بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد رضا المظفّر

بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN: 964-470-180-1
ISBN الدورة:
964-470-180-1

الصفحات: ٣٢٠
الجزء ١ الجزء ٢

قولا أو فعلا وهو يحصل بالاتمام والانجاز كما يشهد له قوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (١).

والقدر بمعنى التقدير وهو تقدير الأشياء بحسب الزمان والمقدار والكيفيات والأسباب والشرائط ونحوها.

وقال الراغب في المفردات : «القضاء هو فصل الأمر ، قولا كان ذلك أو فعلا. ثم جعل جميع موارد استعمال القضاء من هذا الباب ـ إلى أن قال ـ : والقضاء من الله تعالى أخص من القدر ؛ لأنه الفصل بين التقدير. فالقدر هو التقدير والقضاء هو الفصل والقطع ، انتهى» ويظهر من المسالك اختيار المعنى المذكور للقضاء حيث قال : «سمّي القضاء الفقهي قضاء ، لأن القاضي يتم الأمر بالفصل ويمضيه ويفرغ عنه» (٢).

ثم لا يخفى عليك أن القضاء بالمعنى المذكور ليس إلّا واحدا ؛ لأن الانجاز والاتمام لا يتعدد ، فالقضاء واحد وهو حتم. هذا بخلاف التقدير ، فإنه يختلف بحسب المقادير والأزمنة والكيفيات ونحوها ، فالعمر مثلا يمكن أن يقدر لزيد ستين سنة إن لم يصل رحمه ، وتسعين سنة إن وصلهم وهكذا. نعم اختص الاستاذ الشهيد المطهري ـ قدس‌سره ـ التقديرات المتغيرة بالماديات ، معللا بأن المجردات لا تقع تحت تأثير العوامل المختلفة (٣) فافهم ، وكيف كان فالقضاء حتم والتقدير حتم وغير حتم.

ومما ذكر يظهر أن القضاء متأخر عن القدر ، فإن انجاز جميع التقديرات المختلفة لا يمكن بعد تنافيها ، فالواقع منها ليس إلّا واحدا بحسب تعينه وفقا للشرائط والأسباب ، وهو القضاء ، فمرتبة القضاء بعد مرتبة التقدير ومسبوق به.

__________________

(١) البقرة : ص ٢٠٠.

(٢) مسالك الافهام : ج ٢ كتاب القضاء.

(٣) انسان وسرنوشت : ص ٥٢.

١٨١

هذا كله بالنسبة إلى المعنى الحقيقي فيهما ، ولكن قد يطلق القضاء بمعنى القدر ، والقدر بمعنى القضاء أو كليهما ، وبهذا المعنى لا مانع من تقسيم القضاء إلى الحتم وغير الحتم ، ولعله من هذا الباب ما روي عن ابن نباتة قال : «إن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر ، فقيل له : يا أمير المؤمنين : تفر من قضاء الله؟ قال : أفر من قضاء الله إلى قدر الله عزوجل» (١).

الثاني : في أنواع القضاء والقدر. فاعلم أنهما يستعملان تارة ويراد منهما القضاء والقدر العلميان ، بمعنى أنه تعالى قدر الأشياء

قبل خلقتها ، وأنجز أمرها وقضاها ، والقضاء والقدر بهذا المعنى هو مساوق لعلمه الذاتي ، ومن المعلوم أن القضاء والقدر بالمعنى المذكور من صفاته الذاتية ، فضرورة الوجود لكل موجود وتقديره ، ينتهي إلى علمه الذاتي ، ولعل إليه يؤول ما روي عن علي ـ عليه‌السلام ـ في القدر حيث قال : «سابق في علم الله» (٢).

واخرى يستعملان ويراد منهما العلمي في مرحلة الفعل ، لا في مرحلة الذات ، بأن يطلق التقدير ويراد منه لوح المحو والاثبات ، ويطلق القضاء ويراد منه اللوح المحفوظ ، ومن المعلوم أنهما بأي معنى كانا ، فعلان من أفعاله تعالى.

واخرى يستعملان ويراد منهما القضاء والقدر الفعليان ، ومن المعلوم أنهما بهذا المعنى والمعنى السابق من صفاته الفعلية ؛ لأنهما منتزعان عن مقام الفعل ؛ لأن كل فعل مقدر بالمقادير ، ومستند إلى علته التامة الموجبة له ، ولعل قوله تعالى : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣) يشير إلى الأخير.

قال العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ : «لا ريب أن قانون العلية والمعلولية ثابت ، وأن الموجود الممكن معلول له سبحانه ، إما بلا واسطة أو معها ، وأن المعلول إذا نسب إلى علته التامة كان له منها الضرورة والوجوب ، إذ ما لم يجب

__________________

(١) تفسير الميزان : ج ١٣ ص ٧٨.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٩٧.

(٣) آل عمران : ٤٧.

١٨٢

لم يوجد ، وإذا لم ينسب إليها كان له الامكان ، سواء اخذ في نفسه ولم ينسب إلى شيء ، كالماهية الممكنة في ذاتها ، أو نسب إلى بعض أجزاء علته التامة ، فإنه لو أوجب ضرورته ووجوبه كان علة له تامة ، والمفروض خلافه.

