بحوث في مباني علم الرجال

محمّد صالح التبريزي

بحوث في مباني علم الرجال

المؤلف:

محمّد صالح التبريزي


الموضوع : رجال الحديث
الناشر: مؤسسة انتشارات مدين
المطبعة: سرور
الطبعة: ١
ISBN: 964-6642-97-7
الصفحات: ٣٤٣

لرواية التلبية ونظائرها في الأبواب من المواضع الهامّة من هذا الكتاب دون غيره من المصنّفات الكثيرة التي معه شاهد على مدى اعتداد الصدوق بهذا الكتاب ، مضافاً إلى أنّ المتتبّع المطّلع على عبارات الصدوق المتقدّمة وغيرها ينجلي له بوضوح توثيق الصدوق لهذا المفسّر وعدّه له من المشايخ الكبار. كما أنّ المطّلع على عبائر الأعلام الذين وقعوا في سلسلة إجازات هذا التفسير المتقدّمة ، وغيرهم ممّن أخرجوا أحاديث التفسير في كتبهم يُرى اعتمادهم عليه كبقيّة الكتب الروائية

الطعون على التفسير

هذا ولنستعرض جملة من الطعون (١) التي أوردت على التفسير :

الطعن الأوّل : عدم صحّة كثير من الوقائع التاريخية المرتبطة بالسيرة ، أو بعض الوقائع التاريخية عن الماضين قبل الإسلام. مثل ما ذكره في قصّة المختار بن أبي عُبيدة مع الحجّاج بن يوسف ، مع أنّه لم تقع مع الحجاج ، بل مع عبيد الله بن زياد ، وفي ما ذكر في هذه من التفسير عن هذه الواقعة خلط كثير ، فلاحظ.

وما فيه من إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأبي جهل لمّا طلب منه أن يحرقه بصاعقة إن كان نبيّاً : «يا أبا جهل إنّما رفع عنك العذاب بعلّة أنّه ستخرج من صلبك ذرّية طيّبة عكرمة ابنك» مع أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما فتح مكّة أمر بقتل عكرمة ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة ، وعكرمة كان في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله متولداً كبيراً.

الطعن الثاني : ما فيه من امور تخالف أصول المذهب وضرورياته :

__________________

(١) ذكر اكثرها المحقّق التستري في كتابه الاخبار الدخيلة ١ / ١٥٢ ، ٢١٩.

٢٤١

منها : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأبي بكر ـ بعد عزله عن تبليغ آيات سورة البراءة ـ : «وأمّا أنت فقد عوّض الله بما قد حملك من آياته وكذلك من طاعاته ، الدرجات الرفيعة والمراتب الشريفة ...».

ومنها : ما في تفسير قوله تعالى : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ)(١) من إنّ وصيّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه ـ وبها أوصى حين صار إلى الغار ـ فإنّ الله قد أوحى إليه : يا محمّد إنّ العليّ الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول لك : إنّ أبا جهل والملأ من قريش قد دبّروا يريدون قتلك ، وآمرك أن تبيّت عليّاً في موضعك ، وقال لك : إنّ منزلته منزلة إسماعيل الذبيح من إبراهيم الخليل ، يجعل نفسه لنفسك فداء وروحه لروحك وقاءً ، وآمرك أن تستصحب أبا بكر ، فانّه إن آنسك وساعدك ووازرك وثبت على ما يعاهدك ويعاقدك ، كان في الجنّة مِن رفقائك ، وفي غرفاتها من خلطائك ... ثمّ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي بكر : أرضيتَ أن تكون معي يا أبا بكر تطلب كما أطلب ، وتُعرف بأنّك أنت الذي تحملني على ما ادّعيه ، فتحمل عنّي أنواع العذاب؟ قال أبو بكر : أمّا أنا لو عشت عمر الدنيا أعذب في جميعها أشدّ عذاب ، لا ينزل عليّ موت مُريح ولا فرج مُتيح وكان ذلك في محبّتك لكان ذلك أحبّ إليّ من أن أتنعّم فيها وأنا مالك لجميع ممالك ملوكها في مخالفتك ، وهل أنا ومالي وولدي إلّا فداؤك؟ .... الخ.

مع أنّ ما اشتمل عليه أنّ استصحابه له بالوحي ، شيئاً لم يقل به العامّة في صاحبهم ، بل رووا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يستصحبه ، بل لحق أبو بكر به لمّا سمع ، وصار سبباً لإسراع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المشي وإدماء رجله ، كما رواه الطبري.

__________________

(١). البقرة / ١٠٠.

