الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣٣

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣٣

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-225-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٩٢

الفصل الأخير :

استدراكات لا بد منها

٣٤١
٣٤٢

بداية :

وبعد .. فإننا لا ندّعي أننا قد استقصينا الكلام في السيرة النبوية الشريفة ، أو أننا وفينا ما أوردناه منها حقه ..

وشاهدنا على ذلك ، نفس عقدنا لهذا الفصل ، الذي أردنا أن نورد فيه بعض ما فاتنا إلحاقه بمواضعه المناسبة ، وهو أربعة مباحث هي التالية :

١ ـ ووجدك ضالا فهدى.

٢ ـ شق جدار الكعبة لفاطمة بنت أسد.

٣ ـ لما ذا ولد علي «عليه‌السلام» في الكعبة؟!

٤ ـ أهل الكتاب ليس عندهم علم الكتاب.

مع اعتذارنا من القارئ الكريم على هذا الخلل ، الذي قد لا يروق له ..

فإلى ما يلي من استدراكات ، وما تضمنته من مطالب.

١ ـ ووجدك ضالا فهدى :

هناك سؤال لا يزال يطرح حول المراد من قوله تعالى :

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ، وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) (١).

__________________

(١) الآيات ٦ ـ ٨ من سورة الضحى.

٣٤٣

فمتى كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ضالا فهداه الله تعالى؟! وهل يصح القول بأنه قد كان ضالا قبل بعثته ، ثم هداه الله تعالى بالبعثة؟!

الجواب :

قال تعالى : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ، وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى).

هذه ثلاث آيات ، تضمنت إحداها ، وهي الوسطى ذكر هذه الحقيقة ، التي تحتاج إلى بعض التوضيح ، والبيان ، والإجابة على السؤال المتقدم تستدعي الحديث عن كل آية منها على حدة ، وقد آثرنا البدء بالحديث عن الآية الأولى ، ثم الثالثة ، ثم عدنا إلى الحديث عن الثانية التي هي مورد السؤال .. لأن طبيعة البيان الذي توخيناه اقتضت ذلك.

فجاء الحديث كما يلي :

أولا : بالنسبة لقوله تعالى : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى.)

نقول :

إن ظاهر هذه الآية المباركة :

١ ـ أن الله تعالى قد وجد نبيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يتيما.

٢ ـ إنه بمجرد أن وجده كذلك آواه.

ونحن نتحدث عن هذين الأمرين هنا ، فنقول :

أما بالنسبة لوجدان الله تعالى للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يتيما ، فنقول :

إن من الواضح : أن وجدان الله سبحانه لأمر ، يختلف عن وجداننا نحن له .. فإن الوجدان بالنسبة إلينا إنما يكون بعد الفقدان. حيث يكون الشيء غائبا عنا ، ثم نجده ..

٣٤٤

وأما بالنسبة لإيواء الله تعالى لنبيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بمجرد أن وجده يتيما ، فإنه تعالى لا يغيب عنه شيء ، بل كل شيء حاضر لديه ، منذ أن أوجده. فلا فصل بين وجود الشيء ، وبين وجدان الله تعالى له ..

وبعبارة أخرى : إن التقدم تارة يكون من قبيل تقدم الصباح على المساء ، أو تقدم ولادة الوالد على ولادة ولده ..

وتارة يكون من قبيل تقدم حركة اليد على حركة المفتاح حينما يدار في قفل الباب. فإن التفريق والسبق بين الحركتين في هذه الصورة ، إنما هو في الذهن. وليس زمانيا ..

وتقدم وجود الشيء على وجدان الله تعالى له من هذا القبيل ، فإن الله تعالى حين أمات عبد الله والد الرسول ، قد وجد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يتيما. ولم يغب عنه في أي ظرف أو حال.

فلا يوجد أي فصل زماني بين هذين الأمرين.

فهو على حد قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) (١).

وقوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) (٢).

أي ليتجسد ذلك على صفحة الوجود ، ليكون وجوده العيني عين وجوده العلمي .. وإن اختلفا من حيث التحليل العقلي ، فيما. يرتبط بالإدراك

__________________

(١) الآية ١٢ من سورة الكهف.

(٢) الآية ٣١ من سورة محمد.

٣٤٥

والتعقل بالنسبة لنا.

