الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣١

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-203-x
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٦

وتقديسها. وكذلك ما أخذ على سبيل المقامرة والإستقسام بالأزلام ، حيث كانوا يقسمون السهام إلى عشرة ، فيكون لسبعة منها حظوظ ، وثلاثة لا حظوظ لها ، فمن أصابتهم هذه الثلاثة يغرمون قيمة الجزور ، الذي يقسم على خصوص أصحاب السهام السبعة الأخرى.

وما أهل لغير الله به ، وهو الذبح باسم أحد المعبودات.

وقد حكم تعالى بأن هذا العمل يوجب حرمة تلك الذبيحة ، ويجعلها من مصاديق الفسق ، وبحكم الميتة ..

ثم ذكر سبحانه : أن من اضطر في مخمصة ـ وهي شدة الجوع ـ للتناول من هذه المحرمات ، لأجل حفظ نفسه ، ولم يتجاوز الحد ، فإن الله غفور رحيم ..

وبملاحظة هذا الإستدراك في الآية : رجحنا تخصيص الإستقسام بالأزلام ، والإهلال لغير الله به بخصوص الذبائح. ولم نحكم بشموله لكل استقسام بالأزلام ، ولو في غير هذا المورد ..

الجملة اعتراضية :

ثم إنه لا ريب في أن قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (١). جملة اعتراضية وردت في ضمن بيان حرمة الميتة ومحرمات أخرى من اللحوم والذبائح على المختار أولا .. ثم جواز ذلك للمضطر ثانيا ..

__________________

(١) الآية ٣ من سورة المائدة.

٣٠١

وقلنا : إن جميع هذه الأحكام قد سبق أن بينها الله تعالى في آيات نزلت قبل سنوات من نزول سورة المائدة. إما بنحو التنصيص والصراحة ، أو ببيان حكم العنوان العام الشامل لها. كعنوان الميتة ، وعنوان الفسق.

لماذا الجملة الإعتراضية؟! :

ويلاحظ : أن الإتيان بالجملة الإعتراضية بين أمرين ظاهري التلازم ، يشير بوضوح إلى أهمية الأمر الذي يراد بيانه في الجملة الإعتراضية ، لدلالته على أن هذا الأمر لا مجال لتأجيله ، بل هو من الأهمية بحيث جعل المتكلم يبادر إلى قطع كلامه المترابط ، ليشير إليه ، ثم يعود لإكمال كلامه من حيث قطعه.

فإن أحدا لا يقطع كلامه لأجل بيان أمر تافه ، أو عادي ، كأن يقول لأحدهم مثلا : يا فلان ، انفض الغبار عن كم قميصك. ثم يعود لمتابعة كلامه الأول. بل هو يقطع كلامه ليقول : احذر من أن يقع ولدك عن السطح ، أو في البئر ، أو إحذر من الأفعى لا تلدغك ، أو نحو ذلك.

لماذا جعلت بين أحكام سبق بيانها؟! :

وإنما أورد تبارك وتعالى هذا الأمر الخطير في ضمن جملة إعتراضية ، بين أحكام سبق بيانها أكثر من مرة ، وليس فيها ولو حكم تأسيسي واحد ، لكي لا يتوهم أحد أن الدين قد كمل بإبلاغ هذا الحكم أو هذه الأحكام الواردة في هذه الآية في هذا اليوم.

كما أنه قد اختار أن يجعل الحديث عن إكمال الدين في سياق التأكيد على أحكام سبق بيانها لأنه يريد أن يقول : إن التأكيد على الأحكام إنما هو بهدف حفظ الأحكام ، والإهتمام بإلزام الناس ، والتزامهم بها ..

٣٠٢

كما أن من جملة وظائف الإمام ، ومن دواعي نصبه للناس علما ، هو أيضا الحفاظ على أحكام الدين ، وسلامتها من الإهمال ، ومن التحريف ، وضمان وصحة تطبيقها في حياة الأمة.

فالجملة الإعتراضية جاءت لتأكيد المضمون العام للبيان التأكيدي للأحكام.

لماذا الأحكام الإلزامية تحريمية؟! :

ويلاحظ هنا أيضا : أن هذا الإعتراض إنما جاء في سياق التأكيد على أحكام إلزامية ، تحريمية ، لا وجوبية ، فهي إلزامية بحيث يكون أي إخلال بها من موجبات الوقوع في الهلكة ، والابتلاء بالمأزق الذي يلامس مصير الإنسان نفسه.