٢٤٢

ومنها : ما تقدّم في عكرمة ابن أبي جهل ، مع أنّه لا ريب في انحراف عكرمة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وبغضه له ، وكان في غزوة أحد على مسيرة الكفّار ، وقتل من المسلمين نفراً.

ومنها : ما فيه من تفسير قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ)(١) أنّها نزلت في بلال وصهيب وخبّاب وعمار بن ياسر وأنّ صهيب قال للكفار : أنا شيخ كبير لا يضرّكم إذا كنت معكم أو عليكم ، فخذوا مالي ودعوني وديني ، وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بشّره بثواب عظيم ، مع أنّ صهيب من المبغضين لعليّ عليه‌السلام والمنحرفين عنه ، روى الكشّي في رجاله عن الصادق عليه‌السلام في عنوان بلال وصهيب أنّه قال : كان بلال عبداً صالحاً وصهيب عبد سوء يبكي على فلان.

وروى المفيد في الاختصاص عنه عليه‌السلام : «رحم الله بلال كان يحبنا اهل البيت ولعن الله صهيب كان يعادينا» (٢).

ومنها : إنّ الكتاب مشحون من إجابتهم عليه‌السلام إلى كلّ ما اقترحه الكفار المخالفون من معجزات ، وهو خلاف كثير من الآيات الدالّة على عدم إجابته صلى‌الله‌عليه‌وآله لمقترحاتهم ، كما في قوله تعالى في سورة الإسراء : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً * وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ ... قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)(٣).

وقوله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ)(٤)

__________________

(١). البقرة / ٢٠٧.

(٢) الاختصاص / ٧٣.

(٣) الإسراء / ٨٩ ـ ٩٣.

(٤). الإسراء / ٥٩.

٢٤٣

مضافاً إلى أنّه لو كانت هذه المعجزات وقعت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله وعنهم عليهم‌السلام لرواها علماء الإمامية.

الطعن الثالث : ما يتّصل بالجرح لرواية التفسير والراويين له :

منه : إنّ الكتاب لو كان من الإمام العسكري عليه‌السلام لنقل شيئاً منه علي بن إبراهيم القمي ومحمّد بن مسعود العياشي اللذان كانا في عصره عليه‌السلام ـ ومحمّد بن العبّاس بن مروان الذي كان مقارباً لعصره عليه‌السلام ـ في تفاسيرهم.

ومنه : إنّ أحمد بن الحسين الغضائري قد طعن فيه ، وقال إنّ محمّد بن أبي القاسم الذي يروي عنه ابن بابويه ضعيف كذّاب روى عنه تفسيراً يرويه عن رجلين مجهولين ، أحدهما يعرف بيوسف بن محمّد بن زياد ، والآخر علي بن محمّد بن يسار عن أبويهما عن أبي الحسن الثالث عليه‌السلام. والتفسير موضوع عن سهل الديباجي عن أبيه بأحاديث من هذه المناكير (١).

ومنه : إنّ ما ينقله الصدوق وصاحب الاحتجاج من ذلك الكتاب من الروايات ليس فيها ما ينكر ، بخلاف النسخ الموجودة بأيدينا. ويشهد لهذا التغاير أنّ في سند الصدوق والطبري رواية الولدين عن أبويهما عن الإمام العسكري عليه‌السلام ، بينما في النسخ الموجودة الرواية عن الولدين عن العسكري عليه‌السلام. وكذلك في عبارة ابن الغضائري.

وقال التستري في نهاية كلامه حول التفسير : «وبالجملة وهذا التفسير وإن كان مشتملاً على ذكر معجزات كثيرة لأمير المؤمنين عليه‌السلام كالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو بمنزلة نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بشهادة القرآن ، إلّا أنّه ليس كلّ ما نسب إليهم عليهم‌السلام صحيحاً فقد

__________________

(١) خلاصة العلّامة / ٢٥٦. مجمع الرجال ٦ / ٢٥.

٢٤٤

وضع جمعاً من الغلاة أخباراً في معجزاتهم وفضائلهم وغير ذلك ـ إلى أن قال ـ : وضع جمع من النصّاب والمعاندين أخباراً منكرة في فضائلهم ومعجزاتهم بقصد تخريب الدين وإلى أن يرى الناس الباطل منه فيكفر بالحق منه ...» ، وروى الصدوق في العيون أنّ إبراهيم بن أبي محمود قال للرضا عليه‌السلام : يا ابن رسول الله إنّ عندنا أخباراً في فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام وفضلكم أهل البيت ، وهي من رواية مخالفيكم ولا نعرف مثلها عندكم أفندين بها؟ فقال عليه‌السلام :

