بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

الشيخ محمّد رضا المظفّر

بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإماميّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد رضا المظفّر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١٠
ISBN: 964-470-180-1
ISBN الدورة:
964-470-180-1

الصفحات: ٣٢٠
الجزء ١ الجزء ٢

غير أن بعض المسلمين (٢) جوز عليه تعالى فعل القبيح تقدست أسماؤه فجوز أن يعاقب المطيعين ، ويدخل الجنة العاصين بل الكافرين ،

______________________________________________________

إلى ما أشار إليه الاستاذ الشهيد المطهري ـ قدس‌سره ـ من أن الحكماء يعتقدون بأنه تعالى عادل في أفعاله ، ولكن لا يستندون فيه إلى قاعدة الحسن والقبح التي يكون فيها نوع من تعيين التكليف والوظيفة لله تعالى (١) وإن أمكن أن يقال :

إن معنى الوجوب العقلي في أمثال القاعدة ليس إلّا ادراك العقل للضرورة ، كضرورة ثبوت الحسن لعنوان العدل ، أو ثبوت القبح لعنوان الظلم ؛ لكون العنوانين علة تامة لهما ، وكشف المناسبات ، كما مرت الإشارة إليه سابقا ، فالقاعدة لا تشتمل على التكليف والوظيفة حتى لا يليق تعيين التكليف بالنسبة إليه تعالى ، ولعل إليه يشير ما في شرح الأسماء الحسنى ، حيث قال : فإذا اعترفتم بعقلية حسن الإحسان وممدوحية فاعله عند العقل بمعنى صفة الكمال أو موافقة الغرض ، لزمكم الاعتراف بعقليته بمعنى ممدوحية فاعله عند الله ، إذ كل ما هو ممدوح أو مذموم عند العقل الصحيح بالضرورة أو بالبرهان الصحيح فهو ممدوح ، أو مذموم في نفس الأمر ، وإلّا لتعطل العقل ، ولتطرق الطريقة السوفسطائية ، وكل ما هو ممدوح أو مذموم في نفس الأمر فهو ممدوح أو مذموم عند الله ، وإلّا لزم جهله بما في نفس الأمر ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا (٢).

فما أدركه العقل من حسن العدل وقبح الظلم وممدوحية فاعل الأول ومذمومية فاعل الثاني معلوم للحق المتعال ومن المعلوم أنه تعالى لا يفعل إلّا على ما اقتضاه علمه ، فلا يفعل القبيح ولا يترك الحسن.

(٢) هم الأشاعرة الذين خالفوا مع المعتزلة في مسائل ، منها : مسألة

__________________

(١) كتاب عدل إلهى : ص ١٠.

(٢) شرح الأسماء الحسنى : ص ١٠٧.

١٠١

التحسين والتقبيح العقليين فإنّ الطائفة الاولى ذهبوا إلى نفي التحسين والتقبيح العقليين ، وتبعوا في تلك المسألة وغيرها عن شيخهم علي بن اسماعيل الأشعري ، ومن ثم سموا بالأشاعرة ، وينتهي نسب علي بن اسماعيل إلى أبي موسى الاشعري ، وكان علي بن اسماعيل من تلامذة أبي علي الجبائي المعتزلي ، وتوفي ببغداد حوالي سنة ٣٢٤ وقيل غيرها (١).

ولكن الإمامية والمعتزلة ذهبوا إلى إثبات تلك القاعدة ، وكيف كان حيث إن هذه المسألة تكون من أهم المسائل الكلامية ويبتني عليها المسائل الكلامية وغيرها فالأولى هو ملاحظة المسألة في كلمات الأعاظم والأكابر من القدماء والمتأخرين ، حتى يتضح مراد المثبت والنافي وأدلتهم.

كلمات الأكابر حول مسألة

التحسين والتقبيح

ألف : قال الشيخ المفيد ـ قدس‌سره ـ : اقول : إن الله عزوجل عدل كريم ، خلق الخلق لعبادته وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته وعمهم بهدايته ، بدأهم بالنعم وتفضل عليهم بالإحسان ، لم يكلف أحدا إلّا دون الطاقة ولم يأمره إلّا بما جعل له عليه الاستطاعة ، لا عبث في صنعه ، ولا تفاوت في خلقه ، ولا قبيح في فعله ، جل عن مشاركة عباده في الأفعال ، وتعالى عن اضطرارهم إلى الأعمال ، لا يعذب أحدا إلّا على ذنب فعله ، ولا يلوم عبدا إلّا على قبيح صنعه ، لا يظلم مثقال ذرة ، فإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ، وعلى هذا القول جمهور أهل الإمامة وبه تواترت الآثار عن آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) إحقاق الحق : ج ١ ص ٧٨ وص ١١٨.

١٠٢

وإليه يذهب المعتزلة بأسرها إلّا ضرارا منها وأتباعه ، وهو قول كثير من المرجئة (١) ، وجماعة من الزيدية والمحكمة (٢) ، ونفر من أصحاب الحديث ، وخالف فيه جمهور العامة وبقايا ممن عددناه ، وزعموا أن الله تعالى خلق أكثر خلقه لمعصيته وخص بعض عباده بعبادته ، ولم يعمهم بنعمه ، وكلف أكثرهم ما لا يطيقون من طاعته وخلق أفعال جميع بريته وعذب العصاة على ما فعله فيهم من معصيته ، وأمر بما لم يرد ونهى عما أراد وقضى بظلم العباد وأحب الفساد وكره من أكثر عباده الرشاد ، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا (٣).

ب : قال المحقق نصير الدين الطوسي ـ قدس‌سره ـ في قواعد العقائد ، في مقام تبيين ما ذهب إليه العدلية من الحسن والقبح العقليين : «فصل ـ الأفعال تنقسم إلى حسن وقبيح ، وللحسن والقبح معان مختلفة : فمنها أن يوصف الفعل الملائم أو الشيء الملائم بالحسن وغير الملائم بالقبح ، ومنها أن يوصف الفعل أو الشيء الكامل بالحسن والناقص بالقبح ، وليس المراد هنا هذين المعنيين.

