بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد رضا المظفّر

بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN: 964-470-180-1
ISBN الدورة:
964-470-180-1

الصفحات: ٣٢٠
الجزء ١ الجزء ٢

العادة حاصل. وأما قيد الاتكاء على قدرته تعالى ، فهو أيضا حاصل بقاعدة اللطف ، بعد ظهور ما يعجز عنه الناس بيد مدعي النبوة إذ لو كان كاذبا وجب عليه تعالى تكذيبه ، وإلّا لزم الاغراء إلى الضلالة ، وهو قبيح عنه تعالى ، بل محال ، فمجرد إظهار المعجزة في يد مدعي النبوة مع التحدي ، يكفي لحصول العلم بأنه من ناحية الله تعالى فلا تغفل.

وأما عدم المغلوبية فهو لازم كون ما صدر عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ خارق العادة فلا حاجة إلى أخذه في التعريف أيضا.

ثم لا يخفى عليك أن العلّامة الحلي ـ قدس‌سره ـ زاد شروطا اخر لتمامية الاعجاز وقال : لا بد في المعجز من شروط (١).

الأول : أن يعجز عن مثله أو عما يقاربه الامة المبعوث إليها ، ولكن أورد عليه الفاضل الشعراني بأن فعل ما يقاربه إن كان معتادا ، فلا يكون خرقا للعادة ، فالقدرة عليه لا تكون دليلا على القدرة على المعجز ، فلا يكون العجز عن فعل المقارب شرطا.

الثاني : أن يكون المعجز من قبل الله تعالى أو بأمره ، ولكن أورد عليه الفاضل الشعراني ـ قدس‌سره ـ بقوله : «إني لم أعلم المقصود من هذا الشرط ؛ لأن كل شيء بإذنه وأمره ، فإن أراد منه أن المعجز هو الذي ليس له سبب ظاهر ، ففيه منع الاشتراط ، لجواز أن يكون المعجز مما له سبب ظاهر ، كدعاء النبي على معاند فسلط الله عليه أسدا أكله» انتهى. وإن أراد منه أن اللازم في صدق الاعجاز هو العلم بكونه من ناحيته تعالى فهو أمر تدل عليه قاعدة اللطف كما مر ، ولا دخل له في صدق الاعجاز وخارق العادة.

الثالث : أن يكون صدور المعجز في زمان التكليف ؛ لأن العادة تخرق عند

__________________

(١) كشف المراد : ص ٣٥٠ الطبع الجديد.

٢٤١

أشراط الساعة ، ويمكن أن يقال : إن العادة وإن انتقضت عند أشراط الساعة ، ولكن المعجز لا يصير عاديا للإنسان في ذلك الحين كما لا يخفى ، نعم لو افاد ذلك وعلله بأن صدور المعجز في ذلك الحين بعد رفع التكليف لا فائدة فيه ؛ لانقضاء وقت الايمان كان صحيحا.

الرابع : أن يحدث عقيب دعوى المدعي للنبوة أو جاريا مجرى ذلك ، ونعني بالجاري مجرى ذلك أن يظهر دعوى النبي في زمانه ، وأنه لا مدعى للنبوة غيره ، ثم يظهر المعجز بعد أن ظهر معجز آخر عقيب دعواه ، فيكون ظهور الثاني كالمتعقب لدعواه ؛ لأنه يعلم تعلقه بدعواه ، وأنه لأجله ظهر كالذي ظهر عقيب دعواه. وفيه أن ذلك يفهم من قول المصنف حيث قال : ومطابقة الدعوى ؛ لأنه يدل على أمرين : أحدهما : وجود الدعوى وثانيهما : مطابقة المعجز لدعواه بحيث يكون شاهد صدق له ، فلا حاجة إلى اشتراطه.

الخامس : أن يكون المعجز خارقا للعادة ، وفيه أن الشرط الخامس من مقومات المشروط ، إذ المعجز لا يتحقق بدون خرق العادة ، فكيف يمكن أن يجعل من شرائطه ، مع أن صريح كلامه ـ قدس‌سره ـ هكذا «ولا بد في المعجزة من شروط أحدها ـ إلى أن قال ـ : الخامس : أن يكون خارقا للعادة».

ثانيها : أن الفرق بين المعجزة وبين السحر والشعبذة ونحوها واضح ، بعد ما عرفت أن لتلك الامور أسبابا خاصة عادية ، ولو كانت خفية ، حيث يمكن تعلمها وتعليمها ، بخلاف المعجزة ، فإنها ليست إلّا من ناحيته تعالى ، ولذلك أتى النبي بالمعجز ، فيما إذا كانت الحاجة إلى إقامته بما يريده الناس ، بخلاف السحرة ونحوهم ، فإنهم لا يتمكنون من إقامة ما يريده الناس ، بل أتوا بما تعلموه وهو محصور في امور خاصة يمكن تعلمها (١) ، ولإمكان تعلم السحر أمكنت المعارضة

__________________

(١) راجع انيس الموحدين : ص ١٨٤ الطبعة الحديثة.

٢٤٢

مع السحرة بخلاف الاعجاز فإنه لا يمكن فيه المعارضة.

لا يقال : إن مثل الارتباط مع الأجنّة ربما يتفق لبعض النفوس من دون سلوك طريق أو رياضة فليس له أسباب عادية حتى يمكن سلوكها أو معارضتها ؛ لأنا نقول : إن أمثال ما ذكر لا يكون خرقا للعادة ، بل من نوادر الامور وهي ليست من خارق العادات فاتفاق ذلك الأمر لبعض النفوس في بعض الأحيان شاهد كونه من النوادر مع أن الذي يكون خرق العادة هو الذي لا يقع عادة ولا نادرا.

