بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد رضا المظفّر

بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN: 964-470-180-1
ISBN الدورة:
964-470-180-1

الصفحات: ٣٢٠
الجزء ١ الجزء ٢

ارسال رسول إلهي لاصلاحها ، حيث قال تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (١).

ومن تلك الرسل موسى بن عمران ـ على نبينا وآله وعليه‌السلام ـ حيث أرسله الله تعالى لنجاة بني اسرائيل من أيدي فرعون وأتباعه ، وقال عزوجل : (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (٢).

ويلحق بالرسالة الاصلاحية مجيء الرسل لرفع الاختلافات الدينية والتحريفات اللفظية والمعنوية بين الامة بعد مجيء نبي ونزول كتاب وشريعة معه ، فإن امة الأنبياء كثيرا ما كانوا يختلفون فيما جاءهم بحيث يحتاج إلى ارسال رسول لإصلاح الامور الدينية ، وإبانة الحق من الباطل ، وكيف كان فأداء الرسالة الاصلاحية من الفوائد والغايات البينة لإرسال الرسل الإلهية التي لا يجوز أن تهمل وتترك ، وهذه جملة من الغايات والفوائد للبعثة والرسالة.

خامسها : في نتيجة الغايات ، ولقد أفاد وأجاد المصنف ـ قدس‌سره ـ في تبيين الغايات لإرسال الرسل وبعث الأنبياء ، فإنه جعل غاية الغايات هو إمكان النيل إلى الكمال اللائق بالإنسانية والسعادة في الدارين ، وهذه أحسن من تعليل إرسال الرسل باعداد السعادة الدنيوية الاجتماعية كتنظيم البلاد والامور الاجتماعية ؛ لأن الإنسان المحتاج إلى نبي ورسول لا ينحصر في الإنسان المدني الاجتماعي ، بل كل فرد من أفراد الانسان يحتاج إلى البعثة والرسالة ، ولو كان وحيدا فريدا ، حتى ينال إلى كماله اللائق به في الدنيا والآخرة ، ولذا نقول بأن اللازم هو كون أول فرد من أفراد الإنسان نبيا أو مصاحبا للنبي ولا حاجة في لزوم البعثة إلى تحقق الاجتماع والتغالب كما يظهر من بعض ، اللهم

__________________

(١) النحل : ٢٦.

(٢) الاعراف : ١٠٤ ـ ١٠٥.

٢٢١

إلّا أن يكون مقصودهم بيان أحد موارد لزوم البعثة وإرسال الرسل ، لا اختصاص مورد البعثة وإرسال الرسل بما إذا كان الاجتماع محققا ، وبمثل ذلك يوجه ما في الشفاء حيث اكتفى في إثبات النبوة بحفظ النوع الإنساني ، حيث قال : «فصل في إثبات النبوة وكيفية دعوة النبي إلى الله تعالى والمعاد إليه ، ونقول الآن : من المعلوم أن الإنسان يفارق سائر الحيوانات بأنه لا يحسن معيشته لو انفرد وحده شخصا واحدا ، يتولى تدبير أمره من غير شريك يعاونه على ضروريات حاجاته ، وأنه لا بد من أن يكون الإنسان مكفيا بآخر من نوعه ، يكون ذلك الامر (الاخر) أيضا مكفيا به وبنظيره ، فيكون هذا مثلا يبقل لذلك ، وذاك يخبز لهذا ، وهذا مخيط للآخر ، والآخر يتخذ الإبرة لهذا ، حتى إذا اجتمعوا كان أمرهم مكفيا ، ولهذا ما اضطروا إلى عقد المدن والاجتماعات ـ إلى أن قال ـ : فإذا كان هذا ظاهرا ، فلا بد من وجود الإنسان وبقائه من مشاركة ، ولا يتم المشاركة إلّا بمعاملة ، كما لا بد في ذلك من سائر الأسباب التي تكون له ، ولا بد من المعاملة من سنة وعدل ، ولا بد للسنة والعدل من سانّ ومعدل ، ولا بد من أن يكون هذا بحيث يجوز أن يخاطب الناس ويلزمهم السنة ولا بد من أن يكون هذا إنسانا ، ولا يجوز أن يترك الناس وآراءهم في ذلك ، فيختلفون ويرى كل منهم ما له عدلا وما عليه ظلما ، فالحاجة إلى هذا الإنسان في أن يبقى نوع الناس ويتحصل وجوده أشد من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين ، وتقعير الأخمص من القدمين ، وأشياء اخرى من المنافع التي لا ضرر فيها في البقاء ، بل أكثر ما لها أنها تنفع في البقاء ووجود الإنسان الصالح لأن يسن ويعدل ممكن ، كما سلف منا ذكره ، فلا يجوز أن يكون العناية الاولى تقتضي تلك المنافع ولا تقتضي هذه التي هي اسها» (١).

__________________

(١) الإلهيات من كتاب الشفاء : ص ٥٥٦ ، وص ٢٤٢ و ٤٤١ من طبع مصر.

