بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد رضا المظفّر

بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN: 964-470-180-1
ISBN الدورة:
964-470-180-1

الصفحات: ٣٢٠
الجزء ١ الجزء ٢

المقتضيات السابقة. وإن كان المقتضي في البداء هو المقتضي الثبوتي ، والمقتضي في النسخ هو المقتضي الاثباتي.

وكيف كان فظهور شيء منه تعالى للغير موجود في كليهما وهو الذي عبر عنه في لسان بعض الفحول بالإبداء أو الإظهار فلا تغفل.

٢٠١

٨ ـ عقيدتنا في أحكام الدين

نعتقد أنه تعالى جعل أحكامه من الواجبات والمحرمات وغيرهما طبقا لمصالح العباد في نفس أفعالهم ، فما فيه المصلحة الملزمة جعله واجبا ، وما فيه المفسدة البالغة ، نهى عنه ، وما فيه مصلحة راجحة ندبنا إليه ، وهكذا في باقي الأحكام وهذا من عدله ولطفه بعباده ولا بد أن يكون له في كل واقعة حكم ، ولا يخلو شيء من الأشياء من حكم واقعي لله فيه ، وإن انسد علينا طريق علمه.

ونقول أيضا : إنه من القبيح أن يأمر بما فيه المفسدة أو ينهى عما فيه المصلحة ، غير أن بعض الفرق من المسلمين يقولون : إن القبيح ما نهى الله تعالى عنه ، والحسن ما أمر به ، فليس في نفس الأفعال مصالح أو مفاسد ذاتية ، ولا حسن أو قبيح ذاتيان ، وهذا قول مخالف للضرورة العقلية ، كما أنهم جوزوا أن يفعل الله تعالى القبيح فيأمر بما فيه المفسدة ، وينهى عما فيه المصلحة ، وقد تقدم أن هذا القول فيه مجازفة عظيمة ، وذلك لاستلزامه نسبة الجهل او العجز إليه سبحانه تعالى علوا كبيرا (١)

______________________________________________________

(١) ولا يخفى عليك أن هذا البحث من متفرعات الأصل الثابت الذي

٢٠٢

والخلاصة أن الصحيح في الاعتقاد أن نقول : إنه تعالى لا مصلحة له ولا منفعة في تكليفنا بالواجبات ونهينا عن فعل ما حرمه ، بل المصلحة والمنفعة ترجع لنا في جميع التكاليف. ولا معنى لنفي المصالح والمفاسد في الأفعال المأمور بها والمنهي عنها ، فإنه تعالى لا يأمر عبثا ولا ينهى جزافا وهو الغني عن عباده (٢).

______________________________________________________

مضى تحقيقه ، وهو أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب ، وقد عرفت فيما مضى أن الدليل عليه أمران : أحدهما : أنه مقتضى اطلاق كماله ورحمته ورحمانيته تعالى ، وثانيهما : أنه مقتضى حكم العقل بالحسن والقبح الذاتي. أشار المصنف إلى الوجه الأول في السابق ، وإلى الثاني هنا ، وكيف كان فقد مر البحث عنه ولا حاجة إلى إعادة الكلام ، وعليه كما أن أصل التكليف مما يقتضيه لطفه ورحمانيته ، كذلك تطبيق التكليف ، مع ما في الأفعال من المصالح والمفاسد ، فالمصلحة الراجحة لا تقتضي الوجوب ، بل الندب ، والمصلحة الملزمة تقتضي الوجوب لا الندب ، والمفسدة الملزمة تقتضي النهي التحريمي لا التنزيهي ، والمفسدة الغير الملزمة لا تقتضي إلّا النهي التنزيهي ، ولا يمكن سلوك الإنسان نحو كماله وسعادته إلّا إذا كلف بما تقتضيه الأفعال من المصالح والمفاسد ، والاخلال به ينافي لطفه ورحمته ، كما أنه ينافي حكمته ؛ لأن الحكمة في خلقة الإنسان هو امكان أن يسلك نحو كماله ، فإذا كلف بما لا يطابق مقتضى الأفعال ، فلا يمكن له ذلك. هذا مضافا إلى منافاته مع عدله فيما إذا كلف بما زاد أو نقص عن الحد اللازم الذي يستحقه المكلف كما لا يخفى.