ثالثها : أن الإعجاز لا يكون خارجا عن أصل العلية ، فإن العلل المعنوية أيضا من العلل ، ومشمولة لتلك القاعدة ، كما أن العلل الطبيعية لا تنحصر في العلل الموجودة المكشوفة ، لامكان اكتشاف علل طبيعية اخرى في الآتي ، وعليه فالاعجاز معلول من المعاليل ، وله علة معنوية ، وهذه العلة المعنوية قد تستخدم في الاعجاز الاسباب الطبيعية ، كما دعا النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في حق معاند فسلط الله عليه سبعا فأكله ، وقد يكتفي بالعلل المعنوية كإحياء الموتى أو انبات شجر مثمر في دقائق قليلة ، وكيف كان ، فالنظام الاعجازي يقدم على النظام الجاري بإرادته تعالى ، ومشيته ، فليس المعجزة بلا سبب وعلة ، حتى يقال : بأنه نقض لأصل العلية ومما ذكر يظهر ما في مزعمة الماديين حول الاعجاز حيث تخيلوا أنه ينافي أصل العلية.

رابعها : أنه لا يلزم تكرار المعجزة للتصديق بالنبي ؛ لأن اللازم هو حصول العلم بصدق النبي وهو يحصل بمعجزة واحدة ، بل لا يلزم رؤية المعجزة ؛ لأن نقلها متواترا يوجب العلم بوقوع المعجزة ، وكونها شاهدة لصدق النبي ، وأما وقوع المعجزات المتكررة عن بعض الأنبياء ، فلعله لبقاء الحاجة إليها لصيرورة نقلها متواترا للغائبين وغير الموجودين ، حتى يحصل لهم العلم بوقوعها كالشاهدين ، ومن ذلك ينقدح أن المعجزات المتكررة لا تخرج عن عنوان المعجزة لو وقعت بعد

٢٤٣

العلم بنبوة النبي ، بدعوى أنها مجرد كرامة وليست واقعة لحصول العلم بالنبوة بعد دعوة النبوة والتحدي ؛ لأن هذه المعجزات المتكررة موجبة لحصول العلم للغائبين وغير الموجودين من النسل الآتي ، فليست مجرد كرامة. وكيف كان فقد أفاد وأجاد الامام البلاغي ـ قدس‌سره ـ حيث قال : «إن الذي يحتاج إليه في تصديق الرسالة ومنقولها هو العلم بالمعجز لا خصوص مشاهدته ولا تكراره» (١).

ومما ذكر يظهر أيضا وجه عدم اجابة الأنبياء لبعض الاقتراحات الواردة من المنكرين لخروجها عن كونها إتماما للحجة ، هذا مع ما في طلبهم من المحالات كمجيء الله سبحانه وتعالى ، مع أنه محيط على كل شيء (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى ... تَأْتِيَ بِاللهِ ... قَبِيلاً) (٢).

خامسها : أن المعجزة ليست طريقة منحصرة لتعريف النبي أو الإمام ، لإمكان تعريفه بسبب تعريف نبي آخر بالبشارة عليه إن لم يكن موجودا حال التعريف ، كما وردت بشارات متعددة عن الأنبياء السالفة في حق نبينا محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما قال تعالى : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٣).

أو بالنص عليه إن كان موجودا حاله ، كتنصيص بعض الأنبياء على بعض آخر ، فلا وجه لحصر تعريف النبي أو الإمام في المعجزة ، كما يظهر من عبارة المصنف ، حيث قال : «نعتقد أنه تعالى إذ ينصب لخلقه هاديا ورسولا ، لا بد أن يعرفهم بشخصه ويرشدهم إليه بالخصوص على وجه التعيين ، وذلك منحصر بأن ينصب على رسالته دليلا وحجة يقيمها لهم اتماما للطف واستكمالا للرحمة ـ إلى أن قال ـ : وذلك الدليل هو المسمى بالمعجز أو المعجزة» ، انتهى.

__________________

(١) انوار الهدى : ص ١١٦.

(٢) الاسراء : ٩٠ ـ ٩٢.

(٣) الصف : ٦.

٢٤٤

ثم إن لزوم التعريف بالمعجزة أو البشارة أو التنصيص فيما إذا لم يكن حال النبي وصدقه وأمانته موجبا للعلم بنبوته ، وإلّا فهو فضل في حق من عرف ، ولكن حيث لم يعرف أكثر الناس بهم إلّا بالتعريف ، فاللازم هو التعريف بأحد الوجوه المذكورة حتى يتم الحجة على كل أحد ، ولا يبقى عذر لأحد من الناس.

سادسها : أن المعجزة لزم أن تكون ظاهرة الاعجاز بين الناس ، على وجه يعجز عنها جميع الناس مع اقتران المعجزة بدعوى النبوة والتحدي ، لتكون دليلا على مدعاه ، وهذا ظاهر لا كلام فيه ، ولكن الكلام في دعوى المصنف حيث قال : «ولاجل هذا وجدنا أن معجزة كل نبي تناسب ما يشتهر في عصره من العلوم والفنون ، الخ».

فإن فيه أولا : إنا لا نعلم بوجود المعجزة لكل نبي ، لاحتمال أن يكون التعريف في بعض الأنبياء بالبشارة أو التنصيص كما عرفت جواز الاكتفاء بهما.

لا يقال : إن مقتضى قوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) (١) إن لكل رسول معجزة ، لأنا نقول : إن البينات أعم من المعجزة.

