بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد رضا المظفّر

بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN: 964-470-180-1
ISBN الدورة:
964-470-180-1

الصفحات: ٣٢٠
الجزء ١ الجزء ٢

لو لا ذلك لما صح أن تكون له الرئاسة العامة على جميع الخلق ، ولا قوة ادارة العالم كله (٢).

______________________________________________________

(٢) ولا يخفى عليك أن الدليل المذكور وإن كان صحيحا متينا ، ولكنه أخص من المدعى فإن ما يلزم للرئاسة العامة ولا دارة العالم ، بعض الصفات لا جميعها ، كالأكملية في الزهد والانقياد والعبودية. هذا مضافا إلى أن الغاية من إرسال الرسل والأنبياء لا تنحصر في الرئاسة العامة وإدارة العالم ، بل الغرض الأقصى هو هداية الإنسان نحو الكمال ، وإرشادهم إلى سعادتهم في الدارين ، والحكومة والرئاسة العامة ، ليست من الأهداف النهائية وإن كانت من الأهداف المتوسطة وشأنا من شئون الإمامة ، فالمناسب هو التعليل به كما سيأتي تقريبه إن شاء الله تعالى على أن كل نبي لا يكون مبعوثا للرئاسة العامة وإدارة العالم ، إذ الأنبياء على درجات مختلفة. فالدليل لا يثبت الاتصاف بالصفات المذكورة في جميعهم. فالأولى في مقام الاستدلال أن يقال : إن الغرض من بعث النبي ، حيث كان استكمال نفوس من بعث إليه ، فاللازم هو أن يكون في الصفات أفضل من المبعوث إليهم ، حتى يتمكن له أن يهديهم ويستكملهم ، فإن كان مبعوثا إلى قوم خاص فاللازم هو أن يكون هو الأفضل منهم في جميع الصفات الخلقية والعقلية ، وإن كان مبعوثا إلى العالمين في عصر ، فاللازم أن يكون أفضل منهم في ذلك الزمان ، وإن كان مبعوثا إلى العالمين إلى يوم القيامة ، فاللازم هو أن يكون أفضل من جميعهم حتى يتمكن من أن يهديهم ويستكملهم.

وذلك واضح إذ لو كان في المبعوث إليه ، من هو أفضل منه ، أو كان مساويا معه ، لما اهتدوا بهدايته وإرشاده ، ولم يصلوا إلى كمالهم ، مع أن الغرض هو هداية جميع الناس وتزكيتهم وتربيتهم وإكمالهم ، ونقض الغرض كما يكون

٢٦١

في الكل قبيحا ، يكون كذلك بالنسبة إلى بعض النفوس. إذ جميع النفوس مستعدة للاستكمال ، فاللازم هو بعث النبي الذي فاق الآخرين في الصفات المذكورة حتى يتمكن من هدايتهم وتربيتهم في أي درجة ومرتبة كانوا. ولقد أفاد وأجاد في توضيح المراد حيث قال : «اعلم أن الانسان من حيث الكمال لا يقف على حد ، بل في كل حد منه كان له إمكان أن يجوز إلى حد بعده ، إن اجتمعت الشرائط ، فمقتضى لطفه وجوده تعالى أن يكون بين الناس من يتيسر له تزكية الناس ، وتكميل كل أحد وترقيته من أي حد إلى ما فوقه ، بتقريب الشرائط ، وهو النبي أو مثله ممن يقوم مقامه ، فلا بد أن يكون هو في حد كامل بحيث يتيسر منه ذلك في جميع المراتب ، وتنقاد الامة للتعلم عنده والخضوع لديه» (١) ولعل من اقتصر على أصل الصفات لا الأكملية زعم أن النبي مخبر عن الله تعالى ، ولم يلتفت إلى أن التزكية والتربية أيضا من شئونه ، فيجب أن يكون في الصفات أعلى مرتبة.

وقد يستدل على اتصاف النبي بأفضل الصفات الخلقية والعقلية ، بأنه يجب أن يكون أفضل أهل زمانه ، لقبح تقديم المفضول على الفاضل عقلا وسمعا. قال الله تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٢).

ثم لا يخفى عليك أن من اشترط اتصاف الأنبياء بكمال العقل والذكاء والفطنة ولم يشترط الأكملية فيها ، استدل له بأنه لولاه لكان منفرا ، كما قال العلّامة الحلي ـ قدس‌سره ـ في شرح تجريد الاعتقاد : «ويجب أن يكون النبي في غاية الذكاء والفطنة وقوة الرأي ، بحيث لا يكون ضعيف الرأي ، مترددا في

__________________

(١) توضيح المراد : ج ٢ ص ٦٥٠.