٢٢٢

إذ الاكتفاء بذلك في تعليل الرسالة في قوة حصر لزوم الرسالة والبعثة في الإنسان الاجتماعي ، مع أنه محتاج إليها قبل صيرورته اجتماعيا كما عرفت ، على أنه إهمال لأمر آخرته ؛ لأن تمام الكلام عليه في بقاء النوع الإنساني في الدنيا ، بحيث يصل حق كل ذي حق إليه ، ولا توجه فيه إلى سعادته الاخروية ، هذا مضافا إلى أن النبوة والرسالة مقام عظيم تكون الحكومة وإقامة العدل شأنا من شئونه ، فلا ينبغي حصرها فيها كما لا يخفى ، ولذا قال في «العقائد الحقة» بعد نقل الطريق المذكور عن الحكماء : «والعجب قصر النظر في هذا البيان إلى اصلاح معاش الناس ، وعدم التوجه إلى الآخرة ، مع أن الدنيا دار المجاز والآخرة دار القرار» (١).

نعم ربما يقال : إن البحث عن النبوة حيث كان قبل اثبات المعاد ومقدما عليه فلا مجال في مقام اثبات النبوة لمراعات سعادة الانسان في المعاد ، وعليه فالاحسن هو طريقة الشيخ وغيره من الفلاسفة في اثبات النبوة ، ولكن الجواب عنه بكفاية احتمال وجود الآخرة في جواز ملاحظة السعادة الاخروية في الدليل الذي اقيم لإثبات النبوة بأن يقال مثلا : إن الإنسان الذي يحتمل أن يكون له وجود أبدي وله معاد اخروي والسعادة الابدية كيف يمكن أن يهتدي بنفسه إلى طريق السلوك ، بل يحتاج إلى تعليمات سماوية هذا مضافا إلى إمكان جعل شيء متأخر اصلا موضوعيا في البحث المتقدم كما لا يخفى.

سادسها : في أمر تعيين النبي والرسول ، وقد صرح المصنف بكونه بيد الله تعالى حيث قال : «كما نعتقد أنه تعالى لم يجعل للناس حق تعيين النبي أو ترشيحه أو انتخابه ، وليس لهم الخيرة في ذلك ، بل أمر كل ذلك بيده تعالى ؛ لأنه أعلم حيث يجعل رسالته» وهو واضح ؛ لأن التعيين أو الانتخاب فرع علم

__________________

(١) العقائد الحقة : ص ١١ ـ ١٢.

٢٢٣

المعين بوجود من يصلح للنبوة والرسالة ، مع أنه لا علم لاحد بذلك إلّا بتعيين الله تعالى ، مع اقامة البينات والمعجزات ، كما أنه لا مجال لتربيته ؛ لأن تأديب شخص للنبوة لا يتأتى عن الناس ، الذين لا يعلمون بموقع النبوة والرسالة ، فالنبوة والرسالة سفارة إلهية تتعين من ناحيته تعالى ، ولا سبيل للعلم بها إلّا من جانبه تعالى.

وأيضا بعد تعيين الله تعالى لا خيرة لغيره فيما اختاره الله عزوجل ؛ لأنه أعلم بمن يكون قابلا لذلك المقام ، فعلى الناس الطاعة والتبعية.

وبالجملة إن النبوة سفارة ، والنبي سفير ، وأمر السفير لا يكون إلّا بيد من أرسله ولا خيرة لأحد فيه.

قال الصادق ـ عليه‌السلام ـ في جواب زنديق سأله من أين أثبت الأنبياء والرسل؟ قال : «إنا لما أثبتنا أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا ، وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيما متعاليا لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا يلامسوه ، فيباشرهم ويباشروه ، ويحاجهم ويحاجوه ، ثبت أن له سفراء في خلقه ، يعبرون عنه إلى خلقه وعباده ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم ، وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، والمعبرون عنه جل وعز ، وهم الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدبين بالحكمة ، مبعوثين بها ، غير مشاركين للناس ـ على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ـ في شيء من أحوالهم ، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة ، ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمان مما أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين ، لكي لا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته ، وجواز عدالته» (١).

__________________

(١) الاصول من الكافي : ج ١ ص ١٦٨.

٢٢٤

قال المحقق اللاهيجي في ذيل الرواية : «فليعلم أن هذا الكلام الشريف مع وجازته واختصاره ، يحتوي خلاصة الآراء والأنظار من الحكماء السابقين والعلماء اللاحقين ، بل فيه اشارات إلى حقائق لم يصل إليها منتهى نظر أكثر المتكلمين ، ولو سمعها الفلاسفة الأقدمون لأقروا بإعجاز هذا الكلام الإلهي» (١).

__________________

(١) راجع گوهر مراد : ص ٢٥٣.

٢٢٥

٢ ـ النبوة لطف

إن الإنسان مخلوق غريب الأطوار ، معقد التركيب في تكوينه وفي طبيعته وفي نفسيته وفي عقله ، بل في شخصية كل فرد من افراده ، وقد اجتمعت فيه نوازع الفساد من جهة ، وبواعث الخير والصلاح من جهة اخرى ، فمن جهة قد جبل على العواطف والغرائز ، من حب النفس والهوى والأثرة وإطاعة الشهوات ، وفطر على حب التغلب والاستطالة والاستيلاء على ما سواه ، والتكالب على الحياة الدنيا وزخارفها ومتاعها كما قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) و (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) و (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) إلى غير ذلك من الآيات المصرحة والمشيرة إلى ما جبلت عليه النفس الإنسانية من العواطف والشهوات.