وثانيا : إنه لو سلمنا وجود المعجزة لكل نبي فالمناسبة لما يشتهر في عصره غير معلومة ، وإنما اللازم هو كون المعجزة ظاهرة الاعجاز.

سابعها : أن معجزة القرآن ليست منحصرة في بلاغته وفصاحته كما سيأتي التصريح بذلك عن المصنف أيضا حيث قال : «٩ ـ عقيدتنا في القرآن الكريم.

نعتقد أن القرآن هو الوحي الإلهي المنزل من الله تعالى على لسان نبيه الأكرم ، فيه تبيان كل شيء ، وهو معجزته الخالدة التي أعجزت البشر عن مجاراتها في

__________________

(١) الحديد : ٢٥.

٢٤٥

البلاغة والفصاحة ، وفيما احتوى من حقائق ومعارف عالية لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف ، الخ» فلعل الاكتفاء بهما في المقام ؛ لكونه في مقام بيان المعجزة المناسبة لما اشتهر في عصره من العلوم والفنون فلا تغفل.

ثامنها : أن الدليل على لزوم إقامة المعجز وتعريف النبي والرسول ، هو الدليل على لزوم إرسال الرسل ، إذ لو لم يقم المعجز لا يتم الحجة ، ولما تمكن الناس من معرفة ما يحتاجون إليه من المصالح والمفاسد ، مع أنه لازم أو واجب في عنايته الاولى وحكمته الكبرى.

ولعل إليه اشار المصنف لقوله اتماما للطف واستكمالا للرحمة.

تاسعها : أن طريق الاستدلال بالمعجز هو أن يقال : إن ظهور المعجز على يد النبي أو الإمام شاهد صدقه إذ لو كان كاذبا وجب على الحكيم المتعالي تكذيبه وإلّا لزم الاغراء الى الضلالة وهو لا يصدر منه تعالى.

عاشرها : أن الوظيفة في الموارد التي شك في اعجازيتها هو التفحص عن حالها والرجوع إلى القرائن والشواهد دفعا للضرر. ربما يقال في مثل هذه الموارد :

ينظر إلى مدعي المعجزة هل يدعو إلى الحق أو الباطل أو إن كلماته تخالف مسلمات الأديان أو واضحات العقول أم لا ولكنه لا يخلو عن النظر إذ من الممكن أن يدعو إلى الحق ولا يخالف قوله مع مسلمات الأديان وواضحات العقول ، ومع ذلك لا يكون في دعواه صادقا.

نعم لو كان قوله مخالفا لواضحات العقول ومسلمات الأديان كان ذلك من أوضح الشواهد على كذبه ثم بناء على لزوم الرجوع إلى القرائن والشواهد فإن ظهر الصدق فهو وإلّا فلا تكليف ؛ لعدم قيام الحجة عليه.

٢٤٦

٤ ـ عقيدتنا في عصمة الأنبياء

ونعتقد أن الأنبياء معصومون قاطبة ، وكذلك الأئمة ـ عليهم جميعا التحيات الزاكيات ـ وخالفنا في ذلك بعض المسلمين فلم يوجبوا العصمة في الأنبياء فضلا عن الأئمة.

والعصمة هي التنزه عن الذنوب والمعاصي صغائرها وكبائرها وعن الخطأ والنسيان وإن لم يمتنع عقلا على النبي أن يصدر منه ذلك ، بل يجب أن يكون منزها حتى عما ينافي المروة كالتبذل بين الناس من أكل في الطريق أو ضحك عال وكل عمل يستهجن فعله عند العرف العام.

والدليل على وجوب العصمة أنه لو جاز أن يفعل النبي المعصية أو يخطأ وينسى وصدر منه شيء من هذا القبيل ، فإما أن يجب اتباعه في فعله الصادر منه عصيانا أو خطأ أو لا يجب ، فإن وجب اتباعه فقد جوزنا فعل المعاصي برخصة من الله تعالى ، بل أوجبنا ذلك وهذا باطل بضرورة الدين والعقل ، وإن لم يجب اتباعه فذلك ينافي النبوة التي لا بد أن تقترن بوجوب الطاعة أبدا.

على أن كل شيء يقع منه من فعل أو قول فنحن نحتمل فيه المعصية

٢٤٧

أو الخطأ ، فلا يجب اتباعه في شيء من الأشياء ، فتذهب فائدة البعثة ، بل يصبح النبي كسائر الناس ليس لكلامهم ولا لعملهم تلك القيمة العالية التي يعتمد عليها دائما ، كما لا تبقى طاعة حتمية لأوامره ولا ثقة مطلقة بأقواله وأفعاله.

وهذا الدليل على العصمة يجري عينا في الإمام ؛ لأن المفروض فيه أنه منصوب من الله تعالى لهداية البشر خليفة للنبي على ما سيأتي في فصل الإمامة (١).

______________________________________________________

(١) يقع الكلام في مقامات :

الأول : في حقيقة العصمة وهي لغة : المصونية. قال في المصباح المنير : «عصمه الله من المكروه يعصمه من باب ضرب : حفظه ووقاه ، واعتصمت بالله : امتنعت به ، والاسم العصمة» انتهى. وفي الاصطلاح : العصمة موهبة إلهية يمتنع معها صدور الذنوب ـ مع القدرة عليها ـ وظهور الخطأ والسهو والنسيان في العقائد والأحكام والآراء وتلقي الوحي وتفسيره وإبلاغه وغير ذلك.

