بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد رضا المظفّر

بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN: 964-470-180-1
ISBN الدورة:
964-470-180-1

الصفحات: ٣٢٠
الجزء ١ الجزء ٢

والطالح جميعا فإن الله (تعالى) جعل ذلك صلاحا للصنفين كليهما ، أما الصالحون فإن الذي يصبهم من هذا يردّهم (يذكرهم) نعم ربهم في سالف أيامهم فيحدوهم ذلك على الشكر والصبر ، وأما الطالحون فإن مثل هذا إذا نالهم كسر شرتهم وردعهم عن المعاصي والفواحش. الحديث (١).

ثم لا يخفى عليك أن البلايا في حق الأنبياء والأئمة المعصومين والأولياء ، ليست مكافأة ، بل لارتفاع شأنهم ، كما نص عليه في صحيحة علي بن رئاب ، قال : «سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن قول الله عزوجل : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أرأيت ما أصاب عليا وأهل بيته ـ عليهم‌السلام ـ من بعده ، أهو بما كسبت ايديهم ، وهم أهل بيت طهارة معصومون؟ فقال : إن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كان يتوب إلى الله ويستغفر في كل يوم وليلة مائة مرة من غير ذنب ، إن الله يخص أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب» (٢).

وفي المروي عن عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : «ذكر عند أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ البلاء وما يخص الله به المؤمن ، فقال : سئل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من أشد الناس بلاء في الدنيا؟ فقال : النبيون ثم الأمثل فالأمثل ، ويبتلى المؤمن بعد على قدر ايمانه وحسن أعماله ، فمن صح ايمانه وحسن عمله اشتد بلاؤه ومن سخف ايمانه وضعف عمله قل بلاؤه» (٣).

فابتلاء الأولياء بالشدائد والمصيبات كثير جدا وكلما اشتد ايمان المؤمن كثر بلاؤه كما ورد في الحديث «إن الله عزوجل إذا أحب عبدا غثه بالبلاء غثا» (٤) والسر فيه أن المكافأة تنشأ من غضبه تعالى ، وابتلاء الأولياء ينشأ من رحمته ؛

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣ ص ١٤٠.

(٢) نور الثقلين : ج ٤ ص ٥٨١.

(٣) تفسير الميزان : ج ٥ ص ١٣.

(٤) تفسير الميزان : ج ٥ ص ١٣ نقلا عن الكافي.

١٤١

لأن يتدارجوا المدارج العالية وأعلاها ورحمته غلبت غضبه ، فلا تغفل ، فالأنبياء والأولياء ممن ليس لهم اكتساب سوء ، كانوا خارجين عن قوله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) تخصصا ، إذ الآية المباركة أثبتت المصيبة بسبب الذنوب واكتساب السوء ، فلا تشمل من لم يصدر عنه الذنوب وليس له اكتساب سوء كما لا يخفى. فلا مكافأة ولا عذاب لهم ، وإنما ما ورد عليهم لإعلاء شأنهم وقربهم إليه تعالى.

ثم لا يخفى أن من ابتلى بالمصيبات من جهة ذنوبه وصبر عليها من غير شكاية عنها أعطاه الله من باب فضله ولطفه مضافا إلى تطهير ذنوبه ارتفاع المقام والأجر والثواب. كما يدل عليه ما روي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ عن آبائه عن علي ـ عليه‌السلام ـ «إنه عاد سلمان الفارسي فقال له يا سلمان ما من أحد من شيعتنا يصيبه وجع إلّا بذنب قد سبق منه وذلك الوجع تطهير له ، قال سلمان : فليس لنا في شيء من ذلك أجر خلا التطهير ، قال علي ـ عليه‌السلام ـ : يا سلمان لكم الأجر بالصبر عليه والتضرع إلى الله والدعاء له بهما تكتب لكم الحسنات وترفع لكم الدرجات ، فأما الوجع خاصة فهو تطهير وكفارة» (١).

ويدل عليه أيضا ما روي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنه قال : «من مرض ليلة فقبلها بقبولها كتب الله عزوجل له عبادة ستين سنة (قال الراوي) قلت : ما معنى قبولها؟ قال : لا يشكو ما أصابه فيها إلى أحد» (٢).

__________________

(١) جامع الأحاديث : ج ٣ ص ٩١ ـ ٩٢.

(٢) جامع الأحاديث : ج ٣ ص ٩٩.

١٤٢

٥ ـ عقيدتنا في التكليف

نعتقد أنه تعالى لا يكلف عباده إلّا بعد إقامة الحجة عليهم ، ولا يكلفهم إلّا ما يسعهم ، وما يقدرون عليه ، وما يطيقونه ، وما يعلمون ؛ لأنه من الظلم تكليف العاجز والجاهل غير المقصر في التعليم (١).

______________________________________________________

(١) ولا يخفى عليك أن المصنف أشار إلى بعض شرائط المكلف (بفتح اللام) من القدرة على الفعل فتكليف العبد بما لا يطاق كالطيران من دون وسيلة لا يصدر عنه تعالى ، ومن إمكان العلم بالتكليف أو قيام الحجة عليه وأما ما لا سبيل له إلى العلم به ، من دون حرج أو مشقة ، أو لا تقوم الحجة عليه فلا يصدر التكليف به عنه تعالى أيضا ، كل ذلك لنفي الظلم عنه فإن التكليف بدون القدرة أو مع الجهل به جهلا قصوريا ظلم ، والظلم لا يصدر عنه ، لما تقدم من أنه لا يفعل القبيح ولا يترك الحسن. ثم إن المراد من قوله : وما يعلمون هو ما يمكن أن يحصل له العلم وإلّا فتعليق التكليف على العلم به لا يخلو عن إشكال ، كما قرر في محله ، اللهم إلّا أن يريد أنه لا يتنجز التكليف في حقه ولا يستحق العقوبة على مخالفة التكليف إلّا بمقدار الذي علم به ، وأما ما زاد عنه فلا تنجيز ولا عقوبة عليه بالنسبة إليه كما صرح به المصنف في اصول

١٤٣

الفقه (١).

