الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣٣

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣٣

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-225-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٩٢

وهذا الذي قلناه ، لا ينسحب ولا يشمل إظهار المعجزات والآيات الدالة على الرسولية ، وعلى النبوة ، فإنها آيات يستطيع العقل أن يتخذ منها وسائل وأدوات ترشده إلى الحق ، وتوصله إليه .. وتضع يده عليه .. وليست هي فوق العقل ، ولا هي من موجبات تعطيله ، أو اضعافه.

٤ ـ أهل الكتاب ليس عندهم علم الكتاب :

وثمة سؤال يورده البعض ، مفاده : أنه لا يصح أن يكون المراد بمن عنده علم الكتاب في قوله تعالى : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (١) عليا «عليه‌السلام» ، لأن عليا «عليه‌السلام» ، قد آمن بالنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو بالتالي طرف في النزاع بين النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمشركين.

فلا يعقل أن يحيل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المشركين إلى علي «عليه‌السلام» وأن يستشهد به على صدق نبوة نفسه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لأنهم لن يقبلوا شهادته.

فكيف يأمره الله تعالى بأن يجعله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» شهيدا بينه وبين أهل الكتاب؟! والحال أن رفعهم لشهادته أمر بديهي ، وقد كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يعلم ذلك أيضا؟

أليس ذلك من قبيل الإحالة على محال؟

ومع صحة هذا الإشكال العقلي ، تسقط كل الروايات التي تفسر من

__________________

(١) الآية ٤٣ من سورة الرعد.

٣٦١

عنده علم الكتاب بعلي «عليه‌السلام».

ونقول في الجواب :

أولا : إن الروايات المتواترة ، وكثير منها صحيح السند قد دلت على أن المقصود ب (مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) أمير المؤمنين علي ، والأئمة من ذريته عليه وعليهم‌السلام. وهي تقطع دابر كل تخرص ورجم بالغيب في هذا المجال ؛ فإنهم «عليهم‌السلام» عدل القرآن ، وأحد الثقلين اللذين أمرنا الله بالتمسك بهما.

ولا يمكن تكذيب هذا العدد الكبير من الروايات الصحيحة ، فكيف إذا كانت متواترة من طرق الشيعة .. كما أنها مروية من طرق أهل السنة ..

ونذكر من هذه الروايات ثلاثا فقط ، هي التالية :

١ ـ عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» ، قال : الذي عنده علم الكتاب هو أمير المؤمنين «عليه‌السلام».

وسئل عن الذي عنده علم من الكتاب ، أعلم؟! أم الذي عنده علم الكتاب؟!

فقال : ما كان علم الذي كان عنده علم من الكتاب عند الذي عنده علم الكتاب إلا بقدر ما تأخذ البعوضة من ماء البحر .. (١).

٢ ـ وعن الإمام الباقر «عليه‌السلام» في تفسير الآية : إيانا عنى ، وعلي

__________________

(١) تفسير القمي ج ١ ص ٣٦٧ والتفسير الصافي ج ٣ ص ٧٧ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ٥٢٣ وج ٤ ص ٨٨ والبحار ج ٢٦ ص ١٦٠ وينابيع المعاجز ص ١٤.

٣٦٢

أولنا ، وأفضلنا ، وخيرنا بعد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

٣ ـ وعن ابن بكير ، عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» ، قال : كنت عنده ، فذكروا سليمان وما أعطي من العلم ، وما أوتي من الملك.

فقال لي : وما أعطي سليمان بن داود؟ إنما كان عنده حرف واحد من الاسم الأعظم ، وصاحبكم الذي قال الله تعالى : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٢). وكان ـ والله ـ عند علي «عليه‌السلام» ، علم الكتاب.

فقلت : صدقت والله جعلت فداك (٣).

