بحوث في مباني علم الرجال

محمّد صالح التبريزي

بحوث في مباني علم الرجال

المؤلف:

محمّد صالح التبريزي


الموضوع : رجال الحديث
الناشر: مؤسسة انتشارات مدين
المطبعة: سرور
الطبعة: ١
ISBN: 964-6642-97-7
الصفحات: ٣٤٣

أقول : ما حكاه صاحب الوسائل عن المحقّق رحمه‌الله في آخر كلامه المراد منه جبر الخبر الضعيف بالشهرة العملية والفتوائية وأنّ هذا الجبر بالشرائط الخاصّة ممّا قام عليه ديدن وسيرة العقلاء وهو وجيه تامّ ، كما حرّرناه في علم الأصول على القول بحجّية الخبر الموثوق بصدوره ولا يخفى تخريج وجه صناعي مستقلّاً من كلام المحقّق ـ المتقدّم ـ على الدعوى الرابعة من تصحيح طرق أصحاب الكتب الأربعة إلى كتب المشيخة ، وهو أنّ كتب المشيخة المشهورة منها والمعتمدة ـ وهي التي محطّ الدعوى الرابعة ـ حيث كانت الشهرة العملية باعتبار انتسابها لأصحابها ، وكذا الروائية بتعدّد طرق أصحاب الكتب الأربعة وغيرهم إليها ، والفتوائية بفتوى كلّ الفقهاء المتقدّمين بمضامين أخبارها حيث إنّ الشهرة بأقسامها على انتسابها لأصحابها والاعتماد على كونها لهم تكون موجبة للوثوق بتلك النسبة.

وهذا الوجه يغاير الوجوه السابقة التي ذكرناها عن المجلسي وعن الحرّ العاملي في خاتمة الوسائل حيث إنّ في الوجوه السابقة كان الاعتماد على قرائن أخرى تتراكم وتتظافر في تصعيد درجة الاحتمال إلى الوثوق بصدور تلك الكتب من مصنّفيها من كبار الرواة ، بينما هذا الوجه الأخير المولّد لدرجة احتمال الوثوق بالصدور هو نفس الشهرة المستفيضة بأقسامها دون تلك القرائن.

ثمّ ذكر صاحب الوسائل عبارة ابن إدريس في مستطرفه (١) من كتب المشيخة المصنّفين والرواة المحصّلين ووصف بعضها (٢) بأنّه كتاب معتمد والبعض الآخر بأنّه بخطّ شيخنا أبي جعفر الطوسي ، وأنّه نقلها من خطّه.

__________________

(١). كتاب مشيخة الحسن بن محبوب.

(٢) نوادر محمّد بن علي بن محبوب.

٦١

أقول : سيأتي (١) بيان وجه خاصّ لتصحيح طرق ابن إدريس إلى كتب المشيخة التي استطرف منها وذلك عبر سلسلة إجازات العلّامة لابن زهرة والشهيد الثاني وإجازات صاحب الوسائل والبحار وغيرهم ممّن هو في طبقتهم إلى تلك الكتب حيث وقع في طرقها ابن إدريس إلى الشيخ الطوسي.

ومضافاً إلى كلّ ذلك فإنّ التعبير عن تلك الكتب بكتب المشيخة والرواة المحصّلين اصطلاح واقع عندهم على الكتب المشتهرة بالاستفاضة أو التواتر عن مصنّفيها على حذو التعبير في عصرنا بالمصادر الروائية ، فإنّه يطلق على الكتب الثابتة عن مصنّفيها.

ثمّ ذكر صاحب الوسائل عن السيّد ابن طاوس في كتبه ممّا يدلّ على أنّ أكثر الكتب المذكورة من الأصول وغيرها كانت عنده ، وأشار إلى ما قاله الشهيد في الذكرى والكفعمي في مصباحه وصرّح بأنّ كثيراً من اصول القدماء وكتبهم كانت موجودة عندهما ، فما الظنّ بأصحاب الكتب الأربعة.

ثمّ ذكر عبارة السيّد المرتضى رحمه‌الله كما نقلها صاحب المعالم والمنتقى : «إنّ أكثر أحاديثنا المرويّة في كتبنا معلومة مقطوع على صحّتها إمّا بالتواتر من طريق الإشاعة والإذاعة وإمّا بعلامة وأمارة دلّت على صحّتها وصدق رواتها ، فهي موجبة للعلم مقتضية للقطع وإن وجدناها مودعة في الكتب بسند معيّن مخصوص من طريق الآحاد» (٢).

وقال أيضاً : «إنّ معظم الفقه تعلم مذاهب أئمّتنا عليهم‌السلام فيه بالضرورة وبالأخبار

__________________

(١). في الفوائد والتنبيهات في خاتمة الكتاب.