عرف المحقق اللاهيجي ـ قدس‌سره ـ العصمة بأنها غريزة يمتنع معها صدور داعية الذنب وبسببه يمتنع صدور الذنب مع القدرة عليه ثم الفرق بين العصمة والعدالة ، أن العدالة ملكة اكتسابية يمنع عن صدور الذنب لا من داعية الذنب ، وكان منعها عن الذنب غالبيا أيضا ، ولذا لا يمتنع صدور الذنب مع ملكة العدالة ، ولكن مع العصمة يمتنع صدور داعية الذنب فضلا عن نفسه مع القدرة عليه ، إذ الامتناع بسبب عدم الداعي ، لا ينافي القدرة ، كما أن وجوب الصدور بسبب وجود الداعي لا ينافيها (١).

__________________

(١) سرمايه ايمان : ٩٠.

٢٤٨

وفيه أن هذا التعريف أخص ، لاختصاصه بالعصمة عن الذنوب ، مع أن العصمة كما عرفت على أقسام وأنواع. ثم إن القدرة على الخلاف صحيحة في بعض أقسامها ، كالمعاصي والذنوب ، فإن هذه الموهبة لا تسلب عنهم الاختيار بالنسبة إليها ، وأما العصمة عن الخطأ والسهو والنسيان في تلقي الوحي وإبلاغه ، والتفسير والتبيين وغيره ، فهي أمر لا يقع باختيارهم ، بل يقع بإذنه تعالى بدون وساطة اختيارهم ، فلا يعد من أفعالهم.

فالأولى في التعريف أن يقال : إنها موهبة إلهية يمتنع معها ظهور الخطأ والنسيان عنهم ، كما يمتنع صدور الذنوب والمعاصي ، أو اتخاذ العقائد الفاسدة والآراء الباطلة منهم مع قدرتهم عليهما.

وكيف كان ، فقد ظهر مما ذكرناه أن تعريف المصنف ـ قدس‌سره ـ بأن العصمة هي التنزه عن الذنوب والمعاصي صغائرها وكبائرها ، وعن الخطأ والنسيان ، وإن لم يمتنع عقلا على النبي أن يصدر منه ذلك ، من باب تعريفها باللازم والأثر.

ثم إن العصمة على ما عرفت اختيارية وغير اختيارية ، والأولى فضيلة لهم ؛ لأنهم هم الذين يتركون داعية الذنوب فضلا عن نفسها بالاختيار ، وكفى به فضلا ، والثانية ليست بنفسها فضيلة لعدم مدخلية اختيارهم فيها ، ولكن اختصاص هذه الموهبة بهم يكشف عن لياقتهم لا يهاب هذا اللطف العظيم في علم الله الحكيم وهي فضيلة غاية الفضيلة ؛ لأن لياقتهم حاصلة بحسن انقيادهم في علمه تعالى ومن المعلوم أن حسن الانقياد فعل اختياري لهم ، فالعصمة فضيلة اختيارية باعتبارها أو باعتبار مكشوفها من حسن الانقياد.

ثم إن ترك داعية الذنوب فضلا عن نفسها بالاختيار ، إما ناش عن ايمانهم بالله واليوم الآخر وقوة ارادتهم مع علمهم بالحقائق وتأثير المعاصي في الدنيا والآخرة علما بينا لا سترة فيه ، أو حبهم بالله تعالى خالصا لا يخلطه شيء آخر.

٢٤٩

الثاني : في مختار الإمامية ، ولا يذهب عليك أن مذهبهم في عصمة الأنبياء هو عدم جواز صدور الذنب منهم مطلقا ، سواء كان الذنب صغيرة أو كبيرة ، عمدا كان أو سهوا ، قبل البعثة كان أو بعدها ، كما أنه لا يجوز عندهم أن يصدر منهم الخطأ والنسيان في تلقي الوحي وإبلاغه وفي تفسيره وتبيينه ونحو ذلك (١).

قال العلّامة ـ قدس‌سره ـ : «ذهبت الإمامية كافة إلى أن الأنبياء معصومون عن الصغائر والكبائر ، منزهون عن المعاصي ، قبل النبوة وبعدها ، على سبيل العمد والنسيان ، وعن كل رذيلة ومنقصة ، وما يدل على الخسة والضعة ، وخالفت أهل السنة كافة في ذلك وجوزوا عليهم المعاصي وبعضهم جوزوا الكفر عليهم قبل النبوة وبعدها وجوزوا عليهم السهو والغلط ، الخ» (٢).

الثالث : أن الدليل على العصمة لا يمكن أن يكون شرعيا محضا ؛ لأنه قبل إثبات العصمة لا يجدي الدليل الشرعي لاحتمال السهو والخطأ في نفس الدليل القائم على العصمة ، ولا دافع لذلك الاحتمال ، إذ المفروض في هذا الحال عدم ثبوت العصمة ، فاللازم هو أن يكون دليل العصمة دليلا عقليا محضا ، أو دليلا مركبا من الدليل العقلي الدال على عصمتهم في مقام التبليغ ، ومن الدليل الشرعي الدال على عصمتهم في سائر المقامات.

الرابع : في ذكر الأدلة الدالة على العصمة ، وقد استدلوا بوجوه متعددة ، وهذه الوجوه مختلفة في إفادة تمام المراد وعدمها. فاللازم أن ننظر فيها ، وإن كانت دلالة جملة منها على العصمة بلا كلام ، ولذا نشير هنا إلى عمدة الوجوه.

منها : نقض الغرض ، وهو أن النبي لو لم يكن معصوما لزم نقض الغرض.

__________________

(١) راجع گوهر مراد : ص ٢٩٩ ـ ٣٠١ ، سرمايه ايمان : ص ٩١ وغير ذلك.