ومن الجهة الثانية خلق الله تعالى فيه عقلا هاديا يرشده إلى الصلاح ومواطن الخير وضميرا وازعا يردعه عن المنكرات والظلم ويؤنبه على فعل ما هو قبيح ومذموم.

ولا يزال الخصام الداخلي في النفس الإنسانية مستمرا بين العاطفة

٢٢٦

والعقل ، فمن يتغلب عقله على عاطفته كان من الأعلين مقاما ، والراشدين في انسانيتهم والكاملين في روحانيتهم.

ومن تقهره عاطفته كان من الأخسرين منزلة والمتردين إنسانية ، والمنحدرين إلى رتبة البهائم.

وأشد هذين المتخاصمين مراسا على النفس هي العاطفة وجنودها.

فلذلك تجد أكثر الناس منغمسين في الضلالة ومبتعدين عن الهداية باطاعة الشهوات ، وتلبية نداء العواطف «وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين».

على أن الإنسان لقصوره وعدم اطلاعه على جميع الحقائق وأسرار الأشياء المحيطة به ، والمنبعثة من نفسه ، لا يستطيع أن يعرف بنفسه كل ما يضره وينفعه ، ولا كل ما يسعده ويشقيه ، لا فيما يتعلق بخاصة نفسه ولا فيما يتعلق بالنوع الإنساني ومجتمعه ومحيطه ، بل لا يزال جاهلا بنفسه ، ويزيد جهلا أو ادراكا لجهله بنفسه كلما تقدم العلم عنده بالاشياء الطبيعية والكائنات المادية.

وعلى هذا فالإنسان في أشد الحاجة ليبلغ درجات السعادة ، إلى من ينصب له الطريق اللاحب ، والنهج الواضح إلى الرشاد واتباع الهدى ، لتقوى بذلك جنود العقل حتى يتمكن من التغلب على خصمه اللدود اللجوج عند ما يهيئ الانسان نفسه لدخول المعركة الفاصلة بين العقل والعاطفة.

وأكثر ما يشتد حاجته إلى من يأخذ بيده إلى الخير والصلاح عند ما تخادعه العاطفة وتراوغه ، ـ وكثيرا ما تفعل ـ فتزين له أعماله وتحسن لنفسه انحرافاتها ، إذ تريه ما هو حسن قبيحا ، أو ما هو قبيح حسنا ،

٢٢٧

وتلبس على العقل طريقه إلى الصلاح والسعادة والنعيم ، في وقت ليس له تلك المعرفة التي تميز له كل ما هو حسن ونافع ، وكل ما هو قبيح وضار ، وكل واحد منا صريع لهذه المعركة من حيث يدري ولا يدري إلّا من عصمه الله.

ولأجل هذا يعسر على الإنسان المتمدن المثقف ، فضلا عن الوحشي الجاهل ، أن يصل بنفسه إلى جميع طرق الخير والصلاح ومعرفة جميع ما ينفعه ويضره في دنياه وآخرته ، فيما يتعلق بخاصة نفسه أو بمجتمعه ومحيطه ، مهما تعاضد مع غيره من أبناء نوعه ، ممن هو على شاكلته وتكاشف معهم ، ومهما أقام بالاشتراك معهم المؤتمرات والمجالس والاستشارات فوجب أن يبعث الله تعالى في الناس رحمة لهم ولطفا بهم (رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) وينذرهم عما فيه فسادهم ، ويبشرهم بما فيه صلاحهم وسعادتهم.

إنما كان اللطف من الله تعالى واجبا فلأن اللطف بالعباد من كماله المطلق ، وهو اللطيف بعباده والجواد الكريم ، فإذا كان المحل قابلا ومستعدا لفيض الوجود واللطف ، فإنه تعالى لا بد أن يفيض لطفه ، إذ لا بخل في ساحة رحمته ، ولا نقص في جوده وكرمه.

وليس معنى الوجوب هنا أن أحدا يأمر بذلك فيجب عليه أن يطيع ـ تعالى عن ذلك ـ ، بل معنى الوجوب في ذلك هو كمعنى الوجوب في قولك : إنه واجب الوجود (أي اللزوم واستحالة الانفكاك) (١).

______________________________________________________

(١) هنا مطالب الأول : أن حاجة الإنسان إلى الرسل والأنبياء من

٢٢٨

جهات مختلفة ، وقد عرفت الاشارة والتنبيه عليها ، وحيث أراد المصنف إثبات لزوم اللطف في المقام ، قال ما حاصله : إن النبوة لطف ، واللطف لازم كماله وصفاته ، فالنبوة لازمة.