«يا ابن أبي محمود ، إنّ مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا ، وجعلوها على ثلاثة أقسام أحدها الغلوّ وثانيها التقصير في أمرنا وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا ، فإذا سمع الناس الغلوّ فينا كفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيّتنا وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا وقد قال الله عزوجل : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) ـ إلى أن قال ـ يا ابن أبي محمود احفظ ما حدّثتك به فقد جمعت لك فيه خير الدنيا والآخرة» (١)

التأمل في الطعون

أمّا في الطعن الأوّل ، وهي الوقائع التاريخية فلا بدّ من الالتفات إلى أنّه قلّ ما يخلو كتاب ، سواء كان في الحديث أو غيره من الخاصّة أو العامّة ، بل وكذا في كتب السِّيَر والتراجم وغيرها ، قلّ ما يخلو من وهم الرواة فلا يكون ذلك شاهد الوضع والجعل ، والمقام وإن سلّمنا فيه كثرة ذلك الوهم ، إلّا أنّه يمكن تصنيف ذلك الوهم في الموارد المزبورة التي تعرّض لها المحقّق التستري رحمه‌الله إلى أصناف :

الأوّل : ما يقطع بحصول الوهم فيه.

__________________

(١) بحار الأنوار ٢٦ / ٢٣٩.

٢٤٥

الثاني : ما يظنّ بحصوله ظنّاً قويّاً لخلافه لما اشتهر في التراجم وكتب السِّير.

الثالث : ما يظنّ ذلك لمخالفته مصدراً أو مصدرين من كتب التاريخ والسِّير أو التراجم ونحوها.

الرابع : ما يحتمل فيه الوهم وارتياباً ، لمخالفته لقول من تلك الكتب.

فغالب ما استعرضه المحقّق المزبور للوهم التاريخي في نسخة الكتاب الموجودة هو من قبيل الأقسام الأخيرة ، وكثير منه من القسمين الأخيرين. وأمّا ما كان من قبيل المورد الأوّل فهو موردين أو ثلاثة ، مع أنّ هذين الموردين أو الثلاثة ليس الوهم فيها مخالفاً للواقع من رأس تماماً ، فإنّ قضية محاولة قتل المختار وحصول التشفّع لإطلاقه من السجن ، وأنّ نجاته من القتل عدّة مرات ، لكونه قد قدّر أن يثأر لواقعة كربلاء مطابقاً للواقع ، غاية الأمر أنّ الراوي وهم في الأسماء ولعلّ سبب ذلك كما احتمله بعض ، إنّ الراويين لم يكونا يقيّدان ما يملأ عليهما في المجلس ، بل كانا يقيّدانه بعد ذلك وكذا في قصّة عكرمة ابن أبي جهل فلعلّ هو ابن عتبة بن أبي لهب حيث كان ضمن من ثبت في حنين (١) ولعلّ الاشتباه كان برسم الخط.

والحاصل : إنّ شطراً وافراً ممّا يؤاخذ به هذا التفسير في ضبطه للوقائع التاريخية لا يستبعد وقوع هذا الوهم من الراوي أو النسّاخ ، مع أنّه استند في التخطئة إلى بعض المصادر التاريخية المحتمل تطرّق الوهم إليها أيضاً إذ ليس كلّها من مسلّمات التاريخ. وما أكثر ما يشاهد من الاختلاف بين كتب التاريخ والسِّير في الضبط ، وإن كان ذلك يورث لزوم التثبّت والفحص في الوقائع

__________________

(١). الإصابة / ج ٢.

٢٤٦

التاريخية في النسخة الموجودة.

أمّا الطعن الثاني ، فالمورد الأوّل فما نسب إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله لأبي بكر فهو بنحو القضية الشرطية التعليقية حيث إنّه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذيل تلك العبارة : «أما إنّك إن دمت على موالاتنا ووافيتنا في عرصات القيامة وفيّا بما أخذنا به عليك من العهود والمواثيق ، فأنت من خيار شيعتنا وكرام أهل مودّتنا فسري بذلك عن أبي بكر» (١).

فمن الواضح أنّ تلك المقولة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله تعليقية مشروطة نظير الشرطيات التي ذكر الباري عزوجل مثل قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) (٢) ، ونظير قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(٣) ، ونظير قوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ... وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)(٤).

ونظير قوله تعالى (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ)(٥).

وأمّا المورد الثاني ، فالحال فيه كالمورد الأوّل إنّه تعليقي مشروط ؛ حيث إنّه في ذكر في المورد «إن» الشرطية «إن آنسك وساعدك ووازرك وثبت على ما يعاهدك ويعاقدك ...» (٦).

__________________

(١) تفسير العسكري / ٥٥٩.

(٢) النساء / ١٣.

(٣) الفتح / ١٠.

(٤) الفتح / ٢٩.

