بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد رضا المظفّر

بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN: 964-470-180-1
ISBN الدورة:
964-470-180-1

الصفحات: ٣٢٠
الجزء ١ الجزء ٢

علوا كبيرا (١).

ومنها ما ذهب إليه العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ من أن الله سبحانه ملك ومالك للكل ، والكل مملوكون له محضا ، فله أن يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وليس لغيره ذلك ، وله أن يسألهم عما يفعلون وليس لغيره أن يسألوه عما يفعل.

إلى أن قال : ومن ألطف الآيات دلالة على هذا الذي ذكرنا قوله حكاية عن عيسى بن مريم : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢) حيث يوجه عذابهم بأنهم مملوكون له ويوجه مغفرتهم بكونه حكيما إلى أن قال : وأنت خبير أن توجيه الآية ، بالملك دون الحكمة ، كما قدمناه يكشف عن اتصال الآية بما قبلها ، من قوله : (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٣).

فالعرش كناية عن الملك ، فتتصل الآيتان ، ويكون قوله : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) بالحقيقة برهانا على ملكه تعالى ، كما أن ملكه وعدم مسئوليته برهان على ربوبيته ، وبرهان على مملوكيتهم ، كما أن مملوكيتهم ومسئوليتهم ، برهان على عدم ربوبيتهم ، فإن الفاعل الذي ليس بمسئول عن فعله بوجه ، هو الذي يملك الفعل مطلقا (٤) لا محالة ، والفاعل الذي هو مسئول

__________________

(١) مفاتيح الجنان في اعمال ليلة الجمعة.

(٢) المائدة : ١١٨.

(٣) الأنبياء : ٢٢.

(٤) ولعل وجه ملكيته للفعل على وجه الاطلاق هو أن أفعاله تعالى ليس لها غاية دون ذاته ، هذا بخلاف غيره تعالى فإن غاية فعلهم هو المصالح وعليه فالباعث نحو الفعل في الله تعالى هو كمال ذاته لا الغير فالفعل الناشئ عن ذاته لا يكون إلّا صوابا فلا مورد للسؤال عنه بخلاف غيره تعالى ، فللسؤال عنهم مجال لتقيد فعلهم بالمصالح.

١٢١

عن فعله هو الذي لا يملك الفعل ، إلّا إذا كان ذا مصلحة والمصلحة هي التي تملكه وترفع المؤاخذة عنه ، ورب العالم أو جزء من أجزائه هو الذي يملك تدبيره باستقلال من ذاته أي لذاته ، لا بإعطاء من غيره ، فالله سبحانه هو رب العرش وغيره مربوبون له. انتهى وحاصله أنه غير مسئول عن فعله وذلك شاهد كونه مالك للفعل على الاطلاق وهو ليس الّا الرب الذي لا يفعل إلّا لكمال ذاته وعليه فالفعل الصادر عن كمال ذاته لا يكون الّا صوابا فلا مورد للسؤال عنه.

وقال أيضا في ضمن عبائره : ولا دلالة في لفظ الآية على التقييد بالحكمة ، فكان عليهم أن يقيموا عليه دليلا (١).

وفيه أن الآية مناسبة مع الحكمة أيضا وهي تكفي ، لجواز حملها عليها ، ويؤيده المروي كما عرفت.

ومنها ما ذهب إليه بعض المحققين ، من أن المراد من الآية الكريمة ، أنه ليس لأحد حق لمؤاخذته ، بل له أن يؤاخذ غيره ، وذلك واضح ؛ لأن كل موجود ليس له من الوجود إلّا منه تعالى ، فإذا كان كذلك فلا يكون لهم حقا عليه تعالى ، وأيضا أن الله تعالى غني عن خلقه فلا يصل إليه من مخلوقه نفع ، حتى ثبت لغيره حق عليه ، ويسأل عنه (٢) وحاصله أن السؤال فرع الحق عليه.

وحيث إنه لا حق لغيره عليه فلا مورد للسؤال عنه تعالى ، هذا ويمكن أن يقال : إن السؤال لا يقطع بذلك إذ لو لم يأخذ الله تعالى حق كل ذي حق عمن ظلمه في الآخرة لكان للسؤال مجال ، وأيضا لو أدخل المطيعين في النار والمسيئين في الجنة أو قدّم المفضول على الفاضل لكان للسؤال مجال ، مع أنه لا حق لهم عليه تعالى ، فلعل المقصود ممّا ذكر أن الله تعالى كامل من جميع الجهات وليس

__________________

(١) تفسير الميزان : ج ١٤ ص ٢٩٤ ـ ٢٩٥.

(٢) مجموعة معارف القرآن : ج ١ خداشناسى ص ٢٣٣.

١٢٢

فيه نقص وحاجة ، وعليه فلا مجال للسؤال عن أفعاله الناشئة عن كمال ذاته فإن ما نشأ عن كمال ذاته لا قبح فيه حتى يسأل عنه ، ولكنه غير مساعد مع كلماته فافهم.

ومن المعلوم أن مع هذه الاحتمالات لا مجال لدعوى ظهور الآية في مرادهم ، ولو سلم دلالتها وظهورها فيما ذكروه ، فليحمل على ما لا ينافي قاعدة التحسين والتقبيح ، فإن الأصل عند منافاة ظواهر الآيات مع الاصول العقلية البديهية الوجدانية هو توجيهها على نحو يرفع المنافاة بينهما فلا تغفل.

هذا مضافا إلى أن المستدلين بالآية المذكورة غفلوا عن الآيات المتعددة الكثيرة ، الدالة على ثبوت التحسين والتقبيح العقليين.