ثم أعاد الكلام في تبيين حاجة الإنسان إلى الرسل والأنبياء ، لأن يتضح صغرى القياس ، وحيث كان غاية الغايات من إرسال الرسل عنده ، هو بلوغ الإنسان إلى درجات السعادة ، لاحظ سبيل تزكية الإنسان ، وشرع من أن الإنسان مركب من نوازع مختلفة ، نوازع خير ونوازع فساد ، وبين تلك النوازع منازعة ، ولا يزال تخادع الأميال والأهواء مع دواع الخير ، من دون مساواة بينهما ، فإن الأولى فعلية بفعلية أسبابها كدعوة الشيطان ومن تبعه نحو الفساد ، بخلاف الثانية فإنه لا سبب لفعليتها نوعا لو لم يكن نبي أو رسول أو إمام ومن تبعهم ، ومن المعلوم ان وجود النبيّ أو الرسول أو الإمام في تلك المنازعة الغير المتساوية من أوضح الألطاف ، فإنهم يزيدون في معرفة الناس بالله والمعاد والمعارف الحقة ، إلى أن تصير دواعي الخير والصلاح ، قبال نوازع الفساد فعلية متعادلة ، ويؤكدون ذلك بالتبشير والتنذير ، والوعد والوعيد ، ويثيرون الفطرة والعقول من القوة إلى الفعلية ، إلى أن لا يسلك سبيل الفساد والضلالة إلّا الشقي.

قال مولانا أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسي نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول ، ويروهم آيات المقدرة من سقف فوقهم مرفوع ومهاد تحتهم موضوع» (١).

هذا مضافا إلى أن وجود الأنبياء والرسل اسوة في الكمالات الإنسانية ، وله

__________________

(١) نهج البلاغة : صبحي صالح ، الخطبة ١ ، ص ٤٣.

٢٢٩

سهم كبير في فعلية دواعي الخير في نفوس الناس وجذبهم نحو السير. والسعي نحو الكمال ، كما لا يخفى.

هذا كله تمام الكلام في الصغرى ، وأما الكبرى فسيأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

الثاني : في معنى كون البعث وإرسال الرسل رحمة ولطفا في حق العباد. فاعلم أن المراد من كون ذلك لطفا ليس إلّا ما يتمكن به الإنسان ، من سلوك اختياري في طريق السعادة ، إذ بدون هذا اللطف لا يعلم الطريق حتى يسلكه ، ويجتنب عن طريق الضلالة ، فالبعث وإرسال الرسل هو اللطف الممكن الذي لا يستغني عنه الإنسان أصلا ، لا ما اصطلح في علم الكلام ، فإن المراد منه هو اللطف المقرب لا الممكن ، ولذا عرفوه بأنه ما يقرب العبد إلى الطاعة ، ويبعده عن المعصية ، ولا حظ له في التمكين ، ولا يبلغ الالجاء ، ومثلوا له بمن دعا غيره إلى طعام وهو يعلم أنه مع كونه مكلفا بالإجابة ، ومتمكنا من الامتثال لا يجيبه إلّا أن يستعمل معه نوعا من التأدب فالتأدب المذكور يقرب المكلف إلى الامتثال ويبعده عن المخالفة ، فإذا كان للداعي غرض صحيح في دعوته ، يجب عليه التأدب المذكور تحصيلا لغرضه ، وإلّا نقض غرضه الصحيح وهو قبيح عن الحكيم.

ومن المعلوم ان الإنسان بالنسبة إلى سلوك طريق السعادة والاجتناب عن طريق الضلالة ، ليس كالمدعو الذي ذكر في المثال متمكنا عن الإجابة والامتثال ، فإن الإنسان لا يعلم بجميع ما يصلح له وما يضره إلّا بالبعثة وإرسال الرسل ، فجعل البعث وإرسال الرسل لطفا بالمعنى المذكور في الكلام ، تنازل عن درجة الحاجة إلى البعثة بلا وجه ، إذ حاجة الإنسان إليها أشد وأزيد من ذلك.

وعليه فلا مورد لتعبير المصنف حيث قال في بيان الحاجة إلى البعثة :

٢٣٠

«ولأجل هذا يعسر على الإنسان المتمدن المثقف ، فضلا عن الوحشي الجاهل ، أن يصل بنفسه إلى جميع طرق الخير والصلاح ، الخ» فإنه مع عدم العلم بالطريق لا يتمكن من الوصول ، لا أنه يتمكن ولكن يعسر عليه فلا تغفل.

الثالث : في وجوب اللطف ولزومه ، وهو كبرى القياس ، ولا يخفى عليك أن الأدلة الدالة على وجوبه متعددة.

منها : ما أشار إليه في المتن من برهان الخلف ، فإن اللطف مقتضي كونه تعالى كمالا مطلقا ، فإذا كان المحل قابلا ومستعدا لذلك الفيض ، كما هو المفروض ، فإنه تعالى لا بد أن يفيض لطفه ، إذ لا بخل في ساحة رحمته ، ولا نقص في وجوده وكرمه ، ولا مصلحة في منعه ، وإلّا لزم الخلف في كونه كمالا مطلقا ، أو عدم حاجة الإنسان إلى البعثة وكلاهما ممنوعان.

وبعبارة اخرى : إن حاجة الإنسان إلى البعثة كما عرفت ، أشد من الحاجة إلى كل شيء آخر ، كانبات الشعر على الاشفار وعلى الحاجبين وتقعير الأخمص من القدمين ، وغير ذلك ، فإن الإنسان بدون البعثة لا يتمكن من السلوك نحو الكمال اللائق به ، والنيل إلى السعادة في الدارين.