(٢) دلائل الصدق : ج ١ ص ٣٦٨.

٢٥٠

بيان ذلك : أن المقصود من إرسال الرسل وبعث الأنبياء كما عرفت ، هو إرشاد الناس نحو المصالح والمفاسد الواقعية ، وإعداد مقدمات معها يمكن تربيتهم وتزكيتهم على ما هو الكمال اللائق بمقام الإنسانية وسعادة الدارين ، وهو لا يحصل بدون العصمة ، إذ مع الخطأ والنسيان أو العصيان لا يقع الإرشاد إلى المصالح والمفاسد الواقعية ، كما لا يمكن تربية الناس وتزكيتهم على ما تقتضيه السعادة الواقعية والكمال اللائق بهم. ومن المعلوم أن تصديق الخاطي والعاصي نقض للغرض من إرسال الرسل وهو خلاف الحكمة ، فلا يصدر منه تعالى.

وعليه فيكون رسله وأنبياؤه معصومين عن الخطأ والنسيان والعصيان لئلا يلزم نقض الغرض.

وهذا دليل تام ، ولكنه أخص من المذهب المختار ؛ لأنه لا يشمل قبل البعثة ، فيحتاج في إفادة تمام المراد إلى ضميمة الأدلة الاخرى ، كالأدلة السمعية الدالة على أن النبوة شأن المخلصين من العباد ، والمصطفين من الأخيار ممن لا سلطة للشيطان عليهم بقوله تعالى : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) (١).

وهنا تقريب آخر يظهر من تجريد الاعتقاد وشرحه وهو كما في الثاني «أن المبعوث إليهم لو جوزوا الكذب على الأنبياء والمعصية ، جوزوا في أمرهم ونهيهم وأفعالهم التي أمروهم باتباعهم فيها ذلك ، وحينئذ لا ينقادون إلى امتثال أوامرهم ، وذلك نقض للغرض من البعثة» انتهى.

وفيه أنه لا يفيد إلّا العصمة عن المعصية ، وأما العصمة عن الخطأ والنسيان

__________________

(١) ص : ٤٥.

٢٥١

فلا تعرض له ، هذا مضافا إلى إمكان التفكيك بأن يقال : إن الوثوق بالصدق في أوامرهم ونواهيهم يحصل بسبب قيام الدليل العقلي على عصمتهم في تلك الأوامر والنواهي بعد قيام المعجزات والبينات الدالة على صدقهم في دعوى النبوة فلا يجوزون الكذب في أمرهم ونهيهم وأفعالهم التي أمروهم باتباعهم فيها ، وإن جوزوا الكذب والمعصية على الأنبياء في غير أمرهم ونهيهم وأفعالهم ، ولعل المقصود من قول المحقق الطوسي ـ قدس‌سره ـ : «ويجب في النبي العصمة ، ليحصل الوثوق فيحصل الغرض» هو ما ذكره السيد المرتضى ـ قدس‌سره ـ كما سيأتي إن شاء الله ، فافهم.

ومنها : أصلحية العصمة ، وبيان ذلك : أن العصمة بما لها من المعنى الاصطلاحي المختار عند الامامية أحسن وأصلح وأرجح وأدخل في تحقق الغرض ، وحيث لا مانع منها مع إمكانها ، يجب في حكمته تعالى تحققها ، وإلّا لقبح ؛ لأنه ترجيح المرجوح من دون وجود مانع عن الراجح أو استحيل تركها ؛ لأنه يرجع إلى ترجح المرجوح بدون وجود الداعي له كما لا يخفى.

قال المحقق اللاهيجي ـ قدس‌سره ـ : «لا شك في أن العصمة بمعناها التي هي مذهب الإمامية ، أدخل في اللطف ، وادعى في اتباع الناس ، وعدم تنفرهم ، والمفروض أنها ممكنة ، ولا مانع منها ، فالحق مذهب الإمامية في كلا المقامين ، أعني وجوب العصمة في تمام العمر ، وفي جميع الامور من الأفعال والآراء والأحكام والأقوال» (١).

لا يقال : إن ذلك فرع العلم بعدم وجود المانع ، وهو غير حاصل ؛ لأنا نقول : إن وجوه المفسدة منحصرة وليس شيء منها في مراعاة العصمة ، فالعلم بعدم المانع حاصل ، ومعه فلا إشكال في وجوب العصمة ؛ لأنها أصلح (٢).

__________________

(١) راجع گوهر مراد : ص ٣٠١.

(٢) راجع سرمايه ايمان : ص ٨١.

٢٥٢

ومنها : ما أشار إليه في أنيس الموحدين ونسبه إلى الحكماء ، وهو أنه من المعلوم أنه لا يصلح للنبوة إلّا من أطاع جميع قواه من الطبيعية والحيوانية والنفسانية لعقله وانقادت له ، فمن يكون جميع قواه كذلك ، يستحيل صدور المعصية منه ؛ لأن جميع المعاصي عند العقل قبيحة ، ومن صدر عنه معصية غلب أحد قواه المذكورة كالغضب أو الشهوة على عقله ، ثم استحسنه وقال : إنه في كمال القوة والمتانة (١).

وفيه أنه أخص من المدعى ؛ لأنه لا يثبت إلّا العصمة عن الذنوب ، ولا تعرض له بالنسبة إلى العصمة عن الخطأ والنسيان فتدبر جيدا.