وكذلك الحال في الإيواء في قوله تعالى : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى.) فإنه قد جاء مصاحبا لوجدان الله تعالى له يتيما. فلم يتركه سبحانه ، مدة ثم آواه ..

وذلك لأنه تعالى قد عبر هنا بالفاء الدالة على التعقيب بلا فصل ، فقال : (فَآوى). لا بكلمة «ثم» الدالة على التعقيب مع المهلة .. فلم يقل «ثم» (آوى).

ثانيا : بالنسبة لقوله تعالى : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى.)

نقول :

المراد بالعائل : الفقير ذو العيلة من غير جدة .. في إشارة إلى تنوع الحاجات ، وإلى عظم المسؤوليات الملقاة على عاتقه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سواء فيما يرتبط بنفسه ، أو فيما يرتبط بالآخرين. وخصوصا مسؤوليات هداية البشر منذ خلق الله آدم عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام ..

وقد ذكرت هذه الآية المباركة : أن الله تعالى قد وجد نبيه عائلا محتاجا إلى النعم والألطاف ، والعون. سواء في ذلك ما يرجع لنفسه أو لغيره (١) ، من خلاله .. فأفاض عليه منها ما يليق بمقامه الأسمى والأقدس. وما يناسب حاجته ، وموقعه ، ومسؤولياته في جميع مراحل وجوده ، حتى حينما كان نورا معلقا بالعرش.

__________________

(١) إن الذي يرجع لنفسه يرجع لغيره أيضا بنحو وبآخر .. فإنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أسوة وقدوة ، ومثل أعلى ، ثم هو ملجأ ووسيلة إلى الله .. احتاج الأنبياء إليه ، وتوسلوا به منذ آدم عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام .. فلا بد أن تتجلى كمالاته ومزاياه منذئذ ..

٣٤٦

ولسنا بحاجة إلى إعادة التذكير بأنه تعالى قد وجده ، واطلع على حاجاته وعلى فقره على كونه عائلا ، بمجرد حدوثها ، ولم يغب عنه ذلك لحظة واحدة.

ثم أفاض تعالى نعمه عليه بمجرد وجدانه كذلك ، ومن دون أي فصل زماني ، أو مهلة ، وذلك من خلال التعبير بالفاء الدالة على التعقيب بلا فصل في قوله : (فَأَغْنى) ، ولم يأت ب «ثم» الدالة على التعقيب مع المهلة ، فلم يقل : «ثم» (أغنى) ..

ثالثا : بالنسبة لقوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى.)

نقول :

إنه تعالى بمجرد أن خلق نبيه روحا أولا ، ثم روحا وجسدا تاليا قد وجده في جميع مراحل وجوده محتاجا إلى أنواع كثيرة من الهدايات ، فأفاضها عليه مباشرة ، ومنذ اللحظة الأولى ، وبلا مهلة ، كما دل عليه التعبير بالفاء في قوله : (فَهَدى) حيث لم يقل : «ثم» (هدى) ..

فأعطاه الهداية التكوينية ، بمجرد ظهور حاجته إلى هذه الهداية ..

وأعطاه أيضا هداية الفطرة ..

وأعطاه هداية العقل ..

وأعطاه هداية التشريع والإلهام والوحي ..

وأعطاه هداية الحكمة ..

ويتجلى أثر هذه الهدايات في موقع الحاجة في نطاق سعيه الدائب ، وتطلبه المستمر للوصول إلى مواضع القرب ، والحصول على مواقع الزلفى ..

فاتضح أنه تعالى يجد حاجة نبيه إلى الهداية من دون حاجة إلى الزمان ، لأنه لا يمكن أن يغيب عنه تعالى شيء .. ثم هو يفيض الهدايات عليه مباشرة أيضا ،

٣٤٧

وبلا فصل ولا مهلة. فذلك يعني أن الله سبحانه قد منحه هداية لم يسبقها ضلال ، ولو للحظة واحدة.

ويكون هذا الترتيب البياني بين الضلال والهدى ، لا يستبطن التدرج في الوجود الخارجي ، بمعنى أن يتجسد ضلال ، ثم تأتي الهداية فتزيله ..