(٢) حاصله أن التكاليف حيث لا تصدر عنه تعالى جزافا ، فلا تكون إلّا ناشئة عن المصالح والمفاسد ، ولكن المصالح والمفاسد ترجع إلينا لا إليه تعالى ؛

٢٠٣

لأنه غني مطلق.

ثم انه لا يلزم أن تكون المصالح في الأفعال المأمور بها ، بل يكفي وجودها في نفس التكاليف ضرورة كفاية وجودها في التكاليف ؛ لحسنها ورفع العبث والجزاف.

بقي شيء ، وهو أن أفعاله تعالى سواء كانت تكوينية أو تشريعية ناشئة عن كماله المطلق ، وليست لاستكمال ذاته تعالى ؛ لأنه غني مطلق ، ولا يحتاج إلى شيء ، ولذلك ذهبوا إلى أن العلة الغائية متحدة مع العلة الفاعلية فيه تعالى ، إذ لا غاية وراء ذاته تعالى ، ولا ينافي ذلك أن للافعال غاية أو غايات متوسطة ونهائية ؛ لانها غاية الفعل لا غاية الفاعل. قال العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ : «وبالجملة فعلمه تعالى في ذاته بنظام الخير غاية لفاعليته التي هي عين الذات» (١).

وينقدح مما ذكر ما في كلام الأشاعرة من أن أفعاله تعالى يستحيل تعليلها بالاغراض والمقاصد ، فإن كل فاعل لغرض وقصد ، فإنه ناقص بذاته ، مستكمل بذلك الغرض والله تعالى يستحيل عليه النقصان (٢) وذلك لما عرفت من أن الغاية في فاعليته تعالى ، ليست إلّا ذاته وصفاته ، فذاته لذاته منشأ للافاضة ، ومن المعلوم أن تعليل أفعاله بذاته ، لا يستلزم النقصان ، حتى يستحيل ، بل هو حاك عن كمال ذاته ، ولعل إليه يؤول ما قاله العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ :

من أنه ليس من لوازم وجود الغاية حاجة الفاعل إليها ؛ لجواز كونها عين الفاعل (٣).

وينقدح أيضا مما ذكر ضعف ما ذهب إليه المعتزلة وبعض المتكلمين من

__________________

(١) راجع نهاية الحكمة : ص ١٦٣ ـ ١٦٤.

(٢) شرح تجريد الاعتقاد : ص ٣٠٦ الطبعة الحديثة.

(٣) راجع نهاية الحكمة : ص ١٦٣.

٢٠٤

الإمامية ، من أن غاية أفعاله هي انتفاع الخلق ، فإنه وإن لم يستلزم استكمال الذات بالغايات المترتبة على الأفعال ، ولكن ذلك يوجب أن يكون لغير ذاته تأثير في فاعليته مع أنه تام الفاعلية ولا يتوقف في فاعليته على شيء (١).

فالصحيح هو أن يقال : إن انتفاع الخلق هو غاية الفعل لا غاية فاعلية الفاعل ، إذ لا حاجة له تعالى إلى شيء من الأشياء ، ولا يتأثر من شيء (٢).

نعم ذهب بعض المحققين إلى إمكان الجمع بين الأقوال ، بأن يقال : إن من حصر الغاية في ذاته تعالى أراد الغاية الأصلية والذاتية ، ومن نفى الغاية في أفعاله أراد نفي داع زائد على ذاته في فاعليته ، ومن جعل العلة الغائية انتفاع الخلق أراد بيان الغاية الفرعية والتبعية. انتهى (٣) إلّا أن هذا التوجيه وإن كان حسنا في نفسه ولكن لا يساعده عبائر القوم فراجع ، ولله الحمد.

__________________

(١) راجع نهاية الحكمة : ص ١٦٣.

(٢) راجع شرح منظومه : ج ٢ ص ٦٢ للاستاذ الشهيد المطهري ـ قدس‌سره ـ.

(٣) آموزش فلسفه : ج ٢ ص ٤٠٢.

٢٠٥
٢٠٦

الفصل الثاني

النّبوّة

١ ـ عقيدتنا في النبوة

٢ ـ النبوة لطف

٣ ـ عقيدتنا في معجزة الأنبياء

٤ ـ عقيدتنا في عصمة الأنبياء

٥ ـ عقيدتنا في صفات النبي

٦ ـ عقيدتنا في الأنبياء وكتبهم

٧ ـ عقيدتنا في الإسلام

٨ ـ عقيدتنا في مشرع الاسلام

٩ ـ عقيدتنا في القرآن الكريم

١٠ ـ طريقة اثبات الإسلام والشرائع السابقة

٢٠٧
٢٠٨

١ ـ عقيدتنا في النبوة

نعتقد أن النبوة وظيفة إلهية وسفارة ربانية يجعلها الله تعالى لمن ينتجبه ويختاره من عباده الصالحين وأوليائه الكاملين في انسانيتهم.