ثم إن المصنّف لم يذكر بقية الشرائط العامة للمكلف من البلوغ والعقل ، كما لم يذكر شرائط نفس التكليف من انتفاء المفسدة فيه ، وتقدمه على وقت الفعل.

نعم سيأتي (في ٨ ـ عقيدتنا في أحكام الدين) بعض شرائط التكليف كلزوم كونه مطابقا لما في الأفعال من المصالح والمفاسد ، وأيضا لم يذكر شرائط المكلف (بكسر اللام) من لزوم كونه عالما بصفات الفعل ، من كونه حسنا أو قبيحا ، ومن لزوم كونه قادرا على ايصال الأجر اللائق إلى العاملين ، وغير ذلك كما لم يذكر شرائط المكلف به من كونه ممكنا أو مشتملا على المصالح أو المفاسد. ولعل كل ذلك لوضوح بعضها ولعدم دخل البعض الآخر في البحث من أنه لا يفعل القبيح ولا يترك الحسن كما لا يخفى.

ثم إن التكليف سمّي تكليفا بلحاظ إحداث الكلفة ، وايقاع المكلف فيها ، ولعله لذا عرّفه العلّامة الحلي ـ قدس‌سره ـ بأنه بعث من يجب طاعته على ما فيه مشقة (٢) ومن المعلوم أن مراده من المشقة ليس العسر الذي يوجب نفي الحكم ، بل هو ما يوجب الزحمة ويحتاج فعله إلى المئونة. وكيف كان فقد احترز بقيد المشقة ، عما لا مشقة فيه ، كأكل المستلذات ، والظاهر من كلامه أنه جعل الكلفة في متعلق التكليف ، ولذا احترز عن مثل أكل المستلذات ، وأما إن اريد من الكلفة هو جعل المكلف في قيد التكليف ، فلا يلزم أن يكون في متعلقه مشقة ، بل في مثل المذكور أيضا يحدث الكلفة ، بصيرورته مقيدا بفعله مع أنه في فسحة قبل التكليف بالنسبة إلى ترك أكل المستلذات فافهم.

ثم إن التكليف من العناوين المنتزعة من صيغة الأمر وما شابهها ، إذا

__________________

(١) اصول الفقه : ج ١ ص ٨٨.

(٢) الباب الحادي عشر.

١٤٤

أما الجاهل المقصر في معرفة الأحكام والتكاليف فهو مسئول عند الله تعالى ومعاقب على تقصيره ، إذ يجب على كل إنسان أن يتعلم ما يحتاج إليه من الأحكام الشرعية (٢).

______________________________________________________

سيقت لأجل البعث لا للدواعي الاخر. قال المحقق الأصفهاني ـ رحمه‌الله ـ : «ان الصيغة وما شابهها إذا سيقت لأجل البعث والتحريك ، ينتزع منها عناوين مختلفة ، كل منها باعتبار خاص ، ولحاظ مخصوص ، فالبعث بلحاظ أنه يوجهه بقوله نحو المقصود ، والتحريك بلحاظ التسبيب بالصيغة مثلا إلى الحركة نحو المراد ، والايجاب بلحاظ إثبات المقصود عليه ، والإلزام بلحاظ جعله لازما وقرينا بحيث لا ينفك عنه ، والتكليف بلحاظ احداث الكلفة وايقاعه فيها ، والحكم بلحاظ اتقان المطلوب ، والطلب بلحاظ إرادته القلبية ، أو الكشف عنها حقيقة أو إنشاء ، وعنوان الأمر بلحاظ كون البعث من العالي» (١).

وكيف كان فالمبحوث عنه حقيقة في المقام ، هو افعل ولا تفعل اللذين سيقا لأجل البعث أو الزجر ، وانتزع منهما عنوان التكليف.

(٢) قال الشيخ الأعظم الأنصاري ـ قدس‌سره ـ : «أما وجوب أصل الفحص وحاصله عدم معذورية الجاهل المقصر في التعلم فيدل عليه وجوه :

الأول : الإجماع القطعي على عدم جواز العمل بأصل البراءة قبل استفراغ الوسع في الأدلة.

الثاني : الأدلة الدالة على وجوب تحصيل العلم مثل آيتي النفر للتفقه وسؤال أهل الذكر ، والأخبار الدالة على وجوب تحصيل العلم وتحصيل الفقه ، والذم على ترك السؤال.

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ١ ص ١٥١.

١٤٥

الثالث : ما دل على مؤاخذة الجهال والذم بفعل المعاصي المجهولة المستلزم لوجوب تحصيل العلم ، لحكم العقل بوجوب التحرز عن مضرة العقاب. مثل قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في من غسل مجدورا (١) أصابته جنابة فكر (٢) فمات ـ :

«قتلوه قتلهم الله ، ألا سألوا؟ ألا يمموه؟» وقوله ـ لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء ـ : «ما كان أسوأ حالك لو مت على هذه الحالة» ثم أمره بالتوبة ، وغسلها ، وما ورد في تفسير قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) من أنه يقال للعبد يوم القيامة : هل علمت؟ فإن قال : نعم ، قيل : فهلا عملت؟ وإن قال : لا ، قيل له : هلا تعلمت حتى تعمل؟ ـ إلى أن قال الشيخ الأعظم ـ.