وهي تحريمية إذ لو كانت إلزاميّة وجوبية ، فقد يتوهم أن المقصود هو جلب المصلحة ، وهي قد يتخلى الإنسان عنها لسبب أو لآخر ، أما الأحكام التحريمية ، فإن مخالفتها تعني الوقوع في الهلكة مباشرة ، ولا مجال للتخلي عنها لأي سبب .. إلا إذا كان ذلك رافعا لحكم التحريم ..

وكذا الحال لو جاء بها في سياق بيان بعض المستحبات ، أو بعض الضوابط الأخلاقية ، أو في سياق بعض السياسات التدبيرية ، فسوف لن يكون لها هذا الأثر ، ولأمكن التأويل والتهرب من مضمونها الإلزامي.

بل قد نجد من يدّعي : أن الأمر لا ينحصر بعلي «عليه‌السلام» ولا بغيره ، بل قد يكون غيره قادرا على القيام بنفس الدور ، ولا خصوصية لعلي ولا للأئمة من أهل البيت «عليهم‌السلام» ، بل ولا حتى للنبي الأعظم

٣٠٣

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» في ذلك.

متى يئس الذين كفروا .. وكمل الدين؟! :

وقد اقترن قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ). بقوله :

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (١) ، فدل على : أن اليوم الذي يئس فيه الذين كفروا من الدين هو نفس اليوم الذي أكمل الله تعالى فيه دينه ، لكنهم اختلفوا في تحديد هذا اليوم .. فقيل : المراد به : فتح مكة (٢).

ويرد عليه : أنه إذا كان كمال الدين لبيان تمام الأحكام ، فذلك يعني : أن الدين لم يكمل آنئذ ، ولم تتم النعمة .. إذ قد استمر تشريع الأحكام بعد يوم الفتح أيضا ، وسورة المائدة نفسها ، قد تضمنت شيئا من ذلك.

وقيل : المراد به : ما بعد تبوك ، حيث نزلت سورة براءة ، وقد انبسط الإسلام على جزيرة العرب كلها ، وعفيت آثار الشرك ، وذهبت سنن الجاهلية وزالت (٣).

ويرد عليه : نفس ما قلناه آنفا ، فإنه قد نزلت فرائض وأحكام ، وأبلغت تشريعات كثيرة بعدئذ ، كما أن في نفس سورة المائدة أحكاما كثيرة ، وهي قد نزلت بعد سورة براءة.

__________________

(١) الآية ٣ من سورة المائدة.

(٢) تفسير السمرقندي ج ١ ص ٣٩٣ والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج ٦ ص ٦٠ وفتح القدير ج ٢ ص ١٠ وتفسير السمعاني ج ٢ ص ١٠ وراجع : تفسير الجلالين ص ١٣٥.

(٣) تفسير الميزان ج ٥ ص ١٦٩.

٣٠٤

وقيل : المراد به : يوم عرفة ، حيث رووا : أن آية إكمال الدين قد نزلت في يوم عرفة ، فراجع البخاري ومسلم وسواهما (١).

ويرد عليه : أن يأس الذين كفروا يوم عرفة لا بد له من مبرر ، فإن كان المبرر هو : فتح مكة ، أو غزوة تبوك ، أو نزول سورة براءة ، فقد حدث ذلك قبل يوم عرفة في السنة العاشرة بزمان طويل.

وإن كان المبرر هو تمام نزول الأحكام ، فيرد عليه : أن بعض الأحكام قد نزل بعد يوم عرفة ، مثل آية الكلالة التي في آخر سورة النساء ، وآيات الربا ، كما قاله عمر بن الخطاب في خطبة له (٢).

__________________

(١) تفسير مقاتل بن سليمان ج ١ ص ٢٨٠ وجامع البيان للطبري ج ٦ ص ١٠٥ وأحكام القرآن للجصاص ج ٢ ص ٣٩٢ و ٤٠٥ وتفسير الثعلبي ج ٤ ص ١٦ وتفسير ابن زمنين ج ٢ ص ٨ وتفسير الواحدي ج ١ ص ٣٠٨ وزاد المسير لابن الجوزي ج ٢ ص ٢٣٨ عن مجاهد وابن زيد ، والتفسير الكبير تفسير للرازي ج ٥ ص ١٩١ وتفسير العز بن عبد السلام ج ١ ص ٣٧٠ والتسهيل لعلوم التنزيل ج ١ ص ١٦٨ وتيسير الكريم الرحمن في كلام المنان ص ٢٢٠ وتنبيه الغافلين عن فضائل الطالبين لابن كرامة ص ٥٨.

