بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد رضا المظفّر

بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN: 964-470-180-1
ISBN الدورة:
964-470-180-1

الصفحات: ٣٢٠
الجزء ١ الجزء ٢

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) (١) ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (٢) ، وقوله تعالى : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) (٣) إلى غير ذلك من الآيات.

وفيه أولا : أن لازم ما ذكر أن الانسان لا يحتاج في مقام الفاعلية إليه تعالى ، بل هو مستقل في ذلك ، وهو ينافي التوحيد الأفعالي وانحصار المؤثرية الاستقلالية فيه تعالى.

وثانيا : أن الفعل والفاعل وكل شأن من شئونه من الممكنات ، والممكن ما لم يجب لم يوجد ، فإن استند الفعل إلى الواجب المتعال ولو بوساطة المختارين في الأفعال ، صار واجبا بالغير ووجد ، وإلّا فلا يمكن وجوده وإن استند إلى جميع الممكنات. فكما أن الفاعل يستند إلى مسبب الأسباب بالآخرة كذلك فعله مع الاختيار ، فلا وجه للتفكيك بينهما مع أنهما كليهما من الممكنات.

وثالثا : أن قبح استناد القبائح إليه تعالى ، فيما إذا لم يكن واسطة في البين ، وأما مع وساطة المختارين والقادرين ، فلا مانع منه ولا قبح فيه ؛ لأن معناه حينئذ هو أن الله تعالى خلق العباد قادرين ومختارين لأن يختاروا ما يشاءون ويصلوا إلى الكمال الاختياري ، والخلق المذكور عين لطف وحكمة ؛ لأن التكامل الاختياري الذي هو من أفضل أنواع الكمالات ، لا يحصل بدون اختيار العباد فيما يشاءون. فما هو القبيح من الاستناد بدون وساطة المختارين لا وقوع له ، وما وقع لا قبح فيه ، وعليه يحمل ما ورد عن أبي الحسن الثالث ـ عليه‌السلام ـ من أنه سئل عن أفعال العباد أهي مخلوقة لله تعالى ، فقال : «لو كان خالقا لها ـ أي بدون وساطة المختارين والقادرين ـ لما تبرأ منها ، وقد قال سبحانه : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وإنما

__________________

(١) البقرة : ٧٨.

(٢) الرعد : ١١.

(٣) التوبة : ١٠٥.

١٦١

تبرأ من شركهم وقبائحهم» (١).

ورابعا : أن المدح والذم يصحان فيما إذا كان الفعل صادرا بالقدرة والاختيار ، للتمكن من الخلاف ، ولا يشترط فيهما الاستقلال ، إذ ملاك المدح والذم هو القدرة والاختيار في الفعل والترك ، وهو موجود في أفعالنا ، ولذا يكتفى في المحاكم القضائية عند العقلاء بذلك للمجازاة والمثوبات.

وخامسا : أن التفويض لا تساعده الآيات الدالة على أنه ما من شيء إلّا ويكون بإرادته وإذنه وقدرته ، كقوله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢) ، وقوله عزوجل : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٣) ، وقوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (٤).

وهذه الآيات ونحوها صريحة في أن التفويض لا واقع له ، بل كل الافعال سواء كانت قلبية أو خارجية ، غير خارجة عن دائرة قدرته ومشيئته وارادته وإذنه ، ومقتضى الجمع بين هذه الآيات وما تمسك به المفوضة من الآيات ، هو أن المراد من استناد الأفعال إلى العباد ليس هو التفويض ، بل يكفي في الاستناد كون مباشرة الأفعال باختيارهم وقدرتهم وتمكنهم من الخلاف ، وإن كان قدرتهم تحت قدرته وإذنه ومشيئته تعالى ، فالمباشرة منهم بالاختيار لا يستلزم التفويض فلا تغفل ، هذا.

مضافا إلى نفي التفويض في الأخبار الكثيرة.

منها : ما روي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل زعم أن الله عزوجل أجبر الناس على المعاصي ، فهذا قد ظلم الله عزوجل في حكمه وهو كافر ، ورجل يزعم أن الأمر مفوض إليهم ، فهذا وهن

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٢٠.

(٢) التكوير : ٢٩.

(٣) الصافات : ٩٦.

(٤) يونس : ١٠٠.

١٦٢

الله في سلطانه فهو كافر ، ورجل يقول إن الله عزوجل كلف العباد ما يطيقون ، ولم يكلفهم ما لا يطيقون ، فإذا أحسن حمد الله وإذا أساء استغفر الله فهذا مسلم بالغ» (١).

ومنها : ما روي عن الوشاء عن أبي الحسن الرضا ـ عليه‌السلام ـ قال : «سألته فقلت : الله فوض الأمر إلى العباد؟ قال : الله أعز من ذلك ، قلت : فأجبرهم على المعاصي؟ فقال : الله أعدل وأحكم من ذلك» (٢).

لا يقال : إن القبائح لو كانت مستندة إليه تعالى لما حكم سبحانه بحسن جميع ما خلق ، مع أنه قال عزوجل : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (٣) ، لأنا نقول : نعم ، هذا لو كان الاستناد من دون وساطة الاختيار للعباد وأما مع الوساطة المذكورة فلا قبح فيه ، بل هو حسن ؛ لأن مرجعه إلى خلقة العباد مختارين وقادرين وغير مجبورين في الأفعال ، بحيث يتمكنون من الإطاعة والعصيان ، حتى يمكن لهم أن يصلوا إلى اختيار الكمال مع وجود المزاحمات ، وهو أفضل أنواع الكمالات ، فخلقة الاختيار في الإنسان ـ ولو اختار بعض الناس الكفر والعصيان بسوء اختيارهم ـ خلقة حسنة ، بملاحظة أن الكمال الاختياري ، المتقوم بالمزاحمات الداخلية والخارجية لا يمكن وجوده إلّا بخلقة الاختيار في العباد ، والمفروض أن الكمال المذكور من أحسن الامور في النظام ، فمراعاته حسنة والاخلال به لا يساعده الحكمة واللطف كما لا يخفى.

