضرورة ، فإن كان الموجد واجبا لذاته فهو المطلوب. وإن كان ممكنا افتقر إلى موجد آخر فإن كان الأول دار ، وهو باطل بالضرورة ، وإن كان ممكنا آخر تسلسل وهو باطل أيضا ؛ لأن جميع أحاد تلك السلسلة الجامعة لجميع الممكنات ، تكون ممكنة بالضرورة فتشترك في إمكان الوجود لذاتها ، فلا بدّ لها من موجد خارج عنها بالضرورة فيكون واجبا بالضرورة وهو المطلوب (٣).

والحد الوسط في هذا البرهان هو الإمكان الماهوي ويمكن تقريره بوجه آخر وهو أن يقال : العالم ممكن لذاته ، وكلّ ممكن لذاته يحتاج في الوجود إلى الغير

__________________

(١) راجع نهاية الحكمة : ص ٤٥ و ٦٣ ، ودرر الفوائد : ج ١ ص ٤٢٧.

(٢) أي من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره كما في الاشارات : ج ٣ ص ١٨.

(٣) راجع الباب الحادي عشر / ٧ الطبعة الحديثة وشرح الاشارات : ج ٣ ص ١٨ ، وشرح التجريد : ص ١٧٢.

٣٠

فالعالم يحتاج في الوجود إلى الغير ، وهذا الغير إن كان واجبا فهو المطلوب وإلّا لزم أن ينتهى إليه ؛ لبطلان الدور والتسلسل.

أما بطلان الدور فلأنه تقدم الشيء على نفسه ومعناه وجود الشيء قبل وجوده وهو محال لأنه اجتماع النقيضين. وأما بطلان التسلسل ؛ فلأن جميع آحاد تلك السلسلة ممكنة لذاتها ومحتاجة في الوجود إلى الغير ، وتكثر الآحاد الممكنة لا يقلب الممكنات عن ذاتياتها كما أن تكثر آحاد الصفر لا يوجب انقلابها إلى الأرقام فالسلسلة المفروضة محتاجة في الوجود إلى موجد ليس بممكن ، بل هو واجب الوجود.

ويمكن أيضا تقريب هذا البرهان بنحو أخصر وهو أن يقال :

علة الممكن منحصرة في أربعة : العدم ونفس الممكن ومثله وواجب الوجود وحيث أن الثلاثة الاول باطلة بقي الأخير.

أما بطلان الأول : فلأن العدم لا يكون واجدا لشيء حتى يعطيه. وأما بطلان الثاني : فلأن الشيء قبل وجوده ليس إلّا عدما والعدم لا يصلح للعلية كما عرفت. وأما بطلان الثالث : فلأنه مثل نفس الممكن في الحاجة إلى الغير في الوجود فكيف يمكن له أن يوجد بدون انتهائه إلى الواجب ويعطي الوجود؟ ثم لا فرق في كون المثل شيئا واحدا أو أشياء متعددة ، منتهية كانت أو غير منتهية ؛ لأن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد ، فانحصر أن يكون العلة هو واجب الوجود ولعل قوله عزوجل : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) (١) يشير إلى ذلك.

وقد عرفت أن خلقة الممكن بدون استناده إلى الواجب المتعال ترجع إلى خلقته من العدم ومن غير شيء ، وهو محال فانحصر الأمر إلى استناد الخلقة إليه

__________________

(١) الطور : ٣٥.

٣١

تعالى حتى تكون الخلقة مستندة إلى شيء وهو حقيقة الوجود.

ثم لا يخفى عليك أن المستدل بهذا البرهان أراد إثبات أصل الواجب في مقابل من ينفيه رأسا ، وأما أن الواجب واحد أو متعدد مجرد أو مادي متحد مع صفاته أو غير متحد ، فهذه مباحث محتاجة إلى الإثبات بالتدريج كما صرح الاستاذ الشهيد المطهري ـ قدس‌سره ـ في ذيل هذا البرهان (١).