فإذا جاء الخبر اليقين المتواتر عنهم «عليهم‌السلام» ، وكان عدد كثير منه صحيح السند ، فلا بد من البخوع له والانتهاء إليه ، وليس لأحد ـ بعد

__________________

(١) بصائر الدرجات ص ٢٣٥ و ٢٣٦ والكافي ج ١ ص ٢٢٩ والمناقب لابن شهرآشوب ج ٣ ص ٥٠٤ والبحار ج ٢٣ ص ١٩١ وج ٣٥ ص ٤٣٣ وج ٣٩ ص ٩١ وبشارة المصطفى للطبري ص ٢٩٩ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ٥٢٢ والتفسير الصافي ج ٣ ص ٧٧ والتفسير الأصفى ج ١ ص ٦٠٩ وتفسير مجمع البيان ج ٦ ص ٥٤ وتفسير جوامع الجامع ج ٢ ص ٢٦٩ وتفسير العياشي ج ٢ ص ٢٢٠ وجامع أحاديث الشيعة ج ١ ص ١٦٠ ودعائم الإسلام ج ١ ص ٢٢ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٢٧ ص ١٨١ و (ط دار الإسلامية) ج ١٨ ص ١٣٤ وشرح أصول الكافي ج ٥ ص ٣١٥ ومستدرك الوسائل ج ١٧ ص ٣٣٤.

(٢) الآية ٤٣ من سورة الرعد.

(٣) بصائر الدرجات ص ٢٣٣ وينابيع المعاجز ص ١٥ والبحار ج ٢٦ ص ١٧٠ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ٥٢٤.

٣٦٣

ثبوته ـ أم يثير الشكوك بكلامهم. استنادا إلى حدسيات وآراء الرجال .. بل لا بد أن تزول الشبهة بكلامهم صلوات الله وسلامه عليهم .. ورحم الله امرءا عرف حده فوقف عنده.

ثانيا : إن الآية نفسها تكاد تكون صريحة في أن المقصود لا يمكن أن يكون غير علي «عليه‌السلام» ، لا عبد الله بن سلام ، ولا غيره من أهل الكتاب.

وحيث إن هناك سعيا حثيثا من قبل البعض لصرف الآية عن أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، وتخصيصها بعبد الله بن سلام اليهودي ، فلا بد لنا من توجيه الكلام بحيث يحسم مادة النزاع في هذا الأمر ، فنقول :

إن الآية التي هي مورد البحث تقول :

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (١).

ونحن في سياق بيان ما نرمي إليه نشير إلى عدة نقاط ترتبط بهذه الآية الشريفة .. فنقول :

١ ـ إن الشاهد بين النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وبين الذين كفروا ، إن كان من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالرسول ، وينكرون نبوته ، فإن شهادته لا تجعلهم يعترفون بالحق ، بل هم سوف يغتنمونها فرصة لإسقاط دعوته وتضعيف أمره ..

وليس لنا أن نتوقع منهم أن يبادروا إلى إبطال دينهم ، وإثبات حقانية هذا الدين الجديد الذي يعارضه ، ويناقضه ، وينفيه ..

__________________

(١) الآية ٤٣ من سورة الرعد.

٣٦٤

وإن كان الشاهد هو عبد الله بن سلام بعد إسلامه ، فمن جهة ، ليس ثمة ما يطمئن ـ بحسب العادة ـ إلى أن ابن سلام سوف يقول الصدق ، ولا يكتم الشهادة ، فقد تدفعه أهواؤه إلى ذلك ، فإنه ليس بمعصوم.

بل إن الوقائع التي رافقت حياة هذا الرجل بعد إسلامه قد أثبتت أنه لم يكن وفيا للحق ، بل اتبع هواه ، وعاند الإمام الحق ، واتبع سبيل الذين لا يعلمون ..

كما أن أهل الكتاب قد كتموا الشهادة بالحق لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، في غير هذا المورد ، وقد تحدث الله عنهم في ذلك ، وأنبهم عليه ، واتهمهم بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه ، فراجع تفسير قوله تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١).

وقوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) (٢).

فمن كان كذلك كيف تجعل شهادته عدلا لشهادة الله وشهيديته؟!