(٢) يونس : ٣٥ راجع أيضا شرح الباب الحادي عشر ص ٣٨ الطبعة الحديثة في طهران ، اللوامع الإلهية ص ٢١١.

٢٦٢

كما يجب أن يكون طاهر المولد أمينا صادقا منزها عن الرذائل قبل بعثته أيضا ، لكي تطمئن إليه القلوب وتركن إليه النفوس بل لكي يستحق هذا المقام الإلهي العظيم (٣).

______________________________________________________

الامور متحيرا ، لأن ذلك من أعظم المنفرات عنه» (١) ووجهه واضح ، إذ عدم الاتصاف بالمذكورات من المنفرات. هذا بخلاف ما إذا اعتبرنا الأكملية فيها ، فإن عدم الأكملية لا يكون من المنفرات إذا كان متصفا بالكمال فيها ، فالدليل على لزوم اتصافهم بالأكمل من الصفات هو الذي ذكرناه.

(٣) ولقد أشار المصنف لإثبات تنزيه الأنبياء عن المذكورات إلى دليلين :

أحدهما : هو الذي ذكره أكثر المتكلمين ، وحاصله : إن هذه الامور مما يوجب تنفير الناس عنهم ، ومعه لا يحصل الانقياد التام الذي يكون غرضا لبعث الأنبياء وإرسالهم ، ولذلك قال المحقق اللاهيجي : «نزاهة النبي عن الصفات المنقصة والأخلاق الرذيلة والعيوب والأمراض المنفرة ، معتبرة لكون ذلك داعيا إلى قبول أوامره ونواهيه ، والانقياد له والتأسي به فيكون أقرب إلى الغرض المقصود من البعثة ، فيكون لطفا لا محالة واجبا لا يجوز على الله تركه» (٢) وهذا الدليل هو الذي اعتمد عليه السيد المرتضى في تنزيه الأنبياء ، لإثبات عصمتهم قبل النبوة وبعدها من الصغائر والكبائر ، وتبعه الآخرون ، وحيث إن الدليل عام ولا يختص بالعصمة عن الذنوب ، استدلوا به في نزاهة الأنبياء عن المنفرات ، ولو لم تكن من الذنوب كالعيوب والأمراض المنفرة ، ودناءة الآباء وعهر الامهات والفظاظة والغلظة والاشتغال بالصنائع الموهنة والمبتذلة ، ولذا

__________________

(١) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص ٣٤٩ الطبعة الحديثة.

(٢) گوهر مراد : ص ٣٠١.

٢٦٣

صرح المحقق الطوسي ـ رحمه‌الله ـ في ضمن كلامه بوجوب تنزه النبي عن كل ما ينفر عنه (١) وصرح العلّامة ـ قدس‌سره ـ في الباب الحادي عشر بأنه يجب أن يكون منزها عن دناءة الآباء وعهر الامهات وعن الرذائل الخلقية والعيوب الخلقية ، لما في ذلك من النقص ، فيسقط محله من القلوب والمطلوب خلافه (٢).

وقال الشيخ الطوسي ـ قدس‌سره ـ : «ودليل التنفير الذي اعتمدناه ينفي عنهم جميع القبائح في حال النبوة وقبلها ، وكبائر الذنوب وصغائرها ؛ لأن النفوس إلى من لا يعهد منه قط في حال من الأحوال قبيح لا صغير ولا كبير ، أسكن وأميل ممن كان بخلاف ذلك ، فوجب بذلك نفي الجميع عنهم في كل حال (٣) وعليه فلا وجه لاقتصار المصنف ـ رحمه‌الله ـ في المذكورات ، بل كان عليه أن يذكر تنزه النبي عن الأمراض المنفرة والعيوب الخلقية (بكسر الخاء) ، وكل ما ينفر عنه ، ولو كان هو السهو والنسيان في اموره الشخصية ، لعمومية الدليل. هذا مضافا إلى أن ذكر الأمانة والصدق لا يناسب المقام ، لأن عدم الأمانة خيانة وعدم الصدق كذب ، وهما من المعاصي التي قد فرغنا عن عصمتهم فيها ، فلا وجه لتكرارهما هنا عند ذكر اتصافهم بالكمالات وتنزههم عن المنقصات الخلقية والخلقية.

اللهم الّا أن يقال : إن المصنف لم يذكر سابقا إلّا العصمة عن الذنوب وعن الخطأ والنسيان بعد البعثة فذكر العصمة عن الخيانة والكذب قبل البعثة لا يكون تكرارا ، ولكن عليه أن لا يقتصر عليها ، بل يذكر جميع المعاصي والذنوب. هذا مضافا إلى أن ظاهر ذكر عنوان عقيدتنا في صفات النبي هو الفراغ عن بحث العصمة فلا تغفل.