منها : الآيات الدالة على ارتكاز القبح والحسن في العقول ، مع قطع النظر عن الأدلة الشرعية كقوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) (١) فإنه يدل على أن العبث قبيح ، وقبحه مستقر في العقول ، ولذا أنكر عليهم إنكار منبه ليرجعوا إلى عقولهم ، ومثله قوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) (٢) ونحوه قوله تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٣) وهذا أيضا يدل على أن قبح ذلك مرتكز في العقول.

ومنها : الآيات الدالة على تخطئة من حكم على خلاف ما اقتضته العقول السليمة ، كقوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٤) فإنه لم ينكر أصل حكم العقل ، بل أنكر هذا الحكم السيئ إنكار منبّه ليرجعوا إلى

__________________

(١) المؤمنون : ١١٥.

(٢) القيامة : ٣٦.

(٣) ص : ٢٨.

(٤) الجاثية : ٢١.

١٢٣

وهذا هو الكفر بعينه (٤) وقد قال الله تعالى في محكم كتابه : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) غافر : ٣١ ، وقال : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) البقرة : ٢٠٦ ، وقال : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) الدخان : ٣٨ وقال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات : ٥٦ إلى غير ذلك من الآيات الكريمة. سبحانك ما خلقت هذا باطلا.

______________________________________________________

الحكم السليم.

ومنها : الآيات الدالة على معروضية الحسن والقبح عند الناس ، مع قطع النظر عن الحكم الشرعي ، كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) ـ إلى أن قال ـ (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) (١) فمفاد الآية أنه تعالى لا يأمر بما هو فاحشة في العقل والفطرة ، ولو لم يعلم الفاحشة إلّا بالنهي الشرعي ، لصار معنى الآية أن الله لا يأمر بما ينهى عنه ، وهذا المفاد لا يصدر عن آحاد العقلاء فضلا عن العزيز الحكيم ، وهكذا في القسط ، فإنه لو لم يكن المراد ما هو قسط عند العقل يصير المعنى قل أمر ربي بما أمر به ، وهو بارد ، كما لا يخفى (٢).

(٤) لعله لأن ذلك التصوير في حقه تعالى يستلزم تكذيب الآيات الصريحة القرآنية ، التي أشار إلى جملة منها ، بقوله : وقد قال الله تعالى في محكم كتابه الخ ، ومن المعلوم أن من يعتقد اعتقادا يلزم منه تكذيب القرآن العزيز ، فقد اعتقد بما يوجب الكفر والخروج عن ملة الاسلام فيما إذا كان ملتفتا إلى تلك الملازمة.

هذا مضافا إلى أن تصوير المبدأ تعالى بصفات الممكنات يرجع في الحقيقة ،

__________________

(١) الاعراف : ٢٨ ـ ٢٩.

(٢) راجع إحقاق الحق : ج ١ ص ٣٤٨.

١٢٤

إلى الاعتقاد بغير المبدأ تعالى والجهل بالمبدإ الحقيقي هو كفر به كما لا يخفى.

بحث حول الشرور والاختلافات :

هنا سؤال وهو أن مقتضى ما مر من قاعدة التحسين والتقبيح وإطلاق كمال ذات المبدأ المتعال ، أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يترك الحسن ، فإذا كان الأمر كذلك فالشرور كالزلازل ، والسيل والطوفان والبلايا والآلام والأوجاع والموت ونحوها ، والاختلافات كالسواد والبياض والبلادة والذكاوة والذكورية والانوثية وغير ذلك ، لما ذا وقعت؟ أليس هذه الامور قبيحة؟

اجيب عن السؤال المذكور بجوابين : أحدهما إجمالي ، والثاني تفصيلي.

أما الأول : فهو في الحقيقة جواب لمي ، وتقريبه أنه لا مجال لرفع اليد عما ينتهي إليه بالبراهين القطعية من أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يترك الحسن بمثل هذه الامور ، بل اللازم بحكم العقل هو حمل هذه الامور على ما لا ينافي البراهين القطعية ، إذ موارد النقض لا تفيد القطع بالخلاف ، بل غايتها هو عدم العلم بوجهها ، فيمكن رفع إبهامها بما ثبت من أنه لا يفعل القبيح ، لكونه حكيما على الاطلاق ، فنحكم بملاحظة ذلك أن هذه الامور لا تخلو عن الحكمة والمصلحة ، وإلّا لم تصدر من الحكيم المتعال ، إذ ليس فيه عوامل صدور القبيح كالجهل أو العجز أو غير ذلك مما يكون نقصا ولا يليق بجنابه تعالى ، فكل ما فعله الله وصدر منه يبتني على الحكمة والصلاح وغالبية الخير.

قال العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ : «الامور ـ بالإضافة الى الغير ـ على خمسة أقسام : ما هو خير محض ، وما هو خيره أكثر من شره ، وما يتساوى خيره وشره ، وما شره أكثر من خيره ، وما هو شر محض. ولا يوجد شيء من الثلاثة الأخيرة ، لاستلزامه الترجيح من غير مرجح ، أو ترجيح المرجوح على الراجح ، ومن الواجب بالنظر إلى الحكمة الإلهية المنبعثة عن القدرة والعلم الواجبين ،

١٢٥

والجود الذي لا يخالطه بخل ، أن يفيض ما هو الأصلح في النظام الأتم ، وأن يوجد ما هو خير محض ، وما هو خيره أكثر من شره ؛ لأن في ترك الأول شرا محضا ، وفي ترك الثاني شرا كثيرا ، فما يوجد من الشر ، نادر قليل بالنسبة إلى ما يوجد من الخير ، وإنما وجد الشر القليل بتبع الخير الكثير» (١) فالنظام الموجود هو النظام الأتم والأحسن الذي علمه تعالى وأوجده على وفق علمه كما قال الشيخ أبو علي ابن سينا في الاشارات : «اشارة : فالعناية هي إحاطة علم الأول بالكل ، وبالواجب أن يكون عليه الكل حتى يكون على أحسن النظام ، وبأن ذلك واجب عنه وعن إحاطته به فيكون الموجود وفق المعلوم على أحسن النظام من غير انبعاث قصد وطلب من الأول الحق ، فعلم الأول بكيفية الصواب في ترتيب وجود الكل منبع لفيضان الخير في الكل» (٢).