الرابع : أن العقل لا يعذر الجاهل القادر على الاستعلام ـ إلى أن قال : ـ كما لا يعذر الجاهل بالمكلف به العالم به إجمالا ، ومناط عدم المعذورية في المقامين هو عدم قبح مؤاخذة الجاهل فيهما ، فاحتمال الضرر بارتكاب الشبهة غير مندفع بما يؤمن معه من ترتب الضرر. ألا ترى أنهم حكموا باستقلال العقل بوجوب النظر في معجزة مدعي النبوة وعدم معذوريته في تركه ، مستندين في ذلك إلى وجوب دفع الضرر المحتمل ، لا إلى أنه شك في المكلف به ، هذا كله مع أن في الوجه الأول وهو الاجماع القطعي كفاية» (٣).

وحاصله أن الجاهل المقصر سواء علم بأصل التكليف ، وشك في المكلف به ، وجهل به ، كما هو كذلك نوعا إذ المكلف إذا التفت إلى أنه لم يخلق مهملا ولم يترك سدى ، فضلا عن أن آمن بالإسلام وتدين به ، علم اجمالا بتكاليف كثيرة فعلية ، أو لم يعلم بشيء ، لم يكن معذورا ، فإن عليه أن يفحص ، ولا مجال

__________________

(١) المجدور : من به الجدري وهو مرض يسبب بثورا حمرا بيض الرءوس تنتشر في البدن وتتقيح سريعا وهو شديد العدوي أي الفساد والسراية.

(٢) أي أصابه الكزاز وهو داء أو رعدة من شدة البرد.

(٣) فرائد الاصول : ص ٣٠٠ ـ ٣٠١.

١٤٦

ونعتقد أنه تعالى لا بد أن يكلف عباده ، ويسن لهم الشرائع ، وما فيه صلاحهم وخيرهم ، ليدلهم على طرق الخير والسعادة الدائمة ، ويرشدهم إلى ما فيه الصلاح ، ويزجرهم عما فيه الفساد والضرر عليهم وسوء

______________________________________________________

للأخذ بالبراءة العقلية من قبح العقاب بلا بيان ، فإن البيان موجود ، وإنما هو لم يرجع إليه ، ولذا لم تقبح مؤاخذة الجاهل المذكور في الصورتين بالأدلة الأربعة المذكورة ، التي أشار إليها الشيخ ـ قدس‌سره ـ وهذا كلام حسن ، وإن كان في التمسك بالاجماع مع وجود الدليل العقلي والشرعي مناقشة ؛ لأنه من المحتمل أن يكون مستندهم هو الدليل العقلي ، أو الشرعي ، فلا يكشف عن شيء آخر.

ثم إن الظاهر من بعض الأدلة المذكورة ، سيما الأدلة الدالة على مؤاخذة الجهال ، أن السؤال والعقاب على ترك الواقع لا على ترك التعلم ، ولذا قال في الحديث : «هلا تعلمت حتى تعمل؟» وإليه أشار الشيخ ـ قدس‌سره ـ حيث قال : «لكن الانصاف ظهور أدلة وجوب العلم في كونه واجبا غيريا ، مضافا إلى ما عرفت من الأخبار في الوجه الثالث ، الظاهرة في المؤاخذة على نفس المخالفة ، انتهى» (١).

وعليه فما ذهب إليه صاحب المدارك ومن تبعه ، من أن العلم واجب نفسي ، والعقاب على تركه من حيث هو لا من حيث افضائه إلى المعصية ، أعني ترك الواجبات ، وفعل المحرمات المجهولة تفصيلا مشكل ، بل غير صحيح ، فلا يعاقب من خالف الواقع إلّا عقوبة واحدة على مخالفة الواقع ، ومما ذكر يظهر ما في ظاهر عبارة المصنف حيث جعل أن العقاب على تقصير الجاهل المقصر في ترك التعلم ، لا على ترك الواقع ، فتدبر جيدا.

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣٠٣.

١٤٧

عاقبتهم ، وان علم. أنهم لا يطيعونه ؛ لان ذلك لطف ورحمة بعباده ، وهم يجهلون أكثر مصالحهم ، وطرقها في الدنيا والآخرة ، ويجهلون الكثير مما يعود عليهم بالضرر والخسران.

والله تعالى هو الرحمن الرحيم بنفس ذاته ، وهو من كماله المطلق ، الذي هو عين ذاته ، ويستحيل أن ينفك عنه (٣).

______________________________________________________

(٣) أراد بذلك ـ أي قوله : ويستحيل أن ينفك عنه ـ بيان معنى وجوب اللطف الذي هو الكبرى الكلية لتكليف العباد بما فيه الصلاح وغيره مما يكون مصداقا للطف والرحمة ، وحاصله كما سيصرح به في الفصل الثاني من الكتاب ، أن معنى الوجوب في ذلك هو كمعنى الوجوب في قولك : إنه واجب الوجود (أي اللزوم واستحالة الانفكاك) وليس معناه أن أحدا يأمره بذلك ، فيجب عليه أن يطيعه ـ تعالى عن ذلك ـ فإنه لا يناسب علو مقامه ، وذلك لأن اللطف وهو الرحمانية والرحيمية بالعباد ، ناش عن كماله المطلق ، الذي هو عين ذاته ، ولا ينفك عنه ، ولا حاجة إلى وراء ذاته في إفاضة اللطف إلى غيره ، فاذا كان المحل قابلا ومستعدا لفيض الجود واللطف ، فمقتضى كونه كمالا مطلقا هو لزوم إفاضة ذلك ، إذ لا بخل في ساحة رحمته ولا نقص في وجوده وكرمه ، ولا جهل له بالمستحق ، هذا ، مع أن المحل قابل الاستفاضة ، وبهذا الاعتبار نقول : إن اللطف واجب لا باعتبار أنه محكوم بحكم أحد من خلقه.