بل المراد بالحسن في الأفعال ما لا يستحق فاعله بسببه ذما أو عقابا ، وبالقبح ما يستحقهما بسببه.

وعند أهل السنة ليس شيء من الأفعال عند العقل بحسن ولا بقبيح ، وإنما يكون حسنا أو قبيحا بحكم الشرع فقط. وعند المعتزلة أن بديهة العقل تحكم

__________________

(١) الذين يعتقدون بأن مع الايمان لا تضر المعصية ، وسمّوا بالمرجئة لاعتقادهم بأن الله أرجى تعذيبهم إي اخّره عنهم وبعّده أو لاعتقادهم بأن أهل القبلة كلهم مؤمنون بإقرارهم الظاهر بالايمان ، مع رجاء المغفرة لجميعهم (راجع كتاب مولى علي الرازي ص ٤٥ المطبوع في أواخر كتاب منتهى المقال وكتاب فرق الشيعة ، ص ٢٧ طبع النجف).

(٢) وفي الملل والنحل للشهرستاني : هم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي ـ عليه‌السلام ـ ... ج ١ ص ١١٥.

(٣) أوائل المقالات : ص ٢٤ ـ ٢٥.

١٠٣

يحسن بعض الأفعال ، كالصدق النافع والعدل ، وقبح بعضها كالظلم والكذب الضار ، والشرع أيضا يحكم بها في بعض الأفعال ، والحسن العقلي ما لا يستحق فاعل الفعل الموصوف به الذم ، والقبيح العقلي ما يستحق به الذم ، والحسن الشرعي ما لا يستحق به العقاب ، والقبيح ما يستحق به ، وبإزاء القبح ، الوجوب ، وهو ما يستحق تارك الفعل الموصوف به الذم والعقاب ، ويقولون : إن الله تعالى لا يخل بالواجب العقلي ، ولا يفعل القبيح العقلي البته ، وإنما يخل بالواجب ويرتكب القبيح جاهل أو محتاج ، واحتج عليهم أهل السنة بأن الفعل القبيح كالكذب مثلا ، قد يزول عند اشتماله على مصلحة كلية عامة ، والأحكام البديهية ككون الكل أعظم من الجزء لا يمكن أن يزول بسبب أصلا» (١).

ج : قال العلّامة الحلي ـ قدس‌سره ـ في شرحه عليها ، المسمّى بكشف الفوائد : «فعند الاشاعرة أنّه لا حسن ولا قبح عند العقل ، بل الحسن ما أسقط الشارع العقاب عليه ، والقبيح ما علق الشارع العقاب بفعله ، وليس للفعل صفة باعتبارها يكون حسنا أو قبيحا ، وإنما الحسن والقبيح بجعل الشارع ، فكل ما أمر به فهو حسن ، وكل ما نهى عنه فهو قبيح.

وقالت المعتزلة : إن من الأشياء ما هو حسن في نفسه ، لا باعتبار حكم الشارع ، ومنه ما هو قبيح في نفسه لا بحكم الشارع ، والفعل الحسن يشتمل على صفة تقتضي حسنه ، وكذا القبيح ، وبعضهم عللهما بذوات الأفعال لا بصفاتها ، وجعلوا الشرع كاشفا عما خفي منها ، لا سببا فيهما ، فمن الأشياء ما يعلم بضرورة العقل حسنه أو قبحه ، كحسن الصدق النافع ، وقبح الكذب الضار ، وحسن الاحسان وقبح الظلم ، ومنها ما يعلم حسنه وقبحه عقلا بالنظر والاستدلال ،

__________________

(١) كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد : ص ٦٤.

١٠٤

كقبح الصدق الضار ، وحسن الكذب النافع ، ومنها ما لا يستقل العقل به فيحتاج إلى الشرع ليكشف عنه كحسن الشرائع وقبح تركها ، والأولان حسنهما وقبحهما عقلي ، والأخير شرعي ، بمعنى أنه كاشف.

والحسن العقلي ما لا يستحق فاعل الفعل الموصوف به ذما ، ويدخل تحته الواجب العقلي ، والمندوب ، والمباح ، والمكروه ، والقبيح العقلي ما يستحق فاعله به الذم وهو الحرام لا غير ، والحسن الشرعي ما لا يستحق به العقاب ، والقبيح ما يستحق به ، وبإزاء القبح الوجوب وهو ما يستحق تارك الفعل الموصوف به الذم والعقاب ، فالأول عقلي والأخير شرعي ، واحتجوا بأن الضرورة قاضية بقبح الظلم وحسن العدل ، ولأنهما لو كانا شرعيين ، لجاز إظهار المعجزة على يد الكذاب ، فينتفي الفرق بين النبي والمتنبي ، ولأنهما لو كانا شرعيين لما قبح من الله شيء فجاز الخلف في وعده ووعيده ، وانتفت فائدة التكليف ، ولأنهما لو كانا شرعيين لم تجب المعرفة ولا النظر عقلا ، فيلزم إفحام الأنبياء ، قالوا : ويمتنع من الله تعالى أن يفعل قبيحا أو يخل بواجب ؛ لأنّ حكمته تنافي ذلك فإن فاعل القبيح والمخل بالواجب ، إما أن يفعل ذلك مع علمه أو لا ، والثاني جهل ، والله تعالى منزه عنه ، والأول يلزم منه إما الحاجة أو السفه ، وهما هما منتفيان عنه تعالى.

اعترضت الأشاعرة بأن القبيح لو كان عقليا ، لما اختلف حكمه ، ولما جاز زواله ، والتالي باطل فالمقدم مثله ، بيان الشرطية : إن الأحكام الضرورية لا يمكن تغيرها ، وأن كون الكل أعظم من الجزء ، لا يمكن زوال الحكم به بسبب أصلا ، وبيان انتفاء التالي ، أن الكذب قد يستحسن إذا اشتمل على مصلحة عامة ، ولو كان قبحه بديهيا لما زال.