(٢) معالم الدين / ١٩٧. منتقى الجمان ١ / ٢.

٦٢

المتواترة وما لم يتحقّق ذلك فيه ـ ولعلّه الأقل ـ يعوّل فيه على إجماع الإماميّة» (١).

أقول : دائرة الاشتهار والإذاعة التي في كلام السيّد واضحة الانطباق على الطرق لكتب المشيخة لا طرق أصحاب المشيخة إلى الإمام عليه‌السلام لأنّ تلك القطعة من الطرق كما أقرّ السيّد في كلامه هي من طرق الآحاد.

ثمّ نقل عن الشيخ حسن في المنتقى (٢) : بأنّ أحاديث الكتب الأربعة وأمثالها محفوفة بالقرائن وأنّها منقولة من الأصول والكتب المجمع عليها بغير تغيير.

ثمّ ذكر عبارة الشهيد في الذكرى (٣) حيث قال : عن الصادق عليه‌السلام إنّه كُتب عنه أجوبة مسائله في أربعمائة مصنّف من أربعة آلاف رجل وكذا رجال باقي الأئمّة عليهم‌السلام معروفون مشهورون أولو مصنّفاتٍ مشهورة وقد ذكر كثيراً منهم العامّة في رجالهم ، وبالجملة إسناد النقل والنقلة عنهم عليه‌السلام يزيد أضعافاً كثيرة عن كلّ واحد من رؤساء العامّة ، فالإنصاف يقتضي الجزم بنسبة ما نقل عنهم إليهم ... إلى أن قال ... وكتاب الكافي لأبي جعفر الكليني وهو يزيد على ما في الصحاح الستّة للعامّة متوناً وأسانيد ، وكتاب مدينة العلم وكتاب من لا يحضره الفقيه والتهذيب والاستبصار قريب ذلك وغيرها ممّا يطول تعداده بالأسانيد الصحيحة المتّصلة المنتقدة والحسان والقويّة.

أقول : مضافاً إلى ما مرّ في كلام المجلسي والحرّ العاملي ومن تقدّمهما من

__________________

(١) معالم الدين / ١٩٧.

(٢) منتقى الجمان ١ / ٢٧.

(٣) الذكرى / ٦ ، س ١٦.

٦٣

أعلام الطائفة وإلى تخريج تصحيح الطرق إلى كتب المشيخة المشهورة ، إنّه من باب الشهرة العملية والروائية الموجبة للوثوق بنسبتها إلى أصحابها ، مضافاً إلى كلّ ذلك هناك عدّة قرائن أخرى عثرنا عليها :

منها ولعلّها من أهمّها إنّنا لم نعهد مورداً من الموارد قد ناقش فيه الصدوق أو الشيخ في التهذيبين في سند الرواية إلّا وكان النقاش في الطريق من صاحب الكتاب إلى المعصوم عليه‌السلام دون الطريق إلى ذلك الكتاب وهذا يدلّ على الفراغ من اعتبار تلك الطرق إلى كتب المشيخة عندهم. ويعضد هذا ما ذكره الشيخ في العُدّة من اعتماد الطائفة على كتب المشيخة وتلقّيها لها بالقبول والعمل ، ثمّ ذكر العديد منها فراجع.

ومنها ما في عبارة الصدوق في أول الفقيه إنّ طرقه إلى أصحاب الكتب قد جمعها في كتاب الفهرس ، وأنّ ما ذكره في المشيخة اقتطاف من بعضها ممّا يدلّ على توفّر الطرق الكثيرة لديه إلى أصحابها ولذلك يشاهد المتتبّع أنّ لدى الصدوق طرق أخرى إلى كتب المشيخة قد ذكرها في العيون والتوحيد والأمالي والعلل وثواب الأعمال.

ومنها إنّ الشيخ الطوسي في الغالب يذكر طريقاً في المشيخة لكنّه في الفهرست يذكر طرقاً أخرى لتلك الكتب ، بل يجد المتتبّع أنّ الشيخ في كتاب الأمالي أو الغيبة أو المصباح له طرق أخرى لتلك الكتب غير ما ذكرهما في مشيخة التهذيبين والفهرست ، بل يرى الناظر أنّ لأستاذه الشيخ المفيد طرقاً أخرى لكتب المشيخة في الإرشاد أو عيون المحاسن أو الأمالي أو الاختصاص أو غيرها تغاير ما ذكره الشيخ الطوسي في بقيّة كتبه ، مع أنّ كلّ ما يرويه الشيخ المفيد بطرقه إلى كتب المشيخة قد رواه الشيخ الطوسي.