ولما كانت الضرورة هي تعين أحد الطرفين ، وخروج الشيء عن الابهام ، كانت الضرورة المنبسطة على سلسلة الممكنات ، من حيث انتسابها إلى الواجب تعالى الموجب لكل منها في ظرفه الذي يخصه ، قضاء عاما منه تعالى ، كما أن الضرورة الخاصة بكل واحد منها ، قضاء خاص به منه ، إذ لا نعني بالقضاء إلّا فصل الأمر ، وتعينه عن الابهام والتردد ، ومن هنا يظهر أن القضاء من صفاته الفعلية وهو منتزع من الفعل ، من جهة نسبته إلى علته التامة الموجبة له» (١) فالشيء قبل وقوعه له تقديرات مختلفة ، ثم يتعين منها واحد ووقع عليه وقضى أمره لو لم يمنع عنه مانع ، فكل شيء واقع في الخارج مقدر وقضاء إلهي ، فمثل النطفة تقديرها أن تتكامل إلى الإنسانية أو أن تتساقط قبل تكاملها إن حدث مانع وعائق ، فكل واحد من التقديرات إذا تعين ، وقع عليه وقضى أمره ، وهكذا.

ثم المستفاد من ذكر القضاء والقدر هنا أنه عند المصنف من الصفات الفعلية ، ومن ذلك ما روي عن جميل عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ أنه قال : «سألته عن القضاء والقدر ، فقال : هما خلقان من خلق الله والله يزيد في الخلق ما يشاء» (٢) ومن المعلوم أن ما يقبل الزيادة هو الفعل لا العلم الذاتي كما لا يخفى.

الثالث : أن القضاء والقدر سواء كان من الصفات الذاتية أو الصفات الفعلية ، يعم أفعال العباد ، كما عرفت في البحث عن الجبر والتفويض ، ولا

__________________

(١) الميزان : ج ١٣ ص ٧٦.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥ ص ١٢٠.

١٨٣

محذور فيه لوساطة القدرة والاختيار ، فيجمع بين القضاء الحتم واختيارية الأفعال ، بكون القضاء الحتم متعلقا بوجود القدرة والاختيار في العباد ، فالعبد المختار مع وجوده وكونه مختارا ، ممكن معلول محتاج إليه تعالى ، ولو كان العبد مضطرا ومجبورا ، تخلف قضاؤه الحتم في وجود العبد المختار كما لا يخفى.

الرابع : في تأكيد الايمان بالقضاء والقدر ، وقد ورد في ذلك روايات :

منها : ما عن الخصال عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ، عاق ومنّان ومكذّب بالقدر ومدمن خمر» (١).

ومنها : ما في البحار عن العالم ـ عليه‌السلام ـ أنه قال : «لا يكون المؤمن مؤمنا حقا حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه» (٢).

ومنها : ما عن تحف العقول عن أبي محمّد الحسن بن علي ـ عليهما‌السلام ـ «أما بعد ، فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره ، أن الله يعلمه فقد كفر ، الحديث» (٣).

ومنها : ما عن الخصال بطرق مختلفة عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من أن المكذب بقدر الله ممن لعنهم الله وكل نبي مجاب (٤).

وبالجملة الإيمان بالقضاء والقدر من مقتضيات الايمان بصفاته الذاتي وتوحيده الأفعالي ، وعليه فلا بد من الايمان به.

ثم إن الايمان بالقضاء والقدر يوجب أن ينظر الإنسان إلى كل ما قدره الله وقضاه ، بنظر الحكمة والمصلحة ، إذ القدر والقضاء من أفعاله ، ولا يصدر منه شيء إلّا بالحكمة والمصلحة ، وإن لم يظهر وجهها لأحد ، فإذا أراد الله الصحة لأحد كانت هي مصلحته ، وإذا أراد لآخر المرض كان هو مصلحته ، وهكذا

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٨٧.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٥٤.

(٣) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٤٠.

(٤) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٨٨.

١٨٤

سائر الامور من الشدة والرخاء ، والفقر والغنى ، وغيرها ، ويستتبع هذا النظر تحمل الشدائد والمصائب ، للعلم بأن وراءها مصلحة وحكمة ، بل ينتهي إلى مقام الرضا بما اختاره الله تعالى في أمره ، وهو مقام عال لا يناله إلّا الأوحدي من الناس ، ومن ناله فلا حرص ولا طمع له بالنسبة إلى الدنيا الدنية ، للعلم بأن ما قدره الله تعالى وقضاه هو خيره ويصل إليه ، ولذا لا يضطرب من رقابة الآخرين أو حسادتهم ، كما أنه لا حسد له بالنسبة إلى ذوي العطايا ، لعلمه بأن المقسم حكيم وعادل ورءوف. فالمؤمن الراضي بالقضاء والقدر لا يزيده قضاؤه وقدره إلّا ايمانا وتصديقا وفضيلة وعلوا ، ولذا سئل هذا المقام في الأدعية والزيارات ومن جملتها ما ورد في زيارة أمين الله حيث قال : «اللهم اجعل نفسي مطمئنة بقدرك ، راضية بقضائك» وما ورد في دعاء ابي حمزة الثمالي من قوله : «اللهم اني أسألك ايمانا تباشر به قلبي ويقينا حتى أعلم انه لن يصيبني الّا ما كتبت لي ورضني من العيش بما قسمت لي يا ارحم الراحمين» (١).