(٥) الأحزاب / ٣٢.

(٦) تفسير العسكري / ٤٦٦.

٢٤٧

وأيضاً في ذيله قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «لا جرم إن اطلع الله على قلبك ووجد ما فيه موافقاً لما جرى على لسانك جعلك منّي بمنزلة السمع والبصر والرأس من الجسد وبمنزلة الروح من البدن ، كعليّ الذي هو منّي كذلك وعليّ فوق ذلك لزيادة فضله وشريف خصاله ، يا أبا بكر إنّ مَن عاهد الله ، ثمّ لم ينكث ولم يغيّر ولم يبدّل ولم يحسد من أبانه الله بالتفضيل ، فهو معنا بالرفيق الأعلى وإذا أنت مضيت على طريقة يحبّها منك ربّك ولم تتبعها بما يسخطه ، ووافيته بها إذا بعثك بين يديه ، كنت لولاية الله مستحقّاً ولمرافقتنا في تلك الجنان مستوجبا ، أنظر أبا بكر فنظر في آفاق السماء فرأى أملاكاً ، ثمّ سمع السماء والأرض والجبال والبحار كلاً يقول [يا محمّد] ما آمرك ربّك بدخول الغار لعجزك عن الكفار ، ولكن امتحاناً وابتلاءً ليتخلّص الخبيث من الطيّب من عباده وامناءه بأناتك وصبرك وحلمك عنهم. يا محمّد مَن وفى بعهدك فهو من رفقائك في الجنان ومن نكث فعلى نفسه ينكث وهو من قرناء إبليس اللعين في طبقات النيران» (١).

فإنّه مضافاً إلى الشرطية والتعليق فيها من التشديد على ولاية أمير المؤمنين وفرضها على أبي بكر ، وفيها أيضاً إشارة إلى جزعه في الغار وأنّه آذاه حتّى نهاه عن ذلك فلم ينته ، فلم ينزل الله تعالى السكينة عليه مع نبيه كما أنزلها على باقي المؤمنين معه صلى‌الله‌عليه‌وآله في موضع آخر. نعم هي مخازات لا مباهات وإنّما المباهاة فعل أمير المؤمنين في شراء نفسه حيث باه الله ملائكته جبرئيل وميكائيل. أمّا إنّ استصحاب النبي له فهو لا ينافي أن أبا بكر لحق النبي لما سمع بخروجه ، وصار سبباً لأذيّته النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإدماء رجله وذلك لأنّه بعد ما لحقه استصحبه خشية أن يدلّهم عليه ، نظير ما رواه في تفسير البرهان عن ابن طاوس والمفيد ، بل إنّ

__________________

(١) تفسير / ٤٦٨.

٢٤٨

مضمون هذه الرواية قد رواه في تفسير البرهان في ذيل آية الغار عن الكافي من أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أرى أبا بكر من الآيات العديدة فأضمر في تلك الساعة إنّه ساحر. فقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله أنت الصدّيق وفي رواية تفسير عليّ بن إبراهيم فقال في نفسه : الآن صدّقتُ أنّك ساحر. فقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنت الصدّيق.

ونظير ما رواه الصدوق في العيون عن أبي الحسن الثالث عن آبائه عن الحسين بن علي عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ أبا بكر منّي بمنزلة السمع ، وإنّ عمر منّي لبمنزلة البصر ، وإنّ عثمان منّي لبمنزلة الفؤاد ، فلمّا [قال : فلما] كان من الغد دخلت إليه وعنده أمير المؤمنين عليه‌السلام وأبو بكر وعمر وعثمان ، فقلت له : يا أبه سمعتك تقول في أصحابك هؤلاء قولاً فما هو. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم ثمّ أشار إليهم ، فقال : هم السمع والبصر والفؤاد وسيسألون عن وصيّ هذا ـ وأشار إلى عليّ عليه‌السلام ـ ثمّ قال إنّ الله عزوجل يقول : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً)(١) ، ثمّ قال : وعد ربّي أنّ جميع امّتي لموقوفون يوم القيامة ومسئولون عن ولايته» وذلك قول الله عزوجل : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ)(٢).

وأمّا المورد الثالث : فقد تقدّم الكلام عنه في ما ذكرنا حول الطعن الأوّل.

وأمّا المورد الرابع ، فمورد نزول الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ)(٣) ، وإن كان مسلّماً بين الفريقين أنّها نزلت في الإمام عليّ عليه‌السلام للمبيت فوق فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أنّ تهديد كفّار قريش لبلال وعمّار وخباب وصهيب ، قد ذكره في مجمع البيان إنّه مورد نزول الآية (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ

__________________

(١). الإسراء / ٣٦.

(٢) الصافّات / ٢٤.