وأما الجواب التفصيلي فمتعدد :

الأول : هو ما ذهب إليه جل الفلاسفة وبعض الفحول من المتكلمين ، وحاصله أن الشرور لا تطلق حقيقة إلّا على عدم الوجود مما له شأن الوجود ، كموت زيد بعد وجوده ، أو عدم الشجر بعد وجوده ، أو على عدم كمال الوجود ممن له شأنية ذلك الكمال ، كعدم الثمر من الشجر القابل له ، أو عدم العلم عمن له شأنية العلم ، ولذلك قال في شرح الاشارات : «الشر يطلق على امور عدمية من حيث هي غير مؤثرة كفقدان كل شيء ما من شأنه أن يكون له مثل الموت والفقر والجهل» (٣) وأما عدم شيء مأخوذ بالنسبة إلى ماهيته كعدم زيد فلا

__________________

(١) تفسير الميزان : ج ١٣ ص ٢٠١.

(٢) الإشارات والتنبيهات : ج ٣ ص ٣١٨. والمراد من الأول هو الله تعالى وحاصله أن علمه تعالى بثلاثة منشأ للخلقة الأول علمه بالكل الثاني علمه بما يليق كل شيء ان يقع عليه الثالث علمه بان ذلك واجب الصدور منه.

(٣) راجع رشحات البحار والانسان والفطرة : ص ١٣٥ ، والشوارق : ج ١ ص ٥٣ ، وشرح تجريد

١٢٦

يكون شرا ؛ لأنه اعتبار عقلي ليس من وقوع الشر في شيء ، هذا مضافا إلى أنه لا اقتضاء للماهية بالنسبة إلى الوجود والعدم بخلاف عدم زيد بعد وجوده فإنه شر كما مرّ ، وهكذا لا يكون شرا عدم شيء مأخوذ بالنسبة إلى شيء آخر ، كفقدان الماهيات الإمكانية كمال الوجود الواجبي ، وكفقدان كل ماهية وجود الماهية الاخرى الخاص بها مثل فقدان النبات وجود الحيوان ، وفقدان البقر وجود الفرس ؛ لأن هذا النوع من العدم من لوازم الماهية وهي اعتبارية غير مجعولة (١).

وحيث ظهر أن كل فقدان ليس بشر ، بل فقدان ما من شأنه أن يكون له ، ففقدان كل مجرد تام موجود بالنسبة إلى مجرد أعلى منه أو بالنسبة إلى مجرد آخر يكون في عرضه أو فقدان كل موجود بالنسبة إلى مرتبة اخرى ليست من شأنه لا يكون شرا أيضا اذ ليس له شأنية ذلك الوجود حتى يكون فقدانه شرا (٢).

هذا كله بالنسبة إلى الاعدام والفقدان.

وأما وجود كل شيء وكماله فهو خير له ، فانه فعلية ماله شأنيته وقابليته والخير الحقيقي للشيء الذي يعبر عنه بالخير النفسي هو وجوده في نفسه وكمال وجوده بما هو وجوده ، فكل وجود فهو خير بذاته لان حيثيته حيثية طرد العدم ورفع القوة والوجود نقل موجود عين المطلوبية والمحبوبية.

ثم اعلم أنه لا يطلق الشر على الوجود إلّا باعتبار أدائه إلى عدم الوجود مما له شأن الوجود ، أو لعدم كمال الوجود ، مما له شأنية ذلك كالبرودة المفرطة والحرارة الشديدة المفسدتين للشجر أو ثمره أو كالقتل الموجب لفناء موجود ذي حياة وهذا الاعتبار إضافي وليس بحقيقي ؛ لأن الشر بالذات هو فقدان الوجود أو

__________________

الاعتقاد : ص ٢٩ و ٣٠٠ الطبع الجديد ، ونهاية الحكمة : ص ٢٧٢.

(١) شرح الإشارات والتنبيهات : ج ٣ ص ٣٢٠.

(٢) راجع آموزش فلسفة : ج ٢ ص ٤٢٤.

١٢٧

كماله ممّا له شأنية ، واطلاقه على ما يؤدي إليه بالعرض لتأديتها إلى ذلك (١).

وإليه يؤول قول المحقق الطوسي ـ قدس‌سره ـ في شرح الاشارات حيث قال : «ويطلق الشر ... على امور وجودية كذلك كوجود ما يقتضي منع المتوجه إلى كمال عن الوصول إليه ، مثل البرد المفسد للثمار والسحاب الذي يمنع القصار عن فعله ـ إلى أن قال : ـ فانا اذا تأملنا في ذلك وجدنا البرد في نفسه من حيث هو كيفية ما أو بالقياس إلى علته الموجبة له ليس بشر بل هو كمال من الكمالات ، انما هو شر بالقياس إلى الثمار لافساده أمزجتها ، فالشر بالذات هو فقدان الثمار كمالاتها اللائقة بها ، والبرد انما صار شرا بالعرض لاقتضائه ذلك وكذلك السحاب ـ إلى أن قال : ـ فالشر بالذات هو فقدان تلك الأشياء كماله ، وانما اطلق على اسبابه بالعرض لتأديتها إلى ذلك ـ إلى أن قال : ـ فاذن قد حصل من ذلك أن الشر في ماهيته عدم وجود أو عدم كمال لموجود من حيث أن ذلك العدم غير لائق به أو غير مؤثر عنده وأن الموجودات ليست من حيث أن ذلك العدم غير لائق به أو غير مؤثر عنده وأن الموجودات ليست من حيث هي موجودات بشرور انما هي شرور بالقياس إلى الاشياء العادمة كمالاتها لا لذواتها ، بل لكونها مؤدية إلى تلك الاعدام ، فالشرور امور اضافية مقيسة إلى افراد أشخاص معينة ، واما في نفسها وبالقياس إلى الكل فلا شرّ أصلا ـ إلى أن قال : ـ ان الفلاسفة انما يبحثون عن كيفية صدور الشر عما هو خير بالذات ، فينبهون على أن الصادر عنه ليس بشر ، فان صدور الخيرات الكلية الملاصقة للشرور الجزئية ليس بشر» (٢).