فيرسلهم إلى سائر الناس لغاية ارشادهم إلى ما فيه منافعهم ومصالحهم في الدنيا والآخرة ، ولغرض تنزيههم وتزكيتهم من دون مساوئ الأخلاق ومفاسد العادات وتعليمهم الحكمة والمعرفة ، وبيان طرق السعادة والخير لتبلغ الإنسانية كمالها اللائق بها ، فترتفع إلى درجاتها الرفيعة في الدارين ، دار الدنيا ودار الآخرة.

ونعتقد أن قاعدة اللطف ـ على ما سيأتي معناها ـ توجب أن يبعث الخالق اللطيف بعباده رسله لهداية البشر وأداء الرسالة الاصلاحية وليكونوا سفراء الله وخلفاءه.

كما نعتقد أنه تعالى لم يجعل للناس حق تعيين النبي أو ترشيحه أو انتخابه وليس لهم الخيرة في ذلك ، بل أمر كل ذلك بيده تعالى ؛ لأنه (أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) وليس لهم أن يتحكموا فيمن يرسله هاديا

٢٠٩

ومبشرا ونذيرا ، ولا أن يتحكموا فيما جاء به من أحكام وسنن وشريعة (١).

______________________________________________________

(١) يقع الكلام في مقامات :

أحدها : في معنى النبوة لغة. ففي القاموس «النبأ محركة : الخبر ، أنبأه اياه به : أخبره ـ إلى أن قال ـ : والنبيء : المخبر عن الله تعالى ، وترك الهمز المختار ، ج : أنبياء ـ إلى أن قال ـ : والاسم النبوءة ـ إلى أن قال ـ : ونبأ كمنع نبأ ونبوا : ارتفع ، وعليهم : طلع ، ومن أرض إلى أرض : خرج ، وقول الأعرابي : يا نبيء الله بالهمز ، أي الخارج من مكة إلى المدينة ، أنكره عليه ، فقال : لا تنبر باسمي ـ أي لا تهمز باسمي ـ فإنما أنا نبي الله».

ونحو ذلك في المصباح المنير وزاد عليه قوله : «والنبيء على فعيل مهموز ؛ لأنه أنبأ عن الله ، أي أخبر والابدال والادغام لغة فاشية».

فالمختار هو أن النبي مهموز في الاصل ، ثم ابدلت الهمزة وادغمت في النبي والنبوة ، ويشهد له عود الهمز في التصغير كما يقال : «مسيلمة نبيء سوء» ولا دلالة لمثل قوله تعالى : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) في حق بعض أنبيائه على أن النبي مأخوذ من النبوة ، بمعنى الرفعة ؛ لأن الآية لا تدل إلّا على أن النبي رفيع القدر لا أن النبي مأخوذ من الرفعة كما لا يخفى ، وأما الاستدلال بمثل قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لمن قال يا نبيء الله : «لست بنبي الله ، ولكن نبي الله» ففيه أنه لا يدل على أن أصله من النبوة بمعنى الرفعة ، نعم فيه إشارة إلى منع استعمال المهموز ، ولعله لأن المهموز مشترك بين المخبر ، والخارج من أرض إلى أرض ، بخلاف النبي بالتشديد ، فإنه شائع في خصوص المخبر ، فإذا استعمل مشددا ومدغما فلا مجال لتعيير بعض المبغضين بإرادة الخارج من مكة إلى المدينة منه ، كما أراده الذي خاطبه باستعمال النبي مهموزا ، وكيف كان فالأظهر هو ما

٢١٠

اختاره القاموس والمصباح المنير من أن النبي مهموز الأصل.

قال العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ : «والنبي على وزن فعيل مأخوذ من النبأ ، سمي به النبي ؛ لأنه عنده نبأ الغيب ، بوحي من الله ، وقيل : هو مأخوذ من النبوة بمعنى الرفعة سمي به لرفعة قدره» (١).