٦٤

بل يجد الناظر أيضاً أنّ النجاشي قد ذكر إلى أصحاب الكتب المشهورة طرقاً معتبرة عن شيخ مشترك بينه وبين الشيخ الطوسي كالحسين بن عبيد الله الغضائري أو الشيخ المفيد أو غيرهما مع أنّ الشيخ لم يذكرها في التهذيبين والأمالي وغيرها من كتبه.

نظير ذلك إنّ طريق الشيخ إلى علي بن الحسن بن فضّال ضعيف ، لكن طريق النجاشي إليه صحيح مع أنّه عبر شيخ مشترك.

ومنها ما ذكره النجاشي في ديباجة كتابه حيث قال : «إنّي وقفت على ما قاله السيّد الشريف (أطال الله بقاءه وأدام توفيقه) من تعيير قوم من مخالفينا إنّه لا سلف لكم ولا مصنّف وهذا قول من لا علم له بالناس ...

إلى أن قال : ولا حجّة علينا لمن لم يعلم ولا عرف وقد جمعت من ذلك ما استطعته ولم أبلغ غايته لعدم أكثر الكتب وإنّما ذكرت ذلك عذراً إلى من وقع إليه كتاب لم أذكره ...

إلى أن قال : على أنّ لأصحابنا رحمهم‌الله في بعض هذا الفن كتباً ليست مستغرقة لجميع ما رسمه ...

إلى أن قال : وذكرت لرجل طريقاً واحداً حتّى لا تكثر الطرق فيخرج عن الغرض» (١).

أقول : يفيد كلامه أنّ ما ذكره في فهرسته من طرق إلى كتب المشيخة المشهورة ليست كلّ ما عنده من الطرق إلى تلك الكتب كما أنّ لأصحابنا في عصره

__________________

(١) رجال النجاشي / ٣.

٦٥

كتباً فهرسيّة أخرى قد اشتملت على الطرق إلى الكتب المشهورة غير ما ذكره النجاشي (١).

وهذا نظير ما ذكره الآغا بزرك في مصفّى المقال من أنّه كان في مكتبة السيّد ابن طاوس مائة ونيّف من كتب الرجال والفهرس.

ومنها ما يشاهد من وصول جلّ أو كثير من كتب المشيخة إلى أعلام الطائفة في القرن الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر ، نظير الفاضلين والشهيدين والمجلسي والحرّ العاملي ، حيث أشاروا في كتبهم إلى وصول تلك المصادر إليهم بل إنّ بعض الأصول الأربعمائة وغيرها قد وصل إلى أيدينا هذا العصر فكيف بك عند المحمدون الثلاثة رحمهم‌الله.

ومنها : ما سيأتي (٢) مبسوطاً من نظريّة تبديل الأسناد أو ما يسمّى بتزويج السند أو تعديله أو تعويضه ، ومفاده الاستعاضة بسند صحيح عن السند الضعيف بتمامه أو بقطعة منه ، وهو على أقسام كثيرة عديدة جُلّها لتصحيح الطرق إلى كتب المشيخة المشهورة.

ومنها : غير ذلك ممّا يجده المتتبّع من قرائن هي كما عبّر المجلسي في كلامه

__________________

(١) نظير ما ذكره النجاشي في ترجمة عبد العزيز بن يحيى الجلّودي بعد ما ذكر تعداد كتبه والتي تُعدّ بالعشرات قال : «وهذه جملة كتب أبي أحمد الجلودي التي رأيتها في الفهرستات» ، فترى النجاشي يصرح باسم بعضها نظير ما قاله في ترجمة علي بن أبي صالح : (وقال حُميد في فهرسته) ، ونظيره ما ذكره في ترجمة عبد الله بن سنان : «له كتاب الصلاة الذي يعرف بعمل يوم وليلة وكتاب الصلاة الكبير وكتاب في سائر الأبواب من الحلال والحرام. روى هذه الكتب عنه جماعات من أصحابنا لعظمه في الطائفة وثقته وجلالته». فانه يعلل كثرة الطرق بجلالة وشهرة الراوي كما هو ديدن العقلاء.

(٢) في الفوائد والتنبيهات في خاتمة الكتاب.

٦٦

الذي مرّ (١) إنّه : «من أحاط بها خُبراً وقف على غوامض في طرق الأخبار لا يرتاب الواقف عليها في أحقّية هذه الدعوى من غير حاجة إلى تكلّفات الأخباريّين في تصحيح الأخبار ولنا طرق أخرى للتصحيح لا تحتمله هذه الرسالة».

والمحصّل في نهاية المطاف

إنّ كتب المشيخة المشهورة لا يتوقّف في صورة الطريق التي يذكرها أحد أصحاب الكتب الأربعة ، ولذلك ترى ديدن الأصحاب التساهل في شيخ الإجازة الواقع في طريق تلك الكتب نظراً لاشتهارها.