وعن المحقق الدواني في حاشيته على الشرح الجديد من التجريد أنه قال : «ويمكن أن يستدل على أن الوجود خير والشر عدم أو عدمي بأنا اذا فرضنا

__________________

(١) راجع درر الفوائد : ج ١ ص ٤٥٤ ـ ٤٥٧ شرح الإشارات : ج ٣ ص ٣٢٠ ـ ٣٢٣.

(٢) شرح الإشارات والتنبيهات : ج ٣ ص ٣٢٠ ـ ٣٢٣.

١٢٨

وجود شيء وفرضنا أنه لم يحصل بسببه نقص في شيء من الاشياء أصلا فلا شك في أن وجوده خير فانه خير بالنسبة إلى نفسه وليس فيه شر بالنسبة إلى شيء من الاشياء ، فعلم من ذلك أن الشر بالذات هو العدم والوجود انما يصير شرا باعتبار استلزامه له» (١).

فعلم ممّا ذكر أن الشر على قسمين : أحدهما : هو الشر بالذات وبالحقيقة ، وهو ليس إلّا الامور العدمية التي لها شأنية الوجود ، ولكن اختلت علتها بمفادة علة أقوى معها بحيث يمنعها عن التأثير فهذه الامور معدومة بعدم علتها ، وثانيهما :

هو الشر بالعرض وبالإضافة ، وهو ليس إلّا ما يؤدي إلى العدم ، وعليه فليس بين الموجودات شر مطلق ، وإنما الموجود هو الشر بالعرض وهو ما يؤدي إلى الشر بالذات ، والشر بالذات ليس بمجعول ؛ لأنه معدوم بعدم علته ، نعم هو مجعول مجازا بجعل الشر بالعرض ؛ اذ الشر بالعرض أمر وجودي مجعول ملازم للشر الذي يكون أمرا عدميا.

ثم إن المراد من الأداء والسببية الذي قد يعبر عنه ب «الشر بالعرض» هو المقارنة لا السببية الاصطلاحية ؛ لأنه مع الوجود الذي يؤدي إلى الشر ، تختل علة الخير بوجود المانع ، فإن العلة علة ما لم يكن مانع عن تأثيرها ، فإذا وجد المانع عنه فلا تأثير لها ، بل سقطت عن تمامية العلية ، ومع عدم تأثيرها لا وجود للمعلول أو لا وجود لكماله ، فعدم وجود المعلول أو عدم كماله مستند إلى اختلال علته ، وهو من جهة عروض المانع. مثلا صحة الإنسان معلولة لاعتدال مزاجه ، فإذا وجدت الميكروبات اختل الاعتدال بوجود المانع وفقدت الصحة باختلال الاعتدال ، فعدم صحة البدن مستند إلى عدم علتها لا إلى الميكروبات إلّا بالعرض والمجاز ، وباعتبار أن اختلال علة الصحة بوجود الميكروبات ، ومن

__________________

(١) درر الفوائد : ج ١ ص ٤٥٧.

١٢٩

المعلوم أن للميكروبات اقتضاء وجوديا لا عدميا ، وعدم الصحة بسبب اختلال المزاج من جهة وجود المانع عن تأثير اقتضاء المزاج ، فالشر بالذات هو عدم الوجود أو عدم كمال الوجود مما من شأنه أن يكون له ، والسموم والميكروبات شر بالعرض للمقارنة ، إذ المانع يقارن مع عدم المعلوم بعدم علته ، لا أنه علة لعدم المعلول كما أن المانع يقارن أيضا مع عدم العلة المذكورة ؛ لأن كل ضد يقارن عدم الضد الآخر ، والمفروض أن المانع ضد للعلة التي اشترط تأثيرها ؛ لعدم وجوده فلا تغفل.

وإليه يؤول ما قاله العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ من : «أن الذي تعلقت به حكمة الإيجاد والإرادة الإلهية وشمله القضاء بالذات في الامور التي يقارنها شيء من الشر ، إنما هو القدر الذي تلبس به من الوجود حسب استعداده ومقدار قابليته ، واما العدم الذي يقارنه فليس إلّا مستندا إلى عدم قابليته وقصور استعداده ، نعم ينسب إليه الجعل والإفاضة بالعرض لمكان نوع من الاتحاد بينه وبين الوجود الذي يقارنه هذا» (١).

وممّا ذكر يظهر أن الشرور إعدام فلا حاجة إلى استنادها إلى الخالق ، فلا وجه لتوهم الثنوية أن خالق الشرور والاعدام غير خالق الخيرات (٢) كما أن ايجاده تعالى لا يتعلق بالشرور حقيقة ، وإن تعلق بها بالعرض والمجاز لمقارنتها مع الوجودات.

ثم إن الشرور الإضافية المؤدية إلى الشرور الحقيقية حيث كانت جهة شريتها الإضافية قليلة في جنب خيريتها بملاحظتها مع النظام الكلي من العالم لا تعد شرورا كما صرح به المحقق الطوسي ـ قدس‌سره ـ حيث قال : «فالشرور امور

__________________

(١) الميزان : ج ١٣ ص ٢٠١.

