بحوث في مباني علم الرجال

محمّد صالح التبريزي

بحوث في مباني علم الرجال

المؤلف:

محمّد صالح التبريزي


الموضوع : رجال الحديث
الناشر: مؤسسة انتشارات مدين
المطبعة: سرور
الطبعة: ١
ISBN: 964-6642-97-7
الصفحات: ٣٤٣

وأمّا دعوى الإجماع الاصطلاحي على اعتبار رواياتهم إلى المعصوم بدعوى دخول المعصوم في المُجمعين وأمره بالأخذ برواياتهم ، فالظاهر أنّ منشأها ما أشرنا إليه من الروايات التي رواها الكشّي عن الإمام الصادق عليه‌السلام بعد عبارته الأولى في مدح الأربعة ، وهي بلا ريب دالّة على منزلة ممتازة لهم في الرواية والفقه وقدم راسخة في النقل عن الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام.

كما قد تؤيّد الأقوال الأولى في معنى القاعدة بما نقلناه من عبارة الشيخ الطوسي في العُدّة من التصريح بأنّ الطائفة عملت بمراسيلهم عمل المسانيد ، وأنّ الثلاثة من الطبقة الأخيرة وغيرهم من الطبقات الثلاث لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة ، لكنك عرفت في ما تقدّم أنّ الشيخ في مواضع عديدة من التهذيب لم يبن على ذلك ، ولعل المتتبّع يرى مواضع أخرى من الشيخ والصدوق في كتابيهما من الخدشة في الطرق مع اشتمالها على أصحاب الإجماع ، وهذا وغيره ممّا يدلّل على القول السابع الأخير.

والعُمدة في الاستشهاد له أنّنا لو قدّرنا شهادة معاصر لواحدٍ من أصحاب الإجماع بالمضمون المتقدّم فضلاً عن شهادة من لم يعاصره ، فغاية هذه الشهادة بالألفاظ المزبورة هو أنّ المعاصر استقرأ إجمالاً العديد من الموارد من ديدن معاصره ، في نحو التثبّت والتقيّد بالرواية عن الثقات ، ولَمَسَ منه علوّ الخبرة في نقد الحديث ، واطّلع منه على درجة فائقة من الفقاهة تؤهّله لتمييز مضامين الحديث الصحيح منها الموافق للمذهب ، من السقيم المخالف للمعلوم من المذهب ، لا إنّه استقرأ كلّ مشايخ الرواية لمعاصره وغيرهم ممّن روى عنهم ، إذ ذلك غير متأتّ له ، وإن كانت ملازمته له ملازمة الظلّ للشمس ، كما هو العادة الغالبة في المعاشرة العلمية بين المتعاصرين ، سواء في معاشرة التلميذ وشيخ

١٤١

الرواية ، أو القرين لقرينه ، نظير الشهادة بالعدالة والوثاقة ، فإنّ الشاهد يلحظ سلوكيّات استقرأها من الشخص فيحصل له الحدس القريب بتلك الصفة. ولذلك ترى عند إمعان النظر إلى العبارات المتقدّمة أنّها أوصاف لأصحاب الإجماع ، لا أنّها أوصاف لمن يروون عنه ، ولا لما يرووه بالأصالة ، بل هي صفات لهم أوّلاً وبالذات وبالتبع صفات لمن يروون عنه ولرواياتهم. وهذا الذي ذكرناه قرينة إجمالية قطعية عامّة ، إلّا أنّها في التفاصيل والآحاد ظنّية تفصيلية يُنتفع بها ، بضمّ قرائن إحدى لتحصيل الوثوق والاطمئنان ، سواء بصدور الرواية ، أو بمن يدمنون الرواية عنه ، أو يكثرون عنه ، وهذا ما أشرنا إليه أيضاً في صدر التوثيقات العامّة من عدم كونها شهادات حسّية تفصيلية استغراقية للموارد ، بل استقرائيات غالبية يحدس منها قرينة عامّة يستفاد منها في تحصيل الاطمئنان.

ومن كلّ ذلك يتبيّن الحال في الإجماع الصغير ، وفي حجّية مراسيل بعض الرواة كمراسيل ابن أبي عمير ويونس بن عبد الرحمن ، فإنّ العبائر الرجاليّة في العدّة وفي فهرس النجاشي مستوحاة من الإجماع الكبير ، ولذلك عبّر الشيخ بعد ذكره للثلاثة الذين لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة قال : «وغيرهم من الثقات الذين عُرفوا بأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلّا عمّن يوثق به». فتمعّن وتدبّر في هذه العبارة فإنّه مضافاً إلى تعميمه الدالّ على ما ادّعيناه قد جعل الوصف لأصحاب الإجماع ، وبالأحرى وصفاً لديدنهم ورويّتهم وسلوكهم العلمي في الحديث ، كما هو مؤدّى (عُرفوا) وهو يقابل التعبير بأنّ كلّ من روى عنه ثقة وكلّ ما رووه حجّة.

ولذلك ترى أنّ في كلّ طبقة من الطبقات الثلاث ترى المفاضلة بين أصحاب الطبقة وتعيين أفقههم ، كما عُبّر عنهم بالانقياد لهم بالفقه وهي صفة لأصحاب

١٤٢

الإجماع تؤهّلهم لنقد وتمييز مضامين الحديث ، ممّا يورّث قرينة إجمالية بسلامة مضامين ما يرووه ، بخلاف غيرهم ممّا ليس له باع نقد المضمون.