بل هو ترتيب قد جاء في دائرة تمكين الناس من إدراك معنى الهدايات ، والنعم ، والتفضلات الإلهية على النبي الأقدس «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

أي أنه ترتيب نشأ عن السعي الذهني إلى التجزئة بين المدركات ، وتلمّس الحدود القائمة فيما بينها ، بالإستناد إلى التحليل العقلي ، بهدف تيسير إدراك الحقائق بصورة أعمق وأتم.

من نتائج ما تقدم :

وهكذا .. فإنه بإمكاننا بعد هذا البيان أن نقول :

إن هذه الآية المباركة هي أحد الأدلة الظاهرة على أن الله سبحانه منذ خلق نبينا الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان قد أعطاه جميع الهدايات التي يحتاجها ، والتي توصله إلى الغايات الإلهية .. ولا بد أن يكون من بينها هداية الإلهام والوحي والتشريع وغيرها. وذلك هو ما يفرضه إطلاق قوله تعالى : (فَهَدى).

بل ربما يحاول البعض استفادة ذلك أيضا من قوله تعالى ، خطابا للمشركين (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى ، وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ، إِنْ هُوَ إِلَّا

٣٤٨

وَحْيٌ يُوحى) (١). من حيث أن الآية قد نفت عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الضلال مطلقا ، وفي مختلف الحالات والأزمان.

وذلك يؤكد لنا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان نبيا منذ ولد (٢).

بل كان نبيا وآدم بين الماء والطين أو بين الماء والجسد (٣). كما دلت عليه

__________________

(١) الآيات ٢ ـ ٤ من سورة النجم.

(٢) البحار ج ١٨ ص ٢٧٧ إلى ص ٢٨١ وقد تقدمت مصادر ذلك.

(٣) راجع : الاحتجاج ج ٢ ص ٢٤٨ والفضائل لابن شاذان ص ٣٤ والبحار ج ١٥ ص ٣٥٣ وج ٥٠ ص ٨٢ والغدير ج ٧ ص ٣٨ وج ٩ ص ٢٨٧ ومسند أحمد ج ٤ ص ٦٦ وج ٥ ص ٥٩ و ٣٧٩ وسنن الترمذي ج ٥ ص ٢٤٥ ومستدرك الحاكم ج ٢ ص ٦٠٩ ومجمع الزوائد ج ٨ ص ٢٢٣ وتحفة الأحوذي ج ٧ ص ١١١ وج ١٠ ص ٥٦ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٤٣٨ والآحاد والمثاني ج ٥ ص ٣٤٧ وكتاب السنة لابن أبي عاصم ص ١٧٩ والمعجم الأوسط ج ٤ ص ٢٧٢ والمعجم الكبير ج ١٢ ص ٧٣ وج ٢٠ ص ٣٥٣ والجامع الصغير ج ٢ ص ٢٩٦ وكنز العمال ج ١١ ص ٤٠٩ و ٤٥٠ وتذكرة الموضوعات للفتني ص ٨٦ وكشف الخفاء ج ٢ ص ١٢٩ وخلاصة عبقات الأنوار ج ٩ ص ٢٦٤ عن ابن سعد ، ومستدرك سفينة البحار ج ٢ ص ٣٩٢ و ٥٢٢ عن كتاب النكاح ، وعن فيض القدير ج ٥ ص ٦٩ وعن الدر المنثور ج ٥ ص ١٨٤ وفتح القدير ج ٤ ص ٢٦٧ والطبقات الكبرى ج ١ ص ١٤٨ وج ٧ ص ٥٩ والتاريخ الكبير للبخاري ج ٧ ص ٢٧٤ وضعفاء العقيلي ج ٤ ص ٣٠٠ والكامل لابن عدي ج ٤ ص ١٦٩ وج ٧ ص ٣٧ وعن أسد الغابة ج ٣ ص ١٣٢ وج ٤ ص ٤٢٦ وج ٥ ص ٣٧٧ وتهذيب الكمال ج ١٤ ص ٣٦٠ وسير أعلام النبلاء ج ٧ ص ٣٨٤ وج ١١ ص ١١٠ وج ١٣ ص ٤٥١ ومن له رواية في مسند أحمد ص ٤٢٨ وتهذيب التهذيب ج ٥ ص ١٤٨ وعن الإصابة ج ٦ ص ١٨١

٣٤٩

الروايات الشريفة.