(٢) راجع نهاية الحكمة : ص ٢٧٢ ، تعليقة النهاية : ص ٤٢٥ ، بداية الحكمة : ص ١٣٦ ، عدل إلهي : ص ١٠٢.

١٣٠

إضافية مقيسة إلى أفراد أشخاص معينة وأما في نفسها وبالقياس إلى الكل فلا شر أصلا ، فاللازم في حكمته هو ايجادها مع كونها خيرا غالبا» (١) إذ ترك ايجاده حينئذ مرجوح ، ثم لا يخفى عليك أنه ذهب بعض إلى أن الشر أمر وجودي مستشهدا بقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٢) وبما ورد عن الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ في بعض الأدعية ليوم العرفة : «وأنت الله لا إله إلّا أنت خالق الخير والشر» وبما ورد عنه ـ عليه‌السلام ـ في دعاء آخر وبيدك مقادير الخير والشرّ وغير ذلك ؛ لأن الذوق والابتلاء والخلق والتقدير لا تناسب الاعدام ، اللهم إلّا أن يقال في الجواب : بأن المراد من الشر في أمثال ما ذكر هو الشر القياسي والاضافي لا الشر الحقيقي ومن المعلوم أن الشر القياسي أمر وجودي مقارن للشر الحقيقي الذي هو العدم ، والوجود يحتاج إلى الخلق والتقدير وقابل للابتلاء به ونحوه ، فلا ينافي الآية الكريمة والأدعية ، لما ذكر من عدمية الشر الحقيقي فافهم.

لا يقال : إن الإشكال لو كان في خلقة الشرور الحقيقية ، لكان الجواب عنه بأنها عدمية ، فلا حاجة لها إلى العلة صحيحا ، أما إن كان الإشكال في أن الله تعالى لم لم يخلق العالم بحيث يكون مكان الفقدانات وجودات وكمالات ، ومكان الشرور خيرات ، حتى لا يكون للشرور الاضافية وجود ، فالإشكال بالنسبة إلى الشرور الاضافية باق ، ولا يكون الجواب المذكور مقنعا عنه.

لأنه يجاب عن ذلك بأن : هذا وهم ، إذ لا مجال لوجود العالم المادي بدون التضاد والتزاحم ، إذ لازم الطبيعة المادية هو وجود سلسلة من النقصانات والفقدانات والتضاد والتزاحم ؛ لعدم قابلية المادة لكل صورة في جميع الأحوال والشرائط ، فالأمر يدور بين أن يوجد العالم المادي المقرون بتلك النقصانات ، أو

__________________

(١) شرح الإشارات : ج ٣ ص ٣٢٠ ـ ٣٢٣.

(٢) الأنبياء : ٣٥.

١٣١

أن لا يوجد ، ومن المعلوم أن الحكمة تقضي أن لا يترك الخير الغالب (١).

ولكن هذا الجواب يفيد فيما يكون من لوازم الطبيعة المادية ، وأما ما لا يكون كذلك كالشرور الناشئة من النفوس الإنسانية أو الأجنّة كالشياطين فلا يفيد ، لانها سميت من اللوازم ، بل تقع عن اختيارهم ، فاللازم أن يقال : إن التكامل الاختياري الذي يقتضيه النظام الأحسن يتقوم بالاختيار ، إذ بدونه لا يتحقق التكامل الاختياري ، ومعه ربما يقع الإنسان أو الجن في الشرور بسوء اختياره. فالأمر يدور بين أن يوجد مقتضيات التكامل الاختياري أم لا توجد والحكمة تقتضي الوجود أن خيرات الاختيار أكثر بمراتب من شروره ومن خيرات الاختيار تكامل المؤمنين والأولياء والشهداء والصديقين والأنبياء والأوصياء والمقربين ، والتكامل الاختياري من النظام الأتم الأحسن فيجب أن يوجد قضاء للحكمة ، كما لا يخفى.

الثاني : لو سلمنا أن الشرور الحقيقية وجودية فنقول فيها بمثل ما قلنا في الشرور الاضافية في الإشكال الأخير ، حاصله أن الشرور الوجودية الحقيقية من لوازم العالم المادي أو النظام الأحسن الأتم كما ذكر فالأمر يدور بين أن يترك العالم المادي مع أن فيه خيرا غالبا أو يوجد والثاني هو المتعين.

ولعل إلى بعض ما ذكر يؤول ما حكي عن أرسطو من أن الشرور الموجودة في العالم المادي لازمة للطبائع المادية بما لها من التضاد والتزاحم ، فلا سبيل إلى دفعها إلّا بترك ايجاد هذا العالم ، وفي ذلك منع لخيراته الغالبة على شروره وهو خلاف حكمته وجوده سبحانه (٢).

ومما ذكر يظهر أن الجواب في المسألة ليس موقوفا على عدمية الشرور ، بل لو كانت الشرور الحقيقية وجودية لامكن الجواب عنه بالمذكور. ثم إن خلقة

__________________

(١) راجع اصول فلسفة : ج ٥ ص ٦٨.

(٢) راجع تعليقة النهاية : ص ٤٧٣.

١٣٢

الشرور بناء على وجوديتها تكون مقصودة بالتبع ، إذ خلقة العالم المادي أو النظام الأتم الأحسن لا تمكن بدونها ، وأما بناء على كون الشرور عدمية فليس لها وجود حقيقة حتى يتعلق بها قصد حقيقي ولو بالتبع ، نعم يتعلق بها بالعرض والمجاز باعتبار تعلقه بالمقارنات المتلازمة للاعدام والشرور (١).