ثم إن الظاهر من عبارة الشيخ المفيد ـ قدس‌سره ـ أن التفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال ، والإباحة لهم ما شاءوا من الأعمال ونسبه إلى بعض الزنادقة وأصحاب الاباحات (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥ ص ١٠.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥ ص ١٦.

(٣) السجدة : ٧.

(٤) تصحيح الاعتقاد : ص ١٤.

١٦٣

وأنت خبير بأن المعروف من التفويض ، هو ما نسب إلى أكثر المعتزلة ، وهو المبحوث عنه في المقام ؛ لأنه ينافي التوحيد الأفعالي ، وأما ما نسبه إلى بعض الزنادقة ، فهو لا يناسب المقام ، بل ينافي لزوم التكليف وعدم جواز إهمال الناس ، وقد مر في البحث عن التكليف أنا نعتقد أنه تعالى لا بد أن يكلف عباده ويسن لهم الشرائع وما فيه صلاحهم وخيرهم فراجع.

ثم ينقدح مما ذكرنا في نفي الجبر والتفويض ، واستناد الأفعال إليه تعالى بوساطة المباشرين ، ما في عبارة شيخنا الصدوق ـ رحمه‌الله ـ حيث قال على المحكي : «أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين ، ومعنى ذلك أنه لم يزل عالما بمقاديرها. انتهى» (١).

وذلك لأن لازم كلامه أن الأفعال بحسب التكوين مفوضة إلى العباد ، وليس هذا إلّا قول المفوضة. هذا مضافا إلى ما أورد عليه الشيخ المفيد ـ قدس‌سرهما ـ من أنه ليس يعرف في لغة العرب أن العلم بالشيء هو خلق له ، فخلق تقدير لا معنى له (٢).

ثم لا يخفى عليك ما في يتراءى من التجريد وشرحه ، حيث قال في التجريد : «والقضاء والقدر إن اريد بهما خلق الفعل ، لزم المحال» ، وقال العلّامة ـ قدس‌سره ـ في شرحه : «فنقول للأشعري : ما تعني بقولك أنه تعالى قضى أعمال العباد وقدرها؟ إن أردت به الخلق والايجاد فقد بينا بطلانه ، وأن الافعال مستندة إلينا» (٣).

لما عرفت من أن انتهاء خلق الأفعال إليه تعالى بواسطة خلق القدرة واختيار العباد لا مانع منه ، بل هو مقتضى التوحيد الأفعالي ، ويمكن ارادتهما

__________________

(١) تصحيح الاعتقاد : ص ١١.

(٢) تصحيح الاعتقاد : ص ١٢.

(٣) شرح تجريد الاعتقاد : ص ٣١٥ ـ ٣١٦ ، الطبعة الحديثة في قم المشرفة.

١٦٤

واعتقادنا في ذلك تبع لما جاء عن أئمتنا الأطهار ـ عليهم‌السلام ـ من الأمر بين الأمرين والطريق الوسط بين القولين الذي كان يعجز عن فهمه أمثال اولئك المجادلين من أهل الكلام ففرّط منهم قوم وأفرط آخرون ولم يكتشفه العلم والفلسفة إلّا بعد عدة قرون (٣) وليس من الغريب ممن لم يطلع على حكمة الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ وأقوالهم أن يحسب أن هذا القول وهو الأمر بين الأمرين من مكتشفات بعض فلاسفة الغرب المتأخرين ، وقد سبقه إليه أئمتنا قبل عشرة قرون.

______________________________________________________

نفي الخلق بدون وساطة القدرة والاختيار ، كما يقتضيه خطاب الشارح للأشعري ، وبالجملة : إن النظام السببي والمسبي في العالم مستند إليه تعالى ، ومن جملته الأفعال المسببة عن العباد باختيارهم ، فكما لا معنى للتفويض في سائر الأسباب لحاجتها إليه تعالى في الوجود والبقاء والتأثير ، كذلك لا معنى له في سببية الإنسان للأعمال مع كونه ممكنا من الممكنات. هذا تمام الكلام في التفويض.

(٣) قال الاستاذ الشهيد المطهري ـ قدس‌سره ـ ما حاصله : «إن هذا النظر ـ أي الأمر بين الأمرين ـ ابتدأ به من ناحية أئمة الدين ـ عليهم‌السلام ـ ثم بعد مضي مدة من الزمن نظر حوله وتأمل فيه الحكماء الإلهيون حق التأمل ، فرأوه مطابقا للموازين الدقيقة العقلية المنطقية» (١).

وقال في موضع آخر ما حاصله : «إن الذي يوجب كثرة الاعجاب للمحقق العارف بمسائل التوحيد ، هو المنطق الخاص الذي يسلكه القرآن والسنة المروية عن رسول الله والأئمة الأطهار ـ صلوات الله عليهم ـ حول مسائل

__________________

(١) اصول فلسفه : ج ٣ ص ١٦٩.

١٦٥

فقد قال إمامنا الصادق ـ عليه‌السلام ـ لبيان الطريق الوسط كلمته المشهورة : «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين الأمرين» (٤).

