بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد رضا المظفّر

بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN: 964-470-180-1
ISBN الدورة:
964-470-180-1

الصفحات: ٣٢٠
الجزء ١ الجزء ٢

كائن فيما بيني وبين قيام الساعة» (١).

ثم لا يذهب عليك أن الاصول والقواعد الكلية المبيّنة في الإسلام ثابتة ، بحيث لا تحتاج إلى التغيير والتبديل ، لكليتها ووفقها مع الحاجات التي تقتضيها الفطرة كالزواج والمعاملات والأخلاقيات والروابط الداخلية والروابط الخارجية والدفاع وغير ذلك ، والتغير إنما هو في ناحية الموضوعات كالأمتعة ، فإنها تتغير بتغير الزمان ، ولكن أحكام المعاملة لا تتغير ، وكالأسلحة فإنها تتغير بمرور الزمان ، ولكن أحكام الدفاع بالسلاح لا تتغير ، وهكذا. وأيضا من الاصول الكلية التي لا تغيير فيها هو أصل نفي الضرر والضرار ، وأصل نفي العسر والحرج ونحوهما ، مما لهما الدخل التام في حل المشاكل العصرية والمشاكل الفردية. هذا مضافا إلى الأحكام الموقتة السلطانية ، ومما ذكر يظهر أن موجبات تجديد النبوة لا تكون موجودة بعد ظهور الإسلام وجامعيته ، نعم يبقى الحاجة إلى البيان والتفسير والتطبيق ، ولكنها محولة إلى الائمة ـ عليهم‌السلام ـ فمع وجودهم لا حاجة إلى النبي الجديد أصلا ، ولعله لذا ختم النبوة (٢).

ومنها : أن لازم ختم النبوة هو قطع ارتباط الامة مع المبدأ الاعلى ، وفيه أن الارتباط بالمبدإ الأعلى لا ينحصر في النبوة إذ الارتباط بواسطة الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ ميسور وممكن ، بل واجب ، إذ الإمامة غير منقطعة إلى يوم القيامة ، والإمام محدث والملائكة تتنزل إليهم ويخبرهم بما يكون في السنة من التقدير والقضاء والحوادث ، وبأعمال العباد وغير ذلك ، لتواتر الروايات الدالة على ذلك ، ومن جملتها ما روي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «إن أوصياء محمّد ـ عليه وعليهم‌السلام ـ محدثون» (٣).

__________________

(١) بصائر الدرجات : ص ١٢٧.

(٢) راجع معارف قرآن : جلسه ٧٩ ص ٧٩٤.

(٣) الاصول من الكافي : ج ١ ص ٢٧٠ ، راجع كتاب نبوت : ص ١٧٩ ـ ١٨٠.

٢٨١

وأما أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ سيد المرسلين وأفضلهم على الاطلاق فيكفيه رسالته العامة الدائمة إلى يوم القيامة ، فإنها لم تكن لأحد من الأنبياء ، وهكذا القرآن النازل إليه ، فإنه لم يشبهه كتاب من الكتب النازلة ، وصحيفة من الصحف النازلة ، ومن المعلوم أن الأمرين المذكورين يدلان على عظمة النبي وشأنيته لتلك الرسالة العظمى ، ولمعرفة القرآن الكريم الذي لا نهاية له ، كما ورد : «إنما يعرف القرآن من خوطب به» فهو عارف بحقائق لم يعرفها الأنبياء سابقا ، ومرسل إلى امة لا سابقة له في الماضين. هذا مضافا إلى تخلقه بالأخلاق الفاضلة والآداب والسنن ، وقد أشار المصنف بقوله : «وإنه لعلى خلق عظيم» إلى الآية الشريفة : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (١) الدالة على تخلقه بالخلق العظيم ، وقد أورد العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ في المجلد السادس من تفسير الميزان جملة من روايات سننه ، التي فيها مجامع أخلاقه التي تلوح إلى أدبه الإلهي الجميل ، مع كونها مؤيدة بالآيات الشريفة القرآنية ، وهذه الروايات الدالة على أخلاقه وسننه وآدابه تقرب مائة وثمانين (٢) فراجعه وغيره من الجوامع ، وكيف كان يكفي في عظمة أخلاقه توصيف الله اياه بأنه عظيم ، مع أنه لم يوصف نبي بأن خلقه عظيم.

وهكذا الروايات الدالة على أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ سيد المرسلين وأفضلهم كثيرة. منها ما روي في عيون أخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ من المأمون ، سأل علي بن موسى الرضا ـ عليه‌السلام ـ أن يكتب له محض الإسلام على الايجاز والاختصار. فكتب ـ عليه‌السلام ـ له : «ومن جملته ، وأن محمدا عبده ورسوله وأمينه وصفيه وصفوته من خلقه ، وسيد المرسلين وخاتم النبيين ، وأفضل العالمين ، لا نبي بعده ، ولا تبديل لملته ، ولا تغيير لشريعته وأن جميع ما جاء به

__________________

(١) القلم : ٤.