الثالث : أن للشرور الحقيقية على فرض كونها وجودية منافع وفوائد كثيرة مهمة بحيث يمكن سلب الشرية عن الشرور بملاحظتها ، ولذا حكي عن أرسطو المعلم الأول أن كثيرا من هذه الشرور مقدمة لحصول خيرات وكمالات جديدة ، فبموت بعض الأفراد تستعد المادة لحياة الآخرين ، وباحساس الألم يندفع المتألم إلى علاج الأمراض والآفات وإبقاء حياته ، إلى غير ذلك من المصالح التي تترتب على الشرور (٢).

وإليه يؤول ما ذكره الاستاذ الشهيد المطهري ـ قدس‌سره ـ من أن الموت والشيبة يلازمان لتكامل الروح وانتقاله من نشأة إلى نشأة اخرى ، كما أنه لو لا التزاحم والتضاد لا تقبل المادة لصورة اخرى ، بل اللازم أن يكون لها في جميع الأحوال والأزمان صورة واحدة ، وهو كاف للمانعية عن بسط تكامل نظام الوجود ، إذ بسبب التزاحم والتضاد وبطلان وانهدام الصور الموجودة ، تصل النوبة إلى الصور اللاحقة ويبسط الوجود ويتكامل ، ولذا اشتهر في ألسنة الحكماء «لو لا التضاد ما صح دوام الفيض عن المبدأ الجواد» هذا مضافا إلى تأثير الشرور في التكامل والتسابق الحضاري والثقافي ألا ترى أنه لو لا العداوة والرقابة ، لما كانت المسابقة والتحرك ، ولو لا الحرب لما كانت الحضارة والتقدم ، وهكذا. فمع التوجه إلى أن العالم الطبيعي عالم تدرج وتكامل وحركة من القوة إلى الفعل ومن النقص إلى الكمال ، وتلك الحركة والتدرج من

__________________

(١) راجع تعليقة النهاية : ص ٤٧٤.

(٢) راجع تعليقة النهاية : ص ٤٧٣.

١٣٣

ذاتيات الطبيعة المادية ، وإلى أن حركة العالم المادي وسوقه نحو الكمال ، لا تحصل بدون التزاحم والتضاد وبطلان وانهدام ، بل تكون موقوفة على تلك الامور التي تسمى شرورا ، تظهر فائدة الشرور ومصلحتها. وبذلك ينقدح أن شرية ما سمّي شرا بلحاظ إضافته إلى جزئي وشيء خاص لا بلحاظ أوسع وإلّا فهو خير وليس بشر (١).

وهذه الفوائد وإن أمكن المناقشة في بعضها كفائدة موت بعض الأفراد لاستعداد المادة لحياة الآخرين ؛ لإمكان أن يقال : توسعة المادة ليست بمحال ، فمع التوسعة المذكورة لا موجب لموت بعض الأفراد ، ولكن جملة الفوائد تكفي لإثبات كون شرية الامور المذكورة إضافية جزئية وأما بلحاظ الكل فهي خير وليست بشر.

الرابع : أن البلايا والآفات والعاهات ، كثيرا ما تصلح لإعداد الكمالات المعنوية والأخلاقية وهو السر في الابتلاء والامتحان بها ، وهذه الكمالات كالتوجه إلى الله والانقطاع إليه والتخلق بالأخلاق الفاضلة ، بحيث لو لم تكن تلك الامور لا يمكن النيل إلى هذه الكمالات المعنوية. مثلا من أصابه مرض وأقدم على العلاج ، وصبر فيه ، ودعا وتضرع إلى الله تعالى ، ورضي بما قدره له من الشفاء أو عدمه ، والصحة أو السقم ، حصل له من القرب إلى الله تعالى والتخلق بالأخلاق الحسنة ما لم يكن له قبل ابتلائه به ، فالمرض أعد له هذا التعالي والتكامل.

وهكذا من صار فقيرا من دون تفريط في الكسب وقنع بما في يده ورضي بما قدر له ولم يخضع لغني طمعا بماله حصل له ملكة المناعة وعزة النفس ونحوهما من الملكات الفاضلة ، وهكذا غير ذلك من البلايا والآفات ، فإنها تصلح

__________________

(١) اصول فلسفه : ج ٥ ص ٦٩.

١٣٤

للاعداد نحو الكمال بحسب مقتضيات الأحوال وهذا هو السر في الابتلاءات والمصيبات والحوادث ، ولكن يختلف حظوظ الناس منها لاختلاف معارفهم ، وعباد الرحمن أكثر حظا من غيرهم فيها ولذلك يرون تلك البلايا والحوادث جميلة ، ويحمدونه على كل حال ، لأنهم لا يرون منه إلّا ما يستحق الحمد عليه وإن عميت أعيان الناس عن رؤية جمال تلك الامور ، نعم يظهر حقيقة كل ما صدر عنه تعالى لكل أحد في يوم القيامة كما قال عزوجل : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) (١).

اذ نسب الحمد المطلق إلى جميع المبعوثين من القبر وليس ذلك الّا لرؤية جمال افعاله تعالى كما لا يخفى وإليه يؤول ما ورد عن الإمام زين العابدين ـ عليه‌السلام ـ من أنه قال : من اتّكل على حسن اختيار الله تعالى لم يتمنّ انه في غير الحال التي اختارها الله تعالى (له) (٢).

فهذه الامور في الحقيقة ليست شرورا بالنسبة إلى من يجعلها وسيلة لاستكمال نفسه وتخلقه بالأخلاق الحسنة ، وإنما هي شرور بالنسبة إلى من لا يستفيد منها في طريق الاستكمال ، وعليه فشريتها ليست من نفسها ، بل من نفس من لا يستفيد منها.