نعم هذا البرهان كما يدل على حاجة الممكن في حدوثه إلى المبدأ المتعالي ، كذلك يدلّ على حاجته إليه في بقائه ؛ لاستمرار العلة وهي الإمكان الماهوي.

وأما الثاني أي الإمكان الوجودي فقد ذهب إليه جملة من المحققين منهم المحقق السبزواري في منظومته وشرحه (٢) وتقريبه بأن يقال : إنا إذا نظرنا إلى الوجود العيني فهو لا يخلو عن أحد أمرين : إما هو واجب بمعنى أنه في نهاية شدة الوجود الملازمة لقيامه بذاته واستقلاله بنفسه بحيث لا يشوبه عدم ولا نقص ويكون صرف الوجود الذي لا أتم منه. وإما هو ممكن بمعنى أنه فقير ومتعلق بالغير بحيث لا يستقل في شيء من وجوده عن الغير ، بل هو مشروط ومتقيد في أصل وجوده وكماله بالغير.

وذلك ـ أي انحصار الوجود في الوجوب والممكن المذكورين ـ لأن الوجوب أو الإمكان بالمعنى المذكور شأن من الشئون القائمة بالوجود وليس الوجود خارجا عنهما.

فحينئذ نقول : فإن كان الموجود الخارجي هو الأول فهو المطلوب ، وإن كان الثاني فهو لا ينفك عن وجود الواجب المتعال ؛ لأن وجود المتعلق والفقير

__________________

(١) راجع شرح المنظومة : ج ٢ ص ١٢٨.

(٢) راجع شرح المنظومة : ص ١٤١ حيث قال في شرح قوله في الشعر «إذ الوجود ان كان واجبا فهو ومع الامكان قد استلزمه» : أو على سبيل الاستقامة بأن يكون المراد بالوجود مرتبة من تلك الحقيقة فاذا كان هذه المرتبة مفتقرة الى الغير استلزم الغني بالذات دفعا للدور والتسلسل.

٣٢

بدون المتعلق عليه والمفتقر إليه خلف في تعلقه وفقره إليه وربطه به. ولا فرق فيما ذكر بين كون المتعلق والفقير واحدا أو متعددا ، مترتبا أو متكافئا ، لأن الكلّ متعلق وفقير وربط ولا ينفك عن المتعلق عليه والمفتقر إليه وعليه ، ففرض الدور أو التسلسل لرفع الحاجة إلى الواجب المتعالي لا يفيد ؛ لأن مرجع الدور أو التسلسل إلى وجود المتعلق والفقير والربط بدون المتعلق عليه والمفتقر إليه المستقل بنفسه وهو خلف في التعلق والفقر وعدم الاستقلال. فوجود الممكن بمعنى الفقير والمتعلق لا ينفك عن الغني بالذات والمستقل بنفسه.

وإليه يشير شيخ مشايخنا الشاه آبادي ـ قدس‌سره ـ حيث قال : «إن نفس هذه الموجودات المحدودة روابط صرفة وذواتها متعلقة كتعلق الأضواء والشروق بذيها فإنك تشاهد انعدامها عند انسداد الروازن يعني أن انسدادها عدمها كما لا يخفى.

ويدل على ما ذكرنا أن هذه الموجودات لا تكون نفسها قيومها ولا لعالم ملكها حتى يبقى في الملك دائما ، كما قال تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (١) (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) (٢) وهكذا لا يكون حافظا لخصوصيات وجوده من صفاته وأحواله كالحسن والجمال والصحة والكمال والعزة والمال. وكذلك الأمر في غير الإنسان ، بل هو فيه أوضح من أن يخفى وإذا كان الأمر كذلك في الكل فاحكم بكون الكلّ فقراء ، فذواتهم تدل على حاجتهم وفقرهم. وبفطرة الفقير بالذات تثبت الغني بالذات» (٣).