(٢) الميزان : ج ٦ ، ص ٣٢١ ـ ٣٥٧.

٢٨٢

محمّد بن عبد الله هو الحق المبين» (١).

وأيضا الروايات الدالة على أن كل ما للأنبياء ، فهو لنبينا محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ تدل على أفضليته منهم ؛ لأن له ما لجميعهم وأزيد ، ومن جملتها ما رواه في الكافي عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «قال لي : يا أبا محمّد إن الله عزوجل لم يعط الأنبياء شيئا إلّا وقد أعطاه محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، قال : وقد أعطى محمدا جميع ما أعطى الأنبياء ، وعندنا الصحف التي قال الله عزوجل : صحف ابراهيم وموسى. قلت : جعلت فداك ، هي الالواح؟ قال : نعم» (٢).

ومن جملتها أيضا : ما رواه في الكافي عن أبي الحسن الأول ـ عليه‌السلام ـ «قال : قلت له : جعلت فداك ، أخبرني عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ورث النبيين كلهم؟ قال : نعم ، قلت : من لدن آدم حتى انتهى إلى نفسه؟ قال : ما بعث الله نبيا إلّا ومحمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أعلم منه. قال : قلت : إن عيسى بن مريم كان يحيي الموتى بإذن الله ، قال : صدقت ، وسليمان بن داود كان يفهم منطق الطير ، وكان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يقدر على هذه المنازل ، الحديث» (٣).

وأيضا تدل على ذلك الروايات الدالة على تقدم خلقة روح النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ على غيره ، ومنها ما رواه في الكافي عن جابر بن يزيد قال : قال لي أبو جعفر ـ عليه‌السلام ـ : «يا جابر إن الله أول ما خلق ، خلق محمّدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وعترته الهداة المهتدين فكانوا أشباح نور بين يدي الله ، الحديث» (٤).

__________________

(١) عيون اخبار الرضا : ج ٢ ص ١٢٠ ـ ١٢٥.

(٢) الاصول من الكافي : ج ١ ص ٢٢٥.

(٣) الاصول من الكافي : ج ١ ص ٢٢٦.

(٤) الاصول من الكافي : ج ١ ص ٤٤٢.

٢٨٣

ومنها : ما رواه في الكافي عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ «إن بعض قريش قال لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : بأي شيء سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال : إني كنت أول من آمن بربي ، وأول من أجاب حين أخذ الله ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم ، ألست بربكم؟ قالوا : بلى ، فكنت أنا أول نبي قال بلى ، فسبقتهم بالاقرار بالله» (١).

إلى غير ذلك من الأدلة والشواهد الكثيرة ، وكيف كان ، فسيادة النبي على المرسلين وأفضليته منهم من المسلّمات لا مجال للتأمّل فيها ، فإذا كان أفضل من الأنبياء فهو أفضل من غيرهم بطريق أولى والأفضلية مقام يناسبه.

__________________

(١) الاصول من الكافي : ج ١ ص ٤٤١.

٢٨٤

٩ ـ عقيدتنا في القرآن الكريم

نعتقد أن القرآن هو الوحي الإلهي المنزل من الله تعالى على لسان نبيه الأكرم ، فيه تبيان كل شيء وهو معجزته الخالدة التي أعجزت البشر عن مجاراتها في البلاغة والفصاحة ، وفيما احتوى من حقائق ومعارف عالية (١) لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف ، وهذا الذي

______________________________________________________

(١) ولقد أفاد وأجاد في عدم اختصاص وجوه الإعجاز بالبلاغة والفصاحة إذ القرآن من جميع جهاته يكون معجزة ، وتحدي القرآن لا يختص بوجه من وجوهه ، بل اطلاق التحدي به كما صرح به العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ يشمل جميع ما يمكن فيه التفاضل في الصفات. فالقرآن آية للبليغ في بلاغته ، وللفصيح في فصاحته ، وللحكيم في حكمته ، وللعالم في علمه ، وللاجتماعي في اجتماعه وللمقننين في تقنينهم وللسياسيين في سياستهم وللحكام في حكومتهم ، ولجميع العالمين فيما لا ينالونه جميعا كالغيب (١) ، ويشهد له أن التحدي بالقرآن لو كان ببلاغة القرآن وفصاحته فقط ، لم يتعد عن العرب ، مع أن التحدي لا يختص بالإنسان ، بل يعم الجن. «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ

__________________

(١) الميزان : ج ١ ص ٥٨.

٢٨٥

الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» (١).

لا يقال : إن التحدي بالنسبة إلى العرب بالمباشرة وبالنسبة إلى غيرهم بالتسبيب ، فالآية لا تنافي انحصار وجوه الإعجاز في الفصاحة والبلاغة ؛ لأنا نقول : إن ظاهر الآية هو التحدي بالنسبة إلى جميع أفراد البشر والجن على نحو واحد ؛ لأن الخطاب فيها على نحو القضية الحقيقية فيشمل الحاضرين والغائبين ، بل المعدومين في ظرف وجودهم من دون فرق بينهم ، فالتفصيل بين الأفراد بالمباشرة والتسبيب خلاف الظاهر.