فالعمدة هي كيفية الاستفادة من الأشياء سواء كانت بلايا وآفات أو غيرها من النعم ، فالآفات والعاهات والبلايا كالنعم والغنى والثروة والسلامة كلها من معدات الكمال.

فإيجاد البلايا والشرور ليست منافية للعدالة والحكمة ، بل هي عين ما اقتضته الحكمة والعدالة في ابتلاء الناس وامتحانهم واستكمالهم كما نص عليه في كتابه الكريم : «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ

__________________

(١) الإسراء : ٥٢.

(٢) الدرة الباهرة للشهيد الأول : ص ٢٦.

١٣٥

وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» (١).

الخامس : أن الاختلافات من جهة الأنواع والأصناف والأوصاف كالسواد والبياض أو البلادة والذكاوة أو النقص والتمام أو الرجولية والانوثية أو الإنسانية والحيوانية وغير ذلك ، لا تنافي العدل ؛ لأن العدل كما عرفت هو إعطاء كل ذي حق حقه ، ومن المعلوم أنه لا حق للشيء قبل خلقته ، فكل ما أعطاه الله تعالى للأشياء ، هو فضل لا حق ، وحيث ثبت أن كل ما أعطاه الله فضل ، فالاختلاف فيه لا يكون ظلما ، وإليه يرشد ما روي عن جابر بن يزيد الجعفي حيث قال : «قلت لأبي جعفر محمّد بن علي الباقر ـ عليهما‌السلام ـ : يا ابن رسول الله إنا نرى الأطفال منهم من يولد ميتا ومنهم من يسقط غير تام ، ومنهم من يولد أعمى ، وأخرس وأصم ، ومنهم من يموت من ساعته إذا سقط إلى الارض ، ومنهم من يبقى إلى الاحتلام ، ومنهم من يعمّر حتى يصير شيخا ، فكيف ذلك ، وما وجهه؟ فقال ـ عليه‌السلام ـ : إن الله تبارك وتعالى أولى بما يدبره من أمر خلقه منهم ، وهو الخالق والمالك لهم ، فمن منعه التعمير ، فإنما منعه ما ليس له ، ومن عمره فإنما أعطاه ما ليس له ، فهو المتفضل بما أعطى ، وعادل فيما منع ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون» (٢).

وبالجملة فالاختلاف والتبعيض لا ينافي العدل ، نعم لقائل أن يسأل عن حكمة ذلك ، ولكن الجواب عنه واضح ؛ لأنه لو لا الاختلافات لما وجد العالم المادي ، والنظام الاجتماعي ، مع أن خلقة العالم المادي ، والنظام الاجتماعي مقصود ، لكونه راجحا ، إذ لو كان المعيار هو التساوي المطلق لزم أن لا يوجد إلّا شيء واحد ، وهو لغو ، وليس بمقصود ولا يصدر منه ، كما أنه لو كان المعيار

__________________

(١) البقرة : ١٥٥ ـ ١٥٧.

(٢) نور الثقلين : ج ٣ ص ٤١٩.

١٣٦

هو التساوي في النوع لزم أن لا يوجد إلّا الإنسان مثلا ، فلا يمكن له أن يعيش ، إذ لا شيء آخر ، حتى يتغذى به أو يأوي إليه ، أو يتلبس به.

وأيضا لو كان جميع أفراد الإنسان ذكورا أو إناثا فقط ، لا نقرض نسل الإنسان ؛ لعدم إمكان التوالد والتناسل ، ولو كان الناس في الفكر والذوق والاستعداد متساوين ، لاختلت الامور التي لا يوافق مذاقهم ولو كان الناس في الأشكال والألوان وجميع الخصوصيات متحدين لما تعارفوا.

فالاختلافات من مقومات العالم المادي ، والنظام الاجتماعي.

لا يقال : نعم ، ولكن بقي السؤال لأفراد النساء مثلا ، بأن الله تعالى لم جعلني من الإناث ، ولم يجعلني من الرجال ، لأنّا نقول : لو عكس الله تعالى يعني جعلها من الرجال وجعل غيرها من النساء لما ارتفع السؤال ؛ لان لمن جعله من النساء أن يكرر ذلك السؤال ، فلا فائدة في التبديل كما لا يخفى.

السادس : أن علة النقص في المعلولين ، قد تكون من جهة تزاحم الأسباب في عالم المادة وقد مر أن بعض الشرور من لوازم العالم المادي ، ولعل إليه أشار الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ في توحيد المفضل حيث قال : وأنت يا مفضل ترى أصناف الحيوان أن يجري أكثر ذلك على مثال ومنهاج واحد كالانسان يولد وله يدان ورجلان وخمس أصابع ، كما عليه الجمهور من الناس فأما ما يولد على خلاف ذلك فإنه لعلة تكون في الرحم أو في المادة التي ينشأ منها الجنين ، كما يعرض في الصناعات حين يتعمد الصانع الصواب في صنعته فيعوق دون ذلك عائق في الأداة أو في الآلة التي يعمل فيها الشيء فقد يحدث مثل ذلك في أولاد الحيوان للأسباب التي وصفنا فيأتي الولد زائدا أو ناقصا أو مشوها ويسلم أكثرها فيأتي سويا لا علة فيه (١).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٣ ص ١٥٠.

١٣٧

وبالجملة فهذه النواقص الحاصلة من ناحية تزاحم الأسباب من لوازم عالم المادة ، وحيث كانت خيرية عالم المادة غالبة ، فالراجح هو إيجاده بما هو عليه ، كما لا يخفى ، وقد تكون من جهة ظلم الظالمين المتجاوزين المختارين في أعمالهم ، أو من جهة جهل الآباء والامهات بآداب النكاح وسننه ، وشرائط التوالد والتناسل ، وكيفية التغذية وحفظ الصحة ، أو من جهة سوء أفعالهم ، أو غير ذلك من المؤثرات الاختيارية.