فحينئذ نقول كما قال الشيخ أبو علي بن سينا : فلا يجوز أن يكون العناية الاولى وعلمه تعالى بنظام الخير ، تقتضي تلك المنافع ، ولا تقتضي هذه التي هي اسها ، مع أنه لا مانع من وجود الأنبياء والرسل ، لتعليم الناس ما يصلحهم وما يضرهم ولتزكيتهم وسوقهم نحو سعادتهم في الدنيا والآخرة ، بل مقتضى كماله وعلمه وقابلية المحل وعدم وجود المانع ، هو الاقتضاء المذكور والافاضة ، وإلّا لزم الخلف في كونه عالما بنظام الخير وكمالا مطلقا ، هذا مضافا إلى لزوم تكليف الناس بما لا يطيقون ، من السلوك نحو السعادة والكمال في الدارين ، من دون ايجاد شرطه ، وإلى نقض الغرض من خلقة الإنسان للاستكمال والنيل إلى السعادة ، مع عدم اعداد مقدماته ، ومن المعلوم أنهما لا يصدران عن الكمال

٢٣١

المطلق ، وإلّا لزم الخلف في كونه كمالا مطلقا.

ومنها : ما استدل به في علم الكلام من نقض الغرض وتحصيله. قال المحقق الطوسي ـ قدس‌سره ـ : «واللطف واجب لتحصيل الغرض به». قال العلّامة الحلي ـ قدس‌سره ـ في شرحه : «والدليل على وجوبه أنه يحصل غرض المكلف ، فيكون واجبا ، وإلّا لزم نقض الغرض. بيان الملازمة : أن المكلف إذا علم أن المكلف لا يطيع إلّا باللطف ، فلو كلفه من دونه ، كان ناقضا لغرضه ، كمن دعا غيره إلى طعام وهو يعلم أنه لا يجيبه إلّا إذا فعل معه نوعا من التأدب ، فإذا لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدب ، كان ناقضا لغرضه ، فوجوب اللطف يستلزم تحصيل الغرض» (١).

قال المحقق اللاهيجي في تقريبه : «إن ترك اللطف نقض للغرض ، ونقض الغرض قبيح ، فترك اللطف قبيح» (٢) وهو تعالى لا يفعل القبيح. ثم لا يخفى عليك أن مبنى الدليل المذكور هو الحسن والقبح العقليين ، كما أن مبنى الدليل الذي ذكره المصنف هو برهان الخلف.

ومنها : ما استدل به المحقق اللاهيجي ـ قدس‌سره ـ من وجوب الأصلح فيما إذا لم يكن منافيا لمصلحة كل النظام ، لأن علمه تعالى يقتضي وقوع النظام على أتم وجوهه ، لأنه مبدأ كل خير ولا مانع منه (٣).

وتقريب ذلك الدليل بأن يقال : إن اللطف على الأقل أصلح ، فيما إذا لم يكن منافيا لمصلحة كل النظام ، كما هو المفروض في البعثة وارسال الرسل ، والأصلح مما يقتضيه علمه تعالى ؛ لأنه مبدأ كل خير ، ولا مانع منه ، فاللطف مما يقتضيه ، ولا بد من وقوعه ، وإلّا لزم الخلف في كون علمه تعالى يقتضي وقوع النظام على أتم وجوهه ، وهذا التقريب يقرب من التقريب الأول الذي أشار

__________________

(١) شرح تجريد الاعتقاد : ص ٣٢٤ ـ ٣٢٥ الطبعة الحديثة.

(٢) سرمايه ايمان : ص ٧٩ الطبعة الحديثة.

(٣) گوهر مراد : ص ٢٥٠.

٢٣٢

إليه المصنف كما لا يخفى.

وهنا تقريب آخر عن المحقق اللاهيجي أيضا وهو : أنه إذا لم يكن للأصلح مانع مع وجود داعيه ، لكان الإمساك عن الاصلح وافاضة غير الأصلح قبيحا ؛ لأن ترك الأصلح وأخذ غير الأصلح مذموم عقلا ، فنقول بطريق القياس الاستثنائي : إذا كان ترك الأصلح قبيحا ، كان وجود الأصلح واجبا ، ولكن ترك الأصلح قبيح فيكون وجود الأصلح واجبا (١).

بل هنا تقريب خامس وهو : أنه إذا لم يكن للأصلح مانع مع وجود داعيه ، لكان الامساك عن الأصلح وإفاضة غير الأصلح ممتنعا ؛ لأنه ترجيح للمرجوح ، وهو ممتنع ؛ لأنه يرجع إلى ترجح من غير مرجح ، وإليه أشار المحقق اللاهيجي في ضمن التقريب السابق فراجع (٢).

ولا يخفى أن الصغرى ليس كل أصلح ولو كان مقرونا بالمانع ، بل الأصلح الخاص ، وهو الذي لا يكون مقرونا بالمانع مع وجود داعيه ، وبهذا التقييد المذكور لا يرد عليه شيء من الايرادات ، وبقية الكلام في محله (٣).