ومنها : ما يظهر من «تنزيه الأنبياء» وحاصله أن عصيان النبي سواء كان حال نبوته أو قبلها يوجب تنفر الناس عن قبول قوله واستماع وعظه ، فلا يسكن نفوس الناس إلى العاصي ومن يجوز صدور العصيان والقبائح عنه ، كسكون نفوسهم إلى من لم يصدر عنه عصيان ، ولا يجوز عليه صدوره ، مع أن اللطف واجب (٢) وإليه يشير ما حكى عن العلّامة ـ قدس‌سره ـ في ضمن ما يلزم من إنكار العصمة «ومنها سقوط محله ورتبته عند العوام ، فلا ينقادون إلى طاعته فتنتفي فائدة البعثة» (٣).

وفيه : أولا : إن هذا البرهان لا يثبت عصمة النبي عن المعصية في الخلوات ولا عن السهو والنسيان والخطأ والاشتباه ، إذ الاول مستور ، اللهم إلّا أن يقال : آثار المعاصي في الخلوات تظهر في الجلوات ومعه يحصل التنفر العمومي والثاني لا يكون قبيحا عندهم ، ولا يوجب التنفر إلّا إذا صدر السهو والنسيان ونحوهما كثيرا ، بحيث يسلب الاعتماد عنهم ، فهذا الدليل وإن عم قبل النبوة

__________________

(١) انيس الموحدين : ص ٩٩ الطبعة الحديثة.

(٢) تنزيه الأنبياء : ص ٥ ـ ٦.

(٣) دلائل الصدق : ج ١ ص ٤٢٧.

٢٥٣

لكنه أخص من المختار.

وثانيا : إن الغرض في إرسال الرسل هو إرشاد الناس إلى ما يصلح للداعوية والزاجرية ، وهو يحصل بمجيء النبي الصادق ، فيما جاء به ، وإن كان عاصيا في أعماله وأفعاله الشخصية ؛ لأن المفروض هو العلم بنبوته وصدقه في دعوى النبوة مع إظهار المعجزة ، فمع قيام المعجزة وثبوت عصمته في تلقي الوحي وإبلاغه بالدليل العقلي تسكن النفوس إليهم ، كما تسكن النفوس نحو ما يرشد إليه الأطباء الحاذقون ، وإن كانوا مرتكبين للمعاصي والفجور ، ولا يقاس النبي بالواعظ الغير العامل المرتكب للمعاصي ، لظهور الفرق بينهما ، وهو وجود الشاهد على صدقه في الأنبياء دون الوعاظ والعلماء الغير العاملين ، فالدليل المذكور لا يثبت عصمتهم في أفعالهم الشخصية ، ولكن الانصاف أن الصلاحية المذكورة ذات مراتب مختلفة ، والمرتبة العالية منها التي يمكن معها سوق عموم الناس إلى الاطاعة والانقياد ، لا تحصل عادة بدون العصمة في أفعالهم الشخصية ، هذا مضافا إلى أن الغرض من البعثة وإرسال الرسل لا ينحصر في الإرشاد ، لما عرفت سابقا من أن الغرض امور متعددة منها : التربية والتزكية ومن المعلوم أنها لا تحصل بدون كون الأنبياء والمرسلين اسوة في الفضيلة والطاعة كما لا يخفى.

فالأنبياء معصومون ولو في افعالهم الشخصية ، سواء كانت قبل البعثة أو بعدها ، وإلّا فلا يحصل مقتضى الانقياد العام ولا التربية ولا التزكية للعموم.

ومنها ما في متن «تجريد الاعتقاد» من لزوم اجتماع الضدين لو لم يكن الأنبياء معصومين ، حيث قال : «ويجب في النبي العصمة ... ولوجوب متابعته وضدها».

قال الشارح العلّامة ـ قدس‌سره ـ في توضيحه : «إن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يجب متابعته ، فإذا فعل معصية فإما أن يجب متابعته أو لا والثاني باطل ، لانتفاء فائدة البعثة ، والأول باطل ؛ لأن المعصية لا يجوز فعلها. ثم قال : وأشار

٢٥٤

بقوله : «ولوجوب متابعته وضدها» إلى هذا الدليل ؛ لأنه بالنظر إلى كونه نبيا يجب متابعته ، وبالنظر إلى كون الفعل معصية لا يجوز اتباعه» (١).

وفيه : أولا : أنه أخص مما ذهب إليه الإمامية ، لاختصاصه بالعصمة عن الذنوب حال النبوة.

وثانيا : أن التضاد بين الأحكام على فرض صحته (٢) لا يوجب استحالة الاجتماع ، إلّا إذا كان الموضوع واحدا ، وفي المقام ليس كذلك. فإن موضوع الحرمة هو فعل الذنوب والمعصية وموضوع الوجوب هو الإتباع عن النبي ، ومن المعلوم أنهما متعددان ومتغايران ، فيجوز اجتماعهما بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي ، كما قرر في محله. نعم يلزم من فعلية الحكمين التكليف بالمحال ، لعدم تمكن المكلف من امتثالهما ، فلو أبدل الدليل وقيل : يجب العصمة وإلّا لزم التكليف بالمحال لو بقي الحكمان على الفعلية لتم كما لا يخفى.

ومنها ما في متن «تجريد الاعتقاد» أيضا من لزوم الإنكار على النبي لو لم يكن معصوما وهو حرام لحرمة ايذائه حيث قال : «ويجب في النبي العصمة ... ولوجوب الإنكار عليه» قال العلّامة ـ قدس‌سره ـ في شرحه : «إنه إذا فعل معصية وجب الإنكار عليه لعموم وجوب النهي عن المنكر ، وذلك يستلزم ايذائه وهو منهي عنه» (٣).