______________________________________________________

التوحيد ، إذ هذا المنطق الخاص لم يطابق المنطق الرائج في ذلك العصر ، بل لم يطابق مع منطق القرون والعصور العديدة التي كانت بعد ذلك العصر ، وصار علم الكلام والمنطق والفلسفة رائجا فيها ؛ لأن هذا المنطق الخاص كان فوق مستوى المسائل الكلامية والعقلية الرائجة فيها.

ومن جملة هذه المسائل مسألة القضاء والقدر والجبر والاختيار ، وهذا يدل على أن القرآن الكريم كتاب وحي نزل من الله تعالى على رسوله ، وأن من خوطب به أدرك كمال الادراك ما خوطب به ، وشهده في مستوى آخر ، ويدل عليه أن أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ كانوا يعرفون القرآن بنحو آخر غير ما جرت به العادة ، ولذا بينوا الحقائق بأتقن بيان وأحسن اسلوب وارشدوا الناس إلى الحقائق الإلهية عند تحير الآخرين» (١).

(٤) وسأل الراوي في ذيل الحديث المذكور في المتن بقوله قال : قلت : وما أمر بين أمرين قال : مثل ذلك رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته ففعل تلك المعصية ، فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت الذي أمرته بالمعصية (٢) ـ ولا بأس بذكر بعض الاخبار الواردة تتميما للفائدة.

منها : ما رواه الصدوق ـ عليه الرحمة ـ عن أبي الحسن الرضا ـ عليه‌السلام ـ أنه ذكر عنده الجبر والتفويض ، فقال : «ألا اعطيكم في هذا أصلا لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أحد إلّا كسرتموه؟ قلنا : إن رأيت ذلك ، فقال : إن الله عزوجل لم يطع باكراه ، ولم يعص بغلبة ، ولم يهمل العباد في ملكه. هو

__________________

(١) انسان وسرنوشت : ص ١٠٢.

(٢) الاصول من الكافي : ج ١ ص ١٦٠.

١٦٦

المالك لما ملكهم والقادر على ما أقدرهم عليه ، فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صادا ولا منها مانعا وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه ، ثم قال ـ عليه‌السلام ـ : من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه» (١).

ولا يخفى عليك أن قوله : «هو المالك لما ملكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه» يدل على أن قدرة المخلوقين وتمكنهم من الفعل أو الترك تحت قدرته وملكه تعالى ، وليس ذلك إلّا الملكية الطولية ، إذ مع إسناد الملك والقدرة إليهم أسندهما إلى نفسه أيضا ، كما إن قوله ـ عليه‌السلام ـ في الذيل : «فليس هو الذي أدخلهم فيه» يدل على أن الفعل واقع بمباشرتهم واختيارهم فالمحصل أن الأفعال مع كونها صادرة عن العباد بالاختيار ، تكون تحت قدرة الخالق وملكيته تعالى.

ومنها : ما رواه الطبرسي ـ عليه الرحمة ـ عن أبي حمزة الثمالي ، أنه قال : قال أبو جعفر ـ عليه‌السلام ـ للحسن البصري : «إياك أن تقول بالتفويض ، فإن الله عزوجل لم يفوض الأمر إلى خلقه وهنا منه وضعفا ولا أجبرهم على معاصيه ظلما. الحديث» (٢).

ومنها ما رواه الطبرسي ـ عليه الرحمة ـ أيضا عن هشام بن الحكم ، قال : «سأل الزنديق أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ فقال : أخبرني عن الله عزوجل كيف لم يخلق الخلق كلهم مطيعين موحدين وكان على ذلك قادرا؟

قال ـ عليه‌السلام ـ : لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب ؛ لأن الطاعة إذا ما كانت فعلهم لم تكن جنة ولا نار ، ولكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته واحتج عليهم برسله وقطع عذرهم بكتبه ، ليكونوا هم الذين

__________________

(١) بحار الانوار : ج ٥ ص ١٦ ، نقلا عن التوحيد وعيون الاخبار.

(٢) بحار الانوار : ج ٥ ص ١٧ ، نقلا عن الاحتجاج.

١٦٧

يطيعون ويعصون ويستوجبون بطاعتهم له الثواب وبمعصيتهم ايّاه العقاب ، قال : فالعمل الصالح من العبد هو فعله والعمل الشر من العبد هو فعله؟ قال : العمل الصالح ، العبد يفعله والله به أمره ، والعمل الشر العبد يفعله والله عنه نهاه.

قال : أليس فعله بالآلة التي ركبها فيه؟ قال : نعم ، ولكن بالآلة التي عمل بها الخير قدر بها على الشر الذي نهاه عنه.

قال : فإلى العبد من الأمر شيء؟ قال : ما نهاه الله عن شيء إلّا وقد علم أنه يطيق تركه ، ولا أمره بشيء إلّا وقد علم أنه يستطيع فعله ؛ لأنه ليس من صفته الجور والعبث والظلم وتكليف العباد ما لا يطيقون. الحديث» (١).

ومنها : ما رواه في البحار عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ حين سأله عباية الأسدي عن الاستطاعة أنه قال ـ عليه‌السلام ـ في جوابه : «تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت الأسدي ، فقال له : قل يا عباية ، قال : وما أقول؟ قال : إن قلت تملكها مع الله قتلتك ، وإن قلت تملكها من دون الله قتلتك ، قال : وما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال : تقول : تملكها بالله الذي يملكها من دونك ، فإن ملككها كان ذلك من عطائه ، وإن سلبكها كان ذلك من بلائه ، وهو المالك لما ملكك ، والمالك لما عليه أقدرك ، أما سمعت الناس يسألون الحول والقوة حيث يقولون : لا حول ولا قوة إلّا بالله؟ فقال الرجل : وما تأويلها يا أمير المؤمنين؟ قال : لا حول لنا عن معاصي الله إلّا بعصمة الله ، ولا قوة لنا على طاعة الله إلّا بعون الله ، قال : فوثب الرجل وقبّل يديه ورجليه» (٢).