والمراد من التقييد بالمشهورة هي تلك الكتب التي تداولها الأصحاب بإذاعتها وانتشارها حيث كان مؤلّفوها من كبار الرواة وأجلّائهم وكثر تخريج الروايات من كتبهم في الكتب الأربعة وغيرها ، والوجه في تصحيح الطرق إليها عموماً دون الطرق التي فيها إلى المعصوم عليه‌السلام هو أنّ الروايات حين بدأ صدورها عن المعصوم عليه‌السلام وبزوغ انتشارها في الطائفة تُنقل عبر الآحاد ، ثمّ لمّا تدوّن في كتاب أو أصل يكثر تداوله يكون ذلك الكتاب والأصل بمنزلة الحافظ الموثّق لبقاء الرواية إلى الطبقات اللاحقة دون نفس طريق صدور الرواية من المعصوم عليه‌السلام إلى الكتاب أو الأصل ، أي إنّ الميزان حينئذ في تصحيح تلك القطعة من السند هو وثاقة المفردات في سلسلة السند.

وقد أسمعناك اتّخاذ هذا الميزان من أصحاب الكتب الأربعة في قطعة السند المزبورة.

__________________

(١). عن كتاب الأربعين / ٥١٢.

٦٧

تنبيه : إنّ ما ذكرناه من عدم تماميّة الدعاوي الثلاث الأولى كما لو لم تتمّ الدعوى الرابعة عند أحد مع ما ذكر لها من الشواهد والقرائن ، فإنّ ذلك لا يعني إسقاط الفائدة من رأس وعدم الاعتداد بالقرائن التي ذكرت لتلك الدعاوى بالمرّة ؛ فإنّ تلك الشواهد وإن لم تكن دليلاً مستقلّاً عليها إلّا أنّه يستفاد منها كأجزاء لقرائن الوثوق بالصدور الذي يعتمد على تراكم القرائن وازدياد الاحتمال إلى درجة الوثوق أو ما فوقها ، فالقرينة وإن لم تكن بمفردها مستقلّة حجّة على معنىً ما إلّا أنّها تنضمّ مع مماثلاتها كجزء أو اجزاء لدليل آخر هو الحجّة ، وهو تراكم القرائن الاحتماليّة المتصاعدة بالاحتمال إلى الدرجة المعتبرة على حساب نظريّة الاحتمال الرياضية.

ومن ثمّ قيل إنّ الرواية المرويّة في الكتب الأربعة ذات قيمة احتمالية تختلف عن الرواية الموجودة في الكتب الاخرى ، إذ قد كانت هذه الكتب محطّ عناية ومدارسة يداً بيد عند علماء الطائفة إملاءً ومتناً وضبطاً وقراءة ومقابلة وتحفّظاً على النسخ وعدم اختلافها فلم يخلو قرن عن مداولتها كمدرك أوّل في الكتب الروائية.

٦٨

الفَصلُ الاوّلُ

ميزان حجّية التوثيق والتضعيف

وفيه مقامان

الأوّل : مباني حجّية الطرق الرجاليّة

الثاني : حجّية أصالة العدالة وحسن الظاهر في التوثيق

٦٩
٧٠

المقام الأوّل

مباني حجيّة الطرق الرجاليّة

ونمهّد مقدّمة : (مبدأ تقسيم الحديث)

أقسام الحديث بين المتقدّمين والمتأخّرين

وهي إنّه قد اشتهر عند متأخّري الأعصار أنّ تقسيم الحديث إلى الأقسام الأربعة أو الخمسة من القويّ والصحيح والموثّق والحسن والضعيف من ابتكارات العلّامة الحلّي رحمه‌الله ، حتّى قال بعض أصحابنا الأخباريّين إنّ العلّامة قد تبع العامّة في هذا التقسيم وإلّا فالقدماء لم يكن لهم إلّا قسمان : «الصحيح» بمعنى المعتبر و «الضعيف» بمعنى غير المعتبر ، وحَمْلُ عبائر القدماء في كتب الحديث أو الرجال على هذا المصطلح الجديد سبّب إسقاط كثير من الأحاديث عن الاعتبار ، ولعلّ أوّل من نسب ذلك إلى العلّامة الحلّي أو إلى استاذه السيّد أحمد بن طاوس هو الشيخ البهائي في مشرق الشمسين (١) ؛ نعم قد صرّح صاحب منتقى الجمان (٢)

__________________

(١) مشرق الشمسين / ٢٧٠.

(٢) منتقى الجمان ١ / ٤.

٧١

وغيره بذلك أيضاً.