هذا مضافا إلى شهادة العيان بعجز البشر عن الاتيان بمثله في جميع الجهات ، من الفصاحة والبلاغة والمعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة والأحكام التشريعية والأخبار المغيبة وأسرار الخلقة وغير ذلك ، واعترف بذلك أهل الإنصاف من فحول العلوم ، وإليه أشار العلّامة آية الله الشيخ محمّد جواد البلاغي ـ قدس‌سره ـ حيث قال : «إن إعجاز القرآن لم يكن بمجرد الفصاحة والبلاغة ، وإن كفى ذلك في الإعجاز والحجة على دعوى الرسالة على أتم الوجوه في المعجز وأعمها ، فأين أنت عن عرفانه العظيم الذي هو لباب المعقول وصفوة الحكمة ، وأين أنت عن أخلاقه التي هي روح الحياة الأدبية والاجتماعية ، وأين أنت عن قوانينه الفاضلة وشرائعه العادلة ، ومحلها من العدل والمدنية ، وأين أنت عن إنبائه بالغيب التي ظهر مصداقها في المستقبل وهلم النظر إلى أقصر سور القرآن وما عرفناه من عجائبها الباهرة انظر إلى سورة التوحيد وأنوار عرفانها الحقيقي في ذلك العصر المظلم ، وانظر إلى سورة تبت وإنبائها بهلكة أبي لهب وامرأته بدخول النار ، وظهور مصداق ذلك بموتهما على الكفر ، وحرمانهما من

__________________

(١) الاسراء : ٩٠.

٢٨٦

سعادة الإسلام الذي يجبّ ما قبله ، وانظر إلى سورة النصر وإنبائها بغيب النصر والفتح ، كما ظهر مصداقه بعد ذلك ـ إلى أن قال ـ : وأين أنت عن جامعيته واستقامته في جميع ذلك من دون أن تعترضه زلة اختلاف أو عثرة خطأ أو كبوة تناقض ، فإن في ذلك أعظم اعجاز يعرفه الفيلسوف والاجتماعي والسياسي المدني. (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (١).

فهل يكون كل ذلك من إنسان لم يقرأ ولم يكتب ولم يتربّ في البلاد الراقية ، وإنما كان بدويا من البلاد المنحطة في كل أدب ، المدرسة الابتدائية في موطنه إنما هي بساطة أعراب البادية وخلوهم عن المعارف ، والمدرسة الكلية تنظم تعاليمها من الوثنية الأهوائية وخشونة الوحشية والجبروت الاستبدادي والعدوان وعوائد الضلال والجور ، والشرائع القاسية ، ولئن سمعت الاحتجاج بإعجاز القرآن في فصاحته وبلاغته ، فإنما هو لأجل عموم هذا الإعجاز وأنه هو الذي يذعن به العرب الذين ابتدأهم الدعوة ، وتناله معرفتهم حسب ما عندهم من الأدب ، الراقين فيه ، فتقوم الحجة عليهم وعلى غيرهم وتبقى سائر وجوه الإعجاز للفيلسوف والاجتماعي والسياسي المدني يأخذ منها كل منهم بمقدار حظه من الرقي» (٢). وعليه فكان الأولى هو أن يشير المصنف إلى هذه النكتة ، فإنه لا ريب ولا إشكال في كون اتيان القرآن ممن لم يتعلم ولم يكتب ولم يقرأ في مدرسة من المدارس ، إعجازا ظاهرا بينا ، كما أشار إليه في قوله عزوجل : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٣) وقوله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٤).

__________________

(١) النساء : ٨٤.

(٢) أنوار الهدى : ص ١٣٣ ـ ١٣٥.

(٣) يونس : ١٦.

(٤) العنكبوت : ٤٨.

٢٨٧

ومما ذكر يظهر أن نفس القرآن بفصاحته وبلاغته ومحتواه معجزة وبعبارة اخرى ، إعجازه داخلي بمعنى أنه على كيفية يعجز عنه الآخرون من الجن والإنس ، وعليه فما نقل عن النظام والسيد المرتضى ، واحتمله المحقق الطوسي ـ قدس‌سره ـ في متن تجريد الاعتقاد ، والعلّامة الحلي في شرحه من الصرفة بمعنى أن الله تعالى صرف العرب ومنعهم عن المعارضة ، وإلّا فالعرب كانوا قادرين على الألفاظ المفردة وعلى التركيب ، وإنما منعوا عن الاتيان بمثله تعجيزا لهم عما كانوا قادرين عليه ، في غاية الضعف ، فإن كثيرا ممن تصدوا لمعارضة القرآن ولم يستطيعوا ، اعترفوا بأن القرآن في درجة ، عجز عن مثله البشر ، فإن لم يكن القرآن معجزا بنفسه ، لزم أن يعترف العاجز بمجرد العجز عن الاتيان بمثله ، وقد روى قاضي عياض في إعجاز القرآن أنه ذكر أبو عبيد أن اعرابيا سمع رجلا يقرأ (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (١) فسجد ، وقال : سجدت لفصاحته ، وحكى الاصمعي أنه سمع كلام جارية ، فقال لها : قاتلك الله ما أفصحك! فقالت : أو يعد هذا فصاحة بعد قول الله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢) فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.