والجواب المنع من زواله فإن هذا الكذب حسن ، لا باعتبار كونه كذبا ، بل باعتبار اشتماله على المصلحة ، وقبحه من حيث هو كذب لا يزول. ويتعين ارتكاب الحسن الكثير ، وإن اشتمل على قبح يسير ، كما أن من توسط أرضا

١٠٥

مغصوبة يجب عليه الخروج عنها ، وإن كان غصبا ؛ لاشتماله على أقل الضررين ـ إلى أن حكى جواب الحكماء عن ذلك ، وقال : ـ قال الحكماء : للنفس الناطقة قوة نظرية ، وهي تعقل ما لا يكون من أفعالنا واختيارنا ، وقوة عملية ، وهي تعقل ما يكون من أفعالنا واختيارنا ، والعقل النظري الذي يحكم بالبديهيات من كون الكل أعظم من الجزء ، لا يحكم بحسن شيء من الأفعال ولا بقبحه ، وإنما يحكم بذلك العقل العملي الذي يدبر مصالح نوع الإنسان وأشخاصه ، ولذلك ربما يحكم بحسن فعل وقبحه بحسب مصلحتين ، كما يقولون في الكذب المشتمل على المصلحة العامة. لا إذا خلا عنها ، ويسمون ما يقضيه العقل العملي من الأحكام المذكورة ، إذا لم يكن مذكورا في شريعة من الشرائع بأحكام الشرائع غير المكتوبة وهي الأحكام الثابتة في كل الشرائع ، كالحكم بأن الانصاف والاحسان حسن ، ويسمون ما ينطق به شريعة من الشرائع ـ وهي الأحكام المختصة بشريعة دون اخرى ـ بأحكام الشرائع المكتوبة» (١).

د : قال في التجريد : «وهما عقليان ، للعلم بحسن الإحسان وقبح الظلم ، من غير شرع ، ولانتفائهما مطلقا لو ثبتا شرعا ، ولجاز التعاكس ، قال الشارح العلّامة ـ قدس‌سره ـ في توضيحه : وتقرير الأول بأنهما لو ثبتا شرعا لم يثبتا لا شرعا ولا عقلا ، والتالي باطل إجماعا ، فالمقدم مثله.

بيان الشرطية : إنه لو لم نعلم حسن الأشياء وقبحها عقلا ، لم نحكم بقبح الكذب ، فجاز وقوعه من الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، فإذا أخبرنا في شيء أنه قبيح لم نجزم بقبحه ، وإذا أخبرنا في شيء أنه حسن لم نجزم بحسنه ؛ لتجويز الكذب ، وتقرير الثاني بأنه يجوز أن يكون امم عظيمة يعتقدون حسن مدح من أساء إليهم ، وذم من أحسن إليهم ، كما حصل لنا اعتقاد عكس ذلك» (٢).

__________________

(١) كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد : ص ٦٤ ـ ٦٥.

(٢) شرح التجريد : ص ١٨٦.

١٠٦

ويستفاد من كلماتهم امور :

١ ـ إن محل النزاع في الحسن والقبح العقليين بين العدلية والأشاعرة وغيرهم من أهل الخلاف هو حكم العقل باستحقاق فاعل العدل للمدح ، وباستحقاق فاعل الظلم للذم ، كما صرح به الخواجة نصير الدين الطوسي ، والعلّامة الحلي ـ قدس‌سرهما ـ ، فالعدلية والمعتزلة أثبتوه ، بخلاف الأشاعرة وأما حسن الملائم وقبح المنافر ، أو حسن الكامل وقبح الناقص ، من معاني الحسن والقبح ، فلا خلاف فيه ، بل كلهم اتفقوا على حكم العقل بهما ، ومما ذكر يظهر ما في دلائل الصدق ، من أن هذا التفصيل مما أحدثه المتأخرون من الأشاعرة تقليلا للشناعة (١) ؛ لأن عبارة المحقق الطوسي والعلّامة كافية لإثبات التفصيل المذكور.

٢ ـ ذهب الإمامية والمعتزلة على ما في كشف الفوائد ، إلى أن حكم العقل في ذلك بديهي في بعض الأفعال كحسن الصدق النافع ، والإحسان والعدل ، وقبح الكذب الضار والإساءة والظلم ، ونظري في بعض آخر كقبح الصدق الضار ، أو حسن الكذب النافع ، كما أنه لا حكم له في قسم ثالث من الأفعال كالعباديات والمخترعات الشرعية ، بل يحتاج في تشخيص حسنها أو قبحها إلى الشرع الكاشف عنهما ، فدعوى الحسن والقبح العقليين بلا واسطة الشرع في بعض الأفعال لا جميعها.

٣ ـ استدل الإمامية والمعتزلة بامور : منها بداهة حكم العقل بهما ، ومنها أنه لو لم يكونا عقليين لزم التوالي الفاسدة ، من انتفاء الفرق بين النبي والمتنبي ، ومن عدم قبح صدور شيء منه تعالى ، ومن افحام الأنبياء ، ومن عدمهما رأسا مع أن

__________________

(١) دلائل الصدق : ج ١ ص ١٨١.

١٠٧

الخصم لا يلتزم بهذه اللوازم الفاسدة.

٤ ـ استدل الأشاعرة على نفي الحكم العقلي في التحسين والتقبيح بأنّ الأحكام الضرورية لا تتغير ولا تتبدل ، كحكم العقل بأن الكل أعظم من الجزء وليس الحكم بحسن الصدق وقبح الكذب كذلك ؛ لأن الكذب قد يستحسن ، كما إذا اشتمل على مصلحة عامة والصدق قد يستقبح ، كما إذا اشتمل على مفسدة عامة. هذا مضافا إلى استدلالهم بالدليل السمعي كما سيأتي.