ثانيها : في معناه الاصطلاحي ، عرفه أهل الكلام بأنه الإنسان المخبر عن الله تعالى بغير واسطة أحد من البشر. قال في شرح الباب الحادي عشر : «فبقيد الإنسان يخرج الملك ، وبقيد المخبر عن الله يخرج المخبر عن غيره ، وبقيد عدم واسطة بشر يخرج الإمام والعالم فإنهما مخبران عن الله تعالى بواسطة النبي» (٢).

وفيه أن التعريف المذكور يشمل الإمام المعصوم الذي قد يخبر عن الله تعالى بسبب إلهام وكونه محدثا ، بل يشمل سيدتنا فاطمة ـ سلام الله عليها ـ فإنها أخبرت بما أحست من أخبار جبرئيل بعد موت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وكتبه مولانا أمير المؤمنين ـ عليه الصلاة والسلام ـ وسمي بمصحف فاطمة ـ سلام الله عليها ـ وكيف كان فالأولى أن يقال في تعريف النبي بحسب الاصطلاح : هو إنسان كامل مخبر عن الله تعالى بالوحي ، إذ الوحي مختص بالأنبياء ، وهو نوع رابطة وقعت بينه وبين أنبيائه. ولم تكن هذه الرابطة مشابهة للروابط المعمولة للتفهيم والتفهم من التعقل والتفكر والحدس ونحو ذلك ، بل هي أمر وراء تلك الامور المتعارفة البشرية ومع ذلك لا يمكن لنا إدراك الفرق بين الوحي والالهام ، وكيف كان فالأول مختص بالأنبياء دون الثاني.

قال العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ : إن الوحي نوع تكليم إلهي تتوقف عليه النبوة قال تعالى : «إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ

__________________

(١) تفسير الميزان : ج ١٤ ص ٥٨.

(٢) راجع شرح الباب الحادي عشر ص ٣٤ الطبعة الحديثة ـ قواعد المرام : ص ١٢٢.

٢١١

بَعْدِهِ» (١).

وقال ـ أيضا في ذيل قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٢). ـ : والمعنى ما كان لبشر أن يكلمه الله نوعا من أنواع التكليم ، إلّا هذه الأنواع الثلاثة : أن يوحي وحيا ، أو يكون من وراء حجاب ، أو أن يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء. ثم إن ظاهر الترديد في الآية ب «أو» هو التقسيم على مغايرة بين الأقسام ، وقد قيد القسمان الأخيران بقيد كالحجاب والرسول الذي يوحي إلى النبي ، ولم يقيد القسم الأول بشيء ، فظاهر المقابلة يفيد أن المراد به التكليم الخفي من دون أن يتوسط واسطة بينه تعالى وبين النبي أصلا ، وأما القسمان الآخران ففيهما قيد زائد ، وهو الحجاب أو الرسول الموحي وكل منهما واسطة ، غير أن الفارق أن الواسطة الذي هو الرسول يوحي إلى النبي بنفسه ، والحجاب واسطة ليس بموح ، وإنما الوحي من ورائه ـ إلى أن قال ـ : ولما كان للوحي في جميع هذه الأقسام نسبة إليه تعالى على اختلافها ، صح إسناد مطلق الوحي إليه بأي قسم من الأقسام تحقق ، وبهذه العناية أسند جميع الوحي إليه في كلامه ، كما قال : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) (٣) والحاصل أن الوحي بجميع أقسامه مختص بالنبي ، وعليه أجمعت الامة الإسلامية. نعم قد يطلق الوحي على الهداية التكوينية كقوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) (٤) ولكنه بالعناية والمجاز لظهور الوحي في عرف المتدينين بالأديان الإلهية من بدو مجيء الأنبياء والرسل فيما ذكر من أنه نوع رابطة أو كلام خفي بين الله تعالى وبينهم بواسطة أو بدونها فلا تغفل.

__________________

(١) النساء : ١٦٢ ، راجع تفسير الميزان : ج ٢ ص ١٤٧.

(٢) الشورى : ٥١.

(٣) تفسير الميزان : ج ١٨ ص ٧٦.

(٤) النحل : ٦٨.