(٣). البقرة / ٢٠٧.

٢٤٩

إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)(١) فالواقعة مذكورة في مورد نزول آية اخرى خاصّة بعمّار ولا تعني هذه الواقعة كثير مديح لصهيب ، وليس فيها دلالة على حُسن عاقبته وعدم تبديله لعهد الله ورسوله ، فإنّ الوعد بالثواب قد ذكر في مواطن كثيرة على أعمال البِرّ والخير ، إلّا أنّه كلّه مشروطاً بالموافاة عند الموت على الإيمان والاستقامة على عهد الله ورسوله كما هو مفاد آية سورة الفتح في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(٢).

المورد الخامس ، وهو كون الكتاب مشحوناً من إجابتهم عليهم‌السلام على كلّ ما اقترحه الكفّار والمخالفين من المعجزات وهو خلاف كثير من الآيات.

ففيه : أوّلاً : إنّه ليس مجموع ما ذكر في الكتاب هو إجابة كلّ ما اقترحه بل هو بعض ذلك.

ثانياً : إنّ العديد منها وقع مع أئمّة الضلالة زيادةً في قطع العذر عليهم.

ثالثاً : إنّ تعداد ما يستعرضه من المعاجز التي وقعت على يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو التي أنبأ بها القرآن قبل وقوعها من الملاحم وغيرها عدد ليس باليسير.

رابعاً : إنّ العديد من تلك المعاجز ليست من المعاجز المصطلحة ، وإنّما هي من الكرامات التي حباها الله أوليائه المعصومين.

خامساً : إنّ المشار إليه في الآيات من عدم إجابة الكفّار إلى كلّ ما سأله من المعجزات إنّما هو في مقام عدم إجابة تكبّرهم وغطرستهم لا امتناعاً عن إقامة

__________________

(١). النحل / ١٠٦.

(٢) الفتح / ١٠.

٢٥٠

البيّنات والحجج فليست البيّنات والبراهين مقامه بحسب التشهّي والأهواء.

أمّا الطعن الثالث :

فالمورد الأوّل في عدم نقل المعاصرين له مثل علي بن إبراهيم والعيّاشي ومحمّد بن عباس بن مروان شيئاً منه في تفاسيرهم فليس بغريب؟ وذلك لأمور :

الأوّل : إنّ هذا التفسير كما قد اتّضح وصل إلى الصدوق عبر سلسلة رواة حوزة المحدّثين في نيشابور وأستراباد ، ولم تكن منفتحة على حوزات الحديث الاخرى ولم يكن لها ارتباط وثيق. فهذا الصدوق قد أكثر في كتبه النقل عن مشايخ ورواة كتب من الحوزات الحديث النائية ، لا توجد عند معاصريه أو من قارب عصره.

الثاني : إنّ نفس علي بن إبراهيم والعيّاشي لم ينقل أحدهما من الآخر ؛ إذ ليس من شرط التعاصر نقل أحدهما من الآخر.

وأمّا المورد الثاني : فطعن الغضائري يتأمّل فيه بتدافع وصفهما ، لأنّ ابن الغضائري لم يكن له طريق لمعرفة حال الأسترابادي المفسّر ، فما حكم به تحدّس قائم على مذاقه بتصفّح بعض رواياته في التفسير ، ويشير إلى ذلك وصفه للأحاديث بالمناكير ، مع أنّك قد عرفت في النكات السابقة أنّ الغضائري الأب أبا عبيد الله الحسين بن عبيد الله ، قد وقع في سند رواية التفسير ، وكذا الشيخ الطوسي تلميذه وكذا الشيخ المفيد وكذا من مشايخ الأعلام الطائفة كما أنّ دعوى كون الابنين الراويين مجهولان ، فهو بالإضافة إلى حوزة الحديث في بغداد لا بالإضافة إلى حوزة الحديث في نيشابور وجرجان وأستراباد. كما أنّ إسناد وضع التفسير إلى سهل الديباجي عن أبيه ، الظاهر فيها أنّه سهو من الناسخ كما أشار إلى ذلك المحقّق التستري في الأخبار الدخيلة ، والصحيح في العبارة «إنّ التفسير موضوع كما عن سهل الديباجي عن أبيه أي إنّ نسبة التفسير للوضع ذكرها سهل الديباجي

٢٥١

عن أبيه وذلك ...».