وفيه : أولا : أنه أخص من المدعى ؛ لاختصاصه بالعصمة عن الذنوب حال نبوته.

__________________

(١) شرح تجريد الاعتقاد : ص ٢١٧.

(٢) لإمكان أن يقال : لا تضاد بين الأحكام بما هي هي بجميع مراتبها ، فإن اقتضاء المصلحة أو المفسدة للحكم وفقهما ذاتي لا شرعي ولا استحالة فيه بعد تعددهما ، كما أن الانشاء خفيف المئونة فلا مانع من اجتماع الحكمين الانشائيين وأيضا لا مانع من اجتماع الإرادة والكراهة من الجهات المختلفة نعم لو بقيتا على الفعلية في شيء واحد لزم التكليف بغير المقدور.

(٣) شرح تجريد الاعتقاد : ص ٢١٧.

٢٥٥

وثانيا : أن حرمة الايذاء لا تختص بالنبي ، بل ايذاء المؤمن أيضا حرام ، فلو كانت حرمة الايذاء مانعة عن النهي عن المنكر في النبي ، لزم أن يكون كذلك في غيره وهو كما ترى ، وليس ذلك إلّا لحكومة أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أدلة حرمة الايذاء اللهم إلّا أن يقال بأن اطلاق فعلية حرمة الايذاء في النبي من دون استثناء ، يكشف عن عدم صدور الذنب منه أصلا وإلّا فلا مورد لذلك الاطلاق الساري.

ومنها ما في المتن من أنه مع جواز صدور المعصية عمدا أو خطأ ونسيانا ، فإما يجب اتباعه فيما صدر منه ، أو لا يجب ، فإن وجب لزم الترخيص في فعل المعاصي ، بل ايجابه للزوم المتابعة ، وذلك باطل بضرورة الدين والعقل ، وإن لم يجب اتباعه كان ذلك منافيا للنبوة التي لا بد أن تقترن بوجوب الاطاعة أبدا.

هذا فيما إذا علم أن الصادر معصية ، وأما إذا لم يعلم واحتمل فلا يجب اتباعه لاحتمال كونه معصية أو خطأ فتذهب فائدة البعثة.

وفيه أولا : أنه أخص مما ذهب إليه الإمامية ، لاختصاصه بالعصمة عن الذنوب حال النبوة.

وثانيا : أنه لا يثبت العصمة لارتفاع المحذور باثبات العدالة ، إذ مع العدالة لا يكون اتباعه باطلا ، ولو كان في الواقع خاطئا ، كالاتباع عن الفقهاء والحكام والعدول ، مع احتمال الخطأ فيهم ، والترخيص في اتباعهم ، ولو كان خلاف الواقع ، لا مانع منه إذا كان مصلحة الاتباع راجحة ، كما هو كذلك في حجية الفتاوى والأحكام وشهادة العدول ، اللهم إلّا أن يقال : إن اتباع الأنبياء لدرك المصالح الواقعية ، والبعد عن المفاسد الواقعية ، وهو لا يحصل بالعدالة ، ولكنه دليل آخر الذي أشرنا إليه كالدليل الأول ، وكيف كان ففي ما ذكر من بعض البراهين المذكورة منفردا أو بعد ضم بعضها إلى بعض غنى وكفاية لإثبات مذهب الإمامية.

٢٥٦

الخامس : في أن للذنب مراحل ومراتب متعددة ، فإن الذنب قد يكون للتخلف عن القوانين ، ومن المعلوم أن التخلف عنها إذا كانت من الشارع أو مما أمضاه الشارع ، حرام ، والنبي والإمام معصومان عنه لما مر من الأدلة.

وقد يكون الذنب ذنبا اخلاقيا ، ومن المعلوم أن ارتفاع شأن النبي والإمام لا يناسبه ، فلذا كانت الأنبياء والرسل والائمة الطاهرون متخلقين بأحسن خلق ومكرمة أخلاقية ، كما نص عليه في قوله تعالى (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (١) ، (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) (٢) ، (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) (٣).

هذا مضافا إلى اقتضاء كونهم مبعوثين للتزكية ، أن يكونوا متصفين بمكارم الأخلاق وأعلاها ، إذ هذه الغاية التي أوجبت في حكمته تعالى أن يرسل الرسل والأنبياء ، لا يمكن حصولها عادة إلّا بكون الرسل والأنبياء والأئمة ، ائمة في الاتصاف بالأخلاق الحسنة. (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (٤).

وقد يكون الذنب ذنبا عند المقربين والمحبين ، وهذا الذنب ليس تخلفا عن القوانين ولا يكون أثر الأخلاق السيئة والرذيلة ، بل هو قصور أو تقصير في بذل تمام التوجه نحو المحبوب ، فالغفلة عنه تعالى عندهم ولو لفعل مباح ذنب ، وهذا الذنب أمر لا تنافيه الأدلة الدالة على العصمة عن الذنوب ولا يضر بشيء مما مر من الغايات ، من إرشاد الناس وتزكيتهم وغيرهما ، ولكن مقتضى الأدلة السمعية هو أنهم على حسب مراتبهم في المعرفة أرادوا ترك هذا ، ومع ذلك إذا ابتلوا به رأوا أنفسهم قاصرين ومقصرين في مقام عبوديته ومحبته تعالى ، وكثيرا ما عبروا عن هذا القصور والتقصير بالعصيان والذنب ، وبكوا عليه بكاء شديدا

__________________

(١) القلم : ٤.

(٢) ص : ٤٧.

(٣) الأنبياء : ٧٣.