٢١٢

ثم إن الفرق بين النبي والرسول كما في تفسير الميزان هو أن النبي ، هو الذي ببيّن للناس صلاح معاشهم ومعادهم من اصول الدين وفروعه ، على ما اقتضته عناية الله من هداية الناس إلى سعادتهم ، والرسول هو الحامل لرسالة خاصة مشتملة على إتمام الحجة ، يستتبع مخالفته هلاكة أو عذابا أو نحو ذلك (١) فالنسبة بين النبي والرسول هي العموم والخصوص المطلق موردا إذ كل رسول نبي دون العكس ، لجواز أن يكون النبي غير رسول كما لا يخفى.

وعليه فمقام النبوة غير مقام الرسالة وإن كان بحسب المورد تقع الرسالة إلّا في مورد النبوة فتحصل أن المفهومين متغايران وفي ذلك يكون النسبة بينهما من العموم والخصوص المطلق موردا ومما ذكر يظهر الجواب عن وجه تقديم عنوان الرسول على عنوان النبي في الآية الكريمة (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (٢) إذ لو كان مفهوم النبوة أعم من الرسالة لزم أن يكون متقدما عليها في الذكر كما لا يخفى ، وسيجيء بقية الكلام إن شاء الله في بحث الخاتمية (٣).

ثم إن الرسل يختلفون في الفضل والمرتبة ، وساداتهم هم أولو العزم منهم ، وهم أصحاب الجد والثبات على العهود والميثاق في حد أعلى ، وهم : نوح وابراهيم وموسى وعيسى ونبينا محمّد بن عبد الله ـ صلّى الله عليه وعليهم أجمعين ـ ، كما قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٤) وهم أصحاب الكتب والشرائع ، كما قال الله تعالى : «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا

__________________

(١) تفسير الميزان : ج ٢ ص ١٤٥.

(٢) مريم : ٥١.

(٣) تفسير الميزان : ج ١٤ ص ٤٢٩ ، اصول عقائد (٢) راهنماشناسى : ص ١٣ ـ ١٨ وص ٢٦٨.

(٤) الاحزاب : ٧.

٢١٣

تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» (١).

ثالثها : في إمكان النبوة ، ولا يخفى أنها ممكنة ذاتا ؛ لأن في تكليمه تعالى مع الإنسان الكامل بواسطة أو بدونها ، لا يلزم أحد من المحالات كاجتماع النقيضين أو الضدين أو المثلين ، إذ تكليمه ليس إلّا ايجاد الكلام ونحوه ، ومن المعلوم أنه لا يستلزم المحدودية كالجسمية ، حتى يناقض مع صرفيته ولا حدّيته ، فلا ريب في إمكانها ذاتا ، وإنما الكلام في إمكانها وقوعا ، فإن البراهمة (٢) زعموا أنها لا فائدة فيها ، فلا تصدر عن الحكيم المتعالى ، وقالوا في توجيه ما ذهبوا إليه : إن الذي يأتي به الرسول لم يخل من أحد أمرين : إما أن يكون معقولا وإما أن لا يكون معقولا ، فإن كان معقولا فقد كفانا العقل التام بادراكه والوصول إليه ، فأي حاجة لنا إلى الرسول؟ وإن لم يكن معقولا فلا يكون مقبولا ، إذ قبول ما ليس بمعقول خروج عن حد الإنسانية ، ودخول في حريم البهيمية (٣).

واجيب عن ذلك بأنه لا ريب في فائدة النبوة ، فإن النبي إذا أتى بما تدركه العقول أيدها وأكدها وفائدة التأكيد أوضح من أن يخفى ، وإن أتى بما لا تدركه العقول من غير طريق الشرع ففائدتها هي الارشاد والهداية ، وأي فائدة أعظم من تلك الفائدة؟ ولعل البراهمة زعموا أن العقول حاكمة بثبوت الفائدة في بعض الأفعال وبعدمها في بعض آخر ، مع أنها حاكمة في بعضها وليس لها الحكم في الآخر ، فلا منافاة بين العقول التي لا حكم لها ومع الشرع الحاكم ، إذ لا مناقضة بين اللااقتضاء والاقتضاء كما لا يخفى ، ولذلك قال المحقق الطوسي ـ قدس‌سره ـ في تجريد الاعتقاد : «البعثة حسنة لاشتمالها على فوائد ،

__________________

(١) الشورى : ٢٣.

(٢) البراهمة قوم انتسبوا الى رجل يقال له : إبراهيم وقد مهد لهم نفي النبوات اصلا وهم كما في المنجد خدمة إله الهنود.

(٣) راجع الملل والنحل : ج ٢ ص ٢٥١.