وإرسال الرسل سواء كان ممكنا كما قلنا أو مقربا أو أصلح ، واجب بالتقريبات المذكورة فتدبر جيدا.

الرابع : في عمومية مقتضى البرهان ، إذ برهان اللطف سواء كان بمعناه الفلسفي أو الكلامي ، يقتضي لزوم اتمام الحجة على الناس وارشادهم وتزكيتهم في جميع الأدوار والأمكنة ، ولذا نعلم بأن ذلك لا يختص بمناطق الحجاز والشامات والعراق وايران ونظائرها ، إذ التكليف أو الغرض ، وهو نيل الإنسان إلى كماله اللائق به والسعادة في الدارين ، لا يختص بقوم دون قوم ، بل كل مكلفون ومنذرون ، كما نص عليه في قوله عزوجل : «إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً

__________________

(١) سرمايه ايمان : ص ٨١.

(٢) سرمايه ايمان : ص ٨١.

(٣) سرمايه ايمان : ص ٨١.

٢٣٣

وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ» (١). حيث أفادت الآية الكريمة أن لكل جامعة من الجوامع البشرية نذيرا. نعم ، القدر المتيقن منها ، هي الجامعة التي لا يمكن لهم الارتباط بالجامعة الاخرى ، بحيث لو اكتفى بارسال الرسول في غيرها لا يبلغهم دعوة النبي المرسل ، ولا يمكنهم الاطلاع من دعوته.

وعليه فنعلم بشمول دعوة الرسل لجميع أقطار الأرض وأدوار التأريخ ، وإن لم نعلم تفصيل ذلك فانقدح مما ذكر أن دعوى عدم شمولها لبعض القارات كقارة أمريكا مجازفة.

ولقد أفاد وأجاد الإمام البلاغي ـ قدس‌سره ـ في الجواب عمن أنكر شمول دعوة الأنبياء لبعض القارات بقوله :

«ما كنت أظن أحدا يقدم على هذه الدعوى النافية بالكلية إلّا أن يستند فيها إلى إخبار نبوي ، أو يدعي النبوة ، أو أنه إله متجسد ، فإن دعوى العلم بمثل هذا النفي ، لا يكفي فيها الجهل ، فما هي الحجة القاطعة على هذه الدعوى الكبيرة؟ ولا يحسن التشبث لها بخلو التوراة الرائجة من ذكر أمريكا ونبواتها ، وذلك لجواز أن لا تكون أمريكا مسكونة في زمان موسى ، بل اتفق العبور إليها من جزائر اليابان أو من بوغاز بيرين أو غير ذلك ، كما ذكر عبور جماعة من «ايسلاند» إلى «كرينلاند» من أمريكا في القرن الثامن أو التاسع للمسيح ، أو لأن ذكر أمريكا ونبواتها لم يدخل في حكمة التوراة الأصلية ـ إلى أن قال ـ : ولا يمكن التشبث بخلو القرآن الكريم من ذلك ، فإن التصريح بذكر أمريكا ونبواتها مما ينافي حكمة القرآن الكريم ومداراته لجهل الناس ، ولكنه بعد أن ذكر الرسل قال في سورة النساء المدنية الآية ١٦٢ : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) كما قال في سورة المؤمن المكية الآية ٧٨ : «وَلَقَدْ

__________________

(١) فاطر : ٢٤.

٢٣٤

أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ» فالقرآن صريح بأنه لم يستوعب ذكر الرسل.

ألا وأن المؤمن الذي يعترف لله بعموم الرحمة وقيام الحجة ، لا بد له من أن يذعن اجمالا بعموم الرحمة وقيام الحجة على أهل أمريكا وإن لم يعرف وجه ذلك تفصيلا ، وأن التاريخ يذكر عن قارة أمريكا بنوعها وأقطارها قبل انكشافها شيئا من التدين بالإلهية والعبادة والصلاة والصوم والمعمودية ، والاعتماد على المخلص والتخليص من الجحيم ، واغواء الشيطان وبقاء النفس بعد الموت ، وغير ذلك من التقاليد كما في المكسيك والبيرو والبرازيل وكندا ومايانوا كاتلن والاير وكويسبين وأديسيوا والاحبوايو ونوع أمريكا ، وهذا يقوي الظن بأن مادة هذه التعاليم والديانات إنما هي من دعوة نبوية رسولية نشأت في قارتهم أو بلغتهم من قارة اخرى ، ولكن الاهواء شوهت صورتها بتلويث التوحيد بالتثليث والعبادة الأصنامية ، وتأليه البشر ، ويلزم من هذه الأهواء تبديل الشريعة كما هي العادة الأهوائية ، وابتلاء الأديان بعواصفها الوبيئة ـ إلى أن قال ـ : ثم إن كان نظر الكلام إلى بلوغ دعوة الإسلام إلى أمريكا ، فلا يعلم تأخره إلى حين اكتشافها ، ومن الممكن بلوغ الدعوة حينما ارتبطت «كرينلاند» بحماية تزوج وكثرة تردد أهل الشمال إليهما كما يقال ، ولا يلزم في بلوغ الدعوة وصول مبشريها ، بل يكفي في بلوغها وقيام الحجة في لزوم النظر في أمرها مجرد وصول خبرها ، وإن كان من جاحديها ، ولو قلنا بتأخر بلوغها إلى أمريكا إلى حين اكتشافها ، لم يلزم من ذلك إلّا كون الفترة عندهم ، أكثر من الفترة في أقطار القارات الاخر حسبما اقتضته حكمة الله في الإرسال ، وسير الدعوة بالمسرى الطبيعي العادي في الأقطار» (١) وهو حسن ، ولكن كلامه الأخير لا يخلو عن

__________________

(١) انوار الهدى : ص ١٢٤.