وكيف كان ، فالحد الوسط في هذا البرهان هو الإمكان الوجودي ، ويمكن تقريبه بوجهين آخرين مضيا في الإمكان الماهوي فراجع.

__________________

(١) الزمر : ٣٠.

(٢) الأنبياء : ٣٤.

(٣) رشحات البحار : ص ٢٠٤.

٣٣

ولعلّ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (١) يشير إلى ذلك.

الثالث : المعلولية ، وتقريب هذا البرهان بأن يقال : لا شك في وجود الموجودات في الخارج فحينئذ نقول : إن هذه الوجودات كلّها معاليل وكلّ معلول يحتاج إلى العلة فهذه الوجودات تحتاج إلى علة ليست بمعلولة وهو الحق المتعال.

أما أنها معاليل ؛ فلجواز العدم عليها إذ لا يلزم من فرض عدمها محال وكلّ ما لا يلزم من فرض عدمه محال فالوجود ليس بذاتي له ، فإذا لم يكن الوجود ذاتيا له فترجح الوجود له من ناحية الغير وليس المعلولية إلّا ذلك.

هذا مضافا إلى خلو الموجودات عن صفات الواجب ، لأن من صفات الواجب هو أنه لا يشوبه النقص والعدم ولا يكون مركبا ولا يحتاج إلى شيء ولا يكون محدودا بحدود ولا متقيدا بقيد ولا شرط ولا سبب ، بل هو عين الكمال وعين الوجود وبسيط ومطلق من جميع الجهات ، ولا حاجة له إلى شيء من الأشياء.

وهذه الامور ليست في الموجودات الخارجية فإنها مشوبة بالنقص والعدم لأنّ كلّ واحد منها محدود بحد ومرتبة ولا يكون واجدا لسائر المراتب ومركبة بالتركيب الخارجي أو التركيب الذهني من الجنس والفصل ومتقيدة بأسبابها وشرائطها ومحتاجة في وجودها وبقائها إلى الغير فليست الموجودات إلّا المعلولات. هذا كلّ الكلام في ناحية الصغرى.

وأما الكلام في ناحية الكبرى فهو واضح إذ لو لم يحتج المعلول إلى العلة لزم الخلف في المعلولية أو الترجح من غير مرجح وكلاهما محال.

__________________

(١) فاطر : ١٥.

٣٤

وينتج من المقدمتين أن الموجودات محتاجة إلى العلة ؛ لكونها معلولات والعلة هي الواجب المتعالي وإلّا بقيت المعلولات بدون العلة ؛ لأن المفروض أن جميعها معلولات وتفكيك المعلولات عن العلة محال ، ولا فرق فيما ذكر بين أن تكون الموجودات مترتبات أو غير مترتبات ، ففرض الدور أو التسلسل لا يفيد في هذا المجال أيضا كما لا يخفى.

الرابع : الضرورة والوجوب ، والمراد من ذلك أن الشيء ما لم يجب لم يوجد ووجوب الشيء لا يحصل إلّا بسد أنحاء عدمه ولا يسد أنحاء عدمه إلّا بوجود علته التامة ؛ لأنه ممكن بالذات والممكن بالذات لا يقتضي الوجود كما لا يقتضي العدم. فاذا فرض أن وجود شيء مشروط بألف شرط ، فلا يمكن وجوده إلّا باجتماع شروطه وتحقق علته ، فإذا فقد شرط من بين هذه الشروط ، لا يجب وجوده ولا يوجد ، فإذا تحققت الشروط ووجب وجوده به وجد ، فوجود الممكن مسبوق بضرورة الوجود رتبة وضرورة وجود الممكن قبل وجوده حاكية عن وجود علته ، إذ بدونها لا وجود ولا ضرورة له.