قال في مشرق الشمسين بعد ذكر تقسيم الحديث إلى الأقسام الأربعة المشهورة قال : «وهذا الاصطلاح لم يكن معروفاً بين قدمائنا ، كما هو الظاهر لمن مارس كلامهم ، بل المتعارف بينهم إطلاق الصحيح على ما اعتضد بما يقتضي اعتمادهم عليه ، أو اقترن بما يوجب الوثوق به والركون إليه ، وذلك لأمور :

منها : وجوده في كثير من الأصول الاربعمائة ....

ومنها تكرّره في أصل أو أصلين ... ومنها : وجوده في أصل معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الذين أجمعوا على تصديقهم ... أو على تصحيح ما يصحّ عنهم ... أو العمل بروايتهم ... وغيرهم ... ومنها : اندراجه في أحد الكتب التي عرضت على الأئمّة عليهم‌السلام ... ومنها كونه مأخوذاً من الكتب التي شاع ....

وقد جرى رئيس المحدّثين على متعارف القدماء فحكم بصحّة جميع أحاديثه ، وقد سلك ذلك المنوال جماعة من أعلام علماء الرجال ، لما لاح لهم من القرائن الموجبة للوثوق والاعتماد ، ثمّ ذكر أنّ أوّل من قرّر الاصطلاح الجديد العلّامة قدس‌سره وأنّه كثيراً ما يسلك مسلك المتقدّمين هو وغيره من المتأخّرين» (١).

وقال في منتقى الجمان : «اصطلح المتأخّرون من أصحابنا على تقسيم الخبر باعتبار إختلاف أحوال رواته إلى الأقسام الأربعة المشهورة ... إلى أنّ قال : وما ذكره أخيراً من نقلهم الإجماع على تصحيح ما يصحّ عن أبان بن عثمان مع كونه فطحياً ليس من هذا الباب في شيء ، فإنّ القدماء لا علم لهم بهذا الاصطلاح ،

__________________

(١) مشرق الشمسين (المطبوع مع الحبل المتين) / ٢٦٩ ـ ٢٧٠.

٧٢

لاستغنائهم عنه في الغالب بكثرة القرائن الدالّة على صدق الخبر وإن اشتمل طريقه على ضعف ، كما أشرنا إليه سلفاً فلم يكن للصحيح كثير مزيّة توجب له التمييز باصطلاح أو غيره ، فلمّا اندرست تلك الآثار واستقلّت الأسانيد بالأخبار ، اضطرّ المتأخّرون إلى تمييز الخالي من الريب وتعيين البعيد عن الشك ، فاصطلحوا على ما قدّمنا بيانه ، ولا يكاد يعلم وجود هذا الاصطلاح قبل زمان العلّامة إلّا من السيّد جمال الدين ابن طاوس رحمه‌الله ، وإذا أطلقت الصحّة في كلام من تقدّم فمرادهم منها الثبوت أو الصدق ، وقد قوي الوهم في هذا الباب على بعض من عاصرناه من مشايخنا فاعتمد في توثيق كثير من المجهولين على صحّة الرواية عنهم واشتمالها على أحد الجماعة الذين نقلوا الإجماع على تصحيح ما يصحّ عنهم» (١).

أقول : إنّ هذا وإن اشتهر عند متأخّري الأعصار إلّا أنّ الصحيح أنّ تقسيم الحديث كان ديدن القدماء حتّى في عصر الرواة بأقسام تربو على الخمسة ، وغاية ما صنعه العلّامة وشيخه السيّد ابن طاوس هو وضع الاصطلاح ، وإلّا فالتقسيم كان متداولاً منذ القدم عندهم ويميّزون في كيفيّة الحجّية بينها.

بل إنّ الضعيف له درجات عندهم كما أنّ المعتبر له درجات عندهم أيضاً وثمرة ذلك عندهم يبدونها عند التعارض والترجيح وفي كيفيّة تحصيل الوثوق بالصدور من ضمّ قرائن إلى الخبر الضعيف ، فدرجة الضعف على نوع القرائن على صلة وثيقة في تصاعد الاحتمال والوثوق بالصدور.

وكذا في معرفة العدد اللازم في الطرق لحصول الاستفاضة أو التواتر ، فإنّ درجة اعتبار الطريق أو درجة ضعفه مؤثّرة في الغاية في العدد اللازم لتحصيل

__________________

(١) منتقى الجمان / الفائدة الأولى ١ / ٤ ـ ١٤.

٧٣

ذلك ، فمن ثمّ يتبيّن أنّ ما عليه القدماء من التقسيمات لكلّ من الضعيف والمعتبر هو من الأهمّية بمكان في بحث الحجّية بأقسامها ، وإنّ الذي وقع من المتأخّرين هو عكس ما ادعيَ من إحداثهم للتقسيم.