(٤) الاحزاب : ٢١.

٢٥٧

ومستمرا وخافوا عنه جدا في الخلوات والجلوات ، والشاهد عليه ما نراه من سيرة رسولنا محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وائمتنا الأطهار ـ عليهم‌السلام ـ في أدعيتهم ومناجاتهم وبكائهم وعباداتهم وخوفهم من البعد عن الله تعالى ، وتعبيرهم عن أنفسهم بالمذنبين والقاصرين والمقصرين ، وقد يعبر عنه بترك الأولى ولا بأس به. نعم قد يراد من ترك الأولى هو فعل المكروه أو عمل مرجوح ، وهو وإن لم يكن معصية وتخلفا عن القوانين ، ولا يكون رذيلة من الرذائل الأخلاقية ، ولكن لا يناسب صدوره عن عظمائهم كرسولنا وائمتنا ـ عليهم‌السلام والصلوات ـ إلّا لجهة من الجهات كبيان الأحكام ونحوه ، وكيف كان فيمكن أن يشير إليه قولهم : «حسنات الأبرار سيئات المقربين».

ومما ذكر ينقدح وجه الجواب عما استدل به المنكرون للعصمة من الآيات والروايات المعبرة بصدور العصيان أو الذنب والاستغفار والتوبة ونحوها عن الأنبياء والأئمة ـ عليهم‌السلام ـ وعليك بالمراجعة إلى المطولات (١).

__________________

(١) راجع گوهر مراد : ص ٣٠٢ ، معارف قرآن : جلسه ٦٦ ـ ٦٩ ، تنزيه الأنبياء ، البحار ، الميزان وغير ذلك.

٢٥٨

٥ ـ عقيدتنا في صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

ونعتقد أن النبي كما يجب أن يكون معصوما ، يجب أن يكون متصفا بأكمل الصفات الخلقية والعقلية وأفضلها ، من نحو الشجاعة والسياسة والتدبير والصبر والفطنة والذكاء ، حتى لا يدانيه بشر سواه فيها (١) ؛ لأنه

______________________________________________________

(١) قال المحقق الطوسي ـ قدس‌سره ـ في تجريد الاعتقاد في مقام بيان وجوب اتصاف النبي بالأوصاف المذكورة : «وكمال العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي وعدم السهو وكل ما ينفر عنه من دناءة الآباء وعهر الامهات والفظاظة ، الخ» وتبعه العلّامة الحلي في شرحه (١) وهكذا صرح المحقق اللاهيجي ـ قدس‌سره ـ بوجوب اتصاف النبي بالصفات المذكورة ، حيث قال : «وأيضا يجب اتصاف النبي بجميع الصفات الكمالية والأخلاق الحميدة والأطوار الجميلة ، كما يجب أن يكون نزيها من جميع الصفات الرذيلة والعيوب والأمراض المنفرة» (٢) ولا يخفى عليك أن ظاهر هذه العبائر وجوب اتصاف الأنبياء بالكمال ، في الصفات الكمالية والأخلاق الحميدة ، وتنزههم عن

__________________

(١) شرح تجريد الاعتقاد : ص ٣٤٩ الطبعة الحديثة في قم المشرفة.

(٢) گوهر مراد : ص ٣٠١.

٢٥٩

المنفرات ، ولا اشكال ولا خلاف فيه عدا ما يتراءى من قواعد المرام حيث قال : «ينبغي أن يكون منزها عن كل أمر تنفر عن قبوله إما في خلقه كالرذائل النفسانية من الحقد والبخل والحسد والحرص ونحوها ، أو في خلقه كالجذام والبرص ، أو في نسبه كالزنا ودناءة الآباء» ولكن التأمل في كلامه ، يقضي بأن مراده من كلمة «ينبغي» ليس مطلق الرجحان ؛ لأنه علل بما يقتضي الوجوب ، حيث قال : «لأن جميع هذه الامور صارف عن قبول قوله ، والنظر في معجزته ، فكانت طهارته عنها من الألطاف التي فيها تقريب الخلق إلى طاعته ، واستمالة قلوبهم إليه» (١).

ثم إن الظاهر من عبارة المصنف هو وجوب اتصافهم بالأكمل من الصفات الخلقية والعقلية وأفضلها ، من نحو : الشجاعة والسياسة والتدبير والصبر والفطنة والذكاء وغير ذلك ، وهذا هو صريح كلام المحقق القمي ـ قدس‌سره ـ أيضا حيث قال في مقام شرائط النبوة : «الشرط الثاني : هو أن يكون النبي أفضل وأعلم من جميع الامة لقبح تبعية الأفضل من غيره الذي يكون بالنسبة إليه مفضولا ، بل يكون وجوب تبعية المساوي عن مثله أيضا قبيحا ؛ لكونه ترجيحا من غير مرجح ، فلا بد من أن يكون أعلى مرتبة من غيره ، حتى يحسن الأمر فيه تعالى باتباعه ، وهكذا في جميع الصفات الحسنة لزم أن يكون أفضلهم وأعلاهم (٢) ونحوه في اللوامع الإلهية (٣) وشرح الباب الحادي عشر (٤) وهو كذلك لما اشير إليه في كلام المحقق القمي وغيره ، وسيأتي توضيحه في ذكر الأدلة إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) قواعد المرام : ص ١٢٧.

(٢) اصول دين : ص ٢٦ منشور جهلستون مسجد جامع بطهران.

(٣) اللوامع الإلهية : ص ٢١١.

(٤) شرح الباب الحادي عشر : ص ٣٨ الطبعة الحديثة.

٢٦٠