اجيب عن استدلال الأشاعرة على نفي الحكم العقلي بأجوبة :

(أحدها): ما عن المتكلمين وحاصله هو منع التبدل والتغير ، حيث إن للكذب النافع حيثيتين يكون الكذب باعتبار أحدهما حسنا ، وهو اشتماله على المصلحة ، وبالاعتبار الآخر قبيحا ، وهو كونه خلاف الواقع وكذبا ، وحيث كان جانب الحسن غالبا على جانب القبح ، فاللازم هو ارتكاب الكذب النافع ، وإن اشتمل على قبح يسير فقبحه لا يزول ولا يتغير ، بل يزاحمه مصلحة غالبة.

وفي هذا الجواب نظر ؛ لأن قبح الكذب بعد اشتماله على المصلحة الغالبة ، لا يبقى على الفعلية ، وكفى ذلك في التبدل والتغير ، هذا مضافا إلى أن الحسن والقبح ليسا ذاتيين لعنوان الصدق والكذب ؛ لأنهما من الامور التي تختلف بالوجوه والاعتبارات ، فلا يحمل الحسن والقبح عليهما إلّا بتوسيط عنوان ذاتي آخر ، فالحسن والقبح ذاتي لذلك العنوان ، وعرضي لعنوان الصدق والكذب ، والعنوان الذاتي كالعدل في القول ، لا يصدق بالفعل على الصدق ، إلّا إذا كان خاليا عن جهة المفسدة الفعلية ، أو كالظلم في القول لا يصدق بالفعل على الكذب إلّا إذا كان خاليا عن جهة المصلحة الفعلية ، فإذا اشتمل الصدق على جهة المفسدة الفعلية لا يصدق عليه بالفعل إلّا عنوان الظلم فلا يكون إلّا قبيحا

١٠٨

ومذموما ، كما أنه إذا اشتمل الكذب على جهة المصلحة الفعلية لا يصدق عليه بالفعل إلّا عنوان العدل فلا يكون إلّا حسنا وممدوحا ؛ لأن الصدق والكذب من الامور التي تختلف بالوجوه والاعتبارات ، وليس الحسن والقبح ذاتيين لهما والمفروض أن العنوان الذاتي واحد وليس بمتعدد إذ الصدق مثلا اما عدل أو ظلم ، فأين اجتماع الحسن والقبح ، حتى يلتزم ببقائهما وعدم زوالهما.

(وثانيها): ما ذهب إليه بعض الأعاظم ، كالمحقق اللاهيجي (١) والمحقق السبزواري من منع التغير في ناحية الحكم العقلي ومن انحصار الاختلاف والزوال في ناحية الموضوع ، وتقريبه أن عناوين الأفعال بالنسبة إلى الحسن والقبح على ثلاثة أقسام :

الأول : ما هو علة للحسن والقبح ، كالعدل والظلم ، فإنهما في حد نفسهما محكومان بهما من دون حاجة إلى اندراجهما تحت عنوان آخر ، فالحسن والقبح ذاتيان لهما ، لا يقال : لا مصداق لهما ؛ لأن جميع الأفعال الخارجية تتغير بالوجوه والاعتبارات ؛ لانا نقول ليس كذلك ؛ لأن مثل إطاعة الله تعالى أو شكر المنعم أو دفع الضرر المحتمل أو تصديق النبي والولي لا تنفك عن الحسن. كما أن مثل مخالفة الله تعالى في أوامره ونواهيه أو كفران نعمته لا تنفك عن القبح. وليس ذلك إلّا لعدم اختلافها بالوجوه والاعتبارات ، فهذه الامور من مصاديق العدل أو الظلم في جميع الأحوال ، ولذا لا تنفك عن الحسن أو القبح فتدبر جيدا.

الثاني : ما هو مقتض لهما كالصدق والكذب ، فإنهما لو خلّيا وطبعهما مندرجان تحت عنوان العدل والظلم ، وباعتبارهما يتصفان بالحسن والقبح ، وحيث إن توصيفهما بهما من جهة اندراجهما تحت العناوين الحسنة والقبيحة يسمى الحسن والقبح فيهما بالعرضيين.

__________________

(١) سرمايه ايمان : ص ٥٩.

١٠٩

الثالث : ما لا علية ولا اقتضاء له بالنسبة إلى الحسن والقبح كالضرب فهو لا يتصف بهما ما لم يترتب عليه مصلحة أو مفسدة ، فإذا ترتب عليه مصلحة التأديب كان حسنا باعتبار اندراجه تحت عنوان العدل ، وإذا ترتب عليه مفسدة ، كالتشفي والتجاوز كان قبيحا باعتبار اندراجه تحت عنوان الظلم وإذا لم يترتب عليه شيء كضرب الساهي أو النائم فلا يتصف بهما.

فإذا عرفت ذلك ، فاعلم أن حسن الأشياء وقبحها على أنحاء ، فما كان ذاتيا لا يقع فيه اختلاف فإن العدل بما هو عدل لا يكون قبيحا أبدا ، وكذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون حسنا أبدا ، أي أنه ما دام عنوان العدل صادقا فهو ممدوح ، وما دام عنوان الظلم صادقا ، فهو مذموم ، وأما ما كان عرضيا ، سواء كان مقتضيا لهما أم لا فإنه يختلف بالوجوه والاعتبارات ، فمثلا الصدق أو الضرب ، إن دخل تحت عنوان العدل كان ممدوحا ، وإن دخل تحت عنوان الظلم كان قبيحا ، ولكن الاختلاف في ناحية الموضوع لا في ناحية الحكم ، بعد ما عرفت من أن اتصاف الأفعال بهما ، فيما إذا لم تكن علة لهما باعتبار اندراجهما في العناوين الحسنة أو القبيحة الذاتية ، وأما الحكم بحسن العدل وقبح الظلم فهو ثابت ، ولا تغير فيه ، فالتغير في الموضوعات فإنها قد تكون مصداق العدل فيتصف بالحسن وقد تكون مصداق الظلم فتتصف بالقبح فلا تغفل.