وأمّا المورد الثالث : فكون ما ينقله الصدوق وصاحب الاحتجاج من التفسير ليس فيه ما ينكر ، بخلاف النسخة الموجودة. فهذا مبنيّ على تماميّة الطعون السابقة ، وقد اتضح الحال فيها كما قد عرفت ، وأنّ بعض الخلط في الوقائع التاريخية قد يكون من الناسخ ، وقد يكون من غيره كما تقدّم. وأمّا ما ذكره التستري في آخر كلامه مستشهداً برواية أبي محمود عن الرضا عليه‌السلام ففيه :

أوّلاً : إنّ مضمون الرواية حول رواية المخالفين في فضائل أهل البيت عليهم‌السلام غير موجودة في الروايات الواردة عنهم عليهم‌السلام.

وثانياً : إنّه عليه‌السلام جعل ضابطة لمعرفة الوضع في تلك الروايات بنحو القضية المنفصلة وهي إمّا الغلوّ أو التقصير في أمرهم ، ومن الواضح أنّ هذه الضابطة لا تنطبق على روايات هذه النسخة لعدم وجود ما يؤدّي إلى القول بربوبيّتهم عليهم‌السلام.

كما ليس فيها ، حسب الظاهر ما يكون تقصيراً في القول في مراتبهم وأمرهم عليهم‌السلام.

٢٥٢

الخاتمةُ

٢٥٣
٢٥٤

وفيها عدّة أمور

الأمر الأوّل :

الدعوة إلى نبذ غير الصحيح من الحديث في المجاميع الروائية

حيث قد أشرنا سابقاً إلى أنّ هناك دعوات في الأوساط الثقافية إلى إعادة كتابة المجاميع الروائية ، بانتقاء الصحيح منها ونبذ غير الصحيح ، فمثلاً الكتب الأربعة يُعاد جمع كلّ منها تحت عنوان الصحيح منها ، هكذا الحال بالنسبة إلى كتاب بحار الأنوار ، كما أنّ هناك نظرة إلى أنّ كتاب مستدرك الوسائل لا يتضمّن الروايات الصحيحة ، وأنّ كلّ ما فيه غير معتبر ، فلا يدخل في عمليّة الاستنباط في دائرة الفحص والتتبّع في المدارك الروائية. وهكذا قيل في مجاميع روائية أخرى وقد اعتمد في هذه الدعوى على بعض الوجوه :

منها : المحاذاة لما موجود موجود عند العامّة من الصحاح الستّة ، فيكون للخاصّة كذلك ، من وجود مجاميع روائية مشتملة على الصحيح فقط.

ومنها : إنّ الكتب الروائية حيث أنّها تمثّل مَعلَم المذهب ، فاللازم تنقيتها عن الشوائب ، وعمّا يسيء النظرة إليه.

ومنها : عدم جدوى وجود غير الصحيح في المجاميع الروائية ، حيث هو

٢٥٥

غير قابل للاعتماد ، وأنّ التنقية والغربلة تقطع الطريق عن الخبر المدسوس أو المدلّس والموضوع.

ولأجل بيان مدى الغفلة العلمية الخطيرة في هذه الدعوى لا بدّ من بيان نقاط :

النقطة الأولى : الفرق بين الضعيف والمدسوس

وهو ما تقدّمت الإشارة إليه من الفرق بين الخبر الضعيف والمدسوس والمدلّس والموضوع ، وأنّ الضعيف يطلق تارة على ما يعمّ ذلك وأخرى على ما يقابل المدسوس والموضوع ، وهو الضعيف بالمعنى الأخصّ ، أي إنّه ليس كلّ خبر غير واجد لشرائط الحجّية في نفسه فهو مدسوس وموضوع ، بل المدسوس والموضوع هو ما علم دسّه ووضعه لا كلّ ما احتمل ذلك فيه.

بل قد يكون المدسوس والموضوع قد زُيّف لسنده بصورة الطريق الصحيح ، بل قد يكون صحيحاً أعلائياً ، أي أنّه زُوّر في صورته ، فالضعيف الاصطلاحي يقابل المدلّس والموضوع وإن احتمل فيه ذلك ، بل إنّ هذا الاحتمال موجود حتّى في الصحيح نفسه ، إذ العادل قد يكذب كما انّ الكذّاب قد يصدق ، مع أنّ الضعيف اصطلاحاً ليس بمعنى إنّ رواته لا بدّ أن يكونوا موصوفين بالكذب ، إذ الضعيف يشمل المجهول الحال أو الممدوح غير الموثّق أو المهمل أو المرفوع أو المرسل إلى غير ذلك من الأقسام ، فرواته في الواقع قد يكونوا من الثقات ، بل من الأكابر في بعض الأحيان ، إلّا أنّنا بسبب عدم وصول الكثير من المصادر الرجاليّة إلينا وبسبب الحاجة إلى بذل الجهود الكثيرة في المفردات الرجاليّة ـ مع كلّ ما بُذل من مشايخنا العظام (قدّس الله اسرارهم) قد جهلنا أحوال الكثير من المفردات ، كما هو الحال في عمر بن حنظلة حيث إنّه قد أثبتنا أنّه من أتراب محمّد بن مسلم

٢٥٦

وزرارة مع أنّه بقي مجهول الحال إلى الأعصار المتأخّرة.