والحاصل أنّ القول الأخير في الإجماع الكبير والصغير ومراسيل ابن أبي عمير ونظرائه لا يُفرّط بالقيمة العلمية للقرائن والقواعد الثلاث ، غاية الأمر أنّها ليست حجّة مستقلّة بل جزء الحجّة في حجّية الاستقراء وتراكم الاحتمالات لتحصيل الاطمئنان ، لا يُستهان بها لقوّة درجتها في الكاشفية

الطريق الثالث

كون الراوي ممّن اتفق على العمل برواياته

فقد حكى الشيخ في العدّة بقوله : «عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث وغياث بن كلوب ونوح بن دراج والسكوني وغيرهم من العامّة عن أئمّتنا عليهم‌السلام في ما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه» (١).

وقال أيضاً : «عملت الطائفة بأخبار الفطحيّة مثل عبد الله بن بكير وغيره ، وأخبار الواقفة مثل سماعة بن مهران وعلي بن أبي حمزة وعثمان بن عيسى ومن بعد هؤلاء بما رواه بنو فضّال وبنو سماعة والطاطريون وغيرهم في ما لم يكن عندهم فيه خلافه» (٢).

وقد تعدّدت الوجوه في مفاد هذا التوثيق :

الوجه الأوّل : إنّه توثيق من الشيخ للأشخاص المذكورين بأعيانهم ، كما حُكي

__________________

(١) العدة ١ / ١٤٩ ، طبعة قم.

(٢) المصدر المتقدّم / ١٥٠.

١٤٣

عن الوحيد في فوائده وفي تعليقته على منهج المقال.

الوجه الثاني : توثيق صدور الروايات التي يقع فيها الراوي.

الوجه الثالث : توثيق الرواة الذين يروون عن هؤلاء ، كالنوفلي حيث يروي بكثرة عن السكوني.

أقول : والصحيح من هذه الوجوه ما قد عرفت في قاعدة الإجماع المتقدّمة ، من أنّ هذه الشهادة من الشيخ بالعمل بروايات هؤلاء ليست حسّية استقرائية تامّة استغراقية ، وإنّما هي حكاية عن الديدن الغالب أو الكثير لعمل الطائفة ، كيف والشيخ الطوسي بنفسه يناقش في العديد من الموارد في التهذيبين بضعف الروايات التي وقع في طريقها هؤلاء ، وقد سمعت مناقشات الصدوق في روايات سماعة وغيره من الواقفية وغيرهم ، وكيف يمكن أن تكون رواية هؤلاء أعلى رتبة من روايات أصحاب الإجماع الذين قد عرفت الحال في ما يروونه. هذا ولا يستراب في كون مؤدّى هذه العبارة توثيق هؤلاء بأعيانهم ، وكذا توثيق من يروي عنهم بكثرة وإدمان ، ولا يتدافع مع ما ذكرناه ، إذ ما تقدّم هو بيان الديدن الغالب ومع فرض الكثرة والغلبة فيتحقّق مؤدّى عبارة الشيخ المقتضي لتوثيق هؤلاء ، والاعتماد على من يروي عنهم بغلبة وكثرة ، نظير ما تقدّم في أصحاب الإجماع من أنّ من يدمنون الرواية عنه أو يدمن في الرواية عنهم لصيقاً بهم في الرواية والدراية شيخوخة وتلمّذاً هو من قرائن الوثوق

الطريق الرابع

عدم استثناء القمّيين الراوي من رجال نوادر الحكمة

وهو كتاب حسن كبير مشتمل على كتب يعرفه القميّون (بدبّة شبيب) ،

١٤٤

وشبيب فاميٌّ ـ بيّاع الفوم ـ كان بقم ، له دبّة ذات بيوت يُعطي منها ما يُطلب منه ، من دُهن ، فشبّهوا هذا الكتاب بذلك ، لاشتماله على الكتب العديدة ، ولأنّه كان يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل ولا يبالي عمن أخذ ، وإن لم يكن عليه في نفسه طعن في شيء إلّا أنّ القميين محّصوا كتابه ونقّوه ، باستثناء ما يقارب من ستّة وعشرين رجلاً من مشايخه ، واعتمدوا على باقي رجاله ، واعتمادهم عليهم مع ما عُرف من تشدّد مسلكهم المفرط في التوثيق والتعديل دالّ كلّ ذلك على التوثيق بلا ريب ، فإذا لوحظ في طريق روايتهم محمّد بن أحمد بن يحيى يروي عمّن لم يستثنه القميّون ، يكون ذلك بمثابة توثيقه. نعم من الجانب الآخر ليس كلّ من استثناه القميّون وضعّفوه يعتدّ بتضعيفهم له ، لما بيّنا من تشدّدهم الخاصّ في التعديل والتجريح ، وجريهم على رؤية خاصّة في المعارف.

هذا والصحيح أنّه لا دلالة لعدم الاستثناء على التوثيق ، لأنّ الاستثناء في هذا المقام وغيره من ديدن القميين هو على نمط غربلة الأحاديث وتنقيتها عن المدسوس والموضوع والمدلّس ، إذ من البيّن الجلي أنّهم لم يكونوا متقيّدين بخصوص رواية الثقات ، ولا بخصوص الروايات المعتبرة ، فكم من راوية قمّي كأحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري ومحمّد بن الحسن الصفّار وسعد بن عبد الله الأشعري ، وزكريا بن آدم ، وعلي بن إبراهيم ، ومحمّد بن يحيى ، وعلي بن بابويه ، ومحمّد بن جعفر ابن قولويه ، ومحمّد بن الحسن بن الوليد ، وغيرهم من نجوم وجهاء الرواة الفقهاء والمحدّثين القميين يظفر المتتبّع على العديد من الموارد التي يروون فيها عن الضعاف ، أو الحسان ونحوها ، فذلك برهان على أنّ مرادهم من الاستثناء عدم الرواية هو لتحرّجهم عن رواية الحديث الموضوع ، أو الذي عليه علامات الدسّ أو قرائن التدليس والجعل ، نظير ما صنع محمّد بن الحسن بن الوليد