وبذلك نستطيع أن نفهم بعمق الإشارة الخفية ، التي تضمنتها كلمات أمير المؤمنين «عليه‌السلام» في نهج البلاغة ، حيث يقول :

«.. ولقد قرن الله به «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من لدن أن كان فطيما ، أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره!!.» (١).

ولا بد من لفت النظر إلى التنصيص على واقع هذا الملك الذي قرنه الله سبحانه وتعالى ، برسوله حيث وصفه «عليه‌السلام» بأنه أعظم ملائكته في إشارة منه «عليه‌السلام» إلى أن هذه المهمة قد بلغت في أهميتها وخطرها حدا جعلت من هذا الإختيار ضرورة لا بد منها.

وأن هذه الضرورة قد فرضت نفسها في وقت مبكر من حياته «صلى

__________________

والمنتخب من ذيل المذيل ص ٦٦ وتاريخ جرجان ص ٣٩٢ وذكر أخبار إصبهان ج ٢ ص ٢٢٦ وعن البداية والنهاية ج ٢ ص ٢٧٥ و ٢٧٦ و ٣٩٢ وعن الشفا بتعريف حقوق المصطفى ج ١ ص ١٦٦ وعن عيون الأثر ج ١ ص ١١٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ١ ص ٢٨٨ و ٢٨٩ و ٣١٧ و ٣١٨ ودفع الشبه عن الرسول ص ١٢٠ وسبل الهدى والرشاد ج ١ ص ٧٩ و ٨١ و ٨٣ وج ٢ ص ٢٣٩ وعن ينابيع المودة ج ١ ص ٤٥ وج ٢ ص ٩٩ و ٢٦١.

(١) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج ٢ ص ١٥٧ واليقين للسيد ابن طاووس ص ١٩٦ وجامع أحاديث الشيعة ج ١ ص ٦٨ والبحار ج ١٤ ص ٤٧٥ وراجع : مصادر نهج البلاغة ج ٣ ص ٥٧ و ٥٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ١٩٧ والغدير ج ٣ ص ٢٤٠ وسنن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للطباطبائي ص ٤٠٣.

٣٥٠

الله عليه وآله» ، أي منذ كان «عليه‌السلام» فطيما.

توضيح وبيان :

وبعد ما تقدم نقول : إن من يراجع الآيات القرآنية يجد : أنها في بياناتها لبعض القضايا الحساسة تعتمد أسلوبا مميزا وفريدا ، من حيث أنها تورد الحديث عن تلك القضايا بطريقة يحتاج معها نيل تلك المعاني إلى الخروج من حالة الغفلة والاسترخاء الفكري ، لكي يتمكن من تلمّس تلك الإشارات القوية حين تضطره إلى استنفار كل قواه العقلية ، وتفرض عليه مستوى من التعمق ، والإحاطة الواعية بدقائق وحقائق مختلفة ، ونيل معان عالية ودقيقة ، تعطيه درجة من المناعة والحصانة عن التأثر بالشبهات ، التي تجد فرصتها في حالات الغفلة والسطحية ، والإستسلام البريء.

إنه تعالى يريد للإنسان أن يأخذ الفكرة بوعي ، وبعمق ، وشمولية ، وبحساسية فائقة ، لتخرج ـ من ثم ـ عن مستوى التصور ، وتدخل في دائرة التصديق واليقين المستند إلى البرهان.

ولتتغلغل ـ من ثم ـ في قلب الإنسان ، وتصبح فكره ، وعقيدته ، ووجدانه ، وضميره. ويكون ذلك هو الضمانة القوية ، والحصن الحصين.

٢ ـ شق جدار الكعبة لفاطمة بنت أسد :

قد يسأل سائل ويقول :

هل هناك أدلة صحيحة السند على حادثة شق الكعبة لفاطمة بنت أسد لكي تلد أمير المؤمنين «عليه‌السلام» فيها؟!

٣٥١

ونجيب :

بأنه لا شك في ولادة علي «عليه‌السلام» في الكعبة ، لأن الإجماع قائم على ذلك كما صرح به الحاكم في المستدرك وغيره.

واللافت هنا : أن حديث شق جدار الكعبة لفاطمة بنت أسد «رضوان الله تعالى عليها» ، لتضع مولودها في داخلها ، قد روي عن أناس حارب بعضهم عليا «عليه‌السلام» ، وسعى إلى قتله ، أو كان يكرهه ، ولا يرضى بالإقرار بفضيلة له ..