الخامس : فيما ورد من النهي عن الغور في القضاء والقدر ، وقد روي في ذلك روايات :

منها : ما عن عبد الملك بن عنترة الشيباني ، عن أبيه ، عن جده ، قال : جاء رجل إلى أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ فقال : «يا أمير المؤمنين! أخبرني عن القدر ، فقال : بحر عميق فلا تلجه. فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر ، قال : طريق مظلم فلا تسلكه. قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر ، فقال : سر الله فلا تتكلفه ، الحديث» (٢).

ومنها : ما روي عنه ـ عليه‌السلام ـ أنه قال في القدر : «ألا إن القدر سر من سر الله ، وحرز من حرز الله ، مرفوع في حجاب الله ، مطوي عن خلق الله ، مختوم

__________________

(١) مصباح المتهجد : ٥٤٠.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥ ص ١١٠.

١٨٥

بخاتم الله ، سابق في علم الله ، وضع الله عن العباد علمه ، ورفعه فوق شهاداتهم ؛ لأنهم لا ينالونه بحقيقة الربانية ، ولا بقدرة الصمدانية ، ولا بعظمة النورانية ، ولا بعزة الوحدانية ؛ لأنه بحر زاخر مواج ، خالص لله عزوجل ، عمقه ما بين السماء والأرض ، عرضه ما بين المشرق والمغرب ، أسود كالليل الدامس ، كثير الحيّات والحيتان ، تعلو مرّة وتسفل اخرى ، في قعره شمس تضيء ، لا ينبغي أن يطلع عليها إلّا الواحد الفرد ، فمن تطلع (يطّلع) عليها فقد ضاد الله في حكمه ، ونازعه في سلطانه ، وكشف عن سره وستره ، وباء بغضب من الله ، ومأواه جهنم ، وبئس المصير» (١) والمحصل من الخبر ان التقديرات الإلهية ليست واضحة للخلق وان كانت حكمها عن حكمة ومصلحة ولكنه لا يعلمها الّا الله تعالى ولذا نهى عن الغور فيها لعدم تمكّنهم من واقعها.

ومنها : ما رواه السيوطي عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أنه قال : «إذا ذكر القدر فأمسكوا» (٢).

ومنها : ما روي عن علي ـ عليه‌السلام ـ أيضا أنه سئل عن القدر ، فقيل له : «أنبئنا عن القدر ، يا أمير المؤمنين فقال : سر الله فلا تفتشوه ، فقيل له الثاني : أنبئنا عن القدر يا أمير المؤمنين قال : بحر عميق فلا تلحقوه [فلا تلجوه ـ خ ل]» (٣).

ولتلك الأخبار ذهب الصدوق ـ رحمه‌الله ـ في الاعتقادات إلى أن الكلام في القدر منهي عنه.

والجواب عن تلك الأخبار أولا : بضعف السند ، لذلك قال الشيخ المفيد ـ قدس‌سره ـ : «إن الشيخ

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٩٧.

(٢) راجع يازده رساله فارسى ص ٤٤٩ ، نقلا عن الجامع الصغير للسيوطي وعن الطبراني.

(٣) بحار الأنوار : ج ٥ ص ١٢٣.

١٨٦

أبا جعفر عمل في هذا الباب على أحاديث شواذ ، لها وجوه يعرفها العلماء متى صحت وثبتت أسنادها ، ولم يقل فيه قولا محصلا» (١) نعم رواه السيد في نهج البلاغة أيضا أنه قال ـ وقد سئل عن القدر ـ : «طريق مظلم فلا تسلكوه ، وبحر عميق فلا تلجوه ، وسر الله فلا تتكلفوه» (٢) فافهم.

وثانيا : بأن دلالتها على الحرمة التكليفية غير واضحة ؛ لأن لحن جملة منها هو لحن الارشاد كالنهي عن التكلف ، والأخبار بأن القضاء والقدر واد مظلم وبحر عميق. هذا ، مضافا إلى شهادة ذيل الرواية الثانية على أن المنهي عنه هو السعي للاطلاق على كنه المقدرات والاشراف عليها ، ومن المعلوم أنه أمر لا يناله الإنسان نيلا كاملا ، ولا مصلحة فيه ، بل لا يخلو عن المفسدة كما لا يخفى فكما أن التأمل حول كنه ذاته تعالى ممنوع ، كذلك التأمل حول كنه المقدرات ممنوع ؛ لأنه فوق مستوى مقدور البشر ولا يزيده إلّا الحيرة والفساد ، وأما فهم معنى القضاء والقدر فلا يكون موردا للنهي فيها.

وثالثا : بأن الغور في معنى القضاء والقدر لو كان حراما ، لما أجاب الائمة ـ عليهم‌السلام ـ عن السؤال فيه ، مع أنهم أجابوا السائلين وأوضحوا المراد منهما ، بل قد يكون الجواب في ذيل النهي المذكور ، بعد اصرار السائل عن فهم معناه ، كما في الرواية الاولى ، حيث قال السائل في المرتبة الرابعة : «يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر ، قال : فقال أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : أما إذا أبيت فإني سائلك : أخبرني أكانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد أم كانت أعمال العباد قبل رحمة الله؟ قال : فقال له الرجل : بل كانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد» (٣) إلى أخر ما قال ـ عليه‌السلام ـ في توضيح المراد منهما فراجع.

__________________

(١) تصحيح الاعتقاد : ص ١٩.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥ ص ١٢٤.

(٣) بحار الأنوار : ج ٥ ص ١١١.