١٤٥

في تركه لرواية أصْلَي زيد الزرّاد ، وزيد النرسي ، لدعواه أنّ هذين الأصلين ممّا قد وضعهما محمّد بن موسى الهمداني السمّان ـ وان حُقّق خطأ ابن الوليد في ذلك لوجود السند الصحيح لابن أبي عمير في الكتب الأربعة وغيره عن زيد الزرّاد ، وزيد النرسي ـ فتحرّج عن رواية الأصلين وكذا تبعه تلميذه الصدوق ، وكذا ما صنعه أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري وغيره من القميين من إخراج البرقي وسهل بن زياد الآدمي وغيرهم من الأجلّاء لروايتهم عن الضعاف ، ليس بمعنى المتبادر من ظاهر اللفظ ، بل مرادهم ترك الرواية المحفوفة بقرائن الدسّ والوضع والجعل عن الضعاف أو عن راوي وضّاع.

وهذا الذي شرحناه من قبل في تشدّد المدرسة القمّية في غربلة وتنقية الأحاديث ، وهذه العملية لم تكن بمعنى ترك التراث الروائي المنقول بطرق ضعيفة غير موثّقة ، والاقتصار على خصوص الموثّق والمعتبر ، فكم تكرّر هذا التعبير عن الصدوق في الفقيه وعن القميين في فهرست الشيخ والنجاشي «أروي كلّ ما كان في الكتاب إلّا ما كان فيه من تخليط أو غلوّ أو يتفرّد به». نظير ما ذكرناه في ردّ دعوى الأخباريّين من اعتبار كلّ ما في الكتب الأربعة ، ودعوى الميرزا النوري في اعتبار كلّ روايات الكافي لموضع تعبير الصدوق والكليني والشيخ في مقدّمة كتبهم ، مثيل العبارتين المتقدّمتين في عبارة علي بن إبراهيم في مقدّمة تفسيره ، من توثيق الروايات التي يذكرها فيه إنّها عن الثقات ، ومثلها عبارة ابن قولويه في كامل الزيارات ، إنّ مقصودهما منها هو نفي الروايات الموضوعة والمدسوسة عمّا أخرجاه من روايات في كتابيهما ، لا أنّها في صدد التوثيق لكلّ السند ، فهذا الاصطلاح في جانب الرواية والاعتماد أو في جانب عدم الرواية والتحرّج من نقلها هو فيصلة بين المدسوس وغيره ، والموضوع وغيره

١٤٦

في المرحلة التاريخية للحديث الهامّة التي قام بها الرواة القميون ، ويدلّل على ذلك في خصوص المقام أنّ الذي استثنى من كتاب النوادر في عبارة النجاشي هو محمّد بن الحسن بن الوليد.

وقد عرفت ديدنه في أصْلَي زيد الزرّاد ، والنرسي ، وإنّه ذكر في الاستثناءات استثناءهم ما كان فيها من غلوّ أو تخليط ، حيث إنّ بناءهم في روايات الغلوّ على إنّها موضوعة ، والتخليط عبارة عن الخلط في الإسناد ، والخلط في المتن ، ممّا يساوي الموضوع والمدسوس وإن لم يكن بعمد ، ويدلّ على ذلك أيضاً أنّ مَن استثنوه لم يقتصر فيه على مشايخ صاحب النوادر كما هو الحال في وهب بن منبّه مع أنّ وفاته في سنة (١١٤ ه‍)

فتحصّل : إنّ استثناء القميين من كتاب النوادر يريدون به عدم روايتهم لتلك الروايات ، لما لاح لهم من قرائن الوضع والتدليس ، ولو بحسب المباني المختصّة بهم ، وأنّ الذي يروونه من كتاب النوادر ليس بمعنى التوثيق المصطلح ، بل بمعنى نقاء تلك الروايات عن شوب التدليس والوضع ، وهو درجة من التوثيق ، لكنّه ليس بالمعنى المصطلح له ، بل بمعنى تشكّل الخبر المتواتر منه أو المستفيض وصلاحيّته للاعتضاد به ، بخلاف الخبر المدسوس والموضوع فإنّه لا يتولّد منه التواتر والاستفاضة مهما بلغ العدد.

وأمّا الخدشة في كون عدم استثنائهم توثيقاً استناداً إلى احتمال بناء (ابن الوليد) على أصالة العدالة في كلّ من لم يظهر منه الفسق ، فقد تقدّم مبسوطاً وهن هذه الدعوى ، إذ ليس في المتقدّمين ولا الشيخ الطوسي ولا العلّامة الحلّي من يبني على أصالة العدالة بمجرّد عدم إحراز الفسق من دون ضميمة وجود أمارات على الوثاقة ، فلاحظ.

١٤٧

الطريق الخامس : من قيل في حقّه أنّه لا يروي إلّا عن ثقة

وقد تقدّم شطر من أمثلة هذه القرينة ، كما في صفوان والبزنطي وابن أبي عمير ، في ما تقدّم في قاعدة الإجماع ، وهذا عين الذي نختاره في هذه القرينة ، من أنّه حكاية عن ديدن وروية ذلك الشخص ، لا أنّها شهادة حسّية استغراقية عن كلّ من يروي عنه ذلك الراوي.

وممّن قيل في حقّه ذلك :

١. جعفر بن بشير ، فقد قال عنه النجاشي : (روى عن الثقات ورووا عنه)

إذ من الواضح أنّ المراد بهذا التعبير ليس بيان حكم استغراقي لكلّ من يروي هو عنه ، أو من روى عن ابن بشير ، بل هو بيان الحال بنحو الغلبة ، وحال من كثر الرواية عنه أو العكس.