٢١٤

كمعاضدة العقل فيما يدل عليه ، واستفادة الحكم فيما لا يدل» (١).

هذا مضافا إلى فوائد اخر كرفع الشك عن الشبهات الموضوعية للعدل والظلم اللذين كانت العقول مستقلة فيهما. ألا ترى أن الناس اختلفوا في اليوم في القيمة الزائدة الحاصلة من عمل الأجير على المواد الطبيعية كالخشب أنها لصاحب المواد أو للأجير أو لهما ، وكل قوم يدعي أن العدل هو ما ذهب إليه والظلم خلافه ، وليس هذا الاختلاف إلّا في موضوع حكم العقل الكلي ، إذ لا اختلاف في قبح الظلم وحسن العدل بينهم ، وفي مثل هذا يحتاج إلى الشرع حتى يزول الشك.

وكرفع الغفلة عما حكم به العقل ، إذ كثيرا ما تصير الأحكام العقلية مغفولة عنها ، فالشرع يرشد الناس إلى عقولهم ، وينبؤهم بحيث تذكروا ما نسوه ، خصوصا إذا بشروهم وأنذروهم بالآثار التي للاعمال بالنسبة إلى البرزخ والقيامة والآخرة.

وأضعف مما ذكر من الشبهة حول إمكان النبوة وقوعا ، هو ما حكي عنهم أيضا من أنه دل العقل على أن للعالم صانعا حكيما ، والحكيم لا يتعبد الخلق بما يقبح في عقولهم ، وقد وردت أصحاب الشرائع بمستقبحات من حيث العقل من التوجه إلى بيت مخصوص في العبادة والطواف حوله ، والسعى ورمي الجمار ، والاحرام والتلبية ، وتقبيل الحجر الأصم ، وكذلك ذبح الحيوان ـ إلى أن قال ـ : وكل هذه الامور مخالفة لقضايا العقول (٢).

وذلك لأن الموضوع للقبح العقلي هو ما علم خلوه عن المصالح ، أو ما علم اشتماله على المفاسد ، والامور المذكورة ليست كذلك ، بل الأمر فيها بالعكس ،

__________________

(١) شرح تجريد الاعتقاد : ص ٣٤٦ الطبعة الحديثة.

(٢) الملل والنحل للشهرستاني : ج ٢ ص ٢٥١.

٢١٥

لما علم من الفوائد المهمة والأسرار العظيمة فيها ، وهذا التوهم ناش من قلة التدبر حول العبادات ، وعدم التوجه إلى حقيقتها وأسرارها ، وتأثيرها في استكمال الروح الإنساني للتقرب والتهذيب ، فمثل رمي الجمار يوجب تذكار رمي آدم ـ على نبينا وآله وعليه‌السلام ـ لعدوه الشيطان ، وتبريه منه ، وهذا التذكار يوجب أن يعرف الإنسان عدوه ويقتدي بأبيه في رميه ، والتبري منه ، وهل هذا إلّا غرض صحيح ، فكيف يكون مثل هذا مخالفا للعقل؟ وهكذا الطواف والسعي بين الصفا والمروة وغيرها مشتمل على أسرار وحكم عظيمة ، يكون شطر منها مدونا تحت فلسفة الحج فراجع.

وبالجملة فكل أمر صدر عن الحكيم المتعالي وجاء به الأنبياء مشتمل على الفوائد والمصالح ، وإن لم نعلمها بالتفصيل ، لأنهم أخبروا عن الحكيم المتعال الذي لا يصدر منه القبيح ، فليس في الأوامر الشرعية التي جاءت به الرسل والأنبياء مفسدة يمكن للعقل أن يعرفها ، غايته عدم العلم بوجه المصلحة وهو لا يضر ، فلا موجب لقول البراهمة من استحالة وقوع النبوة كما لا يخفى.

رابعها : في فوائد البعثة وغاياتها ، ولا يخفى عليك أنها متعددة.