وكيف يسجل ذلك في القرآن ليقرأه الناس وليستفيدوا منه خلفا عن سلف؟! ..

ألا يعد هذا من الإغراء للناس بما لا يصح الإغراء به؟

بل إن إصرار أهل الكتاب على البقاء على دينهم في هذه الحال لهو من أعظم مظاهر كتمان الشهادة بالحق ، كما هو ظاهر لا يخفى ..

مع أن سياق الآية والتعبير بكفى ، وجعل شهيدية العالم بالكتاب

__________________

(١) الآية ٩٣ من آل عمران.

(٢) الآية ٤٦ من سورة النساء ، وراجع الآيتان ١٣ و ١٤ من سورة المائدة.

٣٦٥

مقرونة بشهيدية الله تعالى يفيد : أن هناك ضمانة حقيقية ، وطمأنينة شديدة إلى أمانة الشاهد وصدقه ، وأنه لن يكتم الشهادة فضلا عن أنه لن يشهد إلا بالحق والصدق ، لا على سبيل الإعجاز في الإخبار عن الغيب ، ولا على سبيل الإعجاز بإجبار ابن سلام على ذلك تكوينا.

بل الأمر يجري وفق السنن ، من حيث أنه يستند إلى أن الشاهد هو ذلك الإنسان العالم بمواطن الحق والباطل ، المعصوم عن أن ينقاد لهواه ، وعن أن ينساق مع تيار الإنحراف ، في أي من الظروف والأحوال ..

٢ ـ إن الحديث إنما هو مع المشركين والكفار ، وهم كما لا يعترفون برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فإنهم لا يعترفون أيضا باليهود ، وإلا لكانوا تابعوهم ، ودخلوا معهم في دينهم ، فما معنى إلزامهم بشهادة ابن سلام الذي كان يهوديا فأسلم. وهم يخطئونه في ذلك ويضللونه؟!

وما معنى أن تقرن شهادة اليهود بشهادة الله سبحانه ، في مقام التحدي؟!

٣ ـ إنه بعد أن دخل ابن سلام في الإسلام لم يعد هناك أي فرق بنظر الكفار بينه وبين علي «عليه‌السلام» ، فهذا خصم لهم مدع عليهم ، وذاك أيضا كذلك بنظرهم ..

٤ ـ إن الآية قد تحدثت عن الشهيد ، لا عن الشاهد .. والتعبير الطبيعي عن الذي يؤدي الشهادة في موارد الترافع والاختلاف هو كلمة «شاهد» ، فيقال فلان شاهد ، لا شهيد ، التي هي من صيغ المبالغة ..

٥ ـ أضف إلى ما تقدم : أنه لا يقال ـ في العادة ـ : فلان شاهد بيني وبينكم ، بل يقال فلان شاهد على فلان ، أو شاهد على الأمر.

٣٦٦

وقد ذكر بعضهم : أنه يمكن أن يكون التعبير بكلمة (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) للإشارة إلى توسط الشاهد بين الطرفين ، وتساويهما عنده بحيث لا يميل إلى أحدهما على حساب الآخر. وهذا يعطيه الوثاقة والأمانة والعدالة في الشهادة ، إلى حد أن تصبح شهادته هي الفيصل في الأمر ، فيكون شاهدا حاكما ، قاطعا للنزاع.

والتعبير بكلمة شهيدا للإلماح إلى شدة اطلاعه وحضوره ، الأمر الذي يحتم إطاعته والقبول منه.

ونقول :

إننا نتفق مع هذا الأخ الكريم ، على أن المراد بالشهيدية هو الحضور المباشر والقوي من حيث شدة انتباهه لما يجري على صفحة الواقع ، وتدقيقه فيه .. ولكننا لا نوافقه على أن المراد بالآية الشهادة بين متخاصمين على حد الشهادات الأخرى. بل هو شهيدية ، وحضور حاكم ، وفاصل للأمر ، من دون أن يكون هناك شهادة.