وبعبارة أخرى : إنّ التدقيق في ما ذكره النجاشي لو أردنا التحفّظ والجمود على حرفيّة العبارة إنّه روى عن الثقات أي جميع من عاصره من الثقات ، لكن ذلك لا ينفي كونه قد روى عن غيرهم ، وهكذا الحال فيمن يروي عنه ، فإنّه لا ينفي كونه قد روى عنه الضعفاء ، نعم كون ديدنه ذلك كاشف ظنّي يتعاضد مع القرائن الاخرى في تحصيل الاطمئنان ، أو لتكوين حُسن الظاهر ، الذي هو دون الاطمئنان في حال من يرتبط روائيّاً بجعفر بن بشير.

ويؤيّد ذلك ما ذكره السيّد الخوئي في نقضه على تلك الكلّيّة ، من رواية جعفر بن بشير عن صالح بن الحكم الذي ضعّفه النجاشي ، ورواية عبد الله بن محمّد الجعفي عن جعفر بن بشير ، وقد ضعّفه النجاشي أيضاً. فتدبّر وتأمّل. ونظيره ما وقع في محمّد بن إسماعيل بن ميمون الزعفراني من قول النجاشي فيه

١٤٨

(روى عن الثقات ورووا عنه)

٢. أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري : وهو الذي أخرج البرقي وسهل بن زياد وغيرهم من قم من كبار الرواة ، وذلك بسبب روايتهم عن الضعفاء ، ممّا يدلّ على تشدّده في الرواية عن خصوص الثقة.

وقد نُقض على ذلك بروايته عن الضعاف أيضاً ، كروايته عن محمّد بن سنان ، وعلي بن حديد ، وإسماعيل بن سهل ، وبكر بن صالح.

وذكر أنّ تفسير ديدنه هو في وجود قاعدة حديثية درائية لدى الرواة ، وهي المرجوحية والتحرّج في الإكثار والرواية عن الضعاف ، وإلّا فلا يخلو راوي من كبار الرواة عن الرواية عن بعض الضعفاء.

وهذا التفسير وان كان متيناً في نفسه ، ويصلح أن يكون توجيهاً لديدن ورويّة أحمد بن محمّد بن عيسى في تعاطيه الحديث ، وكذا بقيّة كبار الرواة. إلّا أنّ الأظهر في تفسير ما صنعه من إخراج بعض الرواة هو ما ذكرناه مراراً في ما سبق ، من أنّ القميين خاصّة كانوا يتشدّدون في مآخذ الحديث من الكتب ومشايخ الرواية ، ويمتنعون من الرواية عن ما يعتقدون فيه علامات الدسّ والوضع ، وإن كانت تلك العقيدة والرؤية بالدسّ مبنيّة على مبانيهم الخاصّة في أبواب المعارف ، أو مسالكهم الخاصّة الضيّقة في النقل ، فلم يكن يمتنعون في الرواية عن الضعيف لضعفه ، وإنّما يتحرّجون ويمتنعون في الرواية عن ما يلوح منه أمارات الدسّ والوضع ، كما امتنع الصدوق وشيخه عن رواية أصْلَي زيد الزرّاد وزيد النرسي لدعواهما وضع ذلك الأصلين ـ مع أنّهما قد خُطّئا في ذلك ، كما حُرّر في محلّه ـ وكما في ما استثناه ابن الوليد وامتنع من روايته من روايات كتاب نوادر الحكمة لمحمّد بن أحمد بن يحيى الأشعري ، الذي تقدّم ذكره ، وما صنعوه وإن

١٤٩

كان غربلة وتنقية للأحاديث ، إلّا أنّ ذلك لا يعني صحّة كلّ تشدّدهم المزبور ، كما لا يعني صحّة ما حكموا عليه بالوضع ، وبنوا على أنّه مدلّس ، كما هو الحال في الأصلين المتقدّمين ، ومن ثمّ مشى أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري في جنازة البرقي حافي القدمين ، وبحال يبجّل البرقي نادماً على تشدّده معه.

٣. علي بن الحسن الطاطري : حيث قال الشيخ في ترجمته «وله كتب في الفقه ، رواها عن الرجال الموثوق بهم وبرواياتهم ، فلأجل ذلك ذكرناها» (١).

فقيل : «إنّ كلّ من يروي عنه علي بن الحسن الطاطري هو ثقة» (٢).

وقيل : إنّ كلّ من يروي عنه ممّا نقله الشيخ من رواياته عن كتبه الفقهية حيث كان علي بن الحسن في بداية السند ـ أي ممّا يدلّ على أخذ الرواية من كتب الطاطري ـ فهو ثقة ، بخلاف ما لم يكن كذلك ممّا يكون الطاطري في أثناء السند الذي ذكره الشيخ.

ولكن الصحيح عدم كون ذلك توثيقاً عامّاً لكلّ من روى عنه الطاطري ، حتّى في كتبه الفقهية ، وذلك لأنّ هذا التعبير ليس في مقام بيان حال من يروي عنه تفصيلاً فرداً فرداً ، بل في مقام تحفّظ صاحب الكتاب عن الرواية عن الوضّاعين والمدلّسين ومن عُلم كذبه ، وعن كلّ رواية قد احتفت بقرائن الوضع والدسّ ، وأنّ مجمل من روى عنهم ممّن قد عُرف بالوثاقة ، بنحو لا يمانع روايته عن بعض الضعاف ، ممّا اعتضدت روايته بقرائن مؤيّدة ، وهذا مصطلح دأب عليه المحدّثون والرجاليون لبيان اعتبار مآخذهم ونقاوتها من شبهة الدسّ والوضع والتدليس.