١٨٧

ويكفي أن يعتقد به الإنسان على الاجمال اتباعا لقول الأئمة الأطهار ـ عليهم‌السلام ـ من أنه أمر بين الأمرين ليس فيه جبر ولا تفويض.

وليس هو من الاصول الاعتقادية حتى يجب تحصيل الاعتقاد به على كل حال على نحو التفصيل والتدقيق (٧).

______________________________________________________

ويؤيد عدم الحرمة ما ورد من التأكيدات على الإيمان بالقضاء والقدر ، إذ الايمان بهما لا يمكن بدون توضيح المراد منهما والمعرفة بهما.

ورابعا : بما ذكره الشيخ المفيد ـ قدس‌سره ـ من أن النهي في الأخبار خاص بقوم كان كلامهم في ذلك يفسدهم ، ويضلهم عن الدين ، ولا يصلحهم في عبادتهم إلّا الامساك عنه ، وترك الخوض فيه ، ولم يكن النهي عنه عاما لكافة المكلفين ، وقد يصلح بعض الناس بشيء يفسد به آخرون ، ويفسد بعضهم بشيء يصلح به آخرون ، فدبر الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ أشياعهم في الدين بحسب ما علموه من مصالحهم فيه (١) ، وعليه فلو سلم كون النهي نهيا تكليفيا ، اختص بمن لا يتمكن ، وأما من تمكن من فهمهما ودركهما ، كالعلماء والفضلاء والحوزات العلمية ومن أشبههم ، فلا نهي بالنسبة إليهم ولذلك حمل المصنف ، النهي الوارد ، على من لا يتمكن من أن يفهمهما على الوجه اللائق بهما.

(٧) ظاهره أن الاعتقاد التفصيلي بهما غير واجب وأما الاعتقاد الاجمالي فهو واجب ويكفيه الاتباع عن الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ وعلل ذلك بوجهين : أحدهما عدم التمكن ؛ لكون الاعتقاد التفصيلي فوق مستوى مقدور الرجل العادي ، وثانيهما بأنه ليس من اصول الاعتقادات.

وفيه أن عدم التمكن لبعض لا يرفع التكليف عمن تمكن منه. هذا مضافا

__________________

(١) تصحيح الاعتقاد : ص ٢٠ ـ ٢١.

١٨٨

إلى أن مقتضى التعليل الثاني هو عدم وجوب الاعتقاد بذلك مطلقا لا تفصيلا ولا اجمالا ، فالتفصيل بين الاعتقاد الاجمالي والاعتقاد التفصيلي لا وجه له.

والتحقيق أن القضاء والقدر بالمعنى الاول من تفصيلات العلم وصفة ذاته تعالى ، وبالمعنى الأخير من تفصيلات التوحيد الأفعالي وتفصيلات الاعتقادات ليست بواجبة كما لا يخفى.

١٨٩

٧ ـ عقيدتنا في البداء

البداء في الإنسان أن يبدو له رأي في الشيء لم يكن له ذلك الرأي سابقا ، بأن يتبدل عزمه في العمل الذي كان يريد أن يصنعه ، إذ يحدث عنده ما يغير رأيه وعلمه به ، فيبدو له تركه بعد أن كان يريد فعله ، وذلك عن جهل بالمصالح وندامة على ما سبق منه (١).

______________________________________________________

(١) البداء : على زنة السلام بمعنى الظهور. قال في المصباح المنير : «بدا يبدو بدوا : ظهر ، فهو باد ، ويتعدى بالهمزة ، فيقال : أبديته ـ إلى أن قال : ـ وبدا له في الأمر : ظهر له ما لم يظهر أولا ، والاسم : البداء مثل السلام».

وقال في المفردات : «بدا الشيء بدوا وبداء أي ظهر ظهورا بينا. قال الله تعالى : «وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون» (١).

وحكي عن الشيخ الطوسي ـ قدس‌سره ـ أنه قال في العدة : «البداء حقيقة في اللغة هو الظهور ، ولذلك يقال : بدا لنا سور المدينة وبدا لنا وجه الرأي» وحكي عن الشيخ المفيد ـ قدس‌سره ـ أنه قال في تصحيح الاعتقاد : «والأصل في البداء هو الظهور ـ إلى أن قال : ـ ومعنى قول الإمامية بدا له في كذا ، أي ظهر

__________________

(١) الزمر : ٤٧.

١٩٠

له فيه ، ومعنى ظهر فيه أي ظهر منه» (١).

وعليه فظهور الرأي بالخصوص على خلاف الرأي السابق وتبدله ، ليس داخلا في حاق لفظ البداء ؛ لإمكان أن يتصور البداء لنفس الشيء ، بأن يظهر نفسه بعد خفائه ، كما أن المراد من الآية التي استدل بها في المفردات هو كذلك ، فإن ما بدا لهم هو نفس ما لم يكونوا يحتسبون ، كما يمكن أن يتصور البداء بظهور الشيء بعد عدمه ، كظهور الموت بعد الحياة وبالعكس ، ومرجع الظهور في الفرضين إلى الظهور منه تعالى للناس مطلقا سواء كان موتا أو حياة أو أجرا أو غير ذلك. فالبداء لا يختص بتبدل الرأي وظهوره على خلاف الرأي السابق مع اقترانه بالندامة كما هو المصطلح عند العامة ، بل هو مصداق من مصاديق الظهور فالبداء اعم من تبدل الرأي ، لما عرفت من أنه هو الظهور كما اختاره الشيخان ـ قدس‌سرهما ـ وصرح به المصباح المنير والمفردات ، ومما ذكر يظهر ما في البحار حيث قال : «اعلم أنه لما كان البداء ـ ممدودا ـ في اللغة بمعنى ظهور رأي لم يكن ، يقال : بدا الامر بدوا : ظهر ، وبدا له في هذا الأمر بداء ، أي نشأ له فيه رأي ، كما ذكره الجوهري ، فلذلك يشكل القول بذلك في جناب الحق تعالى. انتهى موضع الحاجة منه».