منها : الإرشاد إلى ما فيه منافعهم ومصالحهم في الدنيا والآخرة ، وهذه الغاية لا تقع كاملة إلّا بالشرع ، فإن بديهيات العقل محدودة ، فلا تكفي للارشاد إلى جميع المنافع والمصالح ، كما أن التجربيات الحاصلة للبشر في طول التاريخ لا يكون وافية بذلك ، هذا مضافا إلى أن حاجات الإنسان لا تنحصر بالعالم المادي المشهود ، وأن ما وراء العالم المادي لا يكشف عادة بالعقل ، ولا يكون في حيطة الحس والتجربة ، فليس لكل واحد من العقل والحس ، منفردا أو منضما إلى الآخر ، أن يحقق حوله لكشف الروابط بين ذلك العالم وبين أفعالنا وعقائدنا حتى ينتظم البرنامج الصالح لسير الإنسان نحو ما ينفعه من سعادته في الدنيا والآخرة.

٢١٦

لا يقال : إن الوجدان والفطرة يكفي لذلك ، لأنا نقول : إن الادراك الفطري إجمالي يحتاج إلى التفصيل ، بل مستور في صميم ذات الإنسان ، بحيث يحتاج إلى الكشف والإثارة والتنبيه بوساطة الأنبياء والرسل ، ولو لا ذلك لما نال إلى كثير مما يحتاج إليه كما قال تبارك وتعالى : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (١).

فلو أهمل الإنسان مع ماله من العقل والوجدان والتجربة ، ولم يرسل الأنبياء لهم لكان لهم العذر والحجة على الله ، لعدم تمكنهم من النيل إلى السعادة بدون وساطة الأنبياء ، ولكن ارسال الرسل يقطع عذرهم ويكون الحجة لله عليهم ، وإليه يشير قوله عزوجل : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (٢).

فالغاية من بعثهم وإرسالهم هو إرشاد الناس نحو مصالحهم ومفاسدهم ، ليتمكنوا من اتخاذ السعادة التي خلقوا لأجلها ، ولئلا يكون للعصاة والكفار حجة على الله ، وغاية إرشاد الناس إلى مصالحهم ومفاسدهم ملازمة مع غاية اتمام الحجة ، ولا تنفك عنها ، ولعله لذا اكتفى المصنف بذكر الملزوم ولم يشر إلى اللازم ، كما أن بعض المحققين ، اكتفى بذكر اللازم ولم يذكر الملزوم ، وكيف كان فكلاهما من الغايات كما لا يخفى.

ومنها : التنزيه والتزكية ، ومن المعلوم أن الغرض من إرسال الرسل ليس منحصرا في مجرد التعليم ، بل التزكية من الأغراض ، ولإنجاز ذلك اختار الله تعالى للنبوة والرسالة من بين الناس عباده الصالحين وأولياءه الكاملين ، بحيث يكونون اسوة كاملة بين أبناء البشر ، ويسوقون الناس نحو السعادة والكمال

__________________

(١) البقرة : ١٥١.

(٢) النساء : ١٧.

٢١٧

بأعمالهم ، وغير خفي أن هذا الغرض لا يحصل بمجرد نزول ما يحتاج إليه من السماء بصورة كتاب سماوي فقط ، أو بنزول ذلك على عباده المتوسطين ، أو بنزول ذلك على غير جنسهم كالملائكة ؛ لأن الناس في هذه الصورة إما أن لا يجدوا الاسوة ، وإما أن يزعموا أن الطهارة والتزكية من خصائص الجنس الآخر ولا يمكن للإنسان أن ينال إلى ذلك.

ولمثل هذا جعل المرسلون من جنس الإنسان ، كما قال عزوجل : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١) وجعلهم مصطفين من الأخيار كما نص عليه في الكتاب العزيز : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ* إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ* وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ* وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) (٢).

ومنها : تعليم الحكمة والمعرفة ، ولا يذهب عليك أن ظاهر المصنف أن تعليم الحكمة غير الإرشاد إلى ما فيه منافعهم ومصالحهم ، كما أن ظاهر قوله تعالى : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) هو المغايرة بين تعليم الكتاب وتعليم الحكمة ، فلعل مراد المصنف من الإرشاد إلى ما فيه منافعهم ومصالحهم ، هو بيان الأحكام والمقررات والتعبديات والتشريعيات المتعلقة بالأعمال والمعاملات ، والمراد من الحكمة المعارف الحقة المطابقة للواقع ، التي توجب بصيرة في الامور والدين وازديادا في معرفة الله تعالى وما يؤدي إليها كمعرفة الإمام ، كما هو المستفاد من الآيات والأخبار كقوله عزوجل : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (٣).

__________________

(١) آل عمران : ١٦٤.

(٢) ص : ٤٥ ـ ٤٨.

(٣) لقمان : ١٢.