__________________

(١) الفهرست / ٩٢.

(٢) السيّد الخوئي رحمه‌الله في معجمه.

١٥٠

وقد نبّهنا عليه عند استعراض وجه الحاجة لعلم الرجال ، وردّ نظريّات اعتبار روايات الكتب الأربعة ، أو كلّ روايات الكافي خاصّة ، حيث إنّ الكليني وكذا الصدوق والطوسي قد عبّروا نظير هذا التعبير ، ممّا يوهم مثل هذه الدعوى أيضاً.

ويتمّ التحقّق من فهم هذا المصطلح عند تصفّح تراجم الرواة ذوي الكتب التي هُجرت روايتها بالطعن عليهم ، بأنّهم قد رووها عن الوضّاعين أو المعروفين بالكذب ، ولم يتثبّتوا في تنقيتها عمّا احتفّ بقرائن الدسّ ، بأن كانوا يخرجون في كتبهم كلّ من هبّ ودبّ ، كالكشكول ، فيكفي في ذلك نظرة يسيرة في الفهرست والنجاشي ، بالإضافة إلى ما عُرف من قيام المدرسة القمية وغيرها بغربلة الأحاديث ، بسبب ظهور جماعة من الكذّابين والوضاعين ، فدأب كبار الرواة في التثبّت في المصادر التي يجعلونها مأخذاً لكتبهم ورواياتهم ، حيطة عن تسلّل تلك الأيدي ، ولاحظ ما قدّمناه ثمّة المشار إليه سابقاً.

٤. جعفر بن محمّد بن قولويه (صاحب كامل الزيارات) ، حيث قال في أوّل كتابه : «حتّى أخرجته وجمعته عن الأئمّة عليهم‌السلام من أحاديثهم ، ولم أخرج فيه حديثاً رُوي عن غيرهم ، إذ كان في ما روينا عنهم من حديثهم عليهم‌السلام كفاية عن حديث غيرهم ، وقد علمنا أنّا لا نحيط بجميع ما رُوي عنهم في هذا المعنى ولا في غيره ، لكن ما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا رحمهم‌الله برحمته ولا أخرجت فيه حديثاً رُوي عن الشذاذ من الرجال يُؤثّر ذلك عنهم عن المذكورين غير المعروفين بالرواية المشهورين بالحديث والعلم» (١).

__________________

(١) مقدّمة كامل الزيارات.

١٥١

وقد تقدّم في بحث الحاجة إلى علم الرجال (١) تفسير هذه العبارة ، وكذا عبارة علي بن إبراهيم في تفسيره

الطريق السادس

الوقوع في سندٍ حكم بصحته

كما في تصحيح الطرق والروايات من قبل الأعلام المتقدّمين ، أو من قرب منهم كأوائل المتأخّرين ، كما في تنصيص الصدوق على تصحيح بعض الأسانيد في كتبه الحديثية تبعاً لشيخه ابن الوليد ، أو العبّاس بن نوح شيخ النجاشي ، أو النعماني في كتاب الغيبة ، وكذا المفيد في كتبه ، والشيخ الطوسي والسيّد المرتضى ، ومَن يلي طبقتهم إلى زمن السيّدين ابني طاوس والعلّامة الحلّي.

لكن لا يخفى أنّا قد ذكرنا التفاوت في درجة قوّة التوثيقات للمتقدّم على المتأخّر ، سواء على مسلك تراكم الظنون والاحتمال ، أو على مسلك شهادة أهل الخبرة.

كما أنّه لا بدّ من التفطن إلى أنّ تنصيص المتقدّم على تصحيح سند الرواية يغاير مجرّد اعتماده على روايةٍ ما ، إذ الثاني أعمّ من توثيق مفردات السند ، إذ قد يكون تعاضد صدور الرواية بقرائن أخرى موجبة للوثوق بالصدور ، لا لوثاقة سلسلة السند ، ولا يخفى أنّ عبائر القدماء في تصحيح السند والطريق للرواية لا يقتصر على لفظ صحّة الطريق ، إذ قد يعبّرون بلفظ «الطريق سليم ليس فيه شائبة ، أو ليس فيه من يتوقّف فيه» أو غيرها من العبائر المستعملة في ذلك ، وإن كان اعتبار

__________________

(١). عند بيان دعوى الميرزا النوري من صحّة كلّ ما في الكافي.

١٥٢

الرواية بمعنى الوثوق بالصدور ليس عديم الفائدة في الاعتداد بصدور الروايات وحجّية الخبر ولو كجزء القرينة للوثوق ، إلّا أنّه لا يرتبط بتوثيق سلسلة السند كما نبّهنا عليه ؛ كما أنّ الجرح لطريق معيّن حاله كذلك ، إلّا أنّه لا بدّ من الالتفات إلى مسلك المتقدّم في الجرح.

وأمّا الخدشة في هذا الطريق من التوثيق باحتمال أنّ الحاكم بالصحّة من المتقدّمين أو من يتلوهم قد أعتمد على أصالة العدالة ، ومن لم يظهر منه فسق ، أو بكون تصحيح الرواية راجعاً لا إلى تصحيح الطريق ، بل إلى الاعتماد على صدورها لقرائن موجبة للوثوق بالصدور.