لما عرفت من أن البداء في اللغة لا يختص بتلك الصورة ، وقول الجوهري لا ينافي سائر أقوال اللغويين ؛ لأنه فسره بأحد مصاديقه ، مع أن الآخرين صرحوا بأعمية البداء من ذلك ، ولم يشترطوا فيه تبدل الرأي والندامة ، هذا مضافا إلى أن كلا المعنيين مذكوران في عبارته كما لا يخفى ، وعلى ما ذكر فإن أراد المصنف بقوله : «البداء في الانسان ـ الخ» تفسير البداء بذلك واختصاصه به ، ففيه ما عرفت من عدم اختصاصه به ، وإن أراد بذلك ذكر مصداق من مصاديقه

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ٤ ص ١٢٥ ـ ١٢٦ ذيل الصفحات.

١٩١

والبداء بهذا المعنى يستحيل على الله تعالى ؛ لأنه من الجهل والنقص ، وذلك محال عليه تعالى ، ولا تقول به الإمامية. قال الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «من زعم أن الله تعالى بدا له في شيء بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم» وقال أيضا : «من زعم أن الله بدا له في شيء ولم يعلمه أمس فأبرأ منه» (٢).

______________________________________________________

وإمكانه في حق الإنسان واستحالته في حقه تعالى فلا ايراد عليه.

وكيف كان ، فلا وجه بعد ما عرفت من أعمية البداء في اللغة ، لحمل أخبار الشيعة التي تدل على مطلوبية البداء ، على البداء المحال كما سيأتي إن شاء الله توضيحه.

(٢) هذه الأخبار ونظائرها تدل على استحالة البداء بالمعنى الاصطلاحي عند الشيعة أيضا وذلك لأن التغير والتبدل في الرأي والندامة ، حاك عن الجهل وهو نقص لا سبيل له إليه تعالى ، لانه تعالى عين الكمال وعين الفعلية ، ولم يقل أحد من الشيعة بالبداء بالمعنى المذكور المحال.

بل صرح في الأخبار باستحالته ، ومن جملتها أن اليهود سألوا عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ «يا محمّد أفبدا لربك فيما كان أمرك به بزعمك من الصلاة إلى بيت المقدس حتى نقلك إلى الكعبة؟ فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : ما بدا له عن ذلك ، فإنه العالم بالعواقب ، والقادر على المصالح ، لا يستدرك على نفسه غلطا ، ولا يستحدث رأيا يخالف المتقدم. جل عن ذلك ، ولا يقع عليه أيضا مانع يمنعه من مراده ، وليس يبدو ، وإلّا لما كان هذا وصفه ، وهو عزوجل متعالى عن هذه الصفات علوا كبيرا. ثم قال لهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : أيها اليهود : أخبروني عن الله أليس يمرض ، ثم يصح ، ويصح ثم

١٩٢

يمرض ، أبدا له في ذلك؟ أليس يحيي ويميت ، أبدا له في كل واحد من ذلك؟ فقالوا : لا ، قال : فكذلك الله تعبّد نبيه محمدا بالصلاة إلى الكعبة ، بعد أن تعبّده بالصلاة إلى بيت المقدس ، وما بدا له في الأول ـ الحديث الشريف» (١).

وحاصله أن البداء التشريعي كالبداء التكويني ، فكما أن في البداء التكويني ما بدا شيء له تعالى ؛ لأنه العالم بالعواقب ، بل بدا منه لغيره ، كذلك في البداء التشريعي.

وأما البداء بمعناه الآخر من ظهور الشيء منه تعالى للغير ، على خلاف ما تقتضيه المقتضيات الغير التامة والمعدات ، فلا استحالة فيه ؛ لأنه لا ينافي علمه به وإرادته به من الأزل ، وهو أمر واقع في النظام العالمي المادي الذي لا يخلو عن التزاحم بين المقتضيات ، ومن المعلوم أن الواقع لا يقع إلّا لكونه ممكنا ، فلا مجال لدعوى استحالته بعد الوقوع.

قال العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ في ذيل قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) ما حاصله : «إنما البداء هو ظهور أمر منه تعالى ثانيا ، بعد ما كان الظاهر منه خلافه أولا ، فهو محو الأول وإثبات الثاني ، والله سبحانه عالم بهما جميعا ، وهذا مما لا يسع لذي لب إنكاره ، فإن للامور والحوادث وجودا بحسب ما تقتضيه أسبابها الناقصة ، من علة أو شرط أو مانع ربما تخلف عنه ، ووجودا بحسب ما تقتضيه ، أسبابها وعللها التامة ، وهو ثابت غير موقوف ولا متخلف ـ إلى أن قال : ـ وعلى أي حال ظهور أمر أو إرادة منه تعالى ، بعد ما كان الظاهر خلافه واضح لا ينبغي الشك فيه ، والذي أحسب أن النزاع في ثبوت البداء ، كما يظهر من أحاديث أئمة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ ونفيه كما يظهر من غيرهم ، نزاع لفظي ، ولهذا لم نعقد لهذا البحث فصلا مستقلا على ما

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤ ص ١٠٦.