وهذا الحكم لا يختص بوجود دون وجود ، بل يشمل جميع الموجودات سواء كانت مترتبة أم غير مترتبة ؛ لأن السلسلة المترتبة الممكنة بالذات ما لم يجب وجودها لم توجد ، ولا يجب وجودها إلّا بوجود علة مستقلة ليست بمعلولة وبدونها لا يجب وجود السلسلة ؛ لأنها ممكنة بالذات وما دام لم يجب وجودها لم توجد وحيث كانت الموجودات موجودة بالعيان فعلم أنها وجبت قبل وجودها رتبة ، فوجوبها وضرورتها ليس إلّا بوجود علة مستقلة ليست بمعلولة وهو الواجب تعالى.

ويمكن تقرير هذا البرهان بصورة اخرى وهي أن يقال : إن وجود النظام الإمكاني مسبوق بضرورة الوجود له ووجوبه وإلّا لم يوجد ، والممكن ليس له ضرورة الوجود ووجوبه إلّا بالواجب بواسطة أو بدونها. فوجوب النظام

٣٥

الإمكاني وضرورته قبل وجوده لا يكون إلّا بوجود الواجب المتعال وهو المطلوب. ففي هذا البرهان يكون الحد الوسط هو الضرورة ووجوب الممكن بالغير التي هي من أحكام المعلولية.

وهذا البرهان من عوالي الادلة والبراهين وكذلك قال الاستاذ الشهيد المطهري : إن هذا البرهان من البراهين التي في عين كونها دليلا على وجود الواجب ، تكون برهانا على امتناع التسلسل أيضا ، ولذا ذكره الخواجة نصير الدين الطوسي ـ قدس‌سره ـ لوجود الواجب من دون حاجة إلى ابطال التسلسل قبله (١).

ولعل إليه يؤول ما حكي عن الفارابي من أن الممكن سواء كان واحدا أو متعددا ، مترتبا أو متكافئا لا يقتضي وجوب الوجود فلا بد في وجود الممكن المترتب على وجوبه من موجود واجب بالذات (٢).

وإليه يشير أيضا ما حكي عن المحقق الطوسي ـ قدس‌سره ـ حيث قال : إنه لو لم يكن الواجب موجودا لم يكن لشيء من الممكنات وجود أصلا ، واللازم كالملزوم في البطلان. وبيان الملازمة أن الموجود يكون حينئذ منحصرا في الممكن وليس له وجود من ذاته كما تقدم ، بل من غيره ، فإذا لم يعتبر ذلك الغير لم يكن للممكن وجود ، وإذا لم يكن له وجود لم يكن لغيره عنه وجود ؛ لأن إيجاده للغير فرع وجوده لاستحالة كون المعدوم موجدا (٣).

الخامس : الحدوث والتغير ، وتقريب ذلك أن العالم متغير وكل متغير حادث فالعالم حادث ، مفتقر إلى محدث ، ليس بجسم ولا جسماني وهو الواجب تعالى ،

__________________

(١) اصول فلسفة : ج ٥ ص ١٠٠.

(٢) تعليقة على نهاية الحكمة : ص ٤١٥.

(٣) اللوامع الالهية : ص ٧٠.

٣٦

دفعا للدور والتسلسل.

أما الصغرى فهي واضحة بعد ظهور التغيرات في الأشياء المادية ، فإنها لا تزال في تبدل من صورة إلى صورة ومن كيفية إلى كيفية ومن حال إلى حال ، ولا شيء في العالم المادي إلّا وهو متبدل ومتغير ، بل المادة تتغير وتتبدل إلى الطاقة وهي إلى المادة كما لا يخفى.

قال الأستاذ الشهيد المطهري ـ قدس‌سره ـ : كل موجود من الموجودات المحسوسة المادية متغير ومتبدل ، ولا يبقى في حال واحد ؛ لأنه إما في حال التكامل والرشد وإما في حال الانكسار والضعف ، كما يكون أيضا في حال المبادلة المستمرة ؛ لأنه إما يأخذ وإما يعطي وإما يأخذ ويعطي ، وليس موجود باقيا على حالة واحدة (١).