ففيها : إنّ أصالة العدالة المزعومة كمسلك للقدماء قد قدّمنا مفصّلاً في المقام الثاني في الفصل الأوّل أنّ مبناهم ليس على مجرّد أصالة عدم الفسق ، بل يبنون على إحراز حسن الظاهر الذي اعتبر أمارة في الكشف عن العدالة والوثاقة في روايات باب العدالة ، بضميمة عدم الفسق البارز فلاحظ ما ذكرناه من كلماتهم وأدلّتهم

الطريق السابع

كونه شيخ إجازة

وقد عدّه الوحيد البهبهاني في الفوائد من أسباب الحسن ، وكما عدّه بعضهم من قرائن الوثاقة والجلالة ، ويُعبّر عن هذا العنوان في تراجم الرجاليين بقولهم : هو من مشايخ الإجازة أو هو شيخ الإجازة.

وعن الميرداماد في الرواشح السماوية : إنّ مشيخة المشايخ الذين هم كالأساطين والأركان أمرهم أجلّ من الاحتياج إلى تزكية مزكّ وتوثيق موثّق.

١٥٣

ولا يخفى أنّ عبارته ليس في مطلق شيخ الإجازة ، بل في خصوص ما اشتهر منهم. وقريب منه ما عن الشيخ البهائي في الحبل المتين ، حيث عدّ الشيخوخة ممّا يوجب الظن بالعدالة.

وعدّ جماعة من مشايخ الإجازة ممّن لم يرد فيهم توثيق كأحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد وأحمد بن محمّد بن يحيى العطار ـ الذين روى عنهما كبار وجوه الطائفة كالشيخ المفيد ونحوه ـ وكالحسين بن الحسن بن أبان ، وأبي الحسين علي بن أبي جيّد.

أقول : ويضاف إلى أمثلة مشايخ الإجازة عبد الواحد بن عبدوس ، ومحمّد بن موسى بن المتوكّل ، وعلي بن الحسين السعدآبادي ، وغيرهم من مشايخ الصدوق ، الذين أكثرهم عنهم الرواية لا مطلق من روى عنهم.

وفي مقباس الهداية (١) التفرقة بين شيخوخة الإجازة وشيخوخة الرواية ، في إفادة الحسن أو الوثاقة تبعاً لصاحب التكملة ، حيث ذكر في ترجمة أحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد أنّ الأوّل منهما من ليس له كتاب يروى ، ولا رواية تُنقل ، بل يُخبر عن كتب غيره ، ويُذكر في السند لمحض اتّصاله ، بخلاف الثاني فهو ممّن تؤخذ الرواية عنه أو يكون صاحب كتاب.

أقول : ما أفاده من التفرقة موضوعاً وإن كان له وجه ، إلّا أنّه على اطلاقه ليس بسديد ، وكأنه قد ارتكز في هذه التفرقة على ما جرى عليه التعارف في الأعصار الأخيرة من الاستجازة من أكابر الأعلام في الكتب المتواترة والمشهورة للطائفة ، وإلّا فكيف يُعدّ سلسلة المشيخة التي ذكرها الصدوق في الفقيه ، والتي ذكرها

__________________

(١). مقباس الهداية ٤ / ٢٢٢.

١٥٤

الشيخ في مشيخة التهذيبين إنّها ليست دخيلة في اتصال السند ، إذ المشيخة ليست إلّا طريقاً لأصحاب الكتب ، كي تخرج رواية الصدوق والشيخ عن تلك الكتب التي ابتدأ بها السند في داخل الكتاب عن الإرسال.

وبعبارة أخرى : إنّ كلّاً من الشيخ والصدوق في المشيخة قد عبّرا بأنّهما يذكران الطرق إلى أصحاب الكتب ـ الذين قد ابتدأ سند الروايات بأسمائهم ، لكي تخرج عن حدّ الإرسال ، ممّا يدلّل على دخالة الطريق إلى الكتاب في سند رواية الكتاب ، ومن ثمّ ترى الكليني في الكافي حيث لم يبتدأ باسم صاحب الكتاب الذي يستخرج عنه الرواية ، تراه يكرّر دوماً في كلّ رواية عدّة مشايخه ، ومن يروون عنه متّصلاً بصاحب الكتاب ، فشيخ الإجازة للكتب ليس حاله كحال شيخ الإجازة في الأعصار المتأخّرة ، بعد اشتهار الكتب ، وتواترها عن أصحابها ، حيث يقصد المستجيزين من الإجازة التشرّف باتصالهم في سلسلة الرواة عن الأئمّة عليهم‌السلام.

نعم هناك فرق بين شيخ الرواية وشيخ الإجازة عند المتقدّمين من طبقات الرواة ، وهو كون الأوّل منهما هو الذي يُتتلمذ عليه في الرواية عنه ممّا قد رواه من روايات غفيرة ، إمّا في ضمن كتاب قد جمعه ، أو من حصيلة ما قد حفظها من عشرات أو مئات أو آلاف الروايات بحسب منزلته ، وأمّا شيخ الإجازة فهو في الغالب من يكون من رواة الكتب المؤلّفة من قبل الآخرين ، أي يقع في سلسلة الطريق في رواية الكتاب عن مؤلّفه ، وقد يجمع مع ذلك شيئاً من الرواية عن سماع.

ومن ذلك يتّضح أنّه من الأولى تقسيم هذا الطريق إلى طريقين للتوثيق ، حيث إنّ درجة اعتبار الأوّل ـ شيخ الرواية ـ تفوق اعتبار الثاني ، إذ أنّ الأوّل يُتتلمذ عليه

١٥٥

في الفقه والحديث ، ويركن إلى تدوينه ، ويُعدّ كونه شيخ رواية اعتماداً لكتابه ، بخلاف الثاني فإنّه لأجل اتصال السند إلى صاحب الكتاب ممّا قد يجد الراوي طريقاً آخر إلى صاحب الكتاب في العادة.