__________________

(١) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص ٣٤٩ الطبعة الحديثة في قم المشرفة.

(٢) شرح الباب الحادي عشر : ص ٣٩ الطبعة الحديثة في طهران.

(٣) كتاب تمهيد الاصول في علم الكلام : ص ٣٢١.

٢٦٤

ثم إن هذا الدليل يرجع إلى إثبات تنزههم عن المذكورات من جهة سكونة الناس واعتمادهم وجلبهم نحوه ليحصل الغرض من البعث والإرسال على الوجه الأتم ، وأما من جهة اقتضاء نفس مقام النبوة وتلقي الوحي فهو ساكت ، ولذا أشار إليه المصنف بالدليل الثاني.

وثانيهما : أن مقام النبوة مقام لا تناله أيدي الناس ، وإلّا لأوحي إليهم ، ولا حاجة إلى إرسال سفير إليهم ، بل هو مقام شامخ لا نصيب فيه إلّا للمقربين ، ومن المعلوم أن المقربين يكونون منزهين عن الرذائل الأخلاقية كالجهل والجبن والحقد والحسد والخشونة والبخل والحرص وأشباهها ، فاستحقاق مقام النبوة موقوف على تنزههم عن الامور التي تنافيه وهو كذلك ، ولكن هذا الدليل أخص من المدعى ، فإن بعض الامور التي تكون من المنفرات لا تكون من المنقصات المعنوية ، فيمكن أن يكون الناس متنفرين من بعض الأمراض أو بعض العيوب الخلقية (بكسر الخاء) ولكنها لا تكون من المنقصات المعنوية كما لا يخفى.

٢٦٥

٦ ـ عقيدتنا في الأنبياء وكتبهم

نؤمن على الإجمال بأن جميع الأنبياء والمرسلين على حق ، كما نؤمن بعصمتهم وطهارتهم وأما إنكار نبوتهم أو سبهم أو الاستهزاء بهم فهو من الكفر والزندقة ؛ لأن ذلك يستلزم انكار نبينا الذي اخبر عنهم وصدقهم (١).

أما المعروفة أسماؤهم وشرائعهم كآدم ونوح وإبراهيم وداود

______________________________________________________

(١) أما استلزام إنكار نبوتهم لإنكار نبينا فواضح ، فإنه أخبر عن نبوتهم وصدقهم ، فإذا أنكرهم منكر يرجع إنكاره إلى إنكار أخبار نبينا محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بنبوة من أنكره وهو كفر وخروج عن الإسلام ، إن التفت إلى الملازمة واعترف باللازم وإلّا فمجرد المخالفة الواقعية لكلام الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لا يوجب الكفر ولا تكذيب القرآن ، كما أن مخالفة قول المفتي واقعا لا يوجب ذلك (١) ، هذا مضافا إلى أن إنكار نبوة من أنكره كفر في نفسه ؛ لأنه إنكار نبوة من ثبتت نبوته بالمعجزات ، كموسى وعيسى ـ على نبينا وآله وعليهما‌السلام ـ اللهم إلّا أن يقال : إن نبوة غير نبينا بعد مرور الدهور والعصور لم تثبت لنا إلّا بالقرآن الكريم وأخبار النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فافهم.

__________________

(١) راجع المكاسب المحرمة للشيخ الأعظم الأنصاري : ٢٦.

٢٦٦

وسليمان وموسى وعيسى وسائر من ذكرهم القرآن الكريم باعيانهم ، فيجب الإيمان بهم على الخصوص ومن أنكر واحدا منهم فقد أنكر الجميع وأنكر نبوة نبينا بالخصوص (٢).

وكذلك يجب الايمان بكتبهم وما نزل عليهم ، وأما التوراة والإنجيل الموجودان الآن بين أيدي الناس ، فقد ثبت أنهما محرفان عما انزلا ، بسبب ما حدث فيهما من التغيير والتبديل والزيادات والاضافات ، بعد زماني موسى وعيسى ـ عليهما‌السلام ـ بتلاعب ذوي الأهواء والأطماع ، بل الموجود منهما أكثره أو كله موضوع بعد زمانهما من الأتباع والأشياع (٣).

______________________________________________________

(٢) أما أن إنكار واحد منهم مستلزم لإنكار نبوة نبينا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فلما عرفت من أنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أخبر بنبوته ، وأما استلزام إنكار واحد منهم لإنكار الجميع ، فغير واضح.

اللهم إلّا أن يقال : إن إنكار بعث نبي بعد ثبوت نبوته ، إنكار الله في البعث والإرسال مطلقا ، إذ لا خصوصية لمورد الإنكار ، فتدبر جيدا. وكيف كان فمقتضى ايماننا بالرسول الأعظم نبينا محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ هو الايمان بجميع الأنبياء الذين أخبر عنهم بالاجمال والتفصيل. هذا مضافا إلى أنه مقتضى حكم العقل بأنه تعالى بعث الأنبياء والرسل لهداية الناس ، ولم يكن زمان وعصر خاليا عن الحجة الإلهية (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (١).