(وثالثها): ما أفاده بعض المحققين من أن الموضوع في قولنا الصدق حسن ، ليس مطلق الصدق ، بل الصدق المقيد بقيد المفيد ، وحمل الحسن على مطلق الصدق من المشهورات التي لا تكون برهانا ، بل لا يفيد إلّا ظنا ؛ لأن الحسن ليس محمولا على الصدق ذاتا بما هو صدق ، بل يحتاج إلى حد وسط ، وهو كونه مفيدا بحال المجتمع ، فهذا التعليل يعمم ويخصص ، فكل شيء يفيد بحال المجتمع ولو كان هو الكذب حسن ، وكل شيء يضر بحال المجتمع ولو كان هو الصدق قبيح ، فالموضوع الأصلي للحسن أو القبح هو المفيد أو المضر للمجتمع

١١٠

والحكم في مثلهما ثابت ولا تبديل ولا تغير فيه ، وبه يظهر أن الاصول الأخلاقية أو المحسنات والمقبحات العقلية اصول ثابتة ، لا تتغير ولا تتبدل ، وتوهم نسبية هذه الاصول كما ذهبت إليه الماركسية سخيف جدا وبالجملة لا تغيير في ناحية التحسين والتقبيح الذاتيين.

ولكن الجواب الثاني أولى من هذا الجواب فإن ظاهره هو اختصاص الحكم العقلي بالتحسين والتقبيح الذاتيين ، دون العرضيين ، مع أن قضية الصدق حسن ، ما لم تنضم إليها جهة القبح صحيحة بحكم العقل ؛ لكونه عدلا في القول ، حيث إن حق السامع والمخاطب ، هو إلقاء الكلام المطابق للواقع له ، فإلقاء الكلام الصدق عدل في القول ، ولو لم يكن مفيدا للمجتمع ، نعم يعتبر في صدق العدل عليه عدم انضمام جهة القبح إليه فالصدق ما لم ينضم إليه جهة القبح مقتض للحسن ؛ لصدق العدل عليه ، والعدل يكفي للتوسيط ، ولا حاجة إلى قيد الإفادة ، كما أنه إذا انضم إليه جهة القبح صار ظلما ، والكذب بالعكس ، فالتحسين والتقبيح في مثل الصدق والكذب يكونان عرضيين ويختلفان باختلاف الوجوه والاعتبارات ، فلا وجه لانحصار الحكم العقلي في التحسين والتقبيح الذاتيين ؛ لأن الصدق ولو لم يكن مفيدا حسن عقلا ؛ لكونه مصداقا للعدل ، والكذب ولو لم يكن مضرا قبيح عقلا ؛ لكونه خلاف الواقع فلا حاجة في تحسين الصدق وتقبيح الكذب إلى قيد الإفادة أو الاضرار ، نعم يحتاج إليهما في التحسين والتقبيح الذاتيين بناء على مدخليتهما في الموضوع الأصلي والعنوان الذاتي.

ثم إن الموضوع الأصلي للحسن والقبح كما عرفت هو عنوان العدل والظلم اللذين هما من العناوين الذاتية الحسنة والقبيحة ، ولذا لا يتغير حكمهما وأما الصدق المفيد والكذب المضر فهما باعتبار كونهما مصداقين للعدل والظلم مشمولان للحسن والقبح ، وليسا من العناوين الذاتية ، ولذا يمكن أن يكون

١١١

صدق مفيدا بحال مجتمع ، ومع ذلك لا يكون عدلا ؛ لكونهم محاربين مع الإسلام والمسلمين مثلا.

ثم إن ثبات الاصول الأخلاقية وعدم نسبيتها يكفيه التحسين والتقبيح الذاتيين في العناوين الذاتية الحسنة والقبيحة ، كقولنا : العدل حسن والظلم قبيح.

(ورابعها): ما عن أكثر الحكماء من أن قضية الحسن والقبح من أحكام العقل العملي التي تتغير بحسب تغير المصالح والمفاسد والوجوه والاعتبارات ، ولا ضير فيه ، وإنما الثابت هو حكم العقل النظري فالتغير في مثل الصدق حسن والكذب قبيح لا ينافي عقلية الأحكام ؛ لعدم اختصاص الأحكام العقلية بالضروريات التي يدركها العقل النظري ، ولا تغيير ولا تبديل فيها. فقد أشار إليه العلامة ـ قدس‌سره ـ تبعا للخواجة نصير الدين الطوسي ـ قدس‌سره ـ وأوضحه المصنف ـ قدس‌سره ـ في كتاب منطقه حيث قال في المنطق عند عدّ أقسام المشهورات : «٢ ـ التأديبات الصلاحية وتسمى المحمودات والآراء المحمودة ، وهي ما تطابقت عليها الآراء من أجل قضاء المصلحة العامة للحكم بها ، باعتبار أن بها حفظ النظام ، وبقاء النوع ، كقضية حسن العدل ، وقبح الظلم ومعنى حسن العدل أن فاعله ممدوح لدى العقلاء ومعنى قبح الظلم أن فاعله مذموم لديهم ، وهذا يحتاج إلى التوضيح والبيان فنقول :

إن الانسان إذا أحسن إليه أحد بفعل يلائم مصلحته الشخصية ، فإنه يثير في نفسه الرضا عنه ، فيدعوه ذلك إلى جزائه وأقل مراتبه المدح على فعله ، وإذا أساء إليه أحد بفعل لا يلائم مصلحته الشخصية ، فإنه يثير في نفسه السخط عليه فيدعوه ذلك إلى التشفي منه والانتقام ، وأقل مراتبه ذمه على فعله ، وكذلك الإنسان يصنع إذا أحسن أحد بفعل يلائم المصلحة العامة من حفظ النظام الاجتماعي ، وبقاء النوع الانساني ، فإنه يدعوه ذلك إلى جزائه وعلى الأقل

١١٢

يمدحه ، ويثني عليه ، وإن لم يكن ذلك الفعل يعود بالنفع لشخص المادح ، وإنما ذلك الجزاء لغاية حصول تلك المصلحة العامة التي تناله بوجه (وهكذا في طرف الاساءة) إلى أن قال : وكل عاقل يحصل له هذا الداعي للمدح والذم ، لغرض تحصيل تلك الغاية العامة ، وهذه القضايا التي تطابقت عليها آراء العقلاء من المدح والذم. لأجل تحصيل المصلحة العامة ، تسمى الآراء المحمودة والتأديبات الصلاحية ، وهي لا واقع لها وراء تطابق آراء العقلاء وسبب تطابق آرائهم شعورهم جميعا بما في ذلك من مصلحة عامة.