ومنها : ما رواه في الاحتجاج عن موسى بن جعفر ـ عليهما‌السلام ـ قال : إن الله خلق الخلق فعلم ما هم إليه صائرون ، فأمرهم ونهاهم فما أمرهم به من

__________________

(١) بحار الانوار : ج ٥ ص ١٨ نقلا عن الاحتجاج ولعل كلمة واو سقطت قبل قوله : لم تكن جنة ولا نار.

(٢) بحار الانوار : ج ٥ ص ٢٤.

١٦٨

شيء فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به وما نهاهم عنه من شيء ، فقد جعل لهم السبيل إلى تركه ، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلّا بإذنه ، وما جبر الله أحدا من خلقه على معصيته ، بل اختبرهم بالبلوى ، كما قال تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (١).

ومنها : ما رواه في الخصال وغيره من الحسين بن علي ـ عليهما‌السلام ـ قال : «سمعت أبي علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ يقول : الأعمال على ثلاثة أحوال : فرائض وفضائل ومعاصي ، فأما الفرائض فبأمر الله تعالى وبرضى الله وبقضائه وتقديره ومشيته وعلمه ، وأما الفضائل فليست بأمر الله ـ أي الأمر الوجوبي ـ ولكن برضى الله وبقضاء الله وبقدر الله وبمشية الله وبعلم الله ، وأما المعاصي فليست بأمر الله ولكن بقضاء الله وبقدر الله وبمشية الله وبعلمه ثم يعاقب عليها» (٢) ودلالته على أن كل شيء حتى المعاصي تحت قضائه وقدره ومشيته واضحة.

ومنها : ما رواه في الكافي عن حمزة بن حمران قال : «سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن الاستطاعة ، فلم يجبني ، فدخلت عليه دخلة اخرى فقلت :

أصلحك الله ، إنه قد وقع في قلبي منها شيء لا يخرجه إلّا شيء أسمعه منك ، قال : فإنه لا يضرك ما كان في قلبك ، قلت : أصلحك الله ، إني أقول : إن الله تبارك وتعالى لم يكلف العباد ما لا يستطيعون ولم يكلفهم الّا ما يطيقون ، وانهم لا يصنعون شيئا من ذلك إلّا بإرادة الله ومشيته وقضائه وقدره ، قال : فقال هذا دين الله الذي أنا عليه وآبائي. الحديث» (٣) حمله الصدوق ـ رحمه‌الله ـ على أن

__________________

(١) بحار الانوار : ج ٥ ص ٢٦.

(٢) بحار الانوار : ج ٥ ص ٢٩ ، نقلا عن التوحيد والخصال وعيون الاخبار.

(٣) الأصول من الكافي : ج ١ ص ١٦٢ بحار الانوار : ج ٥ ص ٣٦ مع تفاوت والاصح هو ما رواه في الكافي.

١٦٩

مشية الله وارادته في الطاعات ، الأمر بها ، وفي المعاصي النهي عنها والمنع منها بالزجر والتحذير ، ولكنه بلا موجب فافهم.

ومنها : ما رواه في التوحيد عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ أنه مر بجماعة بالكوفة وهم يختصمون بالقدر ـ في القدر ـ فقال لمتكلمهم : «أبا لله تستطيع ، أم مع الله ، أم من دون الله تستطيع؟ فلم يدر ما يرد عليه ، فقال أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : إن زعمت أنك بالله تستطيع فليس إليك من الأمر شيء ، وإن زعمت أنك مع الله تستطيع ، فقد زعمت أنك شريك معه في ملكه ، وإن زعمت أنك من دون الله تستطيع ، فقد ادعيت الربوبية من دون الله تعالى. فقال : يا أمير المؤمنين ، لا ، بل بالله أستطيع ، فقال : أما انك لو قلت غير هذا لضربت عنقك» (١) ولا يخفى عليك أن قوله : «إن زعمت أنك بالله تستطيع ، الخ» بيان صورة الجبر جمعا بينه وبين قوله في الذيل ، كما يشهد له قوله بعده : «فليس إليك من الأمر شيء» فإنه لا يساعد إلّا مع الجبر.

ومنها : ما رواه في الخصال عن أبي الحسن الاول ـ عليه‌السلام ـ قال : «لا يكون شيء في السماوات والأرض الّا بسبعة بقضاء وقدر وإرادة ومشية وكتاب وأجل واذن ، فمن قال غير هذا فقد كذب على الله أو رد على الله عزوجل» (٢).

ومنها : ما رواه في التوحيد «جاء رجل إلى أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن القدر ، فقال : بحر عميق فلا تلجه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن القدر ، قال : طريق مظلم فلا تسلكه ، قال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن القدر ، قال : سر الله فلا تتكلفه ، قال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن القدر ، قال : فقال أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : أما إذا أبيت فاني

__________________

(١) بحار الانوار : ج ٥ ص ٣٩.

(٢) بحار الانوار : ج ٥ ص ٨٨.

١٧٠

سائلك ، أخبرني أكانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد أم كانت أعمال العباد قبل رحمة الله؟ قال : فقال له الرجل : بل كانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد. فقال أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : قوموا فسلموا على أخيكم ، فقد أسلم وقد كان كافرا. قال : وانطلق الرجل غير بعيد ، ثم انصرف إليه ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، أبا لمشية الاولى نقوم ونقعد ونقبض ونبسط؟ فقال له أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : وإنك لبعيد في المشية ، أما إني سائلك عن ثلاث لا يجعل الله لك في شيء منها مخرجا.