(٣) لا إشكال ولا ريب في كون التوراة والإنجيل الموجودين محرفين ، كما

__________________

(١) البقرة : ٢٨٥.

٢٦٧

يشهد له الاختلافات والاشتباهات والموهونات الموجودة فيهما ، وعليك بما الف في ذلك من المحققين ، ومن أحسنه هو «الهدى إلى دين المصطفى» و «الرحلة المدرسية» أثران للعلّامة آية الله الشيخ محمّد جواد البلاغي ـ رحمه‌الله ـ (١) ولكن الكلام فيما ادعاه المصنف ـ قدس‌سره ـ من احتمال أن كله موضوع ، وهو مشكل ، لإمكان دعوى العلم بوجود فقرات من الإنجيل أو التوراة الأصليين ، اللهم إلّا أن يقال : نعم ، ولكن حيث لا تكون تلك الكلمات مشخصة فيهما ، فلا حجية لها وإن كانت مأخوذة من الإنجيل أو التوراة الأصليين.

__________________

(١) راجع أيضا كتاب راه سعادت للفاضل الشعراني : ص ١٣٦ ـ ١٦٠.

٢٦٨

٧ ـ عقيدتنا في الإسلام

نعتقد أن الدين عند الله الإسلام وهو الشريعة الإلهية الحقة التي هي خاتمة الشرائع وأكملها وأوفقها في سعادة البشر ، وأجمعها لمصالحهم في دنياهم وآخرتهم وصالحة للبقاء مدى الدهور والعصور ، لا تتغير ، ولا تتبدل ، وجامعة لجميع ما يحتاجه البشر من النظم الفردية والاجتماعية والسياسية ، ولما كانت خاتمة الشرائع ولا تترقب شريعة اخرى تصلح هذا البشر المنغمس بالظلم والفساد ، فلا بد أن يأتي يوم يقوى فيه الدين الإسلامي فيشمل المعمورة بعد له وقوانينه (١).

______________________________________________________

(١) إن جامعية الإسلام وأكمليته واضحة لمن راجع القرآن الكريم والروايات الواردة عن النبي وأهل بيته ـ عليهم الصلوات والسلام ـ فإنهما يحتويان الكليات الاساسية التي تقدر على بيان حاجات الناس في جميع امورهم من الاعتقادات والاخلاقيات والسياسيات والاجتماعيات والمعاملات والآداب والسنن وغيرها ، كما مرت الإشارة إلى اعتراف فحول فن الفلسفة بأكملية ما في الاصول الإسلامية في مسائل التوحيد ، بحيث لم تبلغه العقول إلّا بعد القرون العديدة ، وهكذا في الفقه وغيره.

٢٦٩

قال الفاضل الشعراني ـ قدس‌سره ـ : «ليس فقه الإسلام ناقصا ، بل لنا كليات يمكن استخراج حكم المسائل المستحدثة منها في كل عصر وزمان ، وهذا أمر رائج من زمان الشيخ الطوسي إلى زماننا هذا ، ولعل مسائل تحرير العلامة تقرب من أربعين ألفا ، وهي تستخرج من ألفين أو ثلاثة آلاف من المنصوصات» (١).

وأيضا الأخلاق الإسلامية فاق الأخلاق اليونانية وغيره ؛ لأنه مضافا إلى كونه مبينا للوظائف الاجتماعية والفردية والتخلق بالأخلاق الحسنة والاعتدال فيها ، يوجه الإنسان نحو الغاية القصوى ، وهو القرب إلى الله تعالى ، وبالجملة كلما زاد عمر الاسلام ، ازداد نورا وظهورا ، ومن نظر في محتوى القرآن والاصول الإسلامية الواصلة إلينا من طريق أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ اعترف بعظمته وخضع في ساحته ، إلّا أن يكون معاندا ، إذ ليس مكتب من المكاتب بمثل مكتب الإسلام في الغنى والاحتواء لجميع ما يحتاج الناس إليه وفي الأقومية والإتقان. هذا حقيقة واضحة بل ضرورية لكل من اطلع على محتوى الإسلام ، ولإرشاد الناس إلى هذه الحقيقة وردت الآثار والروايات الكثيرة المتواترة ، ومن جملتها : ما رواه محمّد بن يعقوب عن أبي الحسن موسى ـ عليه‌السلام ـ حديثا وفيه : قال سماعة : «فقلت : أصلحك الله! أتى رسول الله الناس بما يكتفون به في عهده؟ قال : نعم وما يحتاجون إليه إلى يوم القيامة ، فقلت : فضاع من ذلك شيء؟ فقال : لا ، هو عند أهله» (٢) فالإسلام هو الدين الجامع الذي يقدر لرفع احتياج الناس وإدارة الامور وسوق الناس نحو سعادتهم الدنيوية والاخروية ، وستأتي إن شاء الله حاكمية هذا الدين على جميع أقطار الأرض بظهور ولي الله الأعظم مولانا المهدي الحجة بن الحسن أرواحنا فداه ، ولعل نظر المصنف في قوله : فلا بد أن يأتي يوم يقوى فيه الخ الى ذلك فتدبر جيدا.