هذا مع أنّ ديدن الرواة كان على تقسيم الراوي بلحاظ شيخه في الرواية وعمّن يدمن الرواية عنه ، كما هو الديدن في هذه الأعصار في علم الفقه والأصول والمعارف ، بل هو ديدن العقلاء في العلوم والفنون ، ولأجل ذلك عدّوا شيخ الرواية الذي تتلمذ عليه عدّة من الكبار في مرتبة من الجلالة والوجاهة فوق الوثاقة ، وأضافوا في تقريب ذلك أيضاً إنّه إذا كان التلميذ من أعلام الرواة الذين عُرّف منهم التشدّد في الرواية فإنّ ذلك يكشف جزماً عن مقام شيخه في الرواية.

وكلّ ما تقدّم آتٍ في شيخ الإجازة أيضاً بدرجة أقل ، لأنّها نحو من الشيخوخة أيضاً ، لا سيّما وأنّ شيخ الإجازة ـ كما تقدّم ـ دخيل في اتصال السند والطريق إلى صاحب الكتاب ، لا أنّ الاستجازة عنه لمحض التبرّك ، فانظر إلى ديدن المحدّثين في وضعهم لكتب الفهارس المؤلّفة لذكر الطرق لأصحاب الكتب كي تخرج عن الإرسال ، كفهرس الشيخ الطوسي ، وفهرس النجاشي المشتهر برجاله ، مع أنّك قد عرفت أنّ الديدن في طرق التوثيق ليس على تحرّي خصوص ما يدلّ بنفسه على الوثاقة ، بل على جمع قرائن تكون بمثابة الأجزاء لحسن الظاهر ، أو يُتراكم منها ما يفيد الاطمئنان ، فمن ثمّ قد يكون طريق التوثيق الواحد يختلف في الدلالة بحسب الأفراد باختلاف الملابسات التي أشرنا إليها آنفاً.

وقد أشكل على هذا الطريق أنّ أصحاب الإجماع قد تُرجم لهم ووُثّقوا في كتب الرجال ، فكيف لا تكون هناك حاجة إلى التعرض لمشايخ الإجازة.

وبعبارة أخرى : إنّ أصحاب الإجماع لم ير الرجاليّون إستغناءهم عن التوثيق

١٥٦

فتعرّضوا لهم ، فما بالك في مشايخ الإجازة.

وأشكل أيضاً : من أنّ عدّة من مشايخ الإجازة كالحسن بن محمّد بن يحيى ، والحسين بن حمدان الحضيني ، والحسن بن محمّد النوفلي ، والحسين بن أحمد المنقري التميمي ، هم من مشايخ الإجازة وقد ضعّفهم النجاشي.

وفيه : إنّ تعرض أصحاب كتب الرجال وعدم تعرّضهم قد لا يندرج تحت ضابطة في بعض الأمثلة ، فقد تراهم يتعرّضون لذكر بعض أصحاب الإجماع دون بعضهم الآخر ، مع تقارب وثاقتهم في الدرجة ، وقد يتعرّضون للثقة قليل الرواية مع عدم تعرّضهم للثقة الكثير الرواية ، لا سيّما وأنّ ما بأيدينا من كتب وأصول رجالية متقدّمة نزر يسير ، والتي هي عبارة عن الخمسة المعروفة ، فلم تصل بأيدينا ما وصل من عشرات تلك الكتب والأصول إلى السيّد ابن طاوس في القرن السابع ، وكم قد استدرك المتأخّرون في كتبهم الرجاليّة على المتقدّمين مفردات رجالية لم يتعرّضوا لها ، بعد أن جمعوا من خلال تتبّع قرائن على أحوال تلك المفردات من خلال الطبقات ، أو مشايخ تلك المفردة في الرواية ، أو من يروي عنه ، أو نمط رواياته ، إلى غير ذلك من القرائن على تلك المفردة بالاستقراء.

إذن فتعرضهم أو عدمه لا ينضبط بالحاجة وعدمها فكم من مفردة رجالية قامت عليها قرائن التوثيق لم يتعرّضوا لها في كتب المتقدّمين لسبب أو لآخر ، أو تعرّضوا لها من دون ذكر تصريح بالتوثيق ، مثل عمر بن حنظلة الذي عقدنا له رسالة خاصّة (١) ، دالّة على جلالته ووثاقته برتبة زرارة ومحمّد بن مسلم عبر روايات معتبرة ، ونظير إبراهيم بن هاشم الكوفي والد علي بن إبراهيم

__________________

(١). في كتاب الهيويات الفقهيّة ـ رسالة في ثبوت الهلال بحكم الحاكم ـ.

١٥٧

القمي ، وغيرهم.

فليس كلّ من هو ثقة يلزم أن يوثّقه أصحاب الرجال في كتبهم ، وقد مرّ في المقدّمة في بحث الحاجة إلى علم الرجال من أنّ العلم بأحوال الرواة ليس منسدّاً بابه ، بل مفتوح عبر الاستقراء لطرق وأسانيد الروايات الواقع فيها الراوي ، للتعرّف على طبقته وشيوخه وتلامذته ، ونمط ما يروي من روايات ، واستقامة المتون المنقولة عنه ، وكونه صاحب كتاب ، إلى غير ذلك من الاطّلاع على حاله وشئونه. فالمعيار حينئذ هو حال الأوصاف التي اتصف بها الراوي ، وقد قرّبنا أنّ شيخوخة الرواية أو الإجازة هي بمنزلة شيخوخة التلمذة في هذه الأعصار ، من كونها إحدى قرائن حسن ووجاهة الظاهر.