(٢) صحيح مسلم ج ٢ ص ٨١ وج ٥ ص ٨ والغدير ج ٦ ص ١٢٧ ونهج السعادة ج ٨ ص ٤٢٢ ومسند أحمد ج ١ ص ٢٦ و ٢٨ و ٤٨ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٨ ص ١٥٠ وشرح مسلم للنووي ج ٥ ص ٥٣ وج ١١ ص ٥٧ ومسند أبي يعلى ج ١ ص ١٦٦ وجامع البيان للطبري ج ٦ ص ٥٩ وتفسير البغوي ج ١ ص ٤٠٤ وتفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٦٠٦ والإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج ١ ص ٦٩ و ١٦٨ والدر المنثور ج ٢ ص ٢٤٩ وفتح القدير ج ١ ص ٥٤٤ وتفسير الآلوسي ج ٦ ص ٤٤ وأضواء البيان للشنقيطي ج ٤ ص ١٩٥ وراجع : مسند أبي يعلى ج ٥ ص ٧٥.

٣٠٥

وروي أيضا ذلك عن ابن عباس (١).

وإن كان الموجب ليأس الذين كفروا ، ولإكمال الدين هو نزول أحكام : الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير في آية سورة المائدة ، فهي لا توجب هذا اليأس أيضا ، إذ لا خصوصية لها على ما عداها ..

وقد ذكرنا : أن ذكر هذه الأحكام لم يكن للتأسيس ، بل هي للتأكيد ، لأنها كانت قد نزلت قبل عدة سنوات ، حسبما أو ضحناه ..

وإن كان المبرر هو حضور النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في موسم الحج ، وتشريع بعض أحكامه ، فيرد عليه : أن ذلك لا يوجب يأس الكفار من الدين أيضا .. إذ لا فرق في التشريع بين ما يرتبط بالحج ، وبين غيره ..

وبعد ظهور عدم صحة ذلك كله ، نقول :

العلة المحدثة والمبقية :

إن إكمال الدين إنما هو بإيجاد علته المبقية ، بنصب الحافظ له ، والمبين لحقائقه ، والعالم بمعاني قرآنه ، والعارف بناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، وبذلك ييأس الذين كفروا من تحريف الدين ، والتلاعب بشريعة رب العالمين ، فإن الإمام هو الذي يصونه من عبث أهل النفاق ، ويحفظ الناس من الوقوع فريسة للشكوك والشبهات ..

فإذا كان الذين كفروا يفكرون في أن بإمكانهم النيل من دين الله بعد وفاة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإن نصب الولي ، والإمام الحافظ

__________________

(١) راجع : أسباب نزول الآيات ص ٩ وأحكام القرآن للجصاص ج ١ ص ٥٦٣ وعمدة القاري ج ١٨ ص ١٩٥ والبرهان للزركشي ج ١ ص ٢٠٩.

٣٠٦

سوف يبعث اليأس في نفوسهم من أن يتمكنوا من تحريفه ، ومن التلاعب بمفاهيمه ، وقيمه ، والعبث بتعاليمه ، وأحكامه ..

فظهر أن الدين قد كمل بنصب الإمام ، وتكريس مفهوم الإمامة في الإسلام ، وسدت بهذا التشريع الرباني الثغرة التي قد يحاول المبطلون النفوذ منها ، وأنيط حفظ الدين بهذا القرار الديني والشرعي الملزم للناس ، وأصبح هو المعيار الذي يرجعون إليه ، بعد أن ثبت وتعزز في وجدان الأمة على النحو الذي سعى إليه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» طيلة ثلاث وعشرين سنة ، توجتها مناسبة يوم الغدير.

وكما أن الكافرين سوف ييأسون ، فإن المؤمنين سوف يشعرون بكمال دينهم ، وبتمام النعمة عليهم ، بعد أن وضعت الضمانات المؤثرة في رد كيد الأعداء ، ووضح السبيل لفضح خدعهم ، وبوار أباطيلهم.

وبذلك رضي الله تعالى الإسلام دينا باقيا ، وأبديا للبشرية كلها ..