وكذلك الحال في إبراهيم بن هاشم فإنّه في هذا العصر يُعدّ عند الأعلام من الثقات الكبار ، مع أنّه ظلّ قروناً عند المتأخّرين تصنّف روايته في الحسن دون الصحيح إلى غير ذلك من أمثلة المفردات.

وقد نُسب إلى السيّد البروجردي قدس‌سره القول بأنّ علم الرجال منفتح فيه العلم الوجداني ـ وذلك عن طريق المناهج التي تقدّم ذكرها في فصل المناهج ـ في خصوص التعبّدي فضلاً عن دعوى الانسداد ، أي إنّه لو قُيّض بذل جهود وفق تلك المناهج لما بقيت مفردة مهملة أو مجهولة إلّا بمقدار نزر قليل جداً.

وهاهنا توهّم وهو أنّ كلّ ما يرويه من وصف في الرجال إنّه كذّاب فهو مدسوس موضوع ، ونظيره أيضاً إنّ كلّ ما يرويه من وُصف إنّه ضعيف ، أو وُصف إنّ في حديثه مناكير ، أو وُصف إنّه قد يضع الحديث ، أو كون حديثه مهملاً ، فخبره مدسوس موضوع.

وهذان التوهّمان سببهما الغفلة ، أو عدم الإحاطة باصطلاح الرجاليين والدرائيين المحدّثين ، فإنّه ليس كلّ من وصف إنّه كذّاب أو أكذب البريّة يعني أنّ كلّ حديثه مدسوس أو موضوع ، فإنّ الرواة الكبار النقاد للحديث صيارفة المتون المتثبّتين في الأسانيد إذا رووا عن مثل من يوصف بذلك ، فليس إلّا عن تمحيص ومداقّة في ما يتحمّلونه من الرواية عنه ، ولا نريد بذلك دعوى حجّية الرواية حينئذ ، بل المراد إقامة الشاهد على انتفاء دعوى العلم بالوضع.

هذا مضافاً إلى أنّ من وُصف بالكذّاب وإن صدر عن معاصر لذلك الراوي فليس من الضروري مطابقته للواقع ، إذ قد يكون ذلك بسبب مبنى يعتمده الطاعن في طعنه ، نظير ما صدر من الفضل بن شاذان مع جلالته ومكانته العلمية في حقّ

٢٥٧

الستّة الذين وصفهم بالكذّابين المشهورين ، كما في الكشّي ، وعدّ منهم محمّد بن سنان وأبي سمينة محمّد بن علي وأبي جميلة المفضل بن صالح ويونس بن ضبيان وأبي زينب محمّد بن المقلاص أبي الخطّاب (١).

مع أنّ طعنه هذا منشؤه اختصاص هؤلاء في رواية المعارف العالية الغامضة على أذهان العامّة ، لكن حيث كان مسلك الفضل كلاميّاً فحكم بشذوذ مضامين تلك الروايات ، والتي هي على درجة فوق البحث الكلامي ، المناسبة للمباحث العقلية والذوقيّة البرهانيّة ، وإن كان في بعض هؤلاء الستّة كأبي الخطّاب ممّن قد انحرف ، فإذا كان حال مَن وصف بالكذب هكذا ، فكيف بك بمن وصف بالضعف والإهمال ، أو أنّ حديثه يُنكر ، وغيرها من الأوصاف التي هي مبنيّة إمّا على عدم العلم بحال الراوي أو على مبنى معيّن في علم الكلام أو الفقه.

وكذا الحال في مَن وصف بوضع الحديث ، فإنّه ليس بمعنى أنّ كلّ حديث رواه أنّه محكوم بذلك ، بل يعني أنّه قد عثر على بعض ما يرويه كونه بذلك الوصف ، بل إنّ التنبيه على ذلك الوصف في الراوي دليل على يقظة من تحمّل الرواية عنه في نقد حديثه متناً وسنداً.

وهناك وهم ثالث وهو أنّا ما دمنا نحتمل في الحديث الضعيف إنّه قد دُسّ ووضع ، فكيف لا نجعله بمنزلة المدسوس والموضوع ، إذ الاحتمال بنفسه كاف في الريبة والاحتياط في الدين.

وفيه : إنّ هذا الاحتمال مضافاً إلى أنّه معاكس باحتمال صدور الرواية وكونه حكماً من الأحكام الشرعية في اللوح المحفوظ ، إنّ مجرّد الاحتمال الضئيل غير

__________________

(١) الكشّي في ترجمة أبي سمينة محمّد بن علي الصيرفي.