وعليه فيؤول وجوب اللطف إلى لزومه ، واستحالة انفكاكه ، كما صرح به المصنف هنا ، وأما ما ذهب إليه العلّامة الحلي ـ قدس‌سره ـ من أنه لا نعني بوجوبه عليه ، حكم غيره عليه ، بل وجوب صدوره منه نظرا إلى حكمته ، وقد

١٤٨

بينا أن القبح عقلي لا سمعي (١) فالظاهر أن المراد منه هو الحكم العقلي بوجوب الصدور منه ، وهو بظاهره لا يرفع إشكال بعض أهل السنة وغيرهم ، من أنه لا يجب على الله تعالى شيء (٢). اللهم إلّا أن يقال : إن المراد من الحكم العقلي هو ادراك ضرورة صدوره منه ، وعليه فيرجع ما ذهب إليه العلّامة ، إلى ما ذهب إليه الحكماء ، كما أشار إليه المصنف. قال المحقق اللاهيجي : «إن تشنيع المخالفين في وجوب شيء على الله واستبعادهم ، ناش عن قلة تدبرهم في مراد القوم من وجوب شيء بحكم العقل عليه تعالى ، فإن مرادهم منه أن كل فعل من شأنه استحقاق مذمة فاعله لا يفعله الله ولا يصدر منه تعالى ، وهكذا كل فعل حسن لو أخل به غيره استحق المذمة فهو تعالى منزه عن الإخلال به ، وأما منع تصور الذم بالنسبة إليه تعالى فهو مجرد تهويل ؛ لأن الذم مقابل المدح ، والمدح مرادف أو مساو للحمد ، وهو واقع في حقه ، فما لا يعقل هو استحقاق الذم بالنسبة إليه تعالى لا تصور الذم» (٣).

ويظهر مما ذكره المحقق اللاهيجي ـ قدس‌سره ـ في تصوير وجوب شيء عليه تعالى ، أن الحكم العقلي ليس بمعنى أمر العقل حتى يستبعد في حقه تعالى ، ويقال : كيف يمكن أن يكون هو تعالى منقادا لأمر العقل مع أنه مخلوق من مخلوقاته ، فلو إنقاد لأمر العقل ونهيه لزم حاكمية العقل المخلوق ، على خالقه ، بل معناه ادراك ضرورة صدوره عنه وكونه منزها عن الإخلال به ، هذا.

ثم إنه اجيب عن الإشكال أيضا ، بما حاصله أن المراد من العقل ليس هو عقل الانسان ، بل عقله تعالى ، فالله تعالى هو الذي عقل الكل ، وعقله يحكم بذاك ، فلا يلزم حاكمية العقل المخلوق عليه ، ورده بعض المحققين بأن الجواب

__________________

(١) كشف الفوائد : ص ٦٨.

(٢) كما نسب إليهم المحقق الطوسي في قواعد العقائد. راجع كشف الفوائد : ص ٦٨.

(٣) گوهر مراد : ص ٢٤٨.

١٤٩

المذكور جواب يصلح لا قناع العامة ، ولكن الإشكال فيه أن التعدد في ذاته تعالى غير متصور ، فليس فيه قوة باسم العقل ، وقوة اخرى منقادة لحكم العقل ، فالجواب يؤول في الواقع إلى تشبيهه تعالى بخلقه في نسبة العقل إليه ، مضافا إلى أن شأن العقل هو درك المفاهيم ، والمفاهيم من قبيل العلوم الحصولية ، فلا تناسب علمه تعالى ، فإن علمه من قبيل العلم الحضوري ، كما أن شأن العقل ليس هو الأمر والنهي ، فلا يتصور حاكمية عقله تعالى وآمريته.

وفي الجواب والرد كليهما نظر ، أما الرد فبأن التعدد الاعتباري يكفي في تصوير الحاكم والمحكوم ، كما أنه يكفي في تصوير العالم والمعلوم ، مع اتحادهما في ذاته تعالى ، ومما ذكر يظهر أنه لا تشبيه ولا تنظير في صفاته بمخلوقاته بعد كون صفاته عين ذاته ، والتعدد بالاعتبار ، هذا مضافا إلى أن حمل «عاقل» كحمل «عالم» عليه تعالى في الحاجة إلى تجريده عما يشوبه من خصوصيات الممكنات ، من الحاجة إلى المبادي والمقدمات ، ومن كونه كيفا أو فعلا حادثا للنفس وغيرهما من الامور التي تكون من خصوصية مصاديقهما فهو تعالى عالم بالعلم الحضوري وعاقل ومدرك بالعلم الحضوري.

وأما الجواب فبأن مرادهم من العقل هو مطلق العقل لا خصوص عقله تعالى ، فاختصاص العقل به أجنبي عن مرادهم ، هذا مضافا إلى ما اشير إليه في الرد المذكور من أن شأن العقل هو الدرك ، لا الأمر والنهي.

وكيف كان فذاته الكامل لا يقتضي إلّا النظام الأحسن ، ومن المعلوم أن القبيح لا يناسب ذاته الكامل ، والمناسبة والسنخية من أحكام العلية ، فيمتنع صدور القبيح أو ترك الحسن منه تعالى ، من جهة اقتضاء ذاته وصفاته ، لا من جهة تأثير العوامل الخارجية فيه تعالى ، من حكم عقلي ، أو عقلائي بوجوب صدور الحسن ، وترك القبيح ، مع أنه لا ينفعل من شيء.