وهذا هو معنى التحسين والتقبيح العقليين اللذين وقع الخلاف في اثباتهما بين الأشاعرة والعدلية فنفتهما الفرقة الاولى ، وأثبتتهما الثانية ، فإذ يقول العدلية بالحسن والقبح العقليين ، يريدون أن الحسن والقبح من الآراء المحمودة والقضايا المشهورة ، التي تطابقت عليها الآراء ، لما فيها من التأديبات الصلاحية ، وليس لها واقع وراء تطابق الآراء.

والمراد من العقل إذ يقولون أن العقل يحكم بحسن الشيء أو قبحه ، هو «العقل العملي» ، ويقابله «العقل النظري». والتفاوت بينهما إنما هو بتفاوت المدركات ، فإن كان المدرك مما ينبغي أن يعلم مثل قولهم : «الكل أعظم من الجزء» الذي لا علاقة له بالعمل يسمى ادراكه «عقلا نظريا» وإن كان المدرك مما ينبغي أن يفعل ويؤتى به ، أو لا يفعل ، مثل حسن العدل وقبح الظلم ، يسمى ادراكه «عقلا عمليا».

ومن هذا التقرير يظهر كيف اشتبه الأمر على من نفى الحسن والقبح ، في استدلالهم على ذلك بأنه لو كان الحسن والقبح عقليين لما وقع التفاوت بين هذا الحكم وحكم العقل بأن الكل أعظم من الجزء ؛ لأن العلوم الضرورية لا تتفاوت ، ولكن لا شك بوقوع التفاوت بين الحكمين عند العقل.

وقد غفلوا في استدلالهم ، إذ قاسوا قضية الحسن والقبح ، على مثل قضية

١١٣

الكل أعظم من الجزء ، وكأنهم ظنوا أن كل ما حكم به العقل فهو من الضروريات مع أن قضية الحسن والقبح من المشهورات بالمعنى الأخص ، ومن قسم المحمودات خاصة ، والحاكم بها هو العقل العملي ، وقضية الكل أعظم من الجزء من الضروريات الأولية ، والحاكم بها هو العقل النظري ، وقد تقدم الفرق بين العقلين ، كما تقدم الفرق بين المشهورات والضروريات ، فكان قياسهم قياسا مع الفارق العظيم ، والتفاوت واقع بينهما لا محالة ، ولا يضر هذا في كون الحسن والقبح عقليين ، فإنه اختلط عليهم معنى العقل الحاكم في مثل هذه القضايا ، فظنوه شيئا واحدا كما لم يفرقوا بين المشهورات واليقينيات ، فحسبوهما شيئا واحدا مع أنهما قسمان متقابلان (١).

وزاد في الاصول بأن الفارق بين المشهورات والأوليات من وجوه ثلاثة :

الأول ـ أن الحاكم في قضايا التأديبات ، العقل العملي ، والحاكم في الأوليات العقل النظري.

الثاني ـ أن القضية التأديبية لا واقع لها إلّا تطابق آراء العقلاء ، والأوليات لها واقع خارجي.

الثالث ـ أن القضية التأديبية لا يجب أن يحكم بها كل عاقل لو خلّي ونفسه ، ولم يتأدب بقبولها والاعتراف بها ، كما قال الشيخ الرئيس على ما نقلناه من عبارته فيما سبق في الأمر الثاني ، وليس كذلك القضية الأولية التي يكفي تصور طرفيها في الحكم ، فإنه لا بد أن لا يشذ عاقل في الحكم بها لأول وهلة (٢). وحاصل مختارهم أنهم التزموا بالتغير والتبدل ، في ناحية الحكم ولكن

__________________

(١) كتاب المنطق : ص ٣٢٩ ـ ٣٣١.

(٢) كتاب اصول الفقه : ج ١ و ٢ ص ٢٣١ ـ ٢٣٢ وراجع تعليقة المحقق الاصفهاني قدس‌سره على الكفاية في مبحث حجية الظن : ج ٢ ص ١٢٤.

١١٤

قالوا : إن ذلك لا يخرج الحكم عن الأحكام العقلية كما توهمه الأشاعرة ، فإن العقل العملي يدبر مصالح نوع الإنسان ، فإذا كان شيء كالصدق ذا مصلحة أدرك حسنه وجعل فاعله مستحقا للمدح ، وإذا اقترن بالمفسدة الملزمة الاجتماعية أدرك قبحه وجعل فاعله مستحقا للذم ، فحكم العقل العملي يتغير بحسب تغير المصالح والمفاسد ، ولا يقاس بالعقل النظري الذي لا تغير فيه ، فالعقلاء يحكمون بالعقل العملي ، بحسن العدل وقبح الظلم باعتبار المصالح والمفاسد النوعية ، لا بما هو عدل أو ظلم ، فالتغير لا يخرج الحكم عن الحكم العقلي.

وفيه أن الأظهر أن الإنسان لو خلّي وعقله المجرد ، يقضي بالبداهة بحسن العدل وقبح الظلم ؛ لكون العدل كمالا لفاعله وملائما ، للغرض من خلقته والظلم نقصا ومنافرا ، ولا يتوقف حكمه المذكور على تحقق الاجتماع البشري ، وتطابق آرائهم فإن لقضية الحسن والقبح واقعا في نفس الأمر ، وهو كمال العدل وملائمته ونقصان الظلم ومنافرته ، سواء كان اجتماع أم لا ، وسواء أطبقوا على حسنه أم لا ، وهذا الكمال أو النقص هو الذي يدعو الانسان إلى المدح أو الذم ، كما قاله المحقق اللاهيجي (١) ، ولذا نقول : إن التحسين والتقبيح الذاتيين جاريان في حق الإنسان الأولي ولو كان واحدا ، فإنه يجب عليه بحكم قاعدة الحسن والقبح معرفة الباري تعالى ؛ لقبح تضييع حقّ المولى ، وحسن شكر المنعم ، ويحكم بعقله على وجوب إرسال النبيّ ، لاهتدائه إلى وظائفه ، وعلى قبح العقاب بلا بيان ، وغير ذلك من الأحكام العقلية البديهية ، وهذه الاحكام لا تتوقف على وجود الاجتماع ، فضلا عن تطابق آرائهم عليه ، ولها واقع وراء الاجتماع البشري ، وآرائهم ، وليس ذاك إلّا كمال العدل وملائمته

__________________

(١) گوهر مراد : ص ٢٤٦.