٢١٨

وقوله تبارك وتعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (١).

وكما روي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «الحكمة ضياء المعرفة ، وميزان التقوى وثمرة الصدق» (٢) وعنه ـ عليه‌السلام ـ : «الحكمة المعرفة والتفقه في الدين» (٣) وعن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «رأس الحكمة مخافة الله» (٤) وعن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «طاعة الله ومعرفة الإمام» (٥) فالحكمة هي المعارف الإلهية التي تشتمل العقائد الحقّة والاخلاق الكاملة والمعارف الحقيقية ويمكن أن يشير إليه ما ذكره العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ بقوله : «الحكمة هي القضايا الحقة المطابقة للواقع ، من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الإنسان ، كالمعارف الحقّة الإلهية في المبدأ والمعاد ، والمعارف التي تشرح حقايق العالم الطبيعي من جهة مساسها بسعادة الإنسان ، كالحقائق الفطرية التي هي أساس التشريعيات الدينية» (٦) وما ذكره السيد عبد الله شبّر ـ قدس‌سره ـ حيث قال : «الحكمة العلم النافع ، أو تحقيق العلم واتقان العمل» انتهى. وكيف كان فهي أمر وراء ظواهر الأحكام والمقررات الشرعية ، كما لا يخفى ، كما أن النسبة بين الحكمة والكتاب عموم من وجه ، لإمكان أن يكون حكمة غير مذكورة في الكتاب ، كبعض تفاصيل المعارف الحقة ، كما يجوز أن يكون شيء مذكورا في الكتاب وليس مصداقا للحكمة كالاجتناب عن النساء في المحيض ونحوه ، كما يمكن أن يكون في الكتاب امور كانت من مصاديق الحكمة. وأما استعمال الحكمة في الفلسفة فهو اصطلاح خاص حادث ، فلا يحمل عليه

__________________

(١) البقرة : ٢٦٩.

(٢) تفسير آلاء الرحمن : ص ٢٣٧.

(٣) تفسير نور الثقلين : ج ١ ص ٢٨٧.

(٤) تفسير نور الثقلين : ج ١ ص ٢٨٧.

(٥) تفسير نور الثقلين : ج ١ ص ٢٨٧.

(٦) تفسير الميزان : ج ٢ ص ٤١٨.

٢١٩

الاستعمالات القرآنية ، وعلى كل تقدير فهذه المعارف الحقة الأصيلة الإلهية مما لا يمكن النيل إليها بدون إرسال الرسل وبعث الأنبياء ، كما هو واضح لمن عرفها وقاسها مع المعارف البشرية.

ومنها : أداء الرسالة الاصلاحية ، وأنت خبير بأن المفاسد الاجتماعية من الظلم والفحشاء والمنكرات ونحوها ، ربما تكون بحيث يحتاج ازالتها والمقابلة معها إلى رسول إلهي ، حتى يدعو الناس نحو الاصلاح وإقامة العدل ، ويدافع عن المظلومين والمحرومين ؛ لأن مجرد نزول الكتاب وتعليم الأحكام والتربية والتزكية بدون المجاهدة والقيام في مقابل المفاسد الاجتماعية ، غير كاف لدفعها ورفعها ، إذ بعض النفوس الشريرة كالمترفين والمفسدين لن يتوجهوا إلى ذلك كله ، ويظلمون ويصدون عن سبيل الله ويفسدون النسل والحرث ، كما نشاهد ذلك في يومنا هذا في الممالك الغربية والشرقية ، التي نبذ فيها الكتب السماوية ، فاللازم في أمثال ذلك هو إرسال الرسل أو الرجال الإلهية للقيام للاصلاح ، وهذه الغاية من مهمات الغايات.

قال الفاضل الشعراني ـ قدس‌سره ـ : «ليس في طبيعة الانسان شيء أعظم قيمة وقدرا من الاستقلال والحرية واقامة العدل وحفظ الحقوق ودفع الظلم والتجاوز ، ولذا لم ينس الناس حق الرسل الإلهية في اقامة العدل والاستقلال والحرية وان نسوا كل شيء من الخدمات المدنية والمادية عن الآخرين» (١).

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٢).

كما يظهر من بعض الآيات أن كل امة من الامم الماضية ، لم تخل عن

__________________

(١) راجع كتاب «راه سعادت» : ص ٦١.

(٢) الحديد : ٢٥.

٢٢٠