فقد رواه : سفيان بن عيينة عن الزهري ، عن عائشة (١).

ورواه : أبو داود ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن عباس بن عبد المطلب (٢).

ورواه : ابن شاذان ، عن إبراهيم ، بإسناده عن جعفر بن محمد «عليه‌السلام» (٣).

ورواه : الحسن بن محبوب عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» (٤).

ورواه : علي بن أحمد الدقاق ، عن محمد بن أبي عبد الله الكوفي ، عن موسى بن عمران النخعي ، عن الحسين بن يزيد النوفلي ، عن الحسن بن علي

__________________

(١) الأمالي للطوسي ص ٧١٥ و ٧١٦ و (ط دار الثقافة للطباعة) ص ٧٠٧ والبحار ج ٣٥ ص ٣٥ و ٣٦ و ١٧ و ١٨ عن المناقب لابن شهرآشوب ، وحلية الأبرار ج ٢ ص ٢٠ ومدينة المعاجز ج ١ ص ٤٥.

(٢) نفس المصادر السابقة.

(٣) نفس المصادر السابقة.

(٤) البحار ج ٣٥ ص ١٧ و ١٨ وج ٤١ ص ٢٧٤ والمناقب لابن شهرآشوب ج ٢ ص ١٢٠.

٣٥٢

بن أبي حمزة ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس (١).

ورواه : علي بن أحمد الدقاق ، عن محمد بن جعفر الأسدي ، عن موسى بن عمران ، عن النوفلي ، عن محمد بن سنان ، عن المفضل بن عمر ، عن ثابت بن دينار ، عن ابن جبير ، عن يزيد بن قعنب (٢).

فظهر مما تقدم : أن أكثر الذين رووا هذه القضية هم من غير الشيعة ، بل فيهم من عرف بعدائه لعلي «عليه‌السلام» ، وبغضه له.

وظهر أيضا : أن الرواية به مستفيضة ..

وظهر : أن هذه الرواية قد جاءت عن :

١ ـ عائشة بنت أبي بكر.

٢ ـ العباس بن عبد المطلب.

٣ ـ عبد الله بن عباس.

٤ ـ يزيد بن قعنب.

٥ ـ الإمام جعفر الصادق «عليه‌السلام».

__________________

(١) الأمالي للصدوق (ط مؤسسة الأعلمي سنة ١٤١٠ ه‍) ص ٩٩ و (ط مؤسسة البعثة) ص ١٧٦ ومعاني الأخبار ص ٦٢ وغاية المرام ج ١ ص ١٧٠.

(٢) الأمالي للصدوق (مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة) ص ١٩٤ وكتاب التوحيد للصدوق ص ٦٢ وعلل الشرايع (ط سنة ١٤٠٨ ه‍) ج ١ ص ١٦٤ و (منشورات المكتبة الحيدرية) ص ١٣٥ والجواهر السنية للحر العاملي ص ٢٢٩ ومعاني الأخبار ص ٦٢ وروضة الواعظين ص ٧٦ و ٧٧ والبحار ج ٣٥ ص ٨ و ٩ عنهم ، وعن كشف اليقين ص ٣١ و ٣٢ وعن كشف الحق ، وبشارة المصطفى ص ٢٦ وراجع : الخرايج والجرايح ج ١ ص ١٧١.

٣٥٣

فإذا أخذنا بقول الزرقاني الذي صرح بأن : «من القواعد : أن تعدد الطرق يفيد : أن للحديث أصلا» (١).

وقول الخفاجي عن حديث رد الشمس : «إن تعدد طرقه شاهد صدق على صحته» (٢).

وإذا أخذنا بقاعدة : «والفضل ما شهدت به الأعداء».

حتى إن عائشة لم تكن تطيب نفسها بذكر علي «عليه‌السلام» بخير أبدا ..

وإذا أكدنا ذلك بوجود أثر هذا الشق في جدار الكعبة إلى يومنا هذا ، وقد جهدوا ليخفوه ، فلم يمكنهم ذلك ..

نعم .. إننا إذا أخذنا بذلك كله ، فلما ذا لا نأخذ بهذه الرواية أيضا؟!