فلا تخشوهم واخشوني :

وقد زالت بذلك موجبات خشية المؤمنين من كيد الذين كفروا ، وأصبح الأمر مرهونا بالمسلمين أنفسهم ، بمدى التزامهم بما أخذ عليهم من عهد وميثاق منه تعالى ، وخضوعهم للتدبير الرباني ، واستجابتهم لما يحييهم ، وطاعتهم لمن نصبه الله ورسوله وليا وحافظا لهم ، ولدينهم .. ولذلك قال تعالى : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) (١).

__________________

(١) الآية ١٥٠ من سورة البقرة.

٣٠٧

فالآية تريد أن تحدد المسؤوليات ، وتسد أبواب التملصات المقيتة ، من قبل من يظهرون الطاعة والإنقياد ، ويبطنون الصدود والعناد ، ويدبرون في الخفاء للإستئثار بالأمر ، وإقصاء صاحبه الشرعي عنه ، ولا شيء يدفعهم إلى ذلك سوى حب الدنيا وزينتها ، وعدم الإعتداد بشيء آخر سواها ..

فعلى الناس أن يحفظوا نعمة الله عليهم ، وأن لا يفرطوا فيما حباهم الله به ، ولا يخضعوا لأهواء أهل الكفر ، ولا يخشوا كيدهم ومؤامراتهم ، وإلا فإنهم سيذوقون وبال أمرهم ، وستكون أعمالهم هي السبب في سلب هذه النعمة منهم وعنهم.

أكملت .. أتممت :

ويلاحظ : أن الآية قد عبرت بالإكمال بالنسبة للدين ، وبالإتمام بالنسبة للنعمة ، وربما يكون الفرق بينهما : أن الإكمال هو تتميم خاص ، فإنه يستعمل حيث يكون للشيء أجزاء لها أغراض وآثار مستقلة ، فكلما حصل جزء ، تحقق معه أثره وغرضه ، فهو من قبيل العموم الأفرادي ، ويمكن أن يمثل له بصيام شهر رمضان ، فإن صيام أي يوم منه يوجب تحقيق أثره ، ويسقط وجوبه ، وتبقى سائر الأيام على حالها ..

أما الإتمام ، فيستعمل فيما يكون له أجزاء لا يتحقق لها أثر حتى تكتمل ، فيكون الأثر لمجموعها ، فلو فقد واحد منها لا نتفى الأثر المترتب على المجموع. فهو نظير ساعات اليوم الذي يصام فيه ، فإنها لا يترتب الأثر على صيامها إلا بعد انضمام أجزائها إلى بعضها ، بحيث لا يتخلف جزء منها ، فإنه

٣٠٨

يوصف بالتمام في هذه الحال ، ولذلك قال : (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) (١) ، وكذلك الحال في الصلاة بالنسبة لأجزائها ، فإن بطلان أو إسقاط أي جزء منها يوجب سقوط الصلاة نفسها ، وبطلانها.

والدين هو مجموعة قضايا ومفاهيم وأحكام ، لها آثارها الخاصة بها ، ولكل واحد منها طاعته ومعصيته على حدة .. فيصح التعبير عنه بالإكمال.

أما النعمة التي أتمها الله فهي هنا تشريع ما يكون موجبا لحفظ الدين ، وهو ولاية أولياء الله تبارك وتعالى ، لتقام بهم أركان الدين ، وتنشر بهم أعلامه. وبذلك يأمن المؤمنون من أي فتنة أو افتتان.

ويتحقق بذلك شرط قبول أعمال العباد ، فإذا نقض المسلمون عهدهم ، ولم يلتزموا بطاعة الإمام ، حرموا من بركات وجوده ، وعاشوا في المصائب والبلايا في حياتهم الدنيا ، ويكونون عرضة للفتن والمحن بما كسبت أيديهم.

الإسلام مرضي لله دائما :

وقد يتوهم : أن قوله : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (٢) ، يدل على أن الإسلام لم يكن مرضيا قبل ذلك اليوم أيضا.

وهو توهم باطل ، فإن الإسلام مرضي لله دائما. والمراد بهذه الكلمة هنا : أن الله تعالى قد رضي لهم الإسلام دينا مطلقا وفي كل حين ، فلكونه رضيه لهم ، قد شرعه ، وبلّغه على لسان أنبيائه ورسله ، ووضع الضمانات لبيان حدوده وقواعده ، وهيأ الظروف لبقائه واستمراره ، من خلال تشريع الولاية ، وحمايته

__________________

(١) الآية ١٨٧ من سورة البقرة.