لأن معرفة الصدق ، خصوصا في أمر يتعذر فيه الإطلاع إلى درجة الحضور ، كمجيء جبرئيل «عليه‌السلام» للرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أمر غير ميسور للبشر العاديين وذلك معناه أن هذا الشهيد يملك وسائل عالية جدا ، تمكنه من الحضور المباشر حتى في مثل هذه الأمور الخفية جدا ، وذلك لا يتناسب إلا مع ما هو أرقى من هذا الذي نعيشه ونألفه .. وهو شهيدية الإمام ، والإمامة التي ستظهر آثارها في يوم القيامة ..

وهذا يؤيد ويؤكد المعنى الذي نسوق الكلام إليه .. وهو أنها شهيدية بمعنى الحضور ، لا بمعنى أداء الشهادة.

٣٦٧

٦ ـ إن من الواضح : أن الإكتفاء بشهيدية الله ، ومن عنده علم الكتاب ليس معناه أن الذي عنده علم الكتاب سيكون قادرا ـ بما أوتي من علم ـ على إلزامهم بالحجة ، بعد أن عجز الرسول نفسه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن إلزامهم بها. بل المراد أن ذلك العالم بالكتاب سيكون هو حجة الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، عليهم.

٧ ـ ليس في الآية أية إشارة إلى أن المقصود بالكتاب فيها ، هو كتاب التوراة أو الإنجيل ، فتطبيق الآية عليهما ما هو إلا تخرص ، ورجم بالغيب ، ومن دون مبرر.

بل قد وجدنا في الروايات الواردة عن المعصومين «عليهم‌السلام» ما يشير إلى أن المراد بالكتاب هو ذلك الكتاب الذي يكون للعالم به القدرة على التأثير في عالم التكوين ، والهيمنة على الموجودات ، ففي بعضها ما يدل على أن هذا الكتاب هو نفس الكتاب الذي كان آصف بن برخيا يعلم بعضه ، فتمكن به من الإتيان بعرش بلقيس من اليمن إلى بيت المقدس : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) (١).

والمراد بالكتاب : القرآن .. الذي هو تبيان كل شيء ، وقال تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (٢) فمن كان عنده حقيقته ، فإنه سيكون متمكنا ومهيمنا على الأشياء بأعظم هيمنة. ويمكّن من ذلك أيضا آصف بن برخيا

__________________

(١) الآية ٤٠ من سورة النمل.

(٢) الآية ٣٨ من سورة الأنعام.

٣٦٨

والأنبياء السابقين لأنهم إنما يملكون بعضا من علوم القرآن ، وعلي «عليه‌السلام» ، يعرف كل ما في هذا القرآن.

فالمراد بعلم الكتاب إذن هو ذلك العلم القاهر لهم ، الذي يعطي العالم به السلطة والقدرة على التصرف ، وإراءة الخوارق التي تسقط استكبارهم ، وتعرفهم بمدى ضعفهم ، وبأنهم لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا.

٨ ـ وإذا تحقق ذلك ، فإن ملاحظة أنه تعالى قد عبر بكلمة «شهيد» ثم نسبها لله سبحانه ، وللعالم بالكتاب في سياق واحد تعطينا : أن صيغة المبالغة «شهيدا» قد جاءت للتعبير عن الشهادة التي تكون هي الأشد حضورا ، والأكثر إحاطة وهيمنة وإشرافا ، والأبعد أثرا في التمكين من الإطلاع على دقائق الأحوال وخفاياها ، وعلى كل خصوصياتها وحقائقها ومزاياها. بحيث تكون ـ بملاحظة تعدد المنكشفات ـ ، بمثابة معاينات ومشاهدات متعددة ، ومباشرة حسية لذلك كله ..

فتعددها يوجب تعدد المشاهدات والشهادات ، فيصح المبالغة ـ والتكثير ـ بلحاظ ذلك.

ولذلك قال : «شهيدا».

كما أن نيل حقائقها ووقائعها قد أوصلها إلى درجة المحسوس المشاهد ، حتى لو كانت من الأمور التي لا تنالها الحواس الظاهرية.