وعليه فمقتضى كمال ذاته هو لزوم إفاضة اللطف منه للعباد ، ومنه

١٥٠

التكليف ، إذ عدم التكليف إما من جهة الجهل أو من جهة النقص في الجود والكرم ، أو من جهة العجز ، أو من جهة البخل ، أو من جهة عدم المحبة بالكمال والنظام الأحسن ، وكل هذه مفقودة في ذاته تعالى ، وإلّا لزم الخلف في كونه صرفا في العلم والكمال والقدرة وفي كونه عالما بنفسه وبكماله وآثاره ومحبا له ، فلا سبب لترك التكليف ، وفرض ترك التكليف حينئذ يستلزم ترجيح المرجوح وهو محال ، لرجوعه إلى ترجح من غير مرجح.

ثم لا يذهب عليك أن الطريق الذي سلكه المصنف في إثبات اللطف والرحمة ، أولى مما سلكه أهل الكلام من أن كل مقرب إلى الطاعة ، ومبعد عن المعصية لطف ، وهو واجب في حكمته ؛ لأن الإهمال به نقض للغرض ، وهو قبيح كمن دعا غيره إلى مجلس للطعام ، وهو يعلم أنه مع كونه مكلفا بالإجابة ، ومتمكنا من الامتثال ، لا يجيبه إلّا أن يستعمل معه نوعا من التأدب ، فالتأدب المذكور يقرب المكلف إلى الامتثال ويبعده عن المخالفة ، فإذا كان للداعي غرض صحيح في دعوته ، يجب عليه استعمال التأدب المذكور ، تحصيلا لغرضه ، وإلّا نقض غرضه الصحيح وهو قبيح عن الحكيم.

وإنما قلنا طريق المصنف أولى من طريق أهل الكلام ؛ لأن محصل الطريق المختار ، هو امتناع انفكاك اللطف والتكليف ، لا وجوب صدور التكليف عليه تعالى ، ومن المعلوم أن مع تعبير امتناع انفكاك اللطف والتكليف لا يأتي فيه الاشكال المذكور ، من أنه محيط على كل شيء ، فكيف يقع تحت حكم عقلي أو عقلائي ، ويتأثر منه ، وإن أمكن الجواب عن الاشكال مع تعبير الوجوب أيضا ، بما عرفت من أن المراد من الوجوب العقلي ، هو إدراك الضرورة وامتناع التكليف أيضا.

هذا مضافا إلى أن حاصل الطريق المختار ، أن الإنسان لا يتمكن من معرفة مصالحه ومفاسده ، وكيفية سلوكه نحو الكمال إلّا باللطف والتكليف ، وهو أولى

١٥١

ولا يرفع هذا اللطف وهذه الرحمة أن يكون العباد متمردين على طاعته ، غير منقادين إلى أوامره ونواهيه (٤).

______________________________________________________

مما ذكره أهل الكلام ، من أن الانسان يصير بالتكليف مقربا إلى المصالح ومبعدا عن المفاسد ، إذ مقتضاه كما صرح به في المثال المذكور ، أن الإنسان مع قطع النظر عن التكليف يكون متمكنا من السلوك نحو الكمال ، وإنما لا يسلكه إلّا بالتكليف ، مع أن المعلوم خلافه ، إذ الإنسان لا يقدر بدون التكليف والإرشاد الشرعي ، من السلوك نحو الكمال ، وكم من فرق بينهما. فالأولى في مورد التكليف هو القول بأنه يوجب أن يتمكن الإنسان من الامتثال.

(٤) لأن الدلالة على طرق الخير والإرشاد إلى ما فيه الصلاح ، والزجر عما فيه الفساد والضرر ، لطف ورحمة في حق العباد ، ويقتضيه ذاته الكامل ، والتمرد وعدم الاطاعة من العباد ، لا يخرج الدلالة والإرشاد عن كونها لطفا ورحمة ، هذا. مضافا إلى أن الدلالة والإرشاد ، توجب إتمام الحجة عليهم بحيث لا يبقى لهم عذر في المخالفة والتمرد.

لا يقال : إن العقل يكفي لتمييز المصالح عن المفاسد ، لأنا نقول ليس كذلك ، لمحدودية معرفة الإنسان في ما يحتاجه من الامور الدنيوية ، فضلا عن المعنويات ، والعوالم الاخرى كالبرزخ والقيامة ، فالإنسان في معرفة جميع المصالح والمفاسد وطرق السعادة والشقاوة يحتاج إلى الدلالة والإرشاد الشرعي ولا غنى له عنه.

ومما ذكر ينقدح أنه لا مجال أيضا لدعوى كفاية الفطرة ، فإنها محتاجة إلى الاثارة والتنبيه بواسطة الدلالة المذكورة وبدونها لا تكفي لذلك كما لا يخفى.

١٥٢

٦ ـ عقيدتنا في القضاء والقدر

ذهب قوم ، وهم المجبرة ، إلى أنه تعالى هو الفاعل لأفعال المخلوقين فيكون قد أجبر الناس على فعل المعاصي ، وهو مع ذلك يعذبهم عليها ، وأجبرهم على فعل الطاعات ومع ذلك يثيبهم عليها ، لأنهم يقولون : إن أفعالهم في الحقيقة أفعاله ، وإنما تنسب إليهم على سبيل التجوز ، لأنهم محلها ، ومرجع ذلك إلى إنكار السببية الطبيعية بين الأشياء ، وأنه تعالى هو السبب الحقيقي لا سبب سواه.