وسمع آخر رجلا يقرأ (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) (٣) فقال : أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام ، ولذلك أيضا لما سمع الوليد بن المغيرة من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٤) قال : والله إن

__________________

(١) الحجر : ٩٤.

(٢) القصص : ٧.

(٣) يوسف : ٨٠.

(٤) النحل : ٩٠.

٢٨٨

له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة (حسن وبهجة) وإن أسفله لمغدق (من اغدق : اتسع وكثر فيه الخير) وإن أعلاه لمثمر ، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ، وما يقول هذا بشر. ولعله لذاك أيضا لما سمع كلام النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الوليد بن المغيرة ، وقرأ عليه القرآن رق فجاءه أبو جهل منكرا عليه ، قال : والله ما منكم أحد أعلم بالأشعار مني ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا (١).

وبالجملة كل هذا ونظائره مما يشهد على أن نفس القرآن ، كلام يعجز عن اتيانه البشر والجن. هذا مضافا إلى ما في «البيان» من أنه لو كان إعجاز القرآن بالصرفة ، لوجد في كلام العرب السابقين مثله ، قبل أن يتحدى النبي البشر ويطالبهم بالاتيان بمثل القرآن ، ولو وجد ذلك لنقل وتواتر ، لتكثر الدواعي إلى نقله ، وإذ لم يوجد ولم ينقل كشف ذلك عن كون القرآن بنفسه اعجازا إلهيا وخارجا عن طاقة البشر (٢). هذا بحسب الشواهد التاريخية الدالة على أن إعجاز القرآن من جهة محتواه لا من جهة المنع والصرف الخارجي.

وزاد عليه العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ بما في تفسيره من أن هذا قول فاسد ، لا ينطبق على ما تدل عليه آيات التحدي بظاهرها ، كقوله تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) (٣) فإن الجملة الأخيرة ظاهرة في أن الاستدلال بالتحدي إنما هو على كون القرآن نازلا ، لا كلاما تقوّله رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وأن نزوله إنما هو بعلم الله ، لا بإنزال الشياطين كما قال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (٤) وقوله : «وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ*

__________________

(١) راجع تفسير البيان في تفسير القرآن : ٤٢ نقلا عن تفسير الطبري وتفسير القرطبي.

(٢) البيان في تفسير القرآن : ٦١.

(٣) هود : ١٣ ـ ١٤.

(٤) الطور : ٣٣ ـ ٣٤.

٢٨٩

إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ» (١) والصرف الذي يقولون به ، إنما يدل على صدق الرسالة بوجود آية هي الصرف ، لا على كون القرآن كلاما لله ، نازلا من عنده ، ونظير هذه الآية ، الآية الاخرى وهي قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) (٢) فإنها ظاهرة في أن الذي يوجب استحالة اتيان البشر بمثل هذا القرآن ، وضعف قواهم وقوى كل من يعينهم على ذلك من تحمل هذا الشأن ، هو أن للقرآن تأويلا لم يحيطوا بعلمه ، فكذبوه ولا يحيط به علما إلّا الله ، فهو الذي يمنع المعارض عن أن يعارضه لا أن الله سبحانه يصرفهم عن ذلك مع تمكنهم منه لو لا الصرف بإرادة من الله تعالى ، وكذا قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٣) فإنه ظاهر في أن الذي يعجز الناس عن الاتيان بمثل القرآن ، إنما هو كونه في نفسه على صفة عدم الاختلاف لفظا ومعنى ، ولا يسع لمخلوق أن يأتي بكلام غير مشتمل على الاختلاف ، لا أن الله صرفهم عن مناقضته بإظهار الاختلاف الذي فيه. هذا ، فما ذكروه من أن إعجاز القرآن بالصرف كلام لا ينبغي الركون إليه (٤) وأضف إلى ذلك أن صدور العلم القرآني مع ما فيه من التعالي والعظمة من الذي يكون أميّا لم يقرأ ولم يكتب ولم يدرس عند أحد إعجاز وخارج عن القدرة والعادة ، والصرفة فيما يمكن عادة لا فيما لا يمكن عادة فلا تغفل.

ثم لا يذهب عليك أن دعوى الرسالة من النبي كما هي صريح بعض الآيات ، كقوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) (٥) مع ظهور المعجز في يده وهو القرآن الكريم ، كما عرفت ، يكفي لإثبات نبوته

__________________

(١) الشعراء : ٢١٠ ـ ٢١٢.

(٢) يونس : ٣٨ ـ ٣٩.

(٣) النساء : ٨١.

(٤) تفسير الميزان : ١ : ٦٨.

(٥) الاعراف : ١٥٨.