ومن المعلوم أن الله تعالى بريء عن ظلم الظالمين ونهاهم عنه وأكده ، وفرض منعهم على كافة الناس ويعاقبهم في الآخرة ، وهكذا أرشد الآباء والامهات ، بتشريع الأحكام والسنن ، والآداب الشرعية ، وأيضا حذر الناس عن العصيان وارتكاب المعاصي ، والأعمال السيئة لتطيب أولادهم وأحفادهم.

فما ينبغي أن يفعله الله لم يتركه ، بل أتى به حق الاتيان ، وإنما التقصير والقصور من ناحية الناس وعالم المادة كما لا يخفى.

لا يقال : إن المعلولين لا يتمكنون من الاستكمال ؛ لأنهم لعلتهم عاجزون عن اتيان الأعمال الصالحة ، بمثل ما أتي به غيرهم فلا وجه لخلقهم.

لأنا نقول : إن التكليف ليس إلّا بمقدار طاقتهم ، فإذا أتوا بالأعمال بهذا المقدار ، تمكنوا من الاستكمال بما أتوا به والله تعالى رءوف بالعباد. هذا مضافا إلى أن لهم أن يقصدوا جميع الخيرات التي اتي بها غيرهم ممن ليس فيهم نقصهم فلهم ثواب تلك الاعمال إن كانوا صادقين في قصدهم ؛ لأن الأعمال بالنيات على أن الصبر على العلة والنقص يوجب ازدياد الكمال والثواب والحسنات فقد روي في الكافي عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ أنه قال : «من ابتلى من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد» (١).

__________________

(١) الاصول من الكافي : ج ٢ ص ٩٢.

١٣٨

وكم من معلول نال المقامات العالية والشامخة ، لعلو همته ونشاطه ، فعلى المعلولين أن لا يتركوا السعي نحو الكمال بمقدار الطاقة ، وعلى الناس أن يساعدوهم في هذا المجال ، ولا يهملوهم ، فإنهم إخوانهم والمسلم يهتم بامور المسلمين.

السابع : أنه قد يكون بعض الشرور لمكافأة الكفار وعذابهم ، كما نص عليه في حق الهالكين من الامم السابقة بقوله : (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) (١) (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (٢) بل يدل بعض الآيات الكريمة على أن المصيبات كالقحط والغلاء والشدائد ونحوها تعرض الأقوام والأفراد ولو لم يكونوا كافرين من جهة سوء اختيارهم ، والتغيرات السيئة في أنفسهم ، كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (٣) وقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٤) فمثل هذه الآية خطاب إلى الاجتماع أو الأفراد ، وتدل على أن بين المصائب ، كالقحط والغلاء والوباء والزلازل والمرض والضيق وغير ذلك ، من المصيبات والشدائد ، وبين أعمال الإنسان ارتباط خاص ، فلو جرى الإنسان أو المجتمع الإنساني على ما تقتضيه الفطرة من الاعتقاد والعمل ، نزلت عليهم الخيرات ، وفتحت عليهم البركات ، ولو أفسدوا افسد عليهم ، وهذه سنة إلهية ، إلّا أن ترد عليها سنة التكامل الأعلى كابتلاءات الأولياء ، مع أن أعمالهم كلها حسنات ، أو ترد سنة الاستدراج مع أن أعمالهم سيئات ، فينقلب الأمر كما قال تعالى :

__________________

(١) القصص : ٥٩.

(٢) الانعام : ٦.

(٣) الرعد : ١١.

(٤) الشورى : ٣٠.

١٣٩

(ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١) قوله : (حَتَّى عَفَوْا) أي كثروا عدة أو عدة وأصله الترك ، أي تركوا حتى كثروا ، ومنه إعفاء اللحى.

وكيف كان فالمكافأة والعذاب والتنبيه من علل وجود المصيبات ، كما هو صريح الآيات المذكورة وغيرها ، بل الروايات منها : صحيحة فضيل بن يسار عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ قال : «ما من نكبة تصيب العبد إلّا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر» (٢).

وصحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : أما أنه ليس من عرق يضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلّا بذنب ، وذلك قول الله عزوجل في كتابه : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) قال : ثم قال : «وما يعفوا الله أكثر مما يؤاخذ به» (٣).

ومن المعلوم أن هذه المكافأة توجب كثيرا ما التنبه والاتعاظ والرجوع.

ولعل إلى ذلك أشار الإمام الصادق ـ عليه‌السلام ـ حيث قال في توحيد المفضل : «ويلذع (أي يوجع ويؤلم) أحيانا بهذه الآفات اليسيرة لتأديب الناس وتقويمهم ، ثم لا تدوم هذه الآفات ، بل تكشف عنهم عند القنوط منهم فيكون وقوعها بهم موعظة وكشفها عنهم رحمة ـ إلى أن قال ـ ولو كان هكذا (أي عيش الإنسان في هذه الدنيا صافيا من كل كدر) كان الإنسان سيخرج من الأشر والعتوّ إلى ما لا يصلح في دين ودنيا ـ إلى أن قال ـ فإذا عضّته المكاره ووجد مضضها اتّعظ وأبصر كثيرا مما كان جهله وغفل عنه ورجع إلى كثير مما كان يجب عليه» (٤) ، وقال ـ عليه‌السلام ـ أيضا : إن هذه الآفات وإن كانت تنال الصالح

__________________

(١) الاعراف : ٩٥.

(٢) نور الثقلين : ج ٤ ص ٥٨٢.

(٣) نور الثقلين : ج ٤ ص ٥٨١.

(٤) بحار الأنوار ج ٣ ص ١٣٨.

١٤٠