بل إنه حتى لو كان رواة حديث ما ينسبون للكذب والوضع ، فإن ذلك لا يعني أن لا تصدر عنهم كلمة صدق أصلا.

بل قد يكون الصدق هو الغالب عليهم ، ولو لا ذلك لما استطاعوا التسويق للأمر الذي كذبوا فيه.

والحاصل : أن الكاذب قد يقول الصدق ، والوضّاع قد يعترف بالحق ، مع أن الأمر في رواة هذه الحادثة ليس كذلك كما يعلم بالمراجعة ..

__________________

(١) شرح المواهب اللدنية ج ٦ ص ٤٩٠ وراجع : فيض القدير ج ٥ ص ٤٦٧ والغدير ج ٣ ص ١٣٨.

(٢) نسيم الرياض ج ٣ ص ١١ وراجع : شرح معاني الآثار ج ١ ص ٤٦ والغدير ج ٣ ص ١٣٦ ورسائل في حديث رد الشمس للمحمودي ص ١٩ و ٣٤ و ٦٤.

٣٥٤

٣ ـ لما ذا ولد علي عليه‌السلام في الكعبة؟! :

وهناك سؤال يقول :

كيف نستطيع أن نفسر اختصاص أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، بكرامة الولادة في الكعبة ، دون رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

ونقول في جوابه ما يلي :

إننا قبل كل شيء ، نحب التذكير بأن بين النبوة والإمامة ، والنبي والإمام ، فرقا ، فيما يرتبط بترتيب الأحكام الظاهرية على من يؤمن بذلك وينكر ، ومن يتيقن ويشك ، ومن يحب ويبغض ..

فأما بالنسبة للنبوة والنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإن أدنى شك أو شبهة بها ، وكذلك أدنى ريب في الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوجب الكفر والخروج من الدين ، كما أن بغض الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأي مرتبة كان ، يخرج الإنسان من الإسلام واقعا ، وتلحقه وتترتب عليه أحكام الكفر ، في مرحلة الظاهر أيضا ، فيحكم عليه بالنجاسة ، وبأنه لا يرث من المسلم ، وبغير ذلك ..

وأما الإمامة والإمام «عليه‌السلام» ، فإن الحكمة ، والرحمة الإلهية ، وحب الله تعالى للناس ، ورفقه بهم ، قد اقتضى : أن لا تترتب الأحكام الظاهرية على من أنكر الإمامة ، أو شك فيها ، أو في الإمام «عليه‌السلام» ، أو قصر في حبه .. ولكن بشرطين ..

أحدهما : أن يكون ذلك الإنكار ، أو الشك ، أو التقصير ناشئا عن شبهة ، إذ مع اليقين بثبوت النص أو في دلالته ، يكون المنكر أو الشاك مكذبا لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، رادا على الله سبحانه ، ومن كان كذلك

٣٥٥

فهو كافر جزما ..

الثاني : أن لا يكون معلنا ببغض الإمام ، ناصبا العداء له ، لأن الناصب حكمه حكم الكافر أيضا ..

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقتل أحدا ؛ لما ذا؟

وبعد ما تقدم نقول :

لا ريب في أن قيام الإسلام وحفظه يحتاج إلى جهاد وتضحيات ، وأن في الجهاد قتل ويتم ، ومصائب ومصاعب ، ولم يكن يمكن لرسول الله أن يتولى بنفسه كسر شوكة الشرك ، وقتل فراعنته وصناديده .. لأن ذلك يوجب أن ينصب الحقد عليه ، وأن تمتلئ نفوس ذوي القتلى ومحبيهم ، ومن يرون أنفسهم في موقع المهزوم بغضا له ، وحنقا عليه ..

وهذا يؤدي إلى حرمان هؤلاء من فرصة الفوز بالتشرف بالإسلام ، وسيؤثر ذلك على تمكّن بنيهم ، وسائر ذويهم ومحبيهم من ذلك أيضا .. فقضت الرحمة الإلهية أن يتولى مناجزتهم من هو كنفس الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، الذي يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، ألا وهو أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ..