فهل لأحد من أهل الكتاب هذه الإحاطة ، وهذا الإشراف ليصح أن يقال عنه : إنه شهيد ، وأن تقرن شهيديته بشهيدية الله تعالى؟!

٩ ـ إن الشهيدية في مورد الآية قد تعلقت بأمر لا تناله الحواس الظاهرة ، بل يعرف بالأدلة العقلية ، وبالبصيرة الهادية ، وبقضاء الفطرة ، والوجدان

٣٦٩

المستند إلى الدليل والبرهان ـ حتى لو كان هذا الدليل هو المعجزة ـ في مقام التحدي.

ونيل العلم بالنبوة لا ينحصر بأهل الكتاب ، ولا بعبد الله بن سلام ، بل البشر جميعا يشاركونهم في ذلك ..

ولكن الأمر الذي تحدثت عنه الآية هنا هو شهيدية بالنبوة ، وإشراف على حقائقها ودقائقها ، مستند إلى العلم المأخوذ من الكتاب .. لا إلى العلم من خلال ظهور المعجزات .. مما يعني : أن دلائل هذه النبوة التي يعاينها ذلك العالم بالكتاب كثيرة جدا .. ومتعددة ، فالشهادة بالنبوة بمثابة شهادات بتلك الدلائل التي نالها ذلك العالم بعلمه ..

١٠ ـ كما أن شهيديته لا تكون بمجرد الإعلان بنعم ، أو بلا .. كما هو الحال في أية شهادة على أمر مختلف فيه .. بل هي شهادة فيها إظهار لخفيات مكّن العلم بالكتاب من إظهارها. وذلك بطريقة إعجازية ..

خصوصا : وأن الذين كفروا قد حسموا الأمر ، وأعلنوا رفضهم لنبوته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بصورة جازمة وقالوا : (لَسْتَ مُرْسَلاً) فلم يكن هناك مجال للحوار ، ولا للأخذ والرد معهم ..

فجاء هذا الموقف ليواجه عنادهم هذا ، وليتحدى غطرستهم واستكبارهم ، وليكون بمثابة وعيد لهم بالانتقام ، وبعدم النجاة ، ما دام أن الأمور تعود إلى الله سبحانه ، وسيكون من عنده علم الكتاب هو الآخذ بكظمهم ، والمتولي لأمرهم.

فلا غرو إذا قلنا بعد ذلك كله : إن المقصود بالشهيدية هو مقام الشهادة على الخلق ، التي تختزن معنى الإحاطة والهيمنة ، والإشراف التام على كل الحالات والخصوصيات. والتي قرنت بشاهدية وشهيدية الله سبحانه ..

٣٧٠

الذي هو مصدر الفيض والعطاء والتمكين لهذه الشهيدية للعالم بالكتاب المرتبطة به ، والمنتهية إليه أيضا ، لأن علمه به إنما هو بتعليم منه تعالى ..

فشهيدية هذا العالم بالكتاب مساوقة لشهيدية الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (١) (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٢) (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) (٣).

ويكون هذا الشهيد معصوما ، لا مجال لاحتمال أي إخلال في حقه ، وقويا في ذات الله ، لا يدعوه إلى كتم الشهادة رغب ولا رهب.

عليم بالحقائق ، مطلع على أسرار الكائنات ، يمتلك ـ بتمليك الله سبحانه له ـ القدرة على حسم الأمور في الاتجاه الصحيح ..

وتكون الآية تتجه إلى ردّ التحدي ، والتصدي للإستكبار وأهله حيث تواجهه وتواجههم بالوعيد الحازم ، حيث يتولى الله ، ومن عنده علم الكتاب ـ ومن موقع العلم ، والقوة ، والقدرة على التصرف ـ مواجهتهم بما يناسب عنادهم ، وجحودهم ، واستكبارهم ، حيث سيكون علي «عليه‌السلام» هو الذي له مقام الشهيدية ، وهو المتولي لأمر الصراط ، فلا يمر عليه إلا من عنده جواز من علي «عليه‌السلام» (٤).