وقد أنكروا السببية الطبيعية بين الأشياء ، إذ ظنوا أن ذلك هو مقتضى كونه تعالى هو الخالق الذي لا شريك له ، ومن يقول بهذه المقالة فقد نسب الظلم إليه ، تعالى عن ذلك (١).

______________________________________________________

(١) ومن المجبرة ، الأشاعرة الذين ذهبوا إلى انكار السببية وانحصار السبب في الله تعالى ، وقالوا : إن النار مثلا لا تحرق شيئا ، بل عادة الله جرت على إحراق الثوب المماس بها ، مثلا من دون مدخلية للنار في الاحراق.

وعلى هذا الأساس المزعوم ذهبوا إلى أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى ، من دون دخل للعباد ، نعم يطلق على أفعال العباد عنوان المكسوب ، لمقارنة مجرد

١٥٣

الإرادة وهو الفارق عندهم بين الفعل الاختياري والاضطراري.

والذي أوجب هذا الزعم الفاسد فيهم ، هو عدم درك معنى التوحيد الأفعالي ، وتخيلوا أنه لا يمكن الجمع بين التوحيد الافعالي وسببية الأشياء.

وفيه أوّلا : أن انكار السببية والعلية خلاف الوجدان ، فإنا نرى أنفسنا علة ايجادية بالنسبة إلى التصورات والتفكرات الذهنية ونحوها من أفعال النفس ؛ لأن هذه الامور مترشحة عن النفس ومتوقفة عليها من دون العكس ، وليس معنى السببية إلّا ذلك ، والوجدان أدل دليل على ثبوت السببية والعلية فلا مجال لانكارها.

وثانيا : أن التزاحم المشاهد بين الماديات مما يشهد على وجود رابطة العلية والتأثير والتأثر بالمعنى الأعم فيها ، وإلّا فلا مجال لذلك ، إذ المفروض أنه لا تأثير لها ، وإرادته تعالى لا تكون متزاحمة ، لعدم التكثير في ذاته ، والمفروض أنه لا دخل لغيره تعالى في السببية ، فالتزاحم ليس إلّا لتأثير الماديات بعضها في بعض.

وثالثا : بأن النصوص الشرعية تدل على وجود الرابطة السببية ، كقوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا* قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا* قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) (١) حيث نسب التمثل وهكذا هبة الغلام إلى الروح.

وكقوله عزوجل : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) (٢) إذ أسند عذاب الكفار إلى أيدي المؤمنين وغير ذلك من الآيات ، فلا وجه لإنكار السببية.

وأما توهم المنافاة بينها وبين التوحيد الأفعالي فهو مندفع ، بأن السببية المذكورة ليست مستقلة حتى تنافيه ، بل هي السببية الطولية ، وهي منتهية إليه

__________________

(١) مريم : ١٧ ـ ١٩.

(٢) التوبة : ١٤.

١٥٤

تعالى في عين كونها حقيقية ، نعم يختص بالله تعالى السببية الاستقلالية ، وهو المراد من قولهم : لا مؤثر في الوجود إلّا الله تعالى.

وبالجملة فكما أن وجود المخلوقين لا يتنافى مع التوحيد الذاتي ؛ لأن وجودهم منه تعالى وفي طول وجوده ، كذلك تأثيرهم في الأشياء لا ينافي حصر المؤثر الاستقلالي فيه تعالى ، كما يقتضيه التوحيد الأفعالي ؛ لأن تأثيرهم بإذنه تعالى وينتهي إليه ، ولذلك قال العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ : انتساب الفعل إلى الواجب تعالى بالايجاد لا ينافي انتسابه إلى غيره من الوسائط ، والانتساب طولي لا عرضي (١).

فالعباد هم المباشرون للأفعال وكانت الأفعال أفعالا اختيارية لهم ، لقدرتهم على تركها وتمكنهم من خلافها ، والأفعال مستندة إليهم بالحقيقة ، ومع ذلك لا يكونون مستقلين في الوجود والفاعلية ، بل متقومون به تعالى ، وليس هذا إلّا لكونهم في طول وجود الرب المتعال ، ومنه ينقدح فساد ما استدلوا به على مختارهم ، من ان التأثير مستند إلى قدرة الله تعالى دون العباد ، وإلّا لزم اجتماع قادرين على مقدور واحد ، والتالي باطل ، فالمقدم مثله. بيان الشرطية أنه تعالى قادر على كل مقدور ، فلو كان العبد قادرا على شيء ، لاجتمعت قدرته وقدرة الله تعالى عليه ، وأما بطلان التالي ؛ فلأنه لو أراد الله ايجاده وأراد العبد اعدامه ، فإن وقع المرادان أو عدما لزم اجتماع النقيضين ، وإن وقع مراد أحدهما دون الآخر لزم الترجيح من غير مرجح (٢).

وذلك لما عرفت من أن قدرة العبد في طول قدرة الرب وبإذنه وارادته ، ومن المعلوم أن ما يكون كالظل للشيء وطورا له ، لا يمكن أن يعارض ذا

__________________

(١) نهاية الحكمة : ص ٢٦٧.

(٢) راجع شرح تجريد الاعتقاد : ص ٣٠٩ الطبعة الحديثة ، كشف الفوائد : ص ٦٠ ، قواعد المرام : ص ١٠٩.