أما الكبرى فهي أيضا واضحة ، فإن كل صورة وكيفية وحال متبدلة ، مسبوقة بالعدم وحادثة فالمقدمتان تنتج أن العالم حادث مفتقر إلى محدث ليس كذلك ، لما قرر في محله من بطلان الدور والتسلسل في ناحية العلل.

وهذا الاستدلال وإن كان صحيحا ولكن إثبات الواجب به يتوقف على ضميمة البراهين السابقة ، فإن غاية التقريب المذكور هو أن محدث التغيير ليس بجسم ولا بجسماني وأما الواجب فلا يثبت به إلّا إذا انتهت بالبراهين السابقة إلى الواجب تعالى.

السادس : النظم والتناسب ، وتقريب ذلك ومن الواضح ان النظم هو عمل منظوم لغرض صحيح كخلقة آلة السمع للاستماع وآلة اللسان للتكلم وهكذا والتناسب هو مناسبة الاعمال المنظومة بعضها مع بعض في ترتب الغاية المترتبة عليها لتناسب الايدي والارجل أو تناسب الاسنان بالنسبة إلى الغاية المترتبة

__________________

(١) جهان بينى : ج ٢ ص ٣٤.

٣٧

عليها ومن الواضح ان النظم والتناسب بالمعنى المذكور أمر يراه كل ذي لب في اجزاء العالم أو الأشياء بعضها مع بعض ، يكفيك ما تراه في بدنك من القلب والسمع والبصر وجهاز الهاضمة وجهاز التناسل والتوالد والعروق والعظام ، وما تحسه من القوى المودعة في نفسك من الإحساس والتحفظ والتعقل ، وغير ذلك من الامور العظيمة الفخيمة التي لا تنقضي عجائبها ولا ينال الإنسان بعظمتها وأهميتها ، إلّا إذا فقدها.

ثم إن النظم والتناسب لا سيما إذا كان متعددا ومستمرا لا يصدر إلّا من ذي شعور عالم حكيم ، ولذا يطمئن الإنسان بوجود البناء إذا رأى دارا مجهزة بالأجهزة اللازمة ، وهكذا بوجود الصانع إذا رأى سيارة مجهزة بالاجهزة اللازمة ، ولا يصغى باحتمال الصدفة ؛ لضعفه إلى حد يعجز عن حسابه الإنسان بحساب الاحتمالات ، بل الفعل المتقن المنظم المتناسب المكرر المستمر لا يسانخ الصدفة الفاقدة للشعور ، كما لا يخفى.

سأل زنديق من الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ ما الدليل على صانع العالم؟ فقال أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : وجود الأفاعيل التي دلت على أن صانعها صنعها ألا ترى أنك إذا نظرت إلى بناء مشيد مبني علمت أن له بانيا وإن كنت لم تر الباني ولم تشاهده (١).

فإذا عرفت ذلك ظهر لك أن للنظم والتناسب المشاهد في أجزاء العالم ناظما شاعرا وعالما وحكيما مطلقا وهو الله تعالى ؛ لأن الحكمة في الخلق كثيرة عظيمة لا تسانخ إلّا للواجب «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ

__________________

(١) بحار : ج ٣ ص ٢٩.

٣٨

وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» (١).

السّابع : المحدودية ، تقريب ذلك أن كلّ موجود من ممكنات العالم محدود بحدود وكلّ محدود له حاد ، فالعالم الإمكاني له حاد غير محدود وهو صرف الوجود ، دفعا للدور والتسلسل.

أما الصغرى ؛ فلأن كلّ شيء من أشياء العالم الإمكاني صغيرها أو كبيرها جمادها أو نباتها أو حيوانها محدودة بالحد المكاني والزماني وغيرهما من الكيفيات والخصائص ، ولذا لا وجود له في خارج الحد المكاني أو في خارج الحد الزماني أو نحوهما. نعم بعضها بالنسبة إلى بعض آخر أعظم أو أطول أو أدوم ، ولكن كلّها محدودة بالحدود المذكورة ، بل المجردات أيضا محدودة بحد مراتب الوجود وأسبابها وعدمها.