__________________

(١) الآية ١٤٣ من سورة البقرة.

(٢) الآية ٤١ من سورة البقرة.

(٣) الآية ٧٨ من سورة الحج.

(٤) راجع : الإعتقادات في دين الإمامية للشيخ الصدوق ص ٧٠ والبحار ج ٨ ص ٧٠ وج ٣٩ ص ٢١١ وعيون أخبار الرضا «عليه‌السلام» ج ٢ ص ٢٧٢ ومسند الإمام الرضا «عليه‌السلام» للعطاردي ج ١ ص ١٢٣.

٣٧١

والذي يعطيه علي «عليه‌السلام» هذا الجواز هو من التزم الحق ، والصدق وتجنب الجحود عن علم ، وسمع كلمة الحق. ولم يتول مستكبرا عنها كأن لم يسمعها ..

وستكون معاملة علي «عليه‌السلام» معهم معاملة العارف بهم عن مشاهدة ومعاينة ، لمكان شهيديته ، وإشرافه على الكتاب ، وعلمه ومعرفته الدقيقة بحقائقه ودقائقه ، سواء في مجال التشريع أو في التكوين ، والهيمنة على السنن الإلهية .. في سياق العمل على تطبيق السياسة الربانية في الكون كله ، وفي الحياة كلها ..

٣٧٢

الخاتمة

٣٧٣
٣٧٤

خاتمة الكتاب :

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله ، والصلاة والسلام على محمد وآله ..

وبعد ..

١ ـ فقد انتهيت من تأليف هذا الكتاب ، كتاب «الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله». في هذه الأيام الصعبة والأليمة ، حيث الصدور حرى ، والعيون عبرى مما يجري على أهلنا وقرانا ، وكل جبل عامل الجريح ، وفي العديد من المناطق اللبنانية الأخرى ، وخصوصا الضاحية الجنوبية لبيروت ، وبعلبك ، والهرمل ، وسائر المناطق في البقاعين وسواهما .. على أيدي اليهود الذين اغتصبوا فلسطين وشردوا أهلها .. حيث كانت آلة حقدهم تصب حممها على شيعة أهل البيت «عليهم‌السلام» ، فتزهق أرواحهم ، وتمزق أجسادهم بما في ذلك أجساد النساء والرجال ، شيوخا وأطفالا ، وكبارا وصغارا ، وتهدم بيوتهم على رؤوسهم ، فيموت من يموت ، ويجرح من يجرح ، وتندر الأيدي ، وتقطع الأرجل ، وتتحطم العظام ، وتمزق الأجساد ، وتبقر البطون .. فإنا لله وإنا إليه راجعون ..

أما المشردون والتائهون في مختلف البلاد ، وهم مئات الألوف ، فالله أعلم بحقيقة معاناتهم ، وما يجري عليهم ، حتى إن منهم من يصعب عليه

٣٧٥

حتى أن يجد الملاذ والمأوى ، فافترش الأرض ، والتحف السماء.

ولعل أقسى ما يؤلمهم هو شماتة الأعداء بهم ، بالإضافة إلى ما يعانونه من شظف العيش ، وفقدان أدنى مقومات الحياة ، فلا وطاء ، ولا غطاء ، ولا طعام ولا ماء ، ولا حتى دواء ، فضلا عما سوى ذلك ..

على أن هناك ثلة من أهلنا من أصحاب النفوس الأبية ، والأرواح القدسية ، قد بقيت متشبثة بأرضها وبيوتها ، تؤثر الموت فيما تهدّم منها ، على الهجرة عنها ، رغم أنها تعيش في أقسى ظروف يمكن أن يواجهها البشر ، حيث يقتلون على أيدي اليهود أحفاد قتلة الأنبياء ، وأعداء الصلحاء ، وإخوان القردة والخنازير ، ومردة الشياطين ، فكانت تحوم فوق رؤوسهم الطائرات ، المحملة بقنابل الحقد ، المشحونة بآلة الدمار ..