٢٩٠

ورسالته ، إذ لو كان كاذبا لزم الإغراء بالجهل ، وهو ممتنع الصدور عنه تعالى ، لعدم مناسبته مع اطلاق كماله وحكمته ، ولكن مع ذلك أكد وتنازل وسلك مسلك الإنصاف والمماشاة وتحدى الناس وناداهم باتيان عشر سور (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) (١) ثم تنازل عنه لتثبيت العجز ، وتحداهم وناداهم باتيان سورة واحدة (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢).

ثم لم يكتف بذلك بل دعاهم بالاتيان والمعارضة والاستمداد من كل من حضر (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣).

ثم أكد التأكيدات بالإخبار الإعجازي بأن السعي في طريق المعارضة لا نتيجة له إلّا الخسارة والافتضاح ولو اجتمع الجن والإنس واستظهر بعضهم ببعض لا يمكن أن يأتوا بمثله إلى الأبد.

كما نص عليه (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) (٤) ، (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٥).

وهذا هو السبب لتسمية القرآن بالمعجزة الخالدة إذ لا يختص إعجازه بعصر ولا زمان ، بل هو معجزة إلى الأبد ، كما أخبر عنه في قوله : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) وفي قوله : (لا يَأْتُونَ).

قال العلّامة آية الله الشيخ محمّد جواد البلاغي ـ قدس‌سره ـ : «وقد مضت

__________________

(١) هود : ١٣ ـ ١٤.

(٢) يونس : ٣٨.

(٣) البقرة : ٢٣.

(٤) البقرة : ٢٤.

(٥) الاسراء : ٨٨.

٢٩١

بين أيدينا نتلوه هو نفس القرآن المنزل على النبي ، ومن ادعى فيه غير ذلك فهو مخترق كاذب ، أو مغالط ، أو مشتبه وكلهم على غير هدى ، فإنه كلام الله الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) (٢) ومن

______________________________________________________

لهم مدة وأعوام ودعوة الرسالة والإعذار والإنذار دائمة عليهم ، وهم في أشد الضجر منها والكراهية لها والخوف من عاقبتها والتألم من آثارها وتقدمها وظهورها ، وفي أشد الرغبة في أهوائهم وعوائدهم ورئاساتهم ، والعكوف على معبوداتهم ، ومع ذلك لم يستطيعوا معارضة شيء من القرآن الكريم ، ولا الاتيان بسورة من مثله ، لكي تظهر حجتهم ، وتسقط حجية الرسول ويستريحوا من عنائهم من الدعوة التي شتت جامعتهم الأوثانية ، وقاومت رئاساتهم الوحشية وتشريعاتهم الأهوائية ، وفرقت بين الأب وبنيه ، والأخ وأخيه ، والزوج وزوجه ، والقريب وقريبه وكدرت صفاء قبائلهم ، ونافرت بين عواطفهم ، ولم يجدوا لذلك حيلة إلّا الجحود الواهي ، والعناد الشديد والاضطهاد القاسي ، والاستشفاع بأبي طالب وغيره تارة والمثابرة الوحشية اخرى ، مع تقحم الأهوال وقتال الأقارب ومقاساة الشدائد ، وأهوال المغلوبية ، فلما ذا لم يتظاهروا بأجمعهم عشر سنوات أو أكثر ويأتوا بشيء من مثل القرآن الكريم ، ويفاخروه ويحاكموه في المواسم والمحافل التي أعدوها لمثل ذلك ، فتكون لهم الحجة والغلبة في الحكومة ، وقرار النصفة ، وينادوا بالغلبة ويستريحوا من عناء هذه الدعوة ، وهم هم ، ومواد القرآن في مفرداته وتراكيبه من لغتهم ، واسلوبه من صناعتهم التي لهم التقدم والرقي فيها ولله الحجة البالغة (١).

(٢) يدل على حفظ القرآن وبقائه من دون تغير وتبديل امور :

__________________

(١) أنوار الهدى : ص ١٣٣.

٢٩٢

دلائل اعجازه أنه كلما تقدم الزمن وتقدمت العلوم والفنون فهو باق على طراوته وحلاوته ، وعلى سموّ مقاصده وأفكاره ، ولا يظهر فيه خطأ في نظرية علمية ثابتة ، ولا يتحمل نقض حقيقة فلسفية يقينية ، على العكس من كتب العلماء وأعاظم الفلاسفة مهما بلغوا في منزلتهم العلمية ومراتبهم الفكرية ، فإنه يبدو بعض منها على الأقل تافها ، أو نابيا ، أو مغلوطا ، كلما تقدمت الأبحاث العلمية ، وتقدمت العلوم بالنظريات المستحدثة ، حتى من مثل أعاظم فلاسفة اليونان كسقراط وافلاطون وأرسطو الذين اعترف لهم جميع من جاء بعدهم بالابوة العلمية والتفوق الفكري.