١١٥

ونقص الظلم ومنافرته.

نعم إذا تكثر أفراد الإنسان وحصل الاجتماع وتطابق آرائهم على الحسن والقبح لحفظ المجتمع ومراعاتهم ، يصلح هذا التطابق لتأييد ما حكم به العقل.

نعم لا مانع من ادراج الأحكام البديهية العقلية في المشهورات بالمعنى الأعم ، كما عرفت ، وأما ادراجها في خصوص المشهورات بالمعنى الأخص ، التي لا واقع لها إلّا تطابق الآراء ، ففيه منع ؛ لما مرّ من وجود التحسين والتقبيح العقليين ولو لم يكن اجتماع وتطابق ، وبالجملة قضية العدل حسن ، والظلم قبيح ، من القضايا الضرورية التي أدركها العقل النظري بالبداهة لو خلّي وطبعه ، من دون حاجة إلى الاجتماع وآرائهم ، ولها واقع خارجي.

وصرح بذلك جماعة من المحققين كالمحقق اللاهيجي (١) والمحقق السبزواري ـ قدّس الله أرواحهم ـ ولقد أفاد وأجاد المحقق السبزواري في شرح الأسماء الحسنى ، حيث قال : وقد يستشكل دعوى الضرورة في القضية القائلة بأن العدل حسن والظلم قبيح ، بأن الحكماء جعلوهما من المقبولات العامة ، التي هي مادة الجدل ، وجعلهما من الضروريات ، التي هي مادة البرهان ، غير مسموع.

والجواب : إن ضرورة هذه الأحكام بمرتبة لا يقبل الانكار ، بل الحكم ببداهتها أيضا بديهي ، غاية الأمر أن هذه الأحكام من العقل النظري بإعانة العقل العملي ، بناء على أن فيها مصالح العامة ومفاسدها ، وجعل الحكماء إياها من المقبولات العامة ليس الغرض منه إلّا التمثيل للمصلحة أو المفسدة العامتين المعتبر فيه قبول عموم الناس لا طائفة مخصوصين وهذا غير مناف لبداهتها ، إذ القضية الواحدة يمكن أن تدخل في اليقينيات والمقبولات من جهتين ، فيمكن

__________________

(١) سرمايه ايمان : ص ٦٠ ـ ٦٢ وراجع أيضا آموزش فلسفه : ج ١ ص ٢٣١ ـ ٢٣٥.

١١٦

اعتبارها في البرهان والجدل باعتبارين (١).

وهذا في غاية القوة وإن استغربه المحقق الأصفهاني ، وذهب إلى أن حسن العدل وقبح الظلم من المشهورات بالمعنى الخاص (٢) وعليه فالجواب عن شبهة الأشاعرة هو ما عرفت في الجواب الثاني ، من أن التحسين والتقبيح قد يكونان ذاتيين كحسن العدل وقبح الظلم ، فهما ليسا إلّا من العقل البديهي ولا يختلفان ولا يتغيران ، كسائر الأحكام البديهية العقلية ، فالظلم باعتبار اشتماله على النقص والمنافرة وتضييع حقوق الآخرين ، محكوم بالقبح ، وهكذا العدل باعتبار اشتماله على الكمال والملايمة ومراعاة حقوقهم محكوم بالحسن ، ولا تبدل ولا تغير في هذا الحكم ؛ لأن العدل والظلم من العناوين التي تكون محسنة أو مقبحة ذاتا وإليه يؤول قول الشيخ الأعظم الأنصاري ـ قدس‌سره ـ من أن الظلم علة تامة للقبح (٣).

نعم ربما لا يكون بعض العناوين من العناوين المحسنة ، أو المقبحة ذاتا ، فحينئذ يكون الحكم بالحسن أو القبح في مثله عرضيا كاتصاف الصدق بالحسن والكذب بالقبح ؛ لأن الاتصاف المذكور ليس ذاتيا له ، بل باعتبار انطباق عنوان آخر عليه ، وهذا الحكم العرضي يختلف بالوجوه والاعتبارات العارضة ، ولكن التغير في ناحية المنطبق عليه العنوان لا نفس الحكم العقلي الكلي إذ المتغير في الحقيقة هو المنطبق عليه العدل لا حكم العدل ، فالتغير من باب تبدل الموضوع ـ كالمسافر والحاضر ـ فإن الصدق ما لم تنضم إليه جهة القبح يقتضي الحسن ؛ لكونه مصداقا للعدل في القول ، فإذا انضم إليه جهة القبح

__________________

(١) شرح الأسماء الحسنى : ص ١٠٧.

(٢) نهاية الدراية في شرح الكفاية : ج ٢ مبحث الظن ص ١٢٥ ـ ١٢٦.

(٣) فرائد الاصول : ص ٦.

١١٧

يصير مصداقا للظلم ، وأما حسن العدل وقبح الظلم فلا تغير ولا تبدل فيهما أصلا.

ثم لا يخفى عليك أن المصنف أجاب عن هذه الشبهة في الاصول بما يشبه الجواب الثاني وقال في آخر العبارة والخلاصة : إن العدلية لا يقولون بأن جميع الأشياء لا بد أن تتصف بالحسن أبدا أو بالقبح أبدا حتى يلزم ما ذكر من الإشكال. ولكن امعان النظر في كلامه يقضي بأن مراده من هذا الكلام ليس هو الجواب الثاني ، بل مراده هو الجواب الرابع الذي أوضحه في كتاب منطقه فحكم العقل بحسن العدل والاحسان أو قبح الظلم والاساءة عنده من باب الآراء المحمودة ، وكونه ملائما لمصلحة النوع الإنساني لا من باب العقل النظري فتأمل.