__________________

(١) راجع كتاب راه سعادت : ص ٢١٤.

(٢) الاصول من الكافي : ج ١ ص ٥٧.

٢٧٠

ولو طبقت الشريعة الإسلامية بقوانينها في الأرض تطبيقا كاملا صحيحا لعم السلام بين البشر وتمت السعادة لهم ، وبلغوا اقصى ما يحلم به الإنسان من الرفاه والعزة والسعة والدعة والخلق الفاضل ، ولا نقشع الظلم من الدنيا ، وسادت المحبة والإخاء بين الناس أجمعين ، ولا نمحى الفقر والفاقة من صفحة الوجود.

وإذا كنا نشاهد اليوم الحالة المخجلة والمزرية عند الذين يسمون أنفسهم بالمسلمين ، فلأن الدين الإسلامي في الحقيقة لم يطبق بنصه وروحه ابتداء من القرن الأول من عهودهم ، واستمرت الحال بنا ـ نحن الذين سمينا أنفسنا بالمسلمين ـ من سيئ إلى أسوأ ، إلى يومنا هذا ، فلم يكن التمسك بالدين الإسلامي هو الذي جر على المسلمين هذا التأخر المشين ، بل بالعكس ، إن تمردهم على تعاليمه واستهانتهم بقوانينه وانتشار الظلم والعدوان فيهم من ملوكهم إلى صعاليكهم ، ومن خاصتهم إلى عامتهم ، هو الذي شل حركة تقدمهم ، وأضعف قوتهم وحطم معنوياتهم ، وجلب عليهم الويل والثبور ، فأهلكهم الله تعالى بذنوبهم.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) تلك سنة الله في خلقه (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) ، (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) ، (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).

وكيف ينتظر من الدين أن ينتشل الامة من وهدتها وهو عندها حبر على ورق لا يعمل بأقل القليل من تعاليمه. من الإيمان والأمانة والصدق والاخلاص وحسن المعاملة والايثار وأن يحب المسلم لأخيه ما يحب

٢٧١

لنفسه وأشباهها من أول اسس دين الإسلام ، والمسلمون قد ودعوها من قديم أيامهم إلى حيث نحن الآن ، وكلما تقدم بهم الزمن وجدناهم أشتاتا وأحزابا وفرقا يتكالبون على الدنيا ويتطاحنون على الخيال ويكفر بعضهم بعضا بالآراء غير المفهومة ، أو الامور التي لا تعنيهم ، فانشغلوا عن جوهر الدين وعن مصالحهم ومصالح مجتمعهم بأمثال النزاع في خلق القرآن ، والقول بالوعيد والرجعة وأن الجنة والنار مخلوقتان أو سيخلقان ونحو هذه النزاعات التي أخذت منهم بالخناق وكفّر بها بعضهم بعضا ، وهي وإن دلت على شيء فإنما تدل على انحرافهم عن سنن الجادة المعبدة لهم إلى حيث الهلاك والفناء ، وزاد الانحراف فيهم بتطاول الزمان حتى شلهم الجهل والضلال وانشغلوا بالتوافه والقشور وبالأتعاب والخرافات والأوهام وبالحروب والمجادلات والمباهاة ، فوقعوا بالأخير في هاوية لا قعر لها يوم تمكن الغرب المتيقظ العدو اللدود للإسلام من أن يستعمر هذه البقاع المنتسبة إلى الإسلام وهي في غفلتها وغفوتها ، فيرمى بها في هذه الهوة السحيقة ولا يعلم إلّا الله تعالى مداها ومنتهاها (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ).