٢٣٥

التأمل والاشكال ، فإن الفترة بدون حجة الله ممنوعة.

نعم هنا احتمالات اخر : أحدها : أن يكون من سكن فيها من نسل من خرج عن دار الإيمان إلى دار الكفر ، ثم اتفق عبوره إليها وسكن فيها بالاختيار أو الاضطرار ، فإنه عصى بخروجه عن دار الإسلام التي يمكن إقامة شعائر الايمان فيها ، ومن خرج عمدا عنها إلى دار الكفر التي لا يمكن له إقامة شعائر الايمان فيها ، لا يستحق بعصيانه أن يأتيه دعوة الأنبياء ، وهذا الحرمان أمر يتحقق من نفسه في حق نفسه وفي حق نسله ، فهو ظالم لنفسه ولنسله في هذا الحرمان.

وثانيها : أنه كانت هذه القارة متصلة بقارة اخرى التي جاءتهم دعوة النبي ، ثم انفصلت عنها ، كما احتمل ذلك في علم الجغرافية على المحكي ، فتأمل.

وثالثها : أنه جاءهم الأنبياء والحجج ، ولكن قتلوهم ولم يقبلوهم ، وكيف ما كان ، فلا مجال لدعوى نقض البرهان بمثل هذا ، فإن غايته أنه مجمل ولا يرفع اليد عن المعلوم بالمجمل ، بل يحمل المجمل على المبين.

٢٣٦

٣ ـ عقيدتنا في معجزة الأنبياء

نعتقد أنه تعالى إذ ينصب لخلقه هاديا ورسولا ، لا بد أن يعرفهم بشخصه ويرشدهم إليه بالخصوص على وجه التعيين ، وذلك منحصر بأن ينصب على رسالته دليلا وحجة يقيمها لهم ، إتماما للّطف واستكمالا للرحمة.

وذلك الدليل لا بد أن يكون من نوع لا يصدر إلّا من خالق الكائنات ومدبر الموجودات (أي فوق مستوى مقدور البشر) فيجريه على يدي ذلك الرسول الهادي ، ليكون معرفا به ومرشدا إليه.

وذلك الدليل هو المسمى ب «المعجز أو المعجزة» لأنه يكون على وجه يعجز البشر عن مجاراته والإتيان بمثله.

وكما أنه لا بد للنبي من معجزة يظهر بها للناس لإقامة الحجة عليهم ، فلا بد أن تكون تلك المعجزة ظاهرة الإعجاز بين الناس ، على وجه يعجز عنها العلماء وأهل الفن في وقته ، فضلا عن غيرهم من سائر الناس ، مع اقتران تلك المعجزة بدعوى النبوة منه ، لتكون دليلا على مدعاه وحجة بين يديه ، فإذا عجز عنها أمثال اولئك علم أنها فوق مقدور البشر وخارقة

٢٣٧

للعادة ، فيعلم أن صاحبها فوق مستوى البشر بما له من ذلك الاتصال الروحي بمدبر الكائنات.

وإذا تم ذلك لشخص من ظهور المعجز الخارق للعادة ، وادعى مع ذلك النبوة والرسالة ، يكون حينئذ موضعا لتصديق الناس بدعواه ، والايمان برسالته ، والخضوع لقوله وأمره ، فيؤمن به من يؤمن ويكفر به من يكفر.

ولأجل هذا وجدنا أن معجزة كل نبي تناسب ما يشتهر في عصره من العلوم والفنون ، فكانت معجزة موسى ـ عليه‌السلام ـ هي العصا التي تلقف السحر وما يأفكون ، إذ كان السحر في عصره فنا شائعا ، فلما جاءت العصا بطل ما كانوا يعملون ، وعلموا أنها فوق مقدورهم ، وأعلى من فنهم ، وأنها مما يعجز عن مثله البشر ويتضاءل عندها الفن والعلم ، وكذلك كانت معجزة عيسى ـ عليه‌السلام ـ وهي ابراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى ، إذ جاءت في وقت كان فن الطب هو السائد بين الناس ، وفيه علماء وأطباء لهم المكانة العليا فعجز علمهم عن مجاراة ما جاء به عيسى عليه‌السلام.