وبذلك يظهر لك الجواب على الإشكال الثاني ، حيث أنّ قرائن التوثيق ليست من قبيل اللوازم التكوينية غير المنفكّة عن العدالة والوثاقة ، كما هو الحال في جلّ قرائن حسن الظاهر ، ومن ثمّ اعتدّ بها كقرائن ظنّية أمارية على الواقع ، قد يتخلّف الواقع عنها ، فمثل ما ذكر في معتبرة ابن أبي يعفور الواردة في العدالة وإحرازها «إن يكون آتياً لصلاة الجماعة لا يؤذي أحداً ولا يغتاب ويؤدّي الأمانة» إلى غير ذلك ممّا ذكر فيها لا يلازم تكويناً بنحو الملازمة التكوينية العدالة ، إذ قد يكون واجداً لتلك الصفات ولكن في باطن حاله مقيماً على الكبائر ، فليس إذن المتوخّى من طرق التوثيق كونها علل تكوينية ، أو معلولات ملازمة للوثاقة والعدالة ، وإنّما الغرض منها الاعتداد بها في السيرة المتشرّعة أو العقلائية كقرائن ظنّية تورث الاطمئنان النوعي بهما.

١٥٨

الطريق الثامن

الوكالة عن الإمام عليه‌السلام

وهي على مراتب ، إذ منها ما يكون بمثابة النيابة عنه عليه‌السلام في شئون الفتيا والقضاء ، وجَبْيِ الأخماس وغير ذلك ، كما هو الحال في وكلاء الإمام الهادي عليه‌السلام في بلاد العراق وفارس ، ومنها ما يكون وكالة في جَبْيِ الأخماس ، ومنها ما تكون وكالة في رفع نزاع كقاضي التحكيم ، ومنها ما يكون وكيلاً في الأمور الفردية المعاشية كخدمهم وغلمانهم عليهم‌السلام ، ونحوه الوكيل على مزرعة أو على وقف أرض ونحو ذلك.

وقد عدّها الوحيد البهبهاني في فوائده من أمارات الوثاقة والقوّة ، بل عن جماعة جعل ذلك من أقوى أمارات المدح بل الوثاقة والعدالة. وأيّد بما رواه الكليني عن علي بن محمّد عن الحسن بن عبد الحميد قال : شككت في أمر حاجز ، فجمعت شيئاً ، ثمّ صرت إلى العسكر ، فخرج إليّ : «ليس فينا شكّ ولا في من يقوم مقامنا بأمرنا ، ردّ ما معك إلى حاجز بن يزيد» (١).

إلّا أنّه أشكل بعض متأخّري هذا العصر في دلالة الوكالة على الوثاقة ، لعدم اشتراطها شرعاً بالعدالة ، بل غاية الأمر إنّ العادة قائمة على عدم التوكيل في الماليات من لا يوثق بأمانته ، والنهي عن الركون إلى الظالم لا ربط له بالتوكيل ، في الأمور الشخصية ، وقد عدّ الشيخ في كتاب الغيبة جملة من الوكلاء المذمومين ممّا يدلّ على إمكان الانفكاك بينهما ، وأمّا الرواية المتقدّمة فضعيفة السند

__________________

(١) الكافي ١ / ٥٢١ باب مولد الصاحب عليه‌السلام الكتاب الرابع ، الحديث ١٤. وذكره الشيخ المفيد أيضاً في الارشاد في باب ذكر طرف من دلائل صاحب الزمان عليه‌السلام.

١٥٩

بالحسن بن عبد الحميد ، مع اختصاصها بمن قام مقامهم بأمرهم ، أي بالنوّاب والسفراء من قبلهم. بل إنّ هناك رواية دالّة على عكس ذلك ، وهي ما رواه الكشّي في ترجمة معتّب عن حمدويه وإبراهيم عن محمّد بن عبد الحميد عن يونس بن يعقوب عن عبد العزيز بن نافع إنّه سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «هم عشرة ـ يعني مواليه ـ فخيرهم وأفضلهم معتّب وفيهم خائن فاحذروه وهو صغير» ـ وفي نسخة أخرى صفير بالفاء ـ.

وكذا روى الكشّي عن علي بن محمّد قال : حدّثني محمّد بن أحمد عن الحسن بن الحسين اللؤلؤي ، عن الحسن بن محبوب : لا أعلمه إلّا عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «مواليّ عشرة خيرهم معتّب ، ولا يظنّ معتّب أنّي أسحر من الناس».

وفي نسخة أخرى : «أسخر من الناس» ، وفي ثالثة : «أسخى الناس» ، وفي رابعة : «أحقّ الناس».

والصحيح أنّ الوكالة في الأمور الشرعيّة ولو جباية الأموال كالخمس ونحوها دالّة على الوثاقة ، نظراً لكون هذه الوظائف الشرعية مسنداً ومنصباً شرعياً ، مع الالتفات إلى الانتساب له عليه‌السلام في نظر عامّة المكلّفين ، مضافاً إلى أنّ الحيطة في أداء تلك الوظيفة الشرعية إنّما يتمّ بوضع الثقة مع زيادة كونه بصيراً أيضاً.

وتشتدّ الدلالة كلّما اتسعت دائرة مورد الوكالة وأعلاها في النوّاب والسفراء ، ولك أن تتمثّل ذلك بالوكلاء عن علماء الدين ، سواء في الأوقاف أو الأموال أو في بيان الأحكام الشرعيّة أو في حلّ الخصومات بالصلح ونحو ذلك ، فإنّه بمثابة تمثيل عن ذلك العالم الديني. وهذا ما تشير إليه الرواية المتقدّمة حيث جعل عجّل الله فرجه الشك في «حاجز» شك فيه عجّل الله فرجه ومن ثَمّ قدّم

١٦٠