بل الحقيقة إنّهم قد تركوا التقسيمات العديدة عند القدماء ذات الفائدة الخطيرة في كيفيّة الحجّية بأقسامها ، وإنّ الذي وقع من المتأخّرين هو الاصطلاح على بعضها وإهمال بقيّة الأقسام.

وهناك شواهد على تعدّد التقسيم لدى القدماء :

قد قال الشيخ في كتاب العُدّة في فصل خبر الواحد : «إنّا وجدنا الطائفة ميّزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار ، فوثّقت الثقات منهم وضعّفت الضعفاء ، وفرّقت بين من يُعتمد على حديثه وروايته وبين من لا يُعتمد على خبره ، ومدحوا الممدوح منهم ، وذمّوا المذموم ، وقالوا فلان متّهم في حديثه ، وفلان كذّاب ، وفلان مخلّط ، وفلان خالف في المذهب والاعتقاد ، وفلان واقفي ، وفلان فطحي ، وغير ذلك في الطعون التي ذكروها ، وصنّفوا في ذلك الكتب واستثنوا الرجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم ، حتّى إنّ واحداً منهم إذا أنكر حديثاً طعن في إسناده وضعّفه بروايته ، هذه عادتهم على قديم وحديث لا تنخرم» (١).

والذي يظهر من هذه العبارة إنّ التقسيمات العديدة هي موجودة منذ القدم في الفهارس وكتب الرجال.

__________________

(١) راجع تقسيمات الشيخ في العُدّة ١ / ١٤١ ، ١٥٢ ، ١٥٥.

٧٤

التقسيم الأوّل

وهو ما كان بلحاظ الصفات العمليّة للراوي ، أي بلحاظ أمانته وصدق لهجته.

فمنها : ما درج عليه النجاشي مثلاً في رجاله من التعبير عن بعض من ترجم لهم بقوله : «ثقة ثقة» وبعضهم الآخر بقوله : «ثقة» وبعضهم بقوله : «كان لا بأس به».

فمثلاً ما ذكره النجاشي في أحمد بن الحسن بن علي : «يقال انّه كان فطحياً أو كان ثقة في الحديث» (١) فإنّ التعبير المزبور صريح بالتفرقة بين الوثاقة في العقيدة ومطلق الجهات الاخرى وبين الوثاقة في اللهجة فقط ، أي هو ما اصطلح عليه المتأخّرون بالموثّق ، ومثلاً تعبيره في أحمد بن محمّد بن سيّار حيث قال فيه : «ويُعرف بالسيّاري ، ضعيف الحديث ، فاسد المذهب ، ذكر ذلك لنا الحسين بن عبيد الله ، مجفُوّ الرواية ، كثير المراسيل» (٢) فإنّ عبارته صريحة بعدم الاكتفاء بمجرّد وصفه بالضعف ، بل هو في صدد بيان درجة الضعف ونوعيّته.

وكذا ما ذكره في أحمد بن هلال العبرتائي قال : «صالح الرواية ، يُعرف منها ويُنكر ، وقد روي فيه ذموم من سيّدنا أبي محمّد العسكري عليه‌السلام» (٣) ، فإنّه يشير في عبارته تلك إلى توثيق روايته في زمان استقامته ، كما صرّح بذلك الشيخ في العدّة

__________________

(١). رجال النجاشي ٨٠ / مفردة ١٩٤.

(٢) رجال النجاشي ٨٠ / مفردة ١٩٢.

(٣) رجال النجاشي ٨٣ / مفردة ١٩٩ ـ والصحيح كما قررناه في محلّه إنّ الذموم هي من الناحية المقدّسة عجّل الله فرجه لا ما اشتهر في كتب الرجال كما لا يخفى لمن لاحظ التوقيعين الشريفين الصادرين في حقّه وسنة صدورهما على يد النائب الأوّل والثاني.

٧٥

إلّا أنّ اعتبار روايته تلك كان على درجة متوسّطة.

ونظير ذلك قوله في أحمد بن علي بن العبّاس بن نوح السيرافي : «كان ثقة في حديثه ، متقناً لما يرويه ، فقيهاً بصيراً بالحديث والرواية» (١) حيث إنّه لم يكتف بتوثيقه ، بل ذكر نوعيّة ودرجة وثاقته.

وكذا ما ذكره النجاشي أيضاً في ترجمة جعفر بن محمّد بن جعفر من قوله : «كان وجهاً في الطالبيين ، متقدّماً ، وكان ثقة في أصحابنا ، سمع وأكثر وعمّر وعلا إسناده» (٢).