وكيف كان فإلى التحسين والتقبيح العقليين اشير في بعض الآيات الكريمة كقوله تعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) (١).

وقوله تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٢).

ثم إن المراد من الحسن هو استحقاق المدح ومن القبح هو استحقاق الذم ، وملاك الحسن في حسن العدل هو ادراك كمال العدل أو موافقته وملائمته للغرض كما أن ملاك القبح في قبح الظلم هو ادراك نقص الظلم وعدم موافقته وملائمته للغرض ، كما صرح به المحقق اللاهيجي وغيره (٣).

هذا تمام الكلام في الحسن والقبح العقليين ، وقد عرفت أن الإمامية أثبتوا العدل لله تعالى والاجتناب عن القبائح عن طرق مختلفة ، ومن جملتها قاعدة

__________________

(١) الرحمن : ٦٠.

(٢) ص : ٢٨.

(٣) گوهر مراد ص ٢٤٦ وراجع كتاب احقاق الحق : ج ١ ص ٣٣٩ ـ ٤٢١ وغير ذلك.

١١٨

وجوز أن يكلف العباد فوق طاقتهم وما لا يقدرون عليه ، ومع ذلك يعاقبهم على تركه ، وجوز أن يصدر منه الظلم والجور والكذب والخداع ، وأن يفعل الفعل بلا حكمة وغرض ولا مصلحة وفائدة ، بحجة أنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون (٣).

فربّ أمثال هؤلاء الذين صوروه على عقيدتهم الفاسدة ، ظالم ، جائر ، سفيه ، لاعب ، كاذب ، مخادع ، يفعل القبيح ، ويترك الحسن الجميل ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

______________________________________________________

التحسين والتقبيح العقليين ، فالله تعالى لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب ، ويترتب على هذه القاعدة مسائل كلامية ولذا استشكل الإمامية على الأشاعرة ومن تبعهم ، بأنهم لم يتمكنوا من إثبات العدل لله تعالى ، واجتنابه عن القبائح أصلا بعد انكارهم هذه القاعدة وإن ذهبوا إلى الاستدلال بالآيات القرآنية ، الدالة على أنه تعالى لا يظلم ولا يفعل القبيح ؛ لأن احتمال الكذب في الآيات لا ينسد إلّا بالقاعدة المذكورة والمفروض انكارهم اياها فمن أنكر القاعدة فلا سبيل له إلى سد هذا الاحتمال ، ومع احتمال الكذب ، كيف يمكن الاعتماد بقوله تعالى في كونه عادلا وأنه لا يفعل القبيح ، ويكون حكيما في أفعاله.

وأيضا أوردوا عليهم بأنهم لم يتمكنوا من إثبات النبوة ، لجواز إظهار المعجزة على يد الكاذب ؛ لعدم قبحه عندهم ، فينتفي الفرق بين النبي والمتنبي ، وبأنه يلزم إفحام الأنبياء ، إذ لا دليل على وجوب النظر والمعرفة ، وبغير ذلك من التوالي الفاسدة.

(٣) لعل الأشاعرة استدلوا بالآية الكريمة بدعوى ظهورها في أن إرادته تعالى هي القانون والضابطة ، ولذا لا مجال للسؤال عن إرادته وفعله ما يشاء ولو

١١٩

كان ظلما أو خلاف الحكمة بنظرنا فالضابطة هو ما يريد ويفعل ، ولعله لذلك قال القرطبي : إن هذه الآية قاصمة للقدرية وغيرهم ، ومراده من القدرية هم المعتزلة الذين يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين ، ومراده من غيرهم الإمامية.

وكيف كان فهذا الاستدلال ضعيف في غاية الضعف ؛ لأن في الآية احتمالات اخر فلو لم تكن الآية ظاهرة في غير ما توهمه الأشاعرة فلا أقل من أنه لا دلالة لها فيما ذهب إليه الاشاعرة.

ومن الاحتمالات ما ذهب إليه جماعة من المفسرين ، من أن المراد أن الله سبحانه لما كان حكيما على الاطلاق كما وصف به نفسه في مواضع من كلامه ، والحكيم هو الذي لا يفعل فعلا إلّا لمصلحة مرجحة ، فلا جرم لم يكن معنى للسؤال عن فعله ، بخلاف غيره ، فإن من الممكن في حقهم أن يفعلوا الحق والباطل ، وأن يقارن فعلهم المصلحة والمفسدة ، فجاز في حقهم السؤال ، حتى يؤاخذوا بالذم العقلي ، أو العقاب المولوي ، إن لم يقارن الفعل المصلحة (١) وهو المروي عن أبي جعفر محمّد بن علي الباقر ـ عليه‌السلام ـ حيث قال جابر : قلت له : يا بن رسول الله ، وكيف لا يسأل عما يفعل؟ قال : لأنه لا يفعل إلّا ما كان حكمة وصوابا ، وهو المتكبر الجبار والواحد القهار. فمن وجد في نفسه حرجا في شيء مما قضى كفر ، ومن أنكر شيئا من أفعاله جحد (٢) ويؤيده أيضا ما روي في الأدعية المأثورة : اللهم إن وضعتني فمن ذا الذي يرفعني وإن رفعتني فمن ذا الذي يضعني وإن أهلكتني فمن ذا الذي يعرض لك في عبدك أو يسألك عن أمره وقد علمت أنه ليس في حكمك ظلم ولا في نقمتك عجلة وانما يعجل من يخاف الفوت ، وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف ، وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك

__________________

(١) راجع الميزان : ج ١٤ ص ٢٩٢.

(٢) تفسير نور الثقلين : ج ٣ ص ٤١٩ وهناك رواية اخرى التي سيأتي ذكرها في ص ١٣٨ من هذه الرسالة.

١٢٠