١٥٥

الظل ، وعليه فلو أراد الله تعالى فعلا تكوينا لوقع بإرادته ولو لم يرده العبد ، لقوة قدرته وارادته دون العكس ، ولعل إليه يؤول ما أشار إليه المحقق الطوسي ـ قدس‌سره ـ في متن تجريد الاعتقاد حيث قال : «ومع الاجتماع يقع مراده تعالى».

إن قلت : ربما يقع الفعل عن العبد على خلاف ارادته تعالى ، ككفر الكفار وعصيان العصاة ، مع أنه تعالى لا يريد الكفر والعصيان.

قلت : إنه تعالى في مثل ما ذكر لا يريد تكوينا إلّا ما اختاره العباد ولو بالارادة التبعيّة ، فما وقع عن العباد لا يخرج عن ارادته وإن منعهم وزجرهم عنه تشريعا ؛ لأنه أراد أن يفعل الإنسان ما يشاء بقدرته واختياره ، حتى يتمكن من النيل إلى الكمال الاختياري ، فمقتضى كونه مختارا في أفعاله هو أن يتمكن من السعادة والشقاوة كليهما ، فلا معنى لأن يكون مختارا ومع ذلك لا يكون متمكنا من الشقاوة فاللازم هو التمكّن بالنسبة إلى كل واحد من السعادة والشقاوة ، وهذا التمكّن اعطي للإنسان من ناحية الله تعالى مع منعه اياهم عن سلوك مسلك الشقاوة ففي نظائر ما ذكر لا يغلب إرادة الكفار والعصاة على ارادته تعالى ، بل هو المريد لفعل العبد عن اختياره وارادته لا جبرا وبدون الاختيار ، ولعل إليه يرجع قوله عزوجل : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (١).

إذ الآية المباركة في عين كونها في مقام إثبات المشيئة له تعالى ، أثبت المشيئة للإنسان أيضا ، وليس هذا إلّا الطولية المذكورة ، ويؤيدها ما روي عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ «إن الله يقول : يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد» (٢).

__________________

(١) الدهر : ٣٠.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٩٤.

١٥٦

فالقول بمعارضة إرادة العباد مع إرادة الله تعالى ، لا يوافق الطولية ، بل مناسب مع الإرادة الاستقلالية ، وهي ممنوعة عندنا.

ورابعا : أن دعوى الجبر وعدم الاختيار لا يساعدها الوجدان ، ضرورة أنا ندرك بالعلم الحضوري قدرتنا على ايجاد الأفعال مع التمكن من الخلاف ، نحن نقدر على التكلم مثلا ونتمكن من تركه ، وهكذا ، والوجدان أدل دليل على وجود الاختيار فينا ، إذ لا خطأ في العلم الحضوري.

لا يقال : إن الإرادة ليست باختيارية ، لانبعاثها عن الأميال الباطنية التي ليست تحت اختيارنا ، بل تكون متأثرة عن العوامل الطبيعية الخارجية ، فلا مجال لاختيارية الافعال ، لانا نقول : إن هذه الأميال معدة لا علة ، فالإرادة مستندة إلى الاختيار ، ويشهد لذلك إمكان المخالفة للأميال المذكورة ، كترك الأكل والشرب ، لغرض إلهي في شهر رمضان ، مع أن الأميال موجودة ، وليس ذلك إلّا لوجود الاختيار ، هذا مضافا إلى أن حصول الترديد والشك عند بعض الأميال ، بالنسبة إلى الفعل أو الترك في بعض الأوقات ، بحيث يحتاج الترجيح إلى التأمل والاختيار ، شاهد آخر على أن الأميال ليست سالبة للاختيار.

ومما ذكر يظهر ما في توهم أن المؤثر التام في الإرادة هو الوراثة ، أو عوامل المحيط الاجتماعي ، ولا مجال للاختيار ، وذلك لما عرفت من أن تلك الامور لا تزيد على الاعداد ، ولا توجب أن تترتب عليها الإرادة ، ترتب المعلول على العلة ، بل غايتها هو الاقتضاء ، بل الإرادة تحتاج إلى ملاحظة الإنسان ، الشيء الذي تقتضيه العوامل المحيطية ، أو الوراثة ، وفائدتها وضررها ، ثم تزاحمهما مع سائر الأميال والموجبات ، ثم الترجيح بينها ، فالإرادة مترتبة على اختيار الانسان (١).

فالمؤثر في الأفعال ارادتنا باختيارنا ، فمن أنكر الإرادة والاختيار ، أنكر ما

__________________

(١) راجع اصول فلسفه : ج ٣ ص ١٥٤ ـ ١٧٣ ، وآموزش عقائد : ج ١ ص ١٧٥.

١٥٧

يقتضيه الوجدان ، قال أبو الهذيل : «حمار بشر أعقل من بشر» (١) ولعله لأن الحمار عند رؤية الحفرة لا يدخل فيها ، بل يمشي مع الاختيار ، فكيف يكون الإنسان في أفعاله بلا اختيار؟

وقد يتخيل الجبر بتوهم أن الجبر مقتضي علمه تعالى بالامور من الأزل ، وغاية تقريبه أن الله تعالى علم بكل شيء من الأزل ، فحيث لا تبديل ولا تغيير في علمه الذاتي ، فما تعلق العلم به في الأزل يقع في الخارج ، طبقا لما علمه من دون اختيار ، وإلّا فلا يكون علمه علما ، فمن كان في علمه تعالى عاصيا لا يمكن أن يصير مطيعا.

ولكن الجواب عنه واضح ، حيث أن العلم الذاتي لا يسلب الاختيار عن المختار ، فمن كان في علمه عاصيا بالاختيار يصير كذلك بالاختيار ، وإلّا لزم أن يكون علمه جهلا وهو محال.