وكذا عبارة الصدوق في كتاب الصوم من الفقيه في باب (ما يجب على من أفطر) قوله : «وبهذه الأخبار أفتى ولا أفتي بالخبر الذي أوجب عليّ القضاء ، لأنّه رواية سماعة بن مهران وكان واقفياً» (٣) ، وليس مراده عدم العمل بروايات سماعة من رأس ؛ إذ هو يروي كثيراً في كتابه عنه معتمداً على روايته ، بل مراده عدم العمل بروايته في مقام الترجيح للصحيح على الخبر الموثّق أو لاحتمال عدم العمل بما تفرّد به سماعة ، كما عبّر بذلك في موضع آخر ، لكنه على الاحتمال الثاني يكون مبناه في رواية سماعة الضعف وعدم الاعتبار إلّا أنّ درجة الضعف ليست بالغة ، بل إذا اعتضدت بأدنى قرينة ، فإنّه يوجب الوثوق بصدور الرواية.

وهذه الأقسام من درجات الحديث الضعيف ليس له عين ولا أثر عند المتأخّرين ، مع إنّه قد نبّه عليه النجاشي والشيخ في ترجمة كثير من الرواة ميزاً

__________________

(١). رجال النجاشي ٨٦ / مفردة ٢٠٩.

(٢) رجال النجاشي ١٢٢ / مفردة ٣١٤.

(٣) الفقيه ٢ / ٧٥ ، كتاب الصيام ، الباب ٣٣ ، ذيل الحديث ٢١.

٧٦

عن الأقسام الاخرى من الحديث ، كدرجة الضعف التي مرّت في رواية السيّاري حيث عُبّر عنه بمجفوّ الرواية ، كثير المراسيل (١) ، وعن درجة أخرى من الضعف التي عبّر بها الشيخ والنجاشي أيضاً في كثير من المفردات بأنّ رواية ذلك الراوي تُخرّج مؤيّدة لا يعتمد على روايته.

وقال الصدوق أيضاً في باب (الصلاة في شهر رمضان) : «ممّن روى الزيادة في التطوّع في شهر رمضان زُرعة عن سماعة وهما واقفيان» (٢).

ثمّ نقل رواية سماعة في كيفيّة التطوع في شهر رمضان ، ثمّ قال :

«إنّما أوردت هذا الخبر في هذا الباب مع عدولي عنه وتركي لاستعماله ، ليعلم الناظر في كتابي هذا كيف يُروى ومن رواه وليعلم من اعتقادي فيه أنّي لا أرى بأساً في استعماله» (٣).

فيظهر من عبارته المزبورة تصنيف درجات الخبر المعتبر وأنّ الخبر الإمامي الثقة أعلى درجة من خبر غيره الثقة.

وقال النجاشي في ترجمة رفاعة بن موسى النخّاس : «كان ثقة في حديثه ، مسكوناً إلى روايته ، لا يُعترض عليه بشيء من الغمز ، حسن الطريقة» (٤).

وقال في ترجمة صفوان بن يحيى : «ثقة ثقة ، عين» (٥).

__________________

(١). رجال النجاشي ٨٠ / مفردة ١٩٢.

(٢) الفقيه ٢ / ٨٨ ، كتاب الصيام ، الباب ٤٥ في الصلاة في شهر رمضان ، الحديث ٤.

(٣) الفقيه ٢ / ٨٩ ، كتاب الصيام ، الباب ٤٥ في الصلاة في شهر رمضان.

(٤) رجال النجاشي ١٦٦ / ٤٣٨.

(٥) رجال النجاشي / ١٩٧ / مفردة ٥٢٤.

٧٧

وقال في ترجمة محمّد بن مسلم : «وجه أصحابنا في الكوفة فقيه ورع ، وكان من أوثق الناس» (١) ، فإنّه يريد بذلك إنّ روايتهما من الدرجة العالية التي اصطلح في تسميتها عند المتأخّرين بالصحيح الأعلائي.

وقال في ترجمة داود بن كثير الرقّي : «ضعيف جدّاً والغلاة تروى عنه ... قلّ ما رأيت له حديثاً سديداً» (٢)

التقسيم الثاني

وهو ما كان الصفات العلمية للراوي ، أي كفائته ، من كونه ناقداً للأخبار ، ضبطاً وثبتاً ، أو مخلّطاً وغير ذلك.

فمن شواهده : ما قاله النجاشي في محمّد بن حسّان الرازي أبو عبيد الله الزبياني : «يُعرف ويُنكر بين بين ، ويروي عن الضعفاء كثيراً» (٣).