أخبرني أخلق الله العباد كما شاء أو كما شاءوا؟ فقال : كما شاء ، قال : فخلق الله العباد لما شاء أو لما شاءوا؟ فقال : لما شاء ، قال : يأتونه يوم القيامة كما شاء أو كما شاءوا؟ قال : يأتونه كما شاء ، قال : قم فليس إليك من المشية شيء» (١).

قال العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ في ضمن ما قاله في توضيح الرواية : «والأشياء إنما ترتبط به تعالى من جهة صفاته الفعلية التي بها ينعم عليها ويقيم صلبها ويدبر أمرها كالرحمة والرزق والهداية والإحياء والحفظ والخلق وغيرها وما يقابلها ، فلله سبحانه من جهة صفات فعله دخل في كل شيء مخلوق وما يتعلق به من أثر وفعل ، إذ لا معنى لإثبات صفة فيه تعالى متعلقة بالأشياء وهي لا تتعلق بها.

ولذلك فإنه ـ عليه‌السلام ـ سأل الرجل عن تقدم صفة الرحمة على الاعمال ، ولا معنى لتقدمها مع عدم ارتباطها بها وتأثيرها فيها ، فقد نظم الله الوجود بحيث تجري فيه الرحمة والهداية والمثوبة والمغفرة وكذا ما يقابلها ، ولا يوجب ذلك بطلان الاختيار في الأفعال ، فإن تحقق الاختيار نفسه مقدمة من مقدمات

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥ ص ١١١.

١٧١

تحقق الأمر المقدر ، إذ لو لا الاختيار لم يتحقق طاعة ولا معصية ، فلم يتحقق ثواب ولا عقاب ولا أمر ولا نهي ، ولا بعث ولا تبليغ ، ومن هنا يظهر وجه تمسك الإمام ـ عليه‌السلام ـ بسبق صفة الرحمة على العمل ، ثم بيانه ـ عليه‌السلام ـ أن لله مشية في كل شيء وأنها لا تلغو ولا تغلبه مشية العبد ، فالفعل لا يخطئ مشيته تعالى ، ولا يوجب ذلك بطلان تأثير مشية العبد ، فإن مشية العبد إحدى مقدمات تحقق ما تعلقت به مشيته تعالى ، فإن شاء الفعل الذي يوجد بمشية العبد فلا بد لمشية العبد من التحقق والتأثير ، فافهم ذلك.

وهذه الرواية الشريفة على ارتفاع مكانتها ولطف مضمونها يتضح بها جميع ما ورد في الباب من مختلف الروايات وكذا الآيات المختلفة من غير حاجة إلى أخذ بعض وتأويل بعض آخر» (١).

ومنها : ما رواه في المحاسن عن حمران ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : كنت أنا والطيار جالسين فجاء أبو بصير فأفرجنا له ، فجلس بيني وبين الطيار ، فقال : في أي شيء أنتم؟ فقلنا : كنا في الإرادة والمشية والمحبة. فقال أبو بصير : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : شاء لهم الكفر وأراده؟ فقال : نعم ، قلت : فأحب ذلك ورضيه؟ فقال : لا ، قلت : شاء وأراد ما لم يحب ولم يرض؟ قال : هكذا خرج إلينا (اخرج إلينا ، في المصدر) (٢).

وتقريب الرواية بأن يقال : إن ارادته تعالى أصالة تعلقت نحو إمكان التكامل الاختياري للإنسان ، وكل ما يلزم في هذا الطريق أعده تعالى من المعد الخارجي والداخلي ، فلذا أرسل رسله بالهدى لإرشادهم وجهز الناس بالعقل والاختيار ، فالله تعالى خلق الناس على نحو يمكن لهم أن يصلحوا ويتكاملوا ، وأراده ورضي به ، ولكن مقتضى جعل المشية والاختيار في الناس لأن يتمكنوا

__________________

(١) راجع تعليقه ص ١١١ من ج ٥ من بحار الأنوار.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥ ص ١٢١.

١٧٢

من التكامل الاختياري ، هو إمكان جهة المخالف أيضا ، فالتنزل والسقوط والعصيان والكفر ناش من سوء اختيارهم ولازم كونهم مختارين ، وإلّا فلا يحصل التكامل الاختياري ، فالكفر أو العصيان الناشئ من سوء اختيارهم أيضا مراد تبعا لله تعالى ؛ لأنه تعالى جعلهم مختارين ، وإن لم يرض به لهم ، بل المرضي هو أن يستفيدوا من الاختيار ويسلكوا مسلك الكمال والصلاح ، فلا يخرج شيء في التكوين ، عن ارادته ومشيته ، غايته أن بعض الامور مراد أصالة وبعضها مراد تبعا ، وهذا التفصيل المستفاد من الرواية يصلح للجواب عن قبح استناد القبائح كالكفر والعصيان أو الشرور إليه ولو بواسطة الإنسان المختار فافهم واغتنم.

ويقرب منه ما رواه في الكافي عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أن الخير والشر بغير مشيئة الله ، فقد أخرج الله من سلطانه ، ومن زعم أن المعاصي بغير قوة الله ، فقد كذب على الله ، ومن كذب على الله أدخله الله النار» (١).