ولا سبيل للمسلمين اليوم وبعد اليوم إلّا أن يرجعوا إلى أنفسهم فيحاسبوها على تفريطهم ، وينهضوا إلى تهذيب أنفسهم والأجيال الآتية بتعاليم دينهم القويمة ، ليمحوا الظلم والجور من بينهم ، وبذلك يتمكنون من أن ينجوا بأنفسهم من هذه الطامة العظمى ، ولا بد بعد ذلك أن يملأ الارض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا ، كما وعدهم الله تعالى ورسوله ، وكما هو المترقب من دينهم الذي هو خاتمة الأديان ولا رجاء في

٢٧٢

صلاح الدنيا واصلاحها بدونه ، ولا بد من إمام ينفي عن الإسلام ما علق فيه من أوهام وألصق فيه من بدع وضلالات ، وينقذ البشر وينجيهم مما بلغوا إليه من فساد شامل وظلم دائم وعدوان مستمر واستهانة بالقيم الأخلاقية والأرواح البشرية ـ عجل الله فرجه وسهل مخرجه ـ.

٢٧٣

٨ ـ عقيدتنا في مشرع الاسلام

نعتقد أن صاحب الرسالة الإسلامية هو محمّد بن عبد الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهو خاتم النبيين وسيد المرسلين وأفضلهم على الاطلاق ، كما أنه سيد البشر جميعا ، لا يوازيه فاضل في فضل ولا يدانيه أحد في مكرمة ، ولا يقاربه عاقل في عقل ولا يشبهه شخص في خلق ، وأنه لعلى خلق عظيم ، ذلك من أول نشأة البشر إلى يوم القيامة (١).

______________________________________________________

(١) أما أن صاحب الرسالة الإسلامية هو محمّد بن عبد الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فهو ضروري ، يعلمه كل أحد بأدنى التفات إلى الإسلام وصاحبه ، كما صرح به في القرآن الكريم (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) (١) وأما أن رسالته هي رسالة عالمية فهو أمر واضح لا سترة فيه ، كما نص عليه في كتابه العزيز (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) (٢) ، (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (٣).

هذا مضافا إلى أن تشريع الجهاد الابتدائي وإرسال الكتب إلى الممالك

__________________

(١) الفتح : ٢٩.

(٢) الاعراف : ١٥٨.

(٣) الانعام : ١٩.

٢٧٤

الشرقية والغربية وأيضا خاتمية النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من شواهد كون رسالته عالمية باقية.

أما أنه خاتم النبيين فهو أيضا ضروري يعلمه كل مسلم ولا خلاف فيه ويدل عليه الآيات والروايات المتواترة ، ومن جملة الآيات قوله تعالى : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) (١) ؛ لأن المراد من الخاتم في التركيب المذكور هو ما يختم به ، باعتبار كون الخاتم كثيرا ما يكون منقوشا باسم صاحبه ويختم به الكتب بعنوان إتمام الكتاب ، الطابع (بفتح الباء) بمعنى ما يطبع به ، فهو يدل بهذا الاعتبار على أن محمّدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بالنسبة إلى الأنبياء ما يختم به ، بمعنى أن به يتم باب النبوة وبه يصدق نبوتهم ، كما صدقهم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ولولاه لما حصل العلم بنبوة أكثرهم أو جلهم ، مع اختلاف التواريخ والتحريف والتبديل ، ويشهد لما ذكر ، استعمال «خاتم النبيين» في الروايات والأدعية والخطب الواردة عن الأئمة المعصومين ـ عليهم‌السلام ـ بمعنى آخر النبيين (٢) فإنه دليل على أن المقصود منه هو آخر النبيين. لا يقال : الخاتم (بالفتح) هو حلقة تدخل في الإصبع للزينة ، فالمقصود أن محمّدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ زينة الأنبياء ، لأنا نقول : إن استعمال الخاتم لإفادة الزينة ليس بشائع ، بل لا يناسب مقام النبي مع كونه أفضل من جميع الأنبياء أن يشبه بحلقة في أيدي الأنبياء ، ولعل التعبير الشائع هو أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ مثلا تاج الأنبياء (٣).

هذا كله بناء على قراءة عاصم الموجودة في القرآن ، وأما بناء على قراءة بقية القرّاء السبعة ، فالأمر أوضح ؛ لأن الخاتم (بكسر التاء) هو اسم فاعل من ختم

__________________

(١) الاحزاب : ٤٠.

(٢) راجع كتاب خاتميت آخرين پيامبر : تأليف مظفرى ، ص ١٥ طبع قم المشرّفة.

(٣) راجع معارف قرآن : جلسه ٧٩ ص ٧٩٢.