فانّه يظهر منه التوسّط بين الوثاقة والضعف ، وإنّ منشأ الضعف عند القدماء على أقسام ، منها أخذ روايته عن الضعفاء وإكثاره عنهم ، وذلك لأنّ حجّية الخبر من جهتين :

الأولى : التعبّد بعدم تعمّده الكذب بأمارته ووثاقته ، وهو في قبال الكذب المُخبريّ.

والثانية : التعبّد بعدم احتمال اشتباهه بأمارة الضبط المتعارف والتثبّت

__________________

(١). رجال النجاشي ٣٢٣ / المفردة ٨٨٢.

(٢) المصدر المتقدّم ١٥٦ / ٤١٠.

(٣) المصدر المتقدّم ٣٣٨ / ٩٠٣.

٧٨

والحفظ المعتاد ، وهو في مقام الكذب الخبريّ.

فترى القدماء لا يكتفون بتقسيم الحديث بلحاظ صفات الراوي من الجهة الأولى والتي اقتصر عليها المتأخّرون ، فإنّ التقسيمات الأربعة أو الخمسة للحديث المعروفة هي أقسام في الجهة الأولى ـ وهي الصفات العملية في الراوي وأمانته ـ لا الثانية ـ وهي الصفات العلميّة للراوي أي كفائته ـ ، ولم يذكروا تقسيماً واحداً بلحاظ الجهة الثانية عدا ما ذكر في علم الدراية في الأعصار الأخيرة وأمّا في البحوث الاستدلالية في الحديث عن المتأخّرين فقليلاً ما يشار إلى التقسيم بلحاظ الجهة الثانية مع أنّ تقسيمه بلحاظ الجهة الثانية لا يختلف في الأهمّية من الجهة الأولى بعد كون مطابقة الحديث الواقع وعدمها منوط بكلتيهما ، بينما ترى المتقدّمين يشيرون إلى العديد من الأقسام في الجهة الثانية ، فتارة يُعبّرون أنّه مخلّط.

وأخرى أنّ في كتابه تخليطاً.

وثالثة أنّه متقن وضبط وثبت.

ورابعة أنّه مضطرب الحديث ، مثل ما ذكره في الفهرست عن أحمد بن محمّد بن خالد البرقي «وكان ثقة في نفسه ، غير أنّه أكثر الرواية عن الضعفاء ، معتمد المراسيل ، وصنّف كتباً كثيرة» (١) ، وعبارته هذه متكرّرة في كثير من المفردات وكذا ديدن النجاشي والكشّي ، وعبارته صريحة في التميز بين الحديث في الجهة الأولى عن تقسيمه في الجهة الثانية وأنّ اعتباره من الجهة الأولى غير كافٍ.

__________________

(١). الفهرست ٥١ ـ ٥٢ / المفردة ٦٥.

٧٩

من شواهده : ما ذكره النجاشي في عبد الله بن أيّوب بن راشد الزُّهري ، «روى عن جعفر بن محمّد عليه‌السلام ، ثقة ، وقد قيل فيه تخليط» (١). فإنّ الخلل في ضبط الراوي واضطلاعه بفن الحديث وتممييز الأسانيد.

ونظيره ما ذكره النجاشي أيضاً في سُهيل بن زياد ، أبي يحيى الواسطي : «وقال بعض أصحابنا : لم يكن سُهيل بكلّ الثبت في الحديث» (٢).

فإنّ هذا تقسيم للحديث بلحاظ الضبط وعدم الاشتباه

التقسيم الثالث

وهو ما كان بلحاظ صفات مضمون الخبر ، فيعبّرون عن الراوي بأنّه ثقة معتمد الحديث إلّا ما فيه من غلوّ وارتفاع ، وإلّا ما فيه من شذوذ ، ويعبّرون في موارد أخرى ثقة وحديثه يُعرف وينكر.

ومن شواهده ما ذكره الصدوق في الفقيه في باب (صوم يوم الشك) لخبر عبد العظيم بن عبد الله الحسني عن سهل بن سعد عن الرضا عليه‌السلام قال : «وهذا حديث غريب لا أعرفه إلّا من طريق عبد العظيم بن عبد الله الحسني المدفون بريّ في مقابر الشجرة ، وكان مرضيّاً رضى الله عنه» (٣).

فيظهر من عبارته أيضاً أنّ خبر الإمامي الثقة أيضاً يُصنّف إلى أقسام كالغريب وغيره ، على ما هو محرّر في علم الدراية في الأعصار الأخيرة من أقسام الحديث

__________________

(١) رجال النجاشي ٢٢١ / المفردة ٥٧٨.

(٢) رجال النجاشي ١٩٢ / المفردة ٥١٣.

(٣) الفقيه ٢ / ٨٠ ، كتاب الصيام ، الباب ٣٦ صوم يوم الشكّ ، الحديث ٨.

٨٠