ومعجزة نبينا الخالدة هي القرآن الكريم ، المعجز ببلاغته وفصاحته في وقت كان فن البلاغة معروفا ، وكان البلغاء هم المقدمون عند الناس ، بحسن بيانهم وسمو فصاحتهم فجاء القرآن كالصاعقة ، أذلهم وأدهشهم وأفحمهم ، إنهم لا قبل لهم به فخنعوا له مهطعين عند ما عجزوا عن مجاراته وقصروا عن اللحاق بغباره ويدل على عجزهم أنه تحداهم باتيان عشر سور مثله ، فلم يقدروا ، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله

٢٣٨

فنكصوا ، ولما علمنا عجزهم عن مجاراته مع تحديه لهم ، وعلمنا لجوءهم إلى المقاومة بالسنان دون اللسان علمنا أن القرآن من نوع المعجز ، وقد جاء به محمد بن عبد الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ مقرونا بدعوى الرسالة فعلمنا أنه رسول الله جاء بالحق وصدق به صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

______________________________________________________

(١) ينبغي هنا ذكر امور :

أحدها : أن الإعجاز في اللغة بمعنى فعل أمر يعجز الناس عن الإتيان بمثله ، وفي الاصطلاح كما هو في تجريد الاعتقاد : ثبوت ما ليس بمعتاد ، أو نفي ما هو معتاد مع خرق العادة ومطابقة الدعوى (١).

قال الفاضل الشعراني في شرح العبارة : «أن المراد من ذكر خرق العادة هو اخراج نوادر الطبيعة كالطفل الذي له ثلاثة أرجل ، فإن النوادر وإن كانت خلاف المعتاد ولكنها موافقة للعادة في الجملة ، إذ قد يتفق وقوعها ، هذا بخلاف المعجزات ، فإنها مما لم يتفق وقوعها في الطبيعة ، وإنما أوجدها الله تعالى تصديقا للنبي ، فالمعجزة ثبوت ما ليس بمعتاد مع خرق العادة كصيرورة عصا موسى ثعبانا ، أو نفي ما هو معتاد مع خرق العادة كعجز شجاع في حال شجاعته وسلامته عن رفع سيف مثلا ، فإنهما مما لا يتفق عادة كما لا يخفى» (٢).

ثم إن المراد من مطابقة الدعوى ، هو أن اطلاق الاعجاز بحسب الاصطلاح فيما إذا وقع خارق العادة عقيب دعوى النبي بعنوان شاهد صدق لدعواه ، وإلّا فإن لم يكن له دعوى أصلا فلا اعجاز ، نحو ما يظهر من الأولياء من دون دعوى للنبوة أو الإمامة ، فإنه كرامة أو ارهاص ولذا اشترطوا في اطلاق الاعجاز

__________________

(١) راجع تجريد الاعتقاد : ص ٣٥٠ الطبعة الحديثة.

(٢) ترجمة وشرح تجريد الاعتقاد : ص ٤٤٨.

٢٣٩

التحدي ، كما انه إن كانت الدعوى متحققة ، ولكن خارق العادة لا يكون مطابقا لما ادعاه ، فلا اعجاز ، لأنه حينئذ يكون شاهد كذب المدعى ، كما حكي في المسيلمة الكذاب ، حيث إنه أراد ازدياد ماء البئر ليكون معجزا على دعواه ، فتفل فيه فصار ماؤه غائرا.

ثم إن المراد من اشتراط التحدي ، هو أن يكون المعجز عقيب دعوى النبي ومطالبته للمقابلة ، أو الجاري مجرى ذلك ، ونعني بالجاري مجرى ذلك هو أن يظهر دعوة النبي بحيث لا يحتاج إلى اعادتها ، بل يكتفى فيه بقرائن الأحوال كما صرح به العلّامة المجلسي ـ رحمه‌الله ـ حيث قال : «ومن جملة الشرائط هو أن يكون مقرونا بالتحدي ولا يشترط التصريح ، بل يكفي قرائن الاحوال».

ثم علم مما ذكر ، خروج ما يظهر من السحرة ، من حقيقة الاعجاز ، فإن تلك الامور ليست بخارقة للعادات ، فإن لها أسبابا خاصة خفية يمكن تعلمها وسلوكها بحسب العادة ، كما يشهد له وجود السحرة وأهل الشعبدة في كل عصر وزمان كما لا يخفى.

وهكذا خرج عن التعريف ما قد يرى من الكهنة أو المرتاضين فإن تحصيل ذلك بالرياضة ونحوها ممكن عادة ، ولذا يكون معارضتهم في كل عصر وزمان ممكنة.

فهذه الامور خارجة بنفسها عن التعريف ، فلا حاجة إلى اضافة قيد آخر للاحتراز عنها كما زعمه بعض المحققين ، وزاد في التعريف قيودا اخرى لا يحتاج إليها ، حيث قال : «إن المعجزة هو فعل على خلاف مجاري العادة والطبيعة ، متكئا على قدرته تعالى ، وطريق معرفتها هو العلم بأنه لا يكون صادرا من جهة التعلم والتعليم ، ولا يصير مغلوبا عن ناحية اخرى» فإنه بعد تحقق العلم بكون ما يظهر منه خارقا للعادة ، لا حاجة إلى القيد الأخير في كلامه «وطريق معرفتها هو العلم بأنه لا يكون صادرا من جهة التعلم ، الخ» إذ هو بالعلم بكونه خارق

٢٤٠