ثم إنه يظهر من بعض كلمات المتكلمين من الأشاعرة ، أن مجرد مقارنة الإرادة في أفعالنا مع الفعل الصادر عن الله تعالى ، يكفي في تسمية الفعل بالمكسوب ، مع أنه كما ترى ، إذ لا أثر للارادة على المفروض في الفعل ، ولذا قال في قواعد المرام : «فأما حديث الكسب فهو اسم بلا مسمى» (٢).

وخامسا : أن التوالي الفاسدة لهذا القول كثيرة ، منها امتناع التكليف ؛ لأنّ الناس غير قادرين ، والتكليف بما لا يطاق قبيح ، ومنها لغوية ارسال الرسل والأنبياء ؛ لأن اتباعهم ليس تحت قدرتهم ، ومنها عدم الفائدة في الوعد والوعيد ؛ لأن المفروض عدم دخالة الناس في الأفعال ، ومنها أنه لا معنى للمدح والذم بالنسبة إلى أفعال العباد ، لعدم دخالتهم فيها أصلا.

كما حكي عن مولانا أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ أنه قال في الجواب عن

__________________

(١) اللوامع الالهية : ص ٣٥.

(٢) قواعد المرام : ص ١١٠.

١٥٨

السؤال عن الجبر : «لو كان كذلك ، لبطل الثواب والعقاب ، والأمر والنهي والزجر ، ولسقط معنى الوعد والوعيد ، ولم تكن على مسيء لائمة ، ولا لمحسن محمدة ، الحديث» (١).

وقد روي عن أبي الحسن موسى بن جعفر ـ عليهما‌السلام ـ «أنه سأل عنه أبو حنيفة عن أفعال العباد ممن هي؟ فقال : إن أفعال العباد لا تخلو من ثلاثة منازل ، إما أن تكون من الله تعالى خاصة ، أو منه ومن العبد على وجه الاشتراك فيها ، أو من العبد خاصة ، فلو كانت من الله تعالى خاصة ، لكان أولى بالحمد على حسنها ، والذم على قبحها ، ولم يتعلق بغيره حمد ولا لوم فيها ، ولو كانت من الله ومن العبد لكان الحمد لهما معا فيها ، والذم عليهما جميعا فيها ـ لأن المفروض أنهما مستقلان فيها ـ وإذا بطل هذان الوجهان ، ثبت أنها من الخلق ، فإن عاقبهم الله تعالى على جنايتهم بها فله ذلك ، وإن عفا عنهم فهو أهل التقوى وأهل المغفرة» (٢). وظاهره أن مباشرة الأفعال من الإنسان وهو لا يمكن إلّا بالاختيار ، وهو المصحح للعقاب والعفو كما لا يخفى.

ثم إن إثبات كون الأفعال صادرة من الخلق لا ينافي استنادها إليه تعالى بالطولية وبواسطتهم ، كما سيأتي تصريح الأدلة به ، وإنما المنافي هو استنادها إليه تعالى في عرض صدورها من الخلق فلا تغفل.

هذا كله مضافا إلى أن الفكر الجبري يؤدي إلى رفض المسئولية كلها ؛ لأنه لا يرى لنفسه تأثيرا في شيء من الأشياء فلذا ينظلم ، ولا يسعى في التخلق بالأخلاق الحسنة ، وإصلاح الاجتماع ، ودفع الظلم والجور ، ولعله لذلك كان ترويج عقيدة الجبر من أهداف الحكومات الظالمة ؛ لأن الناس إذا كان ذلك اعتقادهم خضعوا لسلطة الظلمة ولم يروهم مقصرين فيما يفعلون.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٤.

(٢) كتاب تصحيح الاعتقاد : ص ١٣.

١٥٩

وذهب قوم آخرون وهم «المفوضة» إلى أنه تعالى فوض الأفعال إلى المخلوقين ورفع قدرته وقضاءه وتقديره عنها ، باعتبار أن نسبة الافعال إليه تعالى تستلزم نسبة النقص إليه وإن للموجودات أسبابها الخاصة وإن انتهت كلها الى مسبب الاسباب والسبب الاول وهو الله تعالى.

ومن يقول بهذه المقالة فقد اخرج الله تعالى من سلطانه وأشرك غيره معه في الخلق (٢).

______________________________________________________

وقد اشتهرت هذه الجملة في الألسنة من أن الجبر والتشبيه امويان والعدل والتوحيد علويان.

هذا بخلاف الإنسان المعتقد بالاختيار ، فإنه يرى نفسه مسئولا في الامور ، ولذلك الاعتقاد يسعى ويجاهد مع كل ظالم ويصل إلى ما يصل من الحرية والعزة والمجد والسعادة (١).

وقد قال الله تبارك وتعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (٢).

هذا تمام الكلام في الجبر.

(٢) ومن المفوضة أكثر المعتزلة وهم ذهبوا إلى أن الفعل مفوض إلينا ، ولا مدخلية فيه لارادته وإذنه تعالى ، والذي أوجب هذه المزعمة الفاسدة هو الاحتراز عن نسبة المعاصي والكفر والقبائح إليه تعالى ، حيث زعموا أنه لو لم نقل بالتفويض ، لزم استناد القبائح إليه تعالى ، وهو لا يناسب مع جلاله. هذا مضافا إلى أنه لو لم يكن العبد مستقلا في فعله لما صح مدحه وذمه ، على أن المستفاد من الآيات الكثيرة هو استناد أفعال العباد إليهم دونه كقوله تعالى :

__________________

(١) كتاب إنسان وسرنوشت.

(٢) النجم : ٣٩ ـ ٤٠.

١٦٠