وبالجملة هذه عمدة الأخبار الواردة في حقيقة الأمر بين الأمرين ، ومعناها بعد حمل بعضها على بعض واضح ، وكلها متفقة على أنه لا جبر بحيث لا يكون للعباد قدرة واختيار وعلى أنه لا تفويض بحيث خرج عمل العاملين عن سلطانه ، بل خلق الناس مع القدرة والاختيار ، فالخلق يستطيعون من الطاعات والمعاصي بالقدرة والاختيار المفاضة من ناحيته تعالى لأن يستفيدوا منها للاستكمال الاختياري ، وهو الذي ذهب إليه المصنف كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى ، فلا يكون شيء في عالم التكوين خارجا عن إرادته تعالى ، وإنما

__________________

(١) الاصول من الكافي : ج ١ ص ١٥٨ ح ٦ وروي نحوه عن العياشي في بحار الأنوار : ج ٥ ص ١٢٧.

١٧٣

ما أجلّ هذا المغزى وما أدق معناه وخلاصته أن أفعالنا من جهة هي أفعالنا حقيقة ، ونحن أسبابها الطبيعية وهي تحت قدرتنا واختيارنا ، ومن جهة اخرى هي مقدورة لله تعالى وداخلة في سلطانه ؛ لأنه هو مفيض الوجود ومعطيه ، فلم يجبرنا على أفعالنا حتى يكون قد ظلمنا في عقابنا على المعاصي ؛ لأن لنا القدرة والاختيار فيما نفعل ، ولم يفوض إلينا خلق أفعالنا حتى يكون قد أخرجها عن سلطانه ، بل له الخلق والحكم والأمر وهو قادر على كل شيء ومحيط بالعباد (٥).

______________________________________________________

الفرق في الإرادة الأصلية والتبعية ، فإن ما يكون في صراط الكمال مراد أصالة ، وما لا يكون كذلك ، ولكن كان من لوازم الاختيار والتكامل الاختياري مراد تبعا ، فالمشية الاستقلالية منحصرة فيه تعالى وجميع الإرادات والمشيات منتهية إلى مشيئته وكانت في طول مشيئته.

ومما ذكر يظهر أنه لا معارضة بين الأخبار ، كما لا معارضة بين الآيات بعد الوقوف على حقيقة المراد كما لا يخفى.

(٥) ولا يخفى عليك أن المحصل من الأدلة النقلية والعقلية هو نفي الجبر ، لوجدان القدرة والاختيار ، والوجدان أدل دليل ؛ لأنه علم حضوري بالشيء ، ولا خطأ في العلم الحضوري.

كما أن المحصل من الأدلة هو نفي التفويض ؛ لأن الممكن كما لا يقتضي الوجود في حدوثه وبقائه ، كذلك لا يقتضي الوجود في فاعليته ، وإلّا لزم الانقلاب في ذات الممكن ، وهو خلف ، فلا يتصور الاستقلال في الممكن ، لا في أصل وجوده ولا في صفاته ولا في بقائه ولا في فاعليته.

فملكيته تعالى لا تقايس بالملكية الاعتبارية حتى يتصور تفويضها إلى الغير ،

١٧٤

بل هي ملكية تكوينية وهي لا تنفك عن مالكها وإلّا فلا وجود لها.

ألا ترى أنك بالنسبة إلى ما تصورت في ذهنك من الصور الذهنية ، مفيض الوجود إليها بالافاضة التكوينية ، وهذه الافاضة لا يمكن تفويضها إلى الصور المذكورة ، بل هي موجودة بتصورك ، فما دام تكون أنت مصورا لها فلها الوجود ، وإذا أعرضت عنها فلا وجود لها ، فلا استقلال لها في الوجود ، فالملكية التكوينية لا تجتمع مع التفويض ، وعليه فلا يكون شيء من الموجودات ، خارجا عن ملكه وسلطانه ، بل كل شيء موجود بوجوده وقدرته وسلطانه.

فالأعمال الاختيارية كسائر الموجودات ، داخلة في قضائه وقدره ، ولا تخرج عنهما ، وإنما الفرق بينهما هو وساطة الاختيار في الأعمال دون غيرها.

فالأعمال ليست مستندة إليه تعالى فقط ، بحيث لا مباشرة للإنسان ولا تأثير له ، كما يقوله الجبري ، كما ليست مستندة إلى الإنسان فقط ، بحيث يخرج عن سلطانه وقدرته ، كما يقوله التفويضي ، بل الأفعال في عين كونها مستندة إلى الإنسان بالحقيقة ، لصدورها عنه بالاختيار ، مستندة إليه تعالى ؛ لأنه معطي الوجود والقدرة ، فالاستناد إليه تعالى طولي وملكيته ملكية طولية ، كما اشير إليه في الروايات من أنه «هو المالك لما ملكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه» (١) وهذا هو معنى الأمر بين الأمرين ، وذهب إليه المحققون من علماء الإمامية على ما نسب إليهم المحقق اللاهيجي ـ قدس‌سره ـ (٢) واختاره المحقق الطوسي في شرح رسالة العلم على المحكي (٣) وقال المحقق الأصفهاني ـ قدس‌سره ـ بعد الرد على الجبرية والمفوضة : «والتنزيه الوجيه ما تضمنته هذه الكلمة الإلهية المأثورة في الأخبار المتكاثرة عن العترة الطاهرة ـ عليهم صلوات الله المتواترة ـ أعني قولهم

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥ ص ١٦ ـ وراجع كتاب انسان وسرنوشت : ص ١٠١.

(٢) گوهر مراد : ص ٢٣٥.

(٣) گوهر مراد : ص ٢٣٥.