واقتضت هذه الرحمة أيضا رفع بعض الأحكام الظاهرية ـ دون الواقعية ـ المرتبطة بحبه وبغضه ، وبأمر إمامته «عليه‌السلام» ، تسهيلا من الله على الناس ، ورفقا بهم ـ رفعها ـ عن منكر امامته «عليه‌السلام» ، وعن المقصر في حبه ، ولكن بالشرطين المتقدمين وهما : وجود الشبهة وعدم نصب العداء له ، لأنه مع عدم الشبهة يكون من قبيل تعمد تكذيب الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ،

٣٥٦

ومع نصب العداء يتحقق التمرد والرد على الله سبحانه ، كما قلنا ..

معالجة قضايا الروح والنفس :

ثم إن معالجة قضايا الحب والبغض ، والرضا والغضب ، والإنفعالات النفسية ، تحتاج إلى اتصال بالروح ، وبالوجدان ، وإلى إيقاظ الضمير ، وإثارة العاطفة ، بالإضافة إلى زيادة البصيرة في الدين ، وترسيخ اليقين بحقائقه ..

وهذا بالذات هو ما يتراءى لنا في مفردات السياسة الإلهية ، في معالجة الأحقاد التي علم الله سبحانه : أنها سوف تنشأ ، وقد نشأت بالفعل ، كنتيجة لجهاد الإمام علي «عليه‌السلام» ، في سبيل هذا الدين ..

ونحن نعتقد : أن قضية ولادة الإمام علي «عليه‌السلام» في جوف الكعبة ، واحدة من مفردات هذه السياسة الربانية ، الحكيمة ، والرائعة ..

ولادة علي عليه‌السلام في الكعبة صنع الله :

ويمكن توضيح ذلك بأن نقول :

إن ولادته «عليه‌السلام» ، في الكعبة المشرفة ، أمر صنعه الله تعالى له ، لأنه يريد أن تكون هذه الولادة رحمة للأمة ، وسببا من أسباب هدايتها .. وهي ليست أمرا صنعه الإمام علي «عليه‌السلام» لنفسه ، ولا هي مما سعى إليه الآخرون ، ليمكن اتهامهم بأنهم يدبرون لأمر قد لا يكون لهم الحق به ، أو التأييد لمفهوم اعتقادي ، أو لواقع سياسي ، أو الانتصار لجهة أو لفريق بعينه ، في صراع ديني ، أو اجتماعي ، أو غيره ..

ويلاحظ : أن الله تعالى قد شق جدار الكعبة لوالدته «عليه‌السلام» حين دخلت ، وحين خرجت ، بعد أن وضعته في جوف الكعبة ـ وقد جرى

٣٥٧

هذا الصنع الإلهي له ـ حيث كان «عليه‌السلام» لا يزال في طور الخلق والنشوء في هذا العالم الجديد .. ليدل دلالة واضحة على اصطفائه تعالى له ، وعنايته به ..

وذلك من شأنه أن يجعل أمر الاهتداء إلى نور ولايته أيسر ، ويكون الإنسان في إمامته أبصر ..

ويتأكد هذا الأمر بالنسبة لأولئك الذي سوف تترك لمسات ذباب سيفه «ذي الفقار» آثارها في أعناق المستكبرين والطغاة من إخوانهم ، وآبائهم ، وعشائرهم ، أو من لهم بهم صلة أو رابطة من أي نوع ..

الرصيد الوجداني آثار وسمات :

إن هذا الرصيد الوجداني ، الذي هيأ الله لهم ليختزنوه في قلوبهم وعقولهم من خلال النصوص القرآنية والنبوية التي تؤكد فضل علي «عليه‌السلام» وإمامته ، ثم جاء الواقع العلمي ليعطيها المزيد من الرسوخ والتجذر في قلوبهم وعقولهم من خلال مشاهداتهم ، ووقوفهم على ما جاء الله به من ألطاف إلهية به ، وإحساسهم بعمق وجدانهم بأنه وليد مبارك ، وبأنه من صفوة خلق الله ومن عباده المخلصين ، أن ذلك سيجعلهم يدركون : أنه «عليه‌السلام» ، لا يريد بما بذله من جهد ، وجهاد في مسيرة الإسلام ، إلا رضا الله سبحانه ، وإلا حفظ مسيرة الحياة الإنسانية ، على حالة السلامة ، وفي خط الاعتدال .. لأنها مسيرة سيكون جميع الناس ـ بدون استثناء ـ عناصر فاعلة ومؤثرة فيها ، ومتأثرة بها ..