٢٧٥

يختم ، ومعناه أن محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أتمهم بوجوده ، فلا نبي بعده. فعلى كل تقدير يكون مفاد الآية الشريفة أنه خاتم النبيين وآخرهم ، ثم لا يخفى عليك ان النبي اعم من المرسل ولو بحسب المورد لما ذهب إليه بعض المحققين من أنهما من حيث المفهوم متباينان كتباين مفهوم العالم ومفهوم العادل ولكنهما بملاحظة الروايات والأدلة الشرعية أعم وأخص موردا ، إذ المستفاد من الروايات أن كل رسول من أفراد الأنبياء ، فكما أن مفهوم العالم والعادل متباينان ومع ذلك يكون النسبة بينهما عموم من وجه بحسب المورد كذلك في المقام فإن مفهوم النبوة غير مفهوم الرسالة ومع ذلك تكون النسبة بينهما عموم وخصوص مطلق بحسب المورد ، إذ المستفاد من الأخبار أن كل رسول من أفراد الأنبياء ، ومما ذكر يظهر الجواب عن وجه تقديم الرسول على النبي في الآية الكريمة (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (١) مع أنّ مقتضى العلوم الأدبية هو تقديم الأعم على الأخص ؛ لما عرفت من أن بين المفهومين مغايرة ومباينة فلا يتقدم عنوان أخص على الأعم وكيف كان فمع أعمية النبوة بحسب المورد ، فإذا كان محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ خاتم النبيين كان أيضا خاتم المرسلين فلا رسول بعده أيضا.

ومن جملة الآيات هو قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٢) سواء كان المراد من الظهور هو الغلبة في الحجة أو الغلبة الخارجية ، فإن مفاد الآية أن الإسلام ودين الحق يغلب على الدين كله ، فلو فرض مجيء دين آخر بعد الإسلام ، كان ناسخا له وغالبا عليه ، فهو يتنافى مع صريح الآية فلا يجيء دين آخر بعد هذا الدين القويم ، فتبقى نبوة نبينا إلى يوم القيامة ، وفرض النبي الحافظ مع وجود الإمام

__________________

(١) مريم : ٥١.

(٢) التوبة : ٣٣.

٢٧٦

الحافظ لغو ولا يجتمع الحافظان في وقت واحد ، إلى غير ذلك من الآيات (١).

ومن جملة الروايات الحديث المروي بطرق كثيرة من العامة والخاصة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أنه قال لعلي ـ عليه‌السلام ـ : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي» والنكرة في سياق النفي تفيد العموم وحيث كان النبي أعم من المرسل فنفي النبي يلازم نفي المرسل أيضا كما لا يخفى.

ومن جملة الروايات الحديث الصحيح المروي في من لا يحضره الفقيه عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ قال في حديث : «قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ والمسلمون حوله مجتمعون : أيها الناس إنه لا نبي بعدي ، ولا سنة بعد سنتي ، فمن ادعى بعد ذلك ، فدعواه وبدعته في النار ، فاقتلوه ، ومن اتبعه فإنه في النار» (٢).

ومن جملة الروايات أيضا ما عن عبد العظيم الحسني قال : «دخلت على سيدي علي بن محمّد ـ عليهما‌السلام ـ فلما بصر بي قال لي : مرحبا بك يا أبا القاسم أنت ولينا حقا ، قال : فقلت له : يا ابن رسول الله إني اريد أن أعرض عليك ديني ، فإن كان مرضيا ثبتّ عليه حتى ألقى الله عزوجل فقال : هات يا أبا القاسم ، فقلت : إني أقول : إن الله تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شيء ـ إلى أن قال ـ : وأن محمّدا عبده ورسوله خاتم النبيين فلا نبي بعده إلى يوم القيامة ، وأن شريعته خاتمة الشرائع ، فلا شريعة بعدها إلى يوم القيامة ـ إلى أن قال ـ : فقال علي بن محمّد ـ عليهما‌السلام ـ يا أبا القاسم ، هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده ، فاثبت عليه ، ثبتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة» (٣).

ومن جملتها ما في نهج البلاغة قال علي ـ عليه‌السلام ـ حين يلي غسل

__________________

(١) راجع كتاب خاتميت آخرين پيامبر وغيره من الكتب.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ج ٤ ، ص ١٢١ ، ح ٤٢١. ط النجف.

(٣) كمال الدين : ج ٢ ص ٣٧٩.

٢٧٧

رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وتجهيزه : «بأبي أنت وامي يا رسول الله ، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة» (١).

ومن جملتها ما روي في الصحاح الستة من أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال : «فضلت على الأنبياء بست : اعطيت بجوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، واحلّت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ، وارسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون» (٢).

ومن جملتها ما رواه في الوسائل عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ أنه قال : «إن الله بعث محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فختم به الأنبياء ، فلا نبي بعده ، وأنزل عليه كتابا فختم به الكتب فلا كتاب بعده» (٣) إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة المتواترة الدالة عليه ، أورد منها في كتاب «خاتميت آخرين پيامبر» أزيد من المائتين فراجع.