٢٥٨

المعتدّ به كما سيتبيّن في النقاط اللاحقة لا يسوّغ هذا التنزيل القاضي على الآثار الدينيّة والدلائل على الأحكام.

هذا مضافاً إلى ما سننبّه عليه في النقاط اللاحقة من أجوبة لهذا التوهّم

النقطة الثانية : الخبر الضعف وآثار الشرعيّة

فإنّ الضعيف بمفرده وإن كان غير واجد لشرائط الحجيّة ، إلّا أنّه قد وردت الأحاديث المستفيضة (١) بحرمة ردّ الخبر غير المعلوم صدوره وغير المعلوم وضعه ، ولا بدّ أن لا يقع الخلط بين حرمة ردّ الحديث وبين وجوب العمل به كحجّة ، فإنّ عدم ردّ الحديث بمعنى عدم الحكم بوضعه وعدم الحكم بإنكار مضمونه ، لا بمعنى متابعته والأخذ به منفرداً ، بل بمعنى احتمال مطابقة الواقع.

كما أنّ له أثراً آخر ، وهو تشكّل الخبر المتواتر والمستفيض منه ، بانضمامه إلى الأخبار الضعاف الأخرى أو الصحاح أو الموثّق ، وقد وقعت الغفلة والوهم بأنّ المتواتر لا يتألّف إلّا من الصحاح والأخبار المعتبرة فقط ، وأنّه كيف يتولّد القطع من الضعيف المحتمل للدسّ والوضع ، مع احتمال عدم الصدور وعدم المطابقة للواقع.

وهذا ناشئ من عدم الإحاطة بحقيقة التواتر وتولّده صناعياً ، وإلّا فهذا التساؤل يرد على الخبر الصحيح أيضاً ، إذ هو لا يتعدّى الظن ، وإن كان بدرجة أرفع من الظن الذي في الخبر الضعيف.

والحلّ هو أنّ بتراكم الاحتمالات كمّاً وكيفاً تتضاءل تكويناً نسبة الخلاف ،

__________________

(١). الوسائل : باب ٦ ، وكذا باب ٧ و ٨.

٢٥٩

وذلك بحسب ضريب حساب الاحتمالات الرياضي ، إلى أن تصل إلى درجة تشارف اليقين ، بحيث يكون الاحتمال في مقابلها ضئيلاً جدّاً لا يعتدّ به الذهن البشري السليم ، ومن الواضع أنّ هذه الماهيّة للتواتر لا يفرّق فيها بين أصناف الخبر الظنّي ، غاية الأمر أنّ الخبر الضعيف أقلّ درجة من ناحية الكيف ، فيحتاج إلى ضمائم كميّة وكيفيّة زائدة كي يتصاعد فيه احتمال الصدور.

ومنه يتبيّن كيفية نشوء الخبر المستفيض ، والذي هو دون درجة التواتر ، بل بدرجة الظنّ الاطمئناني الفائق على الظنّ الذي في درجة الخبر الصحيح.

فمن الغريب جدّاً التقيّد بالخبر الصحيح وطرح المستفيض ، بسبب الاقتصار على النظرة الفرديّة الآحاديّة للأخبار الضعاف ، كالأخبار الحسان ، أو التي من صنف القوي ، أو غيرها من أقسام الضعيف ، فإنّه غفلة عن النظرة المجموعيّة المولّدة للمستفيض ، وهذه غفلة ليست هيّنة في عملية الاستنباط ، وهذا هو الأثر الثالث للخبر الضعيف.

وثمّة أثر رابع للخبر الضعيف ، وهو أنّ مضمون الخبر سواء كان في الفروع أو المعارف فإنّه يفيد تولّد الاحتمال في افق المسألة العلمية ، ونشوء تصوّر لم يكن ليلتفت إليه لو لا ذلك الخبر ، فهو يزيل الجهل المركّب إلى الجهل البسيط ولو كمحتمل تصوّري ، وهذا بالغ الأهميّة في تحقيق أبواب المعارف ، يتنبّه إليه من خاض عُبابها ، وكيف يُستقلّ المفاد والإفادة التصوّرية في مضمون الروايات المحتملة النسبة إلى الوحي الإلهي ، عن الفائدة الحاصلة من قول أحد علماء فنّ المعارف أو الفروع.

والمراد من هذا الاحتمال ليس احتمال نسبة الصدور المتقدّم ذكره ، وإنّما المراد تصوّر المؤدّى ، وإدراك ما الشارحة وما الحقيقة في المسألة العلمية ،

٢٦٠