وأما الكبرى ؛ فلأن كلّ محدودية من أي نوع كانت آتية من ناحية غير المحدود ، لا من ناحية نفسه وإلّا لكان الأمر بيده ، مع أن المعلوم خلافه. هذا مضافا إلى أنه يلزم منه مساواة كلّ محدود مع غيره في الحدود ؛ لاشتراكهم في حقيقة الوجود ، فالحدود في المحدودات آية المقهورية والمعلولية ولزم أن تنتهي الى من ليس له حد من الحدود ، بل هو صرف الكمال والوجود وليس هو إلّا الله تعالى الذي عبر عنه في الكتاب العزيز بالصمد والقيوم والغني.

ويمكن تقريب البرهان المذكور بوجه آخر وهو أنه لا إشكال في وجود الموجودات في الخارج فإن كان مطلقا وصرفا ومحض الوجود فهو المطلوب وإلّا استلزمه ؛ لأن لكل محدود حادا دفعا للدور والتسلسل.

وقال صدر المتألهين في شرحه على اصول الكافي : كلّ محدود له حد معين ، إذ المطلق بما هو مطلق (في عالم الخلق) لا وجود له في الخارج ، فيحتاج إلى علة

__________________

(١) البقرة : ١٦٤.

٣٩

محددة قاهرة إذ طبيعة الوجود لا يمكن أن تكون مقتضية للحد الخاص وإلّا لكان كلّ موجود يلزمه ذلك الحد ، وليس كذلك فثبت أن الحد للوجود من جهة العلة المباينة ، فكل محدود معلول لا محالة ، فخالق الاشياء كلّها يجب أن لا يكون محدودا في شدة الوجود وإلّا لكان له خالق محدد فوقه وهو محال (١).

وقال العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ : كل حقيقة من حقايق العالم فرضت فهي حقيقة محدودة ؛ لأنها على تقدير وفرض وجود سببها كانت موجودة ، وعلى تقدير وفرض عدم سببها كانت معدومة ففي الحقيقة لوجودها حد وشرط معين ليس لها وجود في خارج ذلك الحد والشرط المعين. وهذا الأمر جار في كل شيء عدا الله سبحانه وتعالى حيث أنه ليس له حد ونهاية ، بل هو حقيقة مطلقة وموجود على كلّ التقادير وليس متقيدا بشرط ولا سبب ولا يكون محتاجا إلى شيء (٢). ولذا قال أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في توصيفه تعالى : «فلا إليه حد منسوب» (٣) وخاطب الإمام علي بن الحسين ـ عليهما‌السلام ـ ربه في دعائه بقوله : «أنت الذي لا تحد فتكون محدودا» (٤) وفي توقيع محمّد بن عثمان ابن سعيد عن مولانا الحجة بن الحسن المهدي ـ عليهما‌السلام ـ جاء في ضمن الدعاء : «يا موصوفا بغير كنه ومعروفا بغير شبه حادّ كل محدود» (٥). فحد الوسط في هذا البرهان هو المحدودية ، وهي من خصوصيات المعلول اللازمة له إذ لا يمكن ان يوجد معلول بدونها.

الثامن : التدبير والهداية ، وتقريبه هو أن من تأمل في النظام العالمي يرى

__________________

(١) شرح الاصول من الكافي : ص ٣٣٢.

(٢) شيعه در إسلام : ص ٧١.

(٣) بحار الأنوار : ج ٤ ص ٢٢٢.

(٤) الصحيفة : الدعاء ٤٧.

(٥) مفاتيح الجنان : أدعية أيام شهر رجب ص ١٣٥.

٤٠