ونعتقد أيضا بوجوب احترام القرآن الكريم ، وتعظيمه بالقول والعمل ، فلا يجوز تنجيس كلماته حتى الكلمة الواحدة المعتبرة جزءا منه ، على وجه يقصد أنها جزء منه ، كما لا يجوز لمن كان على غير طهارة أن يمس كلماته أو حروفه (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) سواء كان محدثا بالحدث الأكبر كالجنابة والحيض والنفاس ، وشبهها أو محدثا بالحدث الأصغر حتى النوم ، إلّا إذا اغتسل أو توضأ على التفاصيل التي تذكر في الكتب الفقهية.

كما أنه لا يجوز احراقه ولا يجوز توهينه بأي ضرب من ضروب التوهين الذي يعد في عرف الناس توهينا مثل رميه أو تقذيره أو سحقه بالرجل ، أو وضعه في مكان مستحقر ، فلو تعمد شخص توهينه وتحقيره بفعل واحد من هذه الامور وشبهها فهو معدود من المنكرين للإسلام وقدسيته المحكوم عليهم بالمروق عن الدين والكفر برب العالمين.

٢٩٣

أحدها : الآيات الدالة على أن الله سبحانه ضمن حفظه كقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١) فإنه يدل على أن حفظ القرآن بيد من نزّله والتنزيل وإن كان أمرا حادثا ماضيا ولكن الحفظ امر يدوم من دون امد ومدة قضاء للجملة الاسمية المؤكدة بالتأكيدات المتعددة.

لا يقال : إن الآية الكريمة لا تدل على ذلك إلّا إذا ثبت عدم كونها من الزيادات لأنا نقول عدم الزيادة في القرآن الكريم من الضروريات والاتفاقيات بين المسلمين فلا مجال لاحتمال الزيادة في القرآن الكريم وعليه فالآية تدل على مصونية القرآن الكريم من النقصان والزيادة والتحريف.

ثانيها : أن المستفاد من الآيات الدالة على التحدي بالقرآن الموجود بينهم هو أنه معجزة خالدة ، ومقتضاه هو بقاؤه على ما هو عليه ، حتى يكون معجزة خالدة ، وإلّا فالمزيد فيه ممكن المعارضة ، فلا يكون بتمامه معجزة خالدة فيتنافى مع آيات التحدي الدالة على أن القرآن الكريم معجزة خالدة بنفسها وآياتها كما لا يخفى.

ثالثها : أن الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ استشهدوا بالآيات القرآنية وأرجعوا الأصحاب إلى الاستشهاد بها بما هي من كتاب الله وهو دليل على حجية الكتاب ، فلو كان فيه احتمال التغيير والتبديل ، لم يكن حجة كما هو ظاهر.

رابعها : أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ صرح بترك الثقلين بين الناس إلى يوم القيامة ، والتأكيد على أن التمسك بهما لا يوجب الضلالة ، حيث قال : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا» فهو دليل على مصونية ما ترك بينهم عن التبديل والتغيير ، وإلّا فالتمسك به لا يخلو عن الضلالة.

__________________

(١) الحجر : ٩.

٢٩٤

خامسها : الروايات الدالة على المراجعة إلى القرآن والاستضاءة بنوره ، إذ مع التغيير والتبديل لا مجال لذلك كما لا يخفى.

سادسها : الروايات الدالة على أن الروايات المخالفة للقرآن باطل وزخرف ، فإنه مع التغيير والتبديل لا مجال للحكم بكون المخالف باطلا أو زخرفا ، فالمعلوم من هذه الروايات أن القرآن معيار تشخيص الحجة عن اللاحجة ، فما لم يكن بنفسه حجة لا يصلح لذلك.

سابعها : الروايات الدالة على ان الموافقة للكتاب من المرجحات في الروايات المتعارضات ، مع انه لو لم يكن في نفسه حجة يصلح لذلك.

ثامنها : أن القرآن الكريم متواتر بتمام اجزائه من عهد النزول الى زماننا هذا وبعده لانه كان من عهد النبي موردا للاهتمام والتوجه ، بحيث لا مجال للتغيير والتبديل فيه ، وكان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ هو الأكثر توجها بذلك ، كيف لا يكون كذلك ، مع أنه أصل وأساس للإسلام. فالعقل يشهد بأن اهتمامه به كثير في زمان حياته ، ولذا ذهب الأصحاب إلى حفظه وقراءته ومقارأته بحيث صار الكتاب محفوظا ومنشورا في عصره قال الفاضل الشعراني : «قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «ليؤمكم أقرأكم» فرغب الناس إلى حفظ القرآن وكتابته (بمثل هذا البيان) إلى أن حفظ عدد غير محصور من المسلمين في أقطار الحجاز ، كل واحد من السور القرآنية بالتحفظ الذهني أو الكتبي. مثلا حفظ عشرة آلاف نفر سورة يس وعشرون ألفا سورة الرحمن وهكذا ، ولم تكن سورة لا يحفظها جمع كثير. عدة منهم حفظوا عشر سور ، وعدة اخرى حفظوا خمسين سورة وعدة منهم حفظوا كل ما نزل كعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وأمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ.