١٧٥

عليهم‌السلام : «لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين الأمرين» ثم قال : وتقريب هذا الكلمة المباركة بوجهين :

أحدهما : أن العلة الفاعلية ذات المباشر بإرادته ، وهي العلة القريبة ، ووجوده وقدرته وعلمه وإرادته لها دخل في فاعلية الفاعل ، ومعطي هذه الامور هو الواجب المتعال ، فهو الفاعل البعيد ، فمن قصر النظر على الأول حكم بالتفويض ، ومن قصر النظر على الثاني حكم بالجبر ، والناقد البصير ينبغي أن يكون ذا عينين ، فيرى الأول ـ أي فاعلية ذات المباشر ـ فلا يحكم بالجبر ويرى الثاني ـ أي كون معطي هذه الامور هو الواجب المتعال ـ فلا يحكم بالتفويض ، الخ (١).

وكيف كان ، فقد اعترف العلّامة المجلسي ـ رحمه‌الله ـ بأن المعنى المذكور ، أي الملكية الطولية ، ظاهر بعض الأخبار ، ولكن مع ذلك ذهب إلى أن معنى الأمر بين الأمرين ، هو أن لتوفيقاته وهداياته تعالى مدخلية في أفعال العباد ، ونسبه إلى ظاهر الأخبار ، وأيده بما رواه في الكافي عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ أنه سأله رجل : «أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال : لا ، فقال : ففوض إليهم الأمر؟ قال : لا ، قال فما ذا؟ قال : لطف من ربك بين ذلك» (٢).

وفيه أولا : منع كون ما ذكر ظاهر الأخبار ، فإن الأخبار كما عرفت ظاهرة في أن المراد من الأمر بين الأمرين ، هو عدم استقلال العبد فيما ملكه الله تعالى وأقدره عليه ، كما نص عليه الإمام علي بن موسى الرضا ـ عليه‌السلام ـ في قوله :

«... هو المالك لما ملكهم والقادر على ما أقدرهم عليه» (٣) والإمام علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ في جواب الأسدي ، حيث قال : «وما أقول يا أمير

__________________

(١) نهاية الدراية في شرح الكفاية : ج ١ ص ١٧٤ ـ ١٧٥.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٨٣.

(٣) بحار الأنوار : ج ٥ ص ١٦.

١٧٦

المؤمنين؟ قال : تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك ، فإن ملككها كان ذلك من عطائه ، وإن سلبكها كان ذلك من بلائه ، وهو المالك لما ملكك والمالك لما عليه أقدرك» (١) وقرر ذلك أيضا الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ عند قول حمزة بن حمران : «إني أقول : إن الله تبارك وتعالى لم يكلف العباد ما لا يستطيعون ، ولم يكلفهم إلّا ما يطيقون ، وإنهم لا يصنعون شيئا من ذلك إلّا بإرادة الله ومشيته وقضائه وقدره» بقوله : «هذا دين الله الذي أنا عليه وآبائي» (٢) وأيضا صرح الإمام أبو الحسن الأول ـ عليه‌السلام ـ بذلك في قوله : «لا يكون شيء في السماوات والأرض إلّا بسبعة : بقضاء ، وقدر ، وإرادة ، ومشية ، وكتاب ، وأجل ، وإذن ، فمن قال غير هذا فقد كذب على الله أو رد على الله عزوجل» (٣) وكلام مولانا أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ هو الملخص في ذلك وهو بأن يقول الإنسان : «بالله أستطيع» (٤) ، لا مع الله ، ولا من دون الله وغير ذلك من الأخبار ، وهذه الأخبار الصريحة تصلح للجمع بين الأخبار ، لو كانت منافاة بينها ، مع أنه لا منافاة بين الأخبار كما لا يخفى.

وثانيا : إن التوفيق والهداية لا نزاع فيهما ، وإنما النزاع في استقلال العبد في الأفعال ، كما ذهب إليه المفوضة ، فاللازم هو الجواب عن محل النزاع ، والاكتفاء بالتوفيق والهداية مشعر بالالتزام بما ذهب إليه المفوضة ، مع أن الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «ورجل يزعم أن الأمر مفوض إليهم فهذا وهن الله في سلطانه فهو كافر» (٥).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٢٤.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٣٦ الاصول من الكافي : ج ١ ص ١٦٢.

(٣) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٨٨.

(٤) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٣٩.

(٥) راجع بحار الأنوار : ج ٥ ص ١٠.

١٧٧

وثالثا : إن ما استدل به ليس بظاهر في مدعاه ، بل لعله اجمال للتفصيل المذكور في سائر الأخبار ، ولذلك أورد عليه العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ بأن مرجع الخبر المذكور ، مع الخبر الذي اعترف بظهوره في المعنى المختار واحد ، وهو الذي يشاهده كل إنسان من نفسه عيانا ، وهو أنه مع قطع النظر عن سائر الأسباب من الموجبات والموانع ، يملك اختيار الفعل والترك ، فله أن يفعل وله أن يترك ، وأما كونه مالكا للاختيار فإنما ملكه اياه ربه سبحانه ، كما في الأخبار ، ومن أحسن الأمثلة لذلك مثال المولى إذا ملك عبده ما يحتاج إليه في حياته ، من مال يتصرف فيه ، وزوجة يأنس إليها ، ودار يسكنها وأثاث ومتاع ، فإن قلنا : إن هذا التمليك يبطل ملك المولى كان قولا بالتفويض ، وإن قلنا : إن ذلك لا يوجب للعبد ملكا والمولى باق على مالكيته كما كان ، كان قولا بالجبر ، وإن قلنا : إن العبد يملك بذلك ، والمولى مالك لجميع ما يملكه في عين ملكه ، وأنه من كمال ملك المولى كان قولا بالأمر بين الأمرين (١).