فلا تكاد تفارقهم لحظة واحدة ، وكل همها هو أن تتخير منهم من تشاء من أهل العفاف والتقوى ، ليكونوا أهدافا لها ، ترميهم بسهام الحقد في أية لحظة تشاء.

هذا ، بالإضافة إلى المدمرات والزوارق الحربية التي تتربص بهم ، والمدافع الثقيلة والدبابات التي تصب حممها فوق رؤوسهم ، مع احتمال أن يجتاحهم عدوهم بجنوده في كل ساعة ، وأية لحظة .. ليتفنن بالفتك بهم ..

هذا عدا عن أن الكثيرين منهم قد لا يجدون ما يدفعون به سورة الجوع والعطش عن أنفسهم .. فهم يأكلون الجشب ، ويشربون الكدر .. فيا لها من مصيبة ما أعظمها ، ومن جرح ما أشد ألمه ..

٢ ـ على أن كل هذا الحزن والأسى قد جاء متمازجا بشعور الكرامة والعزة والإباء ، ما دام أن تلك الوحوش الكاسرة إنما فتكت بهؤلاء الآمنين

٣٧٦

من النساء ، والأطفال والمسنين ، بعد أن أذاقها أولئك الأشاوس ، عشاق علي والحسين والزهراء «عليهم‌السلام» مرارة الخزي والهوان ، والذل والخسران في ساحات الوغى ، فلاذت بالفرار ، وتوارت خلف الأسوار ، وصبت جام غضبها على الصغار والكبار ، وباءت بغضب العزيز الجبار ..

٣ ـ وكان مما امتحنني الله به ، هو تدمير مكتبتي ، التي كانت في بيتي في الضاحية الجنوبية لبيروت. واحتراق غرفة كانت تحوي شطرا من مكتبتي في عيثا الجبل أيضا .. وكانت تحوي بالإضافة إلى بعض المخطوطات القديمة جميع ما خطته يدي طيلة حياتي ، وما أكثره ، وقد التهمته النار ، وأتت عليه ، ولم يسلم لي حتى سطر واحد.

ولكن كل ذلك يهون ويرخص أمام ما عايناه من ألطاف إلهية ، شملت أهل الإيمان تمثلت بنصر قل نظيره ، وبعنايات ربانية مكنت محبي علي أمير المؤمنين «عليه‌السلام» وشيعته الأوفياء ، ومواليه الصفياء من إذلال أعداء الله سبحانه ، فأبار الله كيدهم. وأظهر خزيهم ، وذلهم.

٤ ـ إن قسما كبيرا ، أو القسم الأكبر من آخر جزء من هذا الكتاب ، قد كتب في أجواء هذه الحرب ، وفي أماكن فرضت علينا المخاطر اللجوء إليها ، لأننا ظننا أنها أكثر أمنا ..

فربما لم نتمكن من إعطائها حقها ، ولو بمقدار ما حظيت به سائر أقسام هذا الكتاب ، وربما نكون قد غفلنا عن أمور كثيرة كان يحسن بنا ذكرها ، أو الإلماح إليها ، بنحو أو بآخر ..

فنحن نعتذر إلى القارئ الكريم عن أي تقصير يمكن أن يلاحظ فيها ..

٣٧٧

٥ ـ وبالنسبة لعملنا في هذا الكتاب نود أن نعترف ونعتذر ، فنعترف بما يلي :

ألف : إننا بسبب تباعد أوقات عملنا فيه ، لم نستطع في مراجعاتنا لمصادر النصوص أن نعتمد على طبعة واحدة منها ، فاختلفت الطبعات لكثير من تلك المصادر ، حتى في الفصل الواحد ، وربما بين صفحة وأخرى ، بل بين مورد وآخر .. مثل : كنز العمال ، طبقات ابن سعد ، تاريخ الطبري ، الإصابة ، مسند أحمد ، البداية والنهاية ، السيرة النبوية لابن هشام ، تاريخ اليعقوبي ، صحيح البخاري ، صحيح مسلم ، الكافي ، البحار ، وعشرات المصادر الأخرى ..