وبذلك يصبح الذين يريدون الكون في موقع المخاصم له «عليه

٣٥٨

السلام» ، أو المؤلب عليه ، أمام صراع مع النفس ومع الوجدان ، والضمير ، وسيرون أنهم حين يحاربونه إنما يحاربون الله ورسوله .. ويسعون في هدم ما شيده للدين من أركان ، وما أقامه من أجل سعادتهم ، وسلامة حياتهم ، من بنيان ..

ولادة علي عليه‌السلام في الكعبة لطف بالأمة :

فولادة الإمام علي «عليه‌السلام» ، في الكعبة المشرفة ، لطف ، بالأمة بأسرها ، حتى بأولئك الذين وترهم الإسلام ، وسبيل هداية لهم ولها ، وسبب انضباط وجداني ، ومعدن خير وصلاح ، ينتج الإيمان ، والعمل الصالح ، ويكف من يستجيب لنداء الوجدان ، عن الامعان في الطغيان ، والعدوان ، وعن الانسياق وراء الأهواء ، والعواطف ، من دون تأمل وتدبر ..

وغني عن البيان ، أن مقام الإمام علي «عليه‌السلام» وفضله ، أعظم وأجل من أن تكون ولادته «عليه‌السلام» ، في الكعبة سببا أو منشأ لإعطاء المقام والشرف له .. بل الكعبة هي التي تتشرف به وتعتز ، وتزيد قداستها ، وتتأكد حرمتها بولادته فيها صلوات الله وسلامه عليه ..

وأما رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإن معجزته الظاهرة التي تهدي الناس إلى الله تعالى ، وصفاته ، وإلى النبوة وتدلهم على النبي ، وتؤكد صدقه ، وتلزم بالإيمان به ، وتأخذ بيدهم إلى التسليم باليوم الآخر ـ إن هذه المعجزة ـ هي هذا القرآن العظيم ، الذي يهدي إلى الرشد من أراده ، والذي لا بد أن يدخل هذه الحقائق إلى القلوب والعقول أولا ، من باب الاستدلال ، والانجذاب الفطري إلى الحق بما هو حق .. من دون تأثر

٣٥٩

بالعاطفة ، وبعيدا عن احتمالات الإنبهار بأية مؤثرات أخرى معهما كانت ..

إذ إن القضية هي قضية إيمان وكفر ، وحق وباطل ، لا بد لإدراكهما من الكون على حالة من الصفاء والنقاء ، وتفريغ القلب من أي داع آخر ، قد يكون سببا في التساهل في رصد الحقيقة ، أو في التعامل مع وسائل الحصول عليها ، والوصول إليها ..

فالله لا يريد أن تكون مظاهر الكرامة ، سببا في إعاقة العقل عن دوره الأصيل في إدراك الحق ، وفي تحديد حدوده ، وتلمّس دقائقه ، وحقائقه والتبيّن لها إلى حد تصير معه أوضح من الشمس ، وأبين من الأمس ..

ولذلك فإن الله تعالى لم يصنع لرسوله ، ما يدعوهم إلى تقديسه كشخص ، ولا ربط الناس به قبل بعثته بما هو فرد بعينه ، لا بد لهم من الخضوع والبخوع له ، وتمجيد مقامه ، لأن هذا قد لا يكون هو الأسلوب الأمثل ، ولا الطريقة الفضلى ، في سياسية الهداية الإلاهية إلى الأمور الإعتقادية ، التي هي أساس الدين ، والتي تحتاج إلى تفريغ النفس ، وإعطاء الدور ، كل الدور ، للدليل وللبرهان ، وللآيات والبينات ، وإلى أن يكون التعاطي مع الآيات والدلائل بسلامة تامة ، وبوعي كامل ، وتأمل عميق ، وملاحظة دقيقة ..

وهذا هو ما نلاحظه في إثارات الآيات القرآنية لقضايا الإيمان الكبرى ، خصوصا تلك التي نزلت في الفترة المكية للدعوة. فإنها إثارات جاءت بالغة الدقة ، رائعة في دلالاتها وبياناتها ، التي تضع العقل والفطرة أمام الأمر الواقع الذي لا يمكن القفز عنه ، إلا بتعطيل دورهما ، وإسقاط سلطانهما ، لمصلحة سلطان الهوى ، ونزوات الشهوات ، والغرائز ..

٣٦٠