وهنا سؤالات : منها : أن المستفاد من بعض الآيات أن باب النبوة ليس منسدا ، فكيف يكون محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ آخر النبيين ، ومن الآيات قوله عزوجل : (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٤) ويمكن الجواب عنه بأن الآية حاكية عن خطابه تعالى لبني آدم بعد هبوط آدم وحواء ، حيث قاله بعد الآية ٢٤ : (قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ* قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ* يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ـ إلى أن قال ـ : يا بَنِي

__________________

(١) نهج البلاغة صبحي الصالح : خطبة ٢٣٥ ص ٣٥٥.

(٢) فضائل الخمسة من الصحاح الستة : ج ١ ، ص ٤٥.

(٣) الوسائل : ج ١٨ الباب ١٣ ، ح ٦٢. ص ١٤٧.

(٤) الأعراف : ٣٥.

٢٧٨

آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ـ إلى أن قال عزوجل ـ : يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ـ إلى أن قال تبارك وتعالى ـ : يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ...) (١) فالآية في سياق خطاباته لبني آدم بعد الهبوط ، ولا نظر لها بالنسبة إلى ما بعد النبي ، نظير قوله : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢) ولذا قال العلّامة الطباطبائي في ذيل قوله : (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ) : «والآية إحدى الخطابات العامة المستخرجة من قصة الجنة المذكورة هاهنا وهي رابعها وآخرها يبين للناس التشريع الإلهي العام للدين باتباع الرسالة وطريق الوحي ، والأصل المستخرج عنه هو مثل قوله في سورة طه : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً ...) فبين أن اتيان الهدى منه إنما يكون بطريق الرسالة» (٣) فلا يمكن رفع اليد عن الضرورة والأدلة المتواترة بمثل هذه الآية التي لا تنافيها ، وغايتها أنها مطلقة فيرفع اليد عن اطلاقها بالأدلة المتواترة وبضرورة الخاتمية. نعم لو كان مختصا بزمان بعد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لصار منافيا ، ولكنه ليس كذلك كما هو الواضح.

ومنها : ما الحكمة في تعطيل النبوة مع أن استكمال البشر لا توقف له ، ألم يحسن أن تدوم النبوة مع دوام استكمال البشر؟ والجواب عنه أن حكمة ذلك عند الله تعالى ؛ لأنه أعلم بالامور ، ولكن يظهر للمتأمل بعض المقربات ؛ لأن علل تجديد النبوة فيما مضى من الزمان امور كلها منفية بعد ظهور الإسلام ؛ لأن من العلل تحريف ما نزل من الله إلى الناس ، فيحتاج إلى بعث النبي الجديد ليرفع التحريف ، ويهدي الناس إلى الواقع مما نزل ، ومنها أن البرامج المذكورة في الشرائع السابقة كثيرا ما ربما تكون عصريا ومختصا بزمان خاص ، وليست

__________________

(١) الأعراف : ٢٤ ـ ٣٥.

(٢) البقرة : ٣٨.

(٣) الميزان : ٨ : ٨٦.

٢٧٩

بصورة الكليات ، لعدم امكان تحملهم لها ، كما يشهد لذلك وقوع النسخ في الشرائع السابقة ، فإنه حاك عن كون المنسوخ مختص ببعض الازمنة ، ولذا إذا تغيرت الامور ، واحتاجت إلى البرامج الجديدة ، يحتاج إلى بعث النبي الجديد لتغيير البرامج طبق الاحتياجات ، ومنها أن تفاصيل الوحي النازل يحتاج إلى تبيين وتطبيق ، فيحتاج إلى بعث النبي الجديد لذلك ، وليس في الإسلام والقرآن شيء من هذه الامور ؛ لأن القرآن الكريم مصون عن التحريف بحفظه تعالى ، كما نص عليه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١).

وهكذا لا نقص ولا فقد في الإسلام بالنسبة إلى ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة ، فلا حاجة إلى ظهور شرع جديد لبيان حاجاتهم ، كما نص عليه في قوله تبارك وتعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (٢) فإنه يحكي عن جامعية الإسلام وكماله بنزول القرآن ونصب الإمام المبين يوم غدير خم.

وهكذا وردت روايات كثيرة دالة على أن كل ما يحتاجه الناس ، بيّنه الله للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهو بيّنه للناس ولو بواسطة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ ومن جملتها : ما روي عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ أنه قال : «إن الله لم يدع شيئا يحتاج إليه الامة إلى يوم القيامة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله» (٣).

ومنها أيضا : ما روي عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ قال : سئل علي ـ عليه‌السلام ـ عن علم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : فقال «علم النبي علم جميع النبيين ، وعلم ما كان وعلم ما هو كائن إلى قيام الساعة ، ثم قال : والذي نفسي بيده إني لأعلم علم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وعلم ما كان وما هو

__________________

(١) الحجر : ٩.

(٢) المائدة : ٣.

(٣) بصائر الدرجات : ص ٦.

٢٨٠