ثم إن تركيب سور القرآن من الآيات وعددها وموضع الآية النازلة بالنسبة إلى أي سورة ، عينه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من ناحية الله تعالى ، ولكل

٢٩٥

سورة اسم مخصوص معروفة به في زمانه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بحيث إذا قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ سورة طه ، أو سورة مريم ، أو سورة هود علمه الناس وفهموه. مثلا لما قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : شيبتني سورة هود ، علمه الناس لأن الوفاء منهم حفظوها أو كتبوها. كل ذلك معلوم بالتواتر ولا شك فيه ـ إلى أن قال ما محصله ـ : فهم حفظوا القرآن الكريم بتمام الدقة حرفا بحرف ، وكلمة بكلمة إلى عهدنا هذا ، والله تعالى حتم على نفسه حفظه كما قال : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (١) وأنجز الله تعالى هذا الوعد ، والمسلمون راعوا ضبط القرآن مع كمال المواظبة ، وسلكوا مسلك الاحتياط إلى أنه لو كتب في الصدر الأول رسم الخط القديم على خلاف القواعد المعمولة ، حفظوه بتلك الصورة ولم يجوزوا تغييره مثلا بعد واو الجمع لزوم ذكر الألف طبقا للقواعد المعمولة في رسم الخط ، وهذه القاعدة كانت مرعية في القرآنات التي كتب في عهد الصحابة إلّا في كلمة (جاؤُ) و (فاؤُ) و (باؤُ) و (سَعَوْا فِي آياتِنا) في سورة سبأ و (عَتَوْا عُتُوًّا) في الفرقان و (الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) في الحشر ، فإن الألف في الموارد المذكورة لم يكتب في تلك القرآنات ، وتبعهم المتأخرون في ترك الألف في الموارد المذكورة ، ولم يجوزوا زيادتها حتى نعلم أنهم حفظوا وضبطوا القرآن بأمانة ودقة ، ولم يكن سبيل للتحريف والتغيير فيه ـ إلى أن قال ـ : نعم في عهدنا لم يلتفت بعض الناشرين في إيران إلى النكتة المذكورة ، ولم يراعوا ذلك وزادوا الألف في المواضع التي تركه الصحابة ، وهذا موجب للأسف من جهة عدم توجه الناشرين إلى هذه النكتة المهمّة ، مع أن المسلمين في الممالك الاخر راعوا ذلك كمال الرعاية» (٢).

والمحصل أن القرآن الموجود بين أيدينا مستند إلى التواتر القطعي سلفا عن

__________________

(١) القيامة : ١٨.

(٢) كتاب راه سعادت : ص ١٣٣ ـ ١٣٥.

٢٩٦

سلف إلى زمان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

وقال في البيان : «وقد أطلق لفظ الكتاب على القرآن في كثير من آياته الكريمة ، وفي قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» وفي هذا دلالة على أنه كان مكتوبا مجموعا ؛ لأنه لا يصح اطلاق الكتاب عليه وهو في الصدور ، بل ولا على ما كتب في اللخاف (الحجارة البيض الرقاق) والعسب (الجرائد) والأكتاف إلّا على نحو المجاز والعناية ، والمجاز لا يحمل اللفظ عليه من غير قرينة ، فإن لفظ الكتاب ظاهر فيما كان له وجود واحد جمعي ، ولا يطلق على المكتوب إذا كان مجزئا غير مجتمع ، فضلا عما إذا لم يكتب وكان محفوظا في الصدور فقط» (١). ولا يضر استعمال الكتاب في بعض الآيات مجازا في أن لفظ الكتاب من دون قرينة على الخلاف ظاهر في معناه الحقيقي. وقال في موضع آخر : «إن اسناد جمع القرآن إلى الخلفاء أمر موهوم مخالف للكتاب والسنة والإجماع والعقل ، فلا يمكن للقائل بالتحريف أن يستدل به على دعواه ، ولو سلمنا أن جامع القرآن هو أبو بكر في أيام خلافته ، فلا ينبغي الشك في أن كيفية الجمع المذكورة في الروايات المتقدمة مكذوبة ، وأن جمع القرآن كان مستندا إلى التواتر بين المسلمين ، غاية الأمر أن الجامع قد دون في المصحف ما كان محفوظا في الصدور على نحو التواتر ، نعم لا شك أن عثمان قد جمع القرآن في زمانه ، لا بمعنى أنه جمع الآيات والسور في مصحف ، بل بمعنى أنه جمع المسلمين على قراءة إمام واحد ، وأحرق المصاحف الاخرى التي تخالف ذلك المصحف ، وكتب إلى البلدان أن يحرقوا ما عندهم منها ، ونهى المسلمين عن الاختلاف في القراءة ، وقد صرح بهذا كثير من أعلام أهل السنة. قال الحارث المحاسبي : «المشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان ، وليس

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن : ص ١٦٧.