(٢) الآية ٣ من سورة المائدة.

٣٠٩

بها. ووضع أركانها ، وتعريف الناس بالأئمة الذين اختارهم الله لحمل هذه الأمانة.

فالآية ليس لها مفهوم. أي أنها لا تريد أن تقول : إنني في هذا اليوم فقط رضيت لكم الإسلام دينا ، بل تريد أن تقول : إن يأس الكفار ، وإكمال الدين وإتمام النعمة كان في هذا اليوم ، وأن الله سبحانه كان دائما راضيا بالإسلام التام والشامل دينا للبشرية ..

آية الإكمال نزلت مرتين :

وبعد .. فإنه يبدولنا أن سورة المائدة قد نزلت يوم عرفة دفعة واحدة ، فقرأها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على الناس ، وسمعوا آية الإكمال ، وحاول أن يبلغ أمر الإمامة في عرفة ، فمنعته قريش وأعوانها ، ثم بدأت الأحداث تتوالى ، وتنزل الآيات المرتبطة بكل حدث على حدة. فنزلت بعد ذلك آية : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (١). وجاءته بالعصمة من ربه ، فبادر إلى إعلان إمامة علي «عليه‌السلام» يوم الغدير ، ثم تلا عليهم ، أو نزلت عليه آية الإكمال بعد نصبه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليا «عليه‌السلام» في ذلك اليوم الأغر ، وقبل أن يشرع الناس بالتفرق.

فيكون الحديثان في نزول هذه الآية صحيحين معا ، لكن نزولها يوم عرفة كان في ضمن السورة ، التي نزلت دفعة واحدة ، ونزولها يوم الغدير كان بصورة منفردة عن بقية آيات السورة ، بل ومنفردة عن سائر فقرات

__________________

(١) الآية ٦٧ من سورة المائدة.

٣١٠

الآية التي هي في ضمنها أيضا ، حسبما بيناه ..

وقد نقل الرواية بذلك الطبرسي في الإحتجاج ونقله به غيره أيضا (١) ، وفيها : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قرأ عليهم آية إكمال الدين يوم عرفة ، حيث أمره الله تعالى بتبليغ ولاية علي «عليه‌السلام» ، ولم تنزل العصمة.

وقد قلنا : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حاول تنفيذ ما طلب منه ، فمنع ، فنزل قوله تعالى : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) ، ففعل ذلك في يوم الغدير ، ولم ينبس أحد منهم ببنت شفة بصورة علنية.

ويؤيد هذ المعنى : ما ذكر في بعض الروايات ، من أن يوم الغدير كان يوم الخميس (٢).

__________________

(١) راجع : الإحتجاج (ط النعمان ـ النجف الأشرف) ج ١ ص ٦٧ فما بعدها ، واليقين لابن طاووس ص ٣٤٣ والتفسير الصافي ج ٢ ص ٥٣.

(٢) المناقب للخوارزمي ص ١٣٥ وكتاب سليم بن قيس (بتحقيق الأنصاري) ص ٣٥٥ والمناقب لابن شهرآشوب ـ ج ٢ ص ٢٢٧ والبحار ج ٣٧ ص ١٥٦ وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» في الكتاب والسنة والتاريخ ج ٢ ص ٣١٠ وشرح أصول الكافي ج ٥ ص ١٩٥ وشرح أصول الكافي ج ٦ ص ١٢٠ ومناقب الإمام أمير المؤمنين «عليه‌السلام» للكوفي ج ١ ص ١١٨ و ١٣٧ و ٣٦٢ و ٤٣٤ والمسترشد للطبري (الشيعي) ص ٤٦٨ وكتاب الأربعين للماحوزي ص ١٤٧ وخلاصة عبقات الأنوار ج ٧ ص ٣٠٣ وج ٨ ص ٢٧٨ و ٢٨٠ و ٣١٠ و ٣١١ و ٣١٤ و ٣١٥ والغدير ج ١ ص ٤٢ و ٤٣ و ٢٣٢ و ٢٣٣ و ٢٣٤ ونهج الإيمان لابن جبر ص ١١٥ وخصائص الوحي المبين لابن البطريق ص ٩٣ وبشارة المصطفى للطبري ص ٣٢٨ وشرح إحقاق الحق ج ٦ ص ٣٥٥ وج ٢٠ ص ١٩٨.