١٩٣

غير أنه وردت عن أئمتنا الأطهار ـ عليهم‌السلام ـ روايات توهم القول بصحة البداء بالمعنى المتقدم ، كما ورد عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ «ما بدا لله في شيء كما بدا له في اسماعيل ابني» ولذلك نسب بعض المؤلفين في الفرق الإسلامية ، إلى الطائفة الإمامية ، القول بالبداء ، طعنا في المذهب وطريق آل البيت ، وجعلوا ذلك من جملة التشنيعات على الشيعة.

______________________________________________________

هو دأب الكتاب ، ومن الدليل على كون النزاع لفظيا ، استدلالهم على نفي البداء عنه تعالى بأنه يستلزم التغير في علمه ، مع أنه لازم البداء بالمعنى الذي يفسر به البداء فينا ، لا البداء بالمعنى الذي يفسره به الإخبار فيه تعالى» (١).

فالبداء على قسمين : أحدهما محال كما تدل عليه الأدلة العقلية ، وجملة من الروايات الواردة عن طرق أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ وهو الذي مقرون بتبدل الرأي والندامة ، وثانيهما ممكن واقع ، وهو ظهور الأشياء على خلاف المقتضيات والمعدات ، كموت شخص صحيح المزاج الذي لا يتوقع موته ، وشفاء مريض لا يتوقع برؤه ، وهذا الظهور بالنسبة إلينا ، وأما بالنسبة إليه تعالى ، فلا خفاء ، بل علمه من الأزل. وبتعبير آخر فهو ظهور منه خفاء ، لا ظهور له تعالى ، والمحال هو الظهور له ، لا الظهور منه لنا. فالبداء المحال هو التبدل والتغير في ناحية علمه الذاتي ، وهو الذي لا يقول به أحد من الشيعة ، وأما التبدل والتغير في ناحية فعله تعالى ، سواء كان تكوينيا أو تشريعيا ، فلا مانع منه ، بعد كونه معلوما له بأطرافه ، وهو الذي اعتقده الشيعة به ، وورد الروايات المتعددة للترغيب نحو الايمان به ؛ لأنه يوجب أن يرجو أو يخاف تبدل شيء وتغيره ويعمل بمقتضاه على الدوام.

__________________

(١) تفسير الميزان : ج ١١ ص ٤٢٠.

١٩٤

والصحيح في ذلك أن نقول كما قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) ومعنى ذلك أنه تعالى قد يظهر شيئا على لسان نبيه ، أو وليه ، أو في ظاهر الحال لمصلحة تقتضي ذلك الإظهار ، ثم يمحوه فيكون غير ما قد ظهر أولا ، مع سبق علمه تعالى بذلك ، كما في قصة إسماعيل لما رأى أبوه إبراهيم أنه يذبحه.

فيكون معنى قول الإمام ـ عليه‌السلام ـ أنه ما ظهر لله سبحانه أمر في شيء كما ظهر له في اسماعيل ولده ، إذ اخترمه قبله ، ليعلم الناس أنه ليس بإمام وقد كان ظاهر الحال أنه الإمام بعده ؛ لأنه أكبر ولده (٣).

______________________________________________________

(٣) ولا يخفى عليك أن روايات الباب على طوائف : منها تدل على نفي البداء بالمعنى المصطلح عند العامة ، كما أشار المصنف إلى جملة منها ، وأشرنا أيضا إلى بعضها. ومنها تدل على اثبات البداء كما روي بسند صحيح في الكافي عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ أنه قال : «ما بعث الله نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال : الإقرار له بالعبودية ، وخلع الأنداد ، وأن الله يقدم من (ما ـ خ ل) يشاء ويؤخر من (ما ـ خ ل) يشاء» (١) ، وما روي فيه أيضا عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ أنه قال : «ما تنبأ نبي قط ، حتى يقر لله بخمس خصال ، بالبداء والمشيئة والسجود والعبودية والطاعة» (٢) وما روي فيه أيضا عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ أنه قال : «ما بعث الله نبيا قط إلّا بتحريم الخمر وأن يقر لله بالبداء» (٣).

وهذه الروايات ونظائرها تنافي ما تنفي البداء في بادئ النظر ، ولكن مقتضى التأمل فيها أن الثابت بتلك الأخبار ليس ما ينفيه الأخبار الاخر ، بل

__________________

(١) الاصول من الكافي : ج ١ ص ١٤٧.

(٢) الاصول من الكافي : ج ١ ص ١٤٨.

(٣) الاصول من الكافي : ج ١ ص ١٤٨.