٢٩٧

كذلك ، إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد ، على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار ، لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات ، فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي انزل بها القرآن» (١) أقول : أما أن عثمان جمع المسلمين على قراءة واحدة ، وهي القراءة التي كانت متعارفة بين المسلمين والتي تلقوها بالتواتر عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وأنه منع عن القراءات الاخرى المبتنية على أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف ، التي تقدم توضيح بطلانها ، أما هذا العمل من عثمان ، فلم ينتقده عليه أحد من المسلمين ، وذلك لأن الاختلاف في القراءة كان يؤدي ... إلى تكفير بعضهم بعضا ـ إلى أن قال ـ : ولكن الأمر الذي انتقد عليه هو احراقه لبقية المصاحف ، وأمره أهالي الأمصار باحراق ما عندهم من المصاحف ، وقد اعترض على عثمان في ذلك جماعة من المسلمين ، حتى سمّوه بحراق المصاحف» (٢).

تاسعها : أنك قد عرفت أن مقتضي الأدلة القطعية المذكورة ، هو أن الموجود بأيدينا هو جميع القرآن المنزل على النبي الأعظم ، وهو الذي أيده الله في عصرنا هذا ، فإن عندنا في إيران رجلا من اهل تويسركان أشرقه الله بنور القرآن ، وهو مع كونه عاميا وغير قادر على قراءة اللغة العربية والفارسية ، حفظ باشراقه تعالى دفعة واحدة في لحظة واحدة جميع القرآن ، وامتحنه بعض الأفاضل من الحوزة العلمية بقم ، بامتحانات دقيقة ظريفة وظهر صدقه واشتهر أمره ، وكان القرآن الذي حفظه عين الموجود بأيدينا من دون فرق.

بقي شيء وهو أن هنا روايات قد يستدل بها للتحريف ولكنها على

__________________

(١) الاتقان : النوع ١٨ ج ١ ص ١٠٣.

(٢) البيان في تفسير القرآن : ص ١٧١ ـ ١٧٢.

٢٩٨

طوائف : منها مربوطة بالقراءات ، ومنها بيان المصاديق للعناوين الكلية في الآيات ، ومنها بيان التحريف المعنوي عن المبطلين ، لا التحريف الاصطلاحي ، ومنها بيان التأويل ، ومنها ضعيفة السند لا يعتنى بها ، ولو سلم تمامية بعضها من جهة السند والدلالة ، فلا شك في كونها مردودة بالأدلة المذكورة لأنها مخالفة للكتاب والسنة والأخبار المتواترة فلا تغفل ومما ذكر يظهر قوة ما قاله شيخ المحدثين الصدوق طاب ثراه المتوفى سنة ٣٨١ ه‍ ـ ق : من أن اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله على نبينا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ هو ما بين الدفتين وما في ايدي الناس ـ إلى أن قال ـ : ومن نسب إلينا أنا نقول أنه أكثر من ذلك فهو كاذب (١) وبه ينقدح أن الإمامية لا يقولون بالتحريف وإلّا لما صح ذلك عن مثل الصدوق ، وعليه فما أشنع نسب التحريف إلى الإمامية أو مجرد وجود بعض الروايات في كتب الأحاديث أو مجرد بعض الأقوال النادرة لا يجوز تلك النية وإلّا فالعامة أولى بها مع اشتمال صحاحهم على الروايات ووجود بعض الاقوال في ذلك (٢).

__________________

(١) كتاب الاعتقادات باب الاعتقاد في مبلغ القرآن.

(٢) حقائق هامة : ص ١١ ـ ٣٥.

٢٩٩

١٠ ـ طريقة اثبات الإسلام والشرائع السابقة

لو خاصمنا أحد في صحة الدين الاسلامي نستطيع أن نخصمه بإثبات المعجزة الخالدة له ، وهي القرآن الكريم على ما تقدم من وجه إعجازه ، وكذلك هو طريقنا لإقناع نفوسنا عند ابتداء الشك والتساؤل اللذين لا بد أن يمرا على الإنسان الحر في تفكيره عند تكوين عقيدته أو تثبيتها (١).

______________________________________________________

(١) هذا مضافا إلى تواتر المعجزات الاخر ، التي رواها المحدثون والمؤرخون في جوامعهم. قال العلّامة الحلي ـ قدس‌سره ـ في شرح تجريد الاعتقاد : «نقل عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ معجزات كثيرة كنبوع الماء من بين أصابعه حتى اكتفى الخلق الكثير من الماء القليل بعد رجوعه من غزوة تبوك ، وكعود (١) ماء بئر الحديبية لما استسقاه أصحابه بالكلية ، ونشفت البئر ، فدفع سهمه إلى البراء بن عازب ، فأمره بالنزول ، وغرزه في البئر فغرزه فكثر الماء في الحال ، حتى خيف على البراء بن عازب من الغرق ، ونقل عنه ـ عليه‌السلام ـ في بئر قوم شكوا إليه ذهاب مائها في الصيف ، فتفل فيها حتى انفجر الماء الزلال منها ، فبلغ أهل

__________________

(١) وفي نسخة كغور ماء ، ولعلها أصح بناء على أن قوله بالكلية قيد للغور ، فيكون كغور الماء بالكلية.

٣٠٠