ثم لا يخفى أن صاحب البحار حكى عن بعض ، أنه ذهب إلى أن المراد من الأمر بين الأمرين ، هو أن الأسباب القريبة للفعل يرجع إلى قدرة العبد ، والأسباب البعيدة كالآلات والأسباب والأعضاء والجوارح والقوى إلى قدرة الرب تعالى فقد حصل الفعل بمجموع القدرتين (٢).

وفيه أولا : أنه غير واضح المراد ، فإن الآلات والأسباب والأعضاء والجوارح والقوى ، إذا رجعت إلى قدرة الرب المتعال ، فاي شيء يبقى حتى يرجع إلى قدرة العبد ، اللهم إلّا أن يريد من الأسباب القريبة ، إرادة الفاعل. هذا مضافا إلى ما في جعل الأعضاء والجوارح والقوى من الأسباب البعيدة.

وثانيا : أن التفويض بهذا المعنى عين ما ورد النصوص على خلافه ، فإن

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥ ذيل ص ٨٣.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٨٤ نقلا عن بعض.

١٧٨

حاصله أن العبد يكون بملاحظة الأسباب القريبة مستقلا ، وإذا كان مستقلا يصير شريكا مع الله ، مع أنك عرفت قول مولانا أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «وإن زعمت أنك مع الله تستطيع ، فقد زعمت أنك شريك معه في ملكه».

وثالثا : أن هذا التفسير يرجع إلى الجمع بين الجبر والتفويض في الأفعال ، باختلاف الأسباب في القرب والبعد ، مع أن الظاهر من قوله : «ولكن أمر بين الأمرين» أن المراد من الأمر الوسط هو أمر آخر وراءهما لا مجموعهما.

ومما ذكر يظهر الجواب أيضا عن تفسير آخر ، وهو أن المراد من قوله : «أمر بين الأمرين» هو كون بعض الأشياء باختيار العباد وهي الأفعال التكليفية ، وكون بعضها بغير اختياره كالصحة والمرض والنوم واليقظة والذكر والنسيان وأشباه ذلك (١).

وفيه : أن مرجع هذا الجواب إلى التفويض بالنسبة إلى الأفعال التكليفية ، فإنه أراد بهذا ، الجمع بين التفويض والجبر ، فاختص الجبر بالأحوال العارضة ، وهو كما ترى ، إذ التفويض في الأفعال التكليفية مردود بما عرفت من الأدلة العقلية والسمعية. هذا مضافا إلى خروج الأحوال العارضة عن محل النزاع ، على أنك عرفت أن المراد من قوله : «أمر بين الأمرين» ليس مجموعهما ، بل أمر وراءهما ، فكل حمل يؤول إلى الجمع بينهما مردود جدا.

ثم لا يخفى عليك أن الاستاذ الشهيد المطهري ـ قدس‌سره ـ بعد ذهابه إلى ما ذكرناه ، جعله معنى كلاميا لقوله : «أمر بين الأمرين» وقال ما حاصله : «ليست أفعال الإنسان مستندة إليه تعالى ، بحيث يكون الإنسان منعزلا عن الفاعلية والتأثير ، كما ليست مستندة إلى نفس الإنسان بحيث ينقطع رابطة الفعل مع ذاته تعالى ، بل الأفعال في عين كونها مستندة إلى الانسان بالحقيقة

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٨٤ نقلا عن بعض.

١٧٩

وعلى كل حال فعقيدتنا أن القضاء والقدر سر من أسرار الله تعالى ، فمن استطاع أن يفهمه على الوجه اللائق بلا افراط ولا تفريط فذاك ، وإلّا فلا يجب عليه أن يتكلف فهمه والتدقيق فيه ، لئلا يضل وتفسد عليه عقيدته ؛ لأنه من دقائق الامور ، بل من أدق مباحث الفلسفة التي لا يدركها إلّا الأوحدي من الناس ، ولذا زلت به أقدام كثير من المتكلمين (٦). فالتكليف به تكليف بما هو فوق مستوى مقدور الرجل العادي.

______________________________________________________

مستندة إليه تعالى. غايته أن أحد الاستنادين في طول الآخر لا في عرضه ، ولا مع انضمامه ، وهذا هو المراد من قوله : «ولكن أمر بين الأمرين».

ثم زاد على معناه الكلامي معناه الفلسفي ومعناه الأخلاقي ، ولكنهما في عين كونهما صحيحين أجنبيان عن ظاهر هذه الجملة ، وبعيد عن مساق الأخبار المذكورة ، وعن ظاهر الكلمات. هذا مضافا إلى أن المعنيين المذكورين ، لا يختصان بالأفعال الاختيارية للإنسان ، إذ الضرورة بالغير جارية في كل ممكن موجود ، كما ان قابلية تغيير الخلق والطينة الموروثة خارجة عن دائرة الأفعال ، ولعل مراده من تفسيره بهما مجرد اقتباس لا تفسير حقيقي له فراجع» (١).

وكيف كان فالمحصل هو أن المراد من الأمر بين الأمرين ، هو المالكية الطولية ، وهي مالكية الله تعالى لمالكية العباد ، فالعباد في عين كونهم مالكين للقدرة والاختيار ، وفاعلين للأفعال بالحقيقة ، مملوكون لله تعالى ، ومعلولون له وليسوا بمفوضين ومستقلين عنه عزوجل ، كما يشهد به الوجدان فلا تغفل.

(٦) يقع البحث في امور : الأول : في معنى القضاء والقدر ، ولا يخفى عليك أن القضاء هو فصل الأمر

__________________

(١) اصول فلسفه : ج ٣ ص ١٦٤.

١٨٠