ب : قد يلمس القارئ الكريم بعض الإختلاف في طريقة التعاطي مع النصوص فيما بين الثلث الأول من أجزاء هذا الكتاب ، وبين الأجزاء التي تلتها ، حيث آثرنا في الأجزاء العشرين الأخيرة أن نعتمد طريقة حشد طائفة من النصوص أولا ، ثم نبدأ بمناقشتها ، أو بالتحليل لنصوصها. أو بتسجيل تحفظات ، أو إثارة تساؤلات حولها .. ضمن عناوين لا حقة .. حيث وجدنا في هذه الطريقة بعضا من السهولة علينا ، وإن كانت قد توجب حالة من التوزع للمطالب ، والتباعد بين موقع النص ، وموضع مناقشته ، أو تحليل نصوصه ..

الأمر الذي قد يتسبب بحدوث توهمات لدى القارئ الذي لم يطلع على طريقتنا التي ألمحنا إليها ، فيتوهم موافقتنا على مضمون النص ، مع أن الأمر على خلاف ذلك ..

٣٧٨

ج : ثم إننا نريد أن نعتذر عن تقصيرنا في استقصاء النصوص ، وعن عزوفنا في أحيان كثيرة عن استقصاء المصادر ، فيؤدي ذلك الى إغفال بعض النصوص ، وإهمال نقاشها ، أو الإكتفاء بأقل القليل من ذلك.

وهذا ولا شك تقصير نستغفر الله فيه ، ونعتذر للقارئ الكريم عنه.

د : علينا أن نعتذر أيضا عن بعض الإستطرادات الطويلة ، التي قد يتضايق القارئ منها ، ويرى أنها فرضت عليه ، ربما لمبرر لا يعنيه ..

ه : ونعتذر أخيرا عن عدم مراعاتنا الضوابط الفنية المقررة في طريقة تسجيل النصوص ، وكيفية وضع الهوامش ، فقد يحمل ذلك بعض من يتقيد بهذه الأمور على إصدار أحكام قاسية ضدنا ، ونحن سوف نتلقاها بصدر رحب ، وسنعطيه كل الحق في ذلك.

وليكن هذا الإعتراف شافعا لنا عنده ، ووسيلتنا إليه ، ليقبل منا هذا الإعتذار.

و: وقبل الختام أحب أن أشير إلى أنه مهما قيل في قيمة هذا الجهد ، وفي مستواه .. فإنني أقدمه للقراء الأعزاء على أنه مجرد خطوة متواضعة ومحدودة ، معترفا بأنه لم يستطع أن يوفي السيرة النبوية حقها .. فتبقى الحاجة ملحة إلى كثير من الخطوات التي تكون أكثر ثباتا ، وأشد رسوخا في مجال التحقيق والتمحيص للنصوص ، وفي مجال استفادة المناهج الصحيحة ، والعبر الصريحة منها ..

ز : وبعد .. فإنني أزجي شكري الجزيل لإخوتي الأعزاء الذين لم يدخروا وسعا في مساعدتي ، وتذليل الصعاب التي كانت تواجهني ، فشكر الله سعيهم ، وتقبل عملهم هذا بأحسن القبول ، وأثابهم بما يثيب به المجاهدين في سبيله ، إنه

٣٧٩

ولي قدير.

وأخيرا ، فإنني أهدي ثواب هذا الجهد المتواضع إلى والديّ ، وإلى شهداء هذه الهجمة الشرسة والحاقدة .. سائلا المولى الكريم أن ينصر عباده ، ويعز أولياءه ، إنه ولي قدير ..

جعفر مرتضى العاملي

لبنان ـ ٢٩ جمادى الثانية ١٤٢٧ للهجرة.

الموافق : ٢٥ تموز ٢٠٠٦ للميلاد.

٣٨٠