١٩٥

المقصود منها أن الأمر بيده تعالى ، فيمكن أن يقدم وأن يؤخر رغما لأنف اليهود الذين قالوا يد الله مغلولة كما اشير إليه في الرواية الاولى ، فالثابت هو البداء في مقام الفعل لا في مقام الذات ، والمنفي هو البداء في مقام الذات كما صرح به في بعض الأخبار السابقة. هذا مضافا إلى تصريح بعض الأخبار بأن البداء عند الإمامية ليس مقرونا بالجهل كما رواه في الكافي بسند صحيح عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ أنه قال : «ما بدا الله في شيء إلّا كان في علمه قبل أن يبدو له» (١) ومن المعلوم أن البداء الذي لا يستلزم الجهل في مرتبة الذات ، لا تشمله الأدلة النافية ولا تنافيه الأدلة العقلية ؛ لأنه ليس إلّا كمال القدرة في مقام الفعل ، فإن تبديل ما تقتضيه المقتضيات العادية والمعدات ، يحكي عن تمامية قدرة الرب المتعال ، واستقلاله في الفاعلية ، حيث يمكن له التغيير والتبديل في الامور ، إذا أراد وشاء ، فهو تعالى في كل آن في شأن ، ومن المعلوم أن هذا الاعتقاد يوجب التوكل التام عليه في الامور ، والرجاء به ؛ لأن الأمر بيده ، ولم يتم الأمر ولم يفرغ عن الأمر قبل وقوعه ، فكل شيء ما دام لم يقع فله مجال التغيير والتبديل ، وهذا الفكر يؤدي إلى سعة المجال أمام الإنسان للسعي والاستكمال ، بحيث لا يتوقف ولا ييأس من النيل إلى الكمال في أي حال يكون ، كما أن هذا الاعتقاد يمنع الانسان من أن يغتر بوضعه الموجود ، المقتضي للسعادة ، فإن التغيير والتبديل ، بسبب الذنب أو الغفلة أمر ممكن ، فليخفف وليحذر عن الذنوب والغفلات لئلا يسقط ويهلك.

وكيف كان ، فهذا البداء من كمال الايمان ولذلك أخذ الله الاقرار به عن الأنبياء كما عرفت ، بل أوصى الايمان به لغيرهم ، كقول الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «ما عظم الله عزوجل بمثل البداء» (٢) وقوله الآخر أيضا : «لو

__________________

(١) الاصول من الكافي : ج ١ ص ١٤٨.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤ ص ١٠٧.

١٩٦

علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه» (١).

نعم أشار المصنف إلى ورود روايات توهم المنافاة لنفي البداء المستحيل ، ولم أجد منها إلّا ما رواه في البحار عن كتاب زيد النرسي عن عبيد بن زرارة ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «ما بدا لله بداء أعظم من بداء بدا له في إسماعيل ابني» (٢).

وهذا خبر واحد ولا يصلح للمعارضة مع الأخبار الكثيرة السابقة ، ولا يفيد العلم ، مع أن اللازم في الاعتقادات هو العلم. هذا مضافا إلى نقله عن كتاب مختلف فيه ، ولم يثبت اعتباره ، بل فيه امور تنكره الإمامية كنزوله تعالى إلى السماء الدنيا وغير ذلك (٣).

على أن قوله ـ عليه‌السلام ـ في الصحيحة المتقدمة : «ما بدا لله في شيء إلّا كان في علمه قبل أن يبدو له» حاكم على مثله ، فليحمل على المعنى الذي لا ينافي تلك الأخبار ، إما بحمله على ما في المتن أو على ما حكي عن الشيخ المفيد من أن المراد منه ما ظهر منه تعالى من دفاع القتل عنه وقد كان مخوفا عليه من ذلك ، مظنونا به وقد دفع الله عنه كما روي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنه قال : «إن القتل قد كتب على إسماعيل مرتين فسألت الله في دفعه عنه فدفعه» (٤) أو على ما أشار إليه المحقق الاصفهاني من أن المراد من الظهور هو الظهور في علمه الفعلي بعد ما كان المقتضي على خلافه لا في علمه الذاتي (٥) ولكنه لا يخلو عن تكلف. ولعل مقصود المصنف من الروايات ، هو الاشارة إلى

__________________

(١) الاصول من الكافي : ج ١ ص ١٤٨.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤ ص ١٢٢.

(٣) راجع قاموس الرجال : ج ٤ ص ٢٤٨.

(٤) بحار الأنوار : ج ٤ ص ١٢٧ ذيل الصفحة.

(٥) راجع نهاية الدراية في شرح الكفاية : ج ٢ ص ٢١٢.

١٩٧

ما نسب إلى بعض الأنبياء والأولياء من أنهم ربما أخبروا بوقوع شيء ثم انكشف الخلاف ، ولكن هذه الأخبار معارضة مع قاعدة اللطف ، فإن الإخبار الجزمي مع انكشاف الخلاف ، يوجب سلب الاعتماد ، هذا مضافا إلى معارضتها مع الأخبار الاخر أيضا ، كما روي عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ يقول : «العلم علمان : علم عند الله مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه ، وعلم علمه ملائكته ورسله ، فأما ما علم ملائكته ورسله ، فإنه سيكون ، لا يكذب نفسه ، ولا ملائكته ولا رسله ، وعلم عنده مخزون يقدم فيه ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويثبت ما يشاء» (١).

وما روي عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ لله علمين : علم مكنون مخزون ، لا يعلمه إلّا هو ، من ذلك يكون البداء ، وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه» (٢).

فليحمل تلك الاخبار على أن أخبار الأنبياء ليس على الجزم والبت ، كما حكي عن الشيخ الطوسي ، وجعله الفاضل الشعراني حاسما لمادة الاشكال (٣) ، إذ الإخبار اذا لم يكن عن جزم ، بل على ما تقتضيه المقتضيات ، فتخلفه لا يوجب سلب الاعتماد ، خصوصا إذا كان الإخبار وانكشاف الخلاف مقرونا بتبيين وجه أوجب تغيير المقتضيات ، وأما التفصيل بين الوحي والالهام بوقوع البداء في الثاني دون الأول ، كما في البحار ، أو القول بوقوع البداء في كلام الأنبياء نادرا ، كما في البحار أيضا (٤) ففيه أنه ينافي أيضا قاعدة

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤ ص ١١٣.

(٢) الاصول من الكافي : ج ١ ص ١٤٧.

(٣) شرح الاصول من الكافي للمولى صالح المازندراني : ج ٤ ص ٣٣١.

(٤) بحار الأنوار : ج ٤ ص ١٣٣ ، وشرح الاصول من الكافي ج ٤ للمولى صالح المازندراني ذيل الصفحة ٣٣٠ ـ ٣٣١.

١٩٨

اللطف ، ويوجب سلب الاعتماد عنهم ، ولو وقع نادرا ، فإن تطرق احتمال الخطأ إلى الوحي والالهام يرفع الاعتماد عن جميع أقوال الأنبياء ـ عليهم صلوات الله ـ كما لا يخفى.

ومما ذكر يظهر ما في اطلاق عبارة المصنف ، من «أن الوجه الصحيح هو أنه تعالى قد يظهر شيئا على لسان نبيه أو وليه ـ الخ» لما عرفت من أن الإظهار الجزمي لا يوافق العصمة ، ويوجب سلب الاعتماد ، بخلاف ما إذا لم يكن الإظهار والإخبار عن جزم ، بل على ما تقتضيه المقتضيات من دون جزم ، بحيث لو انكشف الخلاف لا يوجب سلب الاعتماد ، وأيضا يظهر مما ذكر ما في قوله : «إن معنى قول الإمام أنه ما ظهر لله سبحانه أمر في شيء كما ظهر له في إسماعيل ولده ـ الخ» لأن المناسب أن يقول : ما ظهر منه تعالى أمر في شيء ، كما ظهر منه في اسماعيل ، كما فسره الشيخ المفيد ـ قدس‌سره ـ لأنه بعد كون البداء بمعناه المصطلح عند العامة محالا ومنفيا في الأخبار الواردة عن الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ فالمراد من الظهور ، هو الظهور منه لا الظهور له.

ثم لا يخفى عليك أن امكان التغيير بإذنه ومشيته في المقدرات ، أمر ثابت لا يمنع عنه إمضاء المقدر وإبرامه في ليالي القدر ؛ لأن الامر بيده ، يفعل ما يشاء ، ولذا ورد في بعض أخبار ليالي القدر بعد تقدير الامور وابرامها وامضائها ، أن لله المشية.

ثم لا يذهب عليك أن مقتضى ما عرفت هو أن البداء في التقديرات لا في القضاء ؛ لأن قضاء الشيء وقوعه ، ومع وقوعه لا ينقلب عما هو عليه ، ولذا حكي عن السيد الداماد ـ قدس‌سره ـ أنه قال : «لا بداء في القضاء ، وإنما البداء في القدر» (١).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤ ص ١٢٦.

١٩٩

وقريب من البداء في هذا المعنى نسخ أحكام الشرائع السابقة ، بشريعة نبينا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بل نسخ بعض الأحكام التي جاء بها نبينا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ (٤).

______________________________________________________

(٤) ولا يخفى عليك أن النسخ حقيقة هو ارتفاع الحكم بانقضاء زمانه وأمده فإن الحكم المجعول في موارد النسخ مقيد في الواقع بزمان خاص معلوم عند الله ومجهول عند الناس ، إذ لا يعلمونه إلّا بعد إعلام ارتفاعه ، وعليه فلا يرد على النسخ ما ربما يقال من أن النسخ يستلزم عدم حكمة الناسخ ، أو جهله بوجه الحكمة ، وكلا هذين اللازمين يستحيل في حقه تعالى ، وذلك لأن تشريع الحكم من الحكيم المطلق لا بد وأن يكون على طبق مصلحة تقتضيه ؛ لأن الحكم الجزافي ينافي حكمة جاعله ، وعلى ذلك فرفع هذا الحكم الثابت لموضوعه ، إما أن يكون مع بقاء الحال على ما هو عليه من وجه المصلحة وعلم ناسخه بها ، وهذا ينافي حكمة الجاعل ، مع أنه حكيم مطلق ، وإما أن يكون من جهة البداء وكشف الخلاف على ما هو الغالب في الأحكام والقوانين العرفية ، وهو يستلزم الجهل منه تعالى ، وعلى ذلك فيكون وقوع النسخ في الشريعة محالا ؛ لأنه يستلزم المحال انتهى.

وذلك لما عرفت من أن الحكم كان في الواقع محدودا ومعلوما لله تعالى ، فإذا تم وقته أخبر عن ارتفاعه ، فلا ينافي الحكمة ، كما لا يستلزم الجهل ، بل ادامته مع خلوه عن المصلحة ، تنافي الحكمة.

ثم إن النسخ يقرب البداء وليس عنه ؛ لأن في البداء مقتضيات الشيء موجودة ، ولكن في النسخ لا مقتضي لوجود الحكم بحسب الواقع ، بعد انقضاء أمد الحكم. نعم يكون المقتضي الاثباتي من اطلاق الأدلة موجودا ، وباعتباره كان النسخ قريبا من البداء بالمعنى الممكن ، وهو ظهور شيء منه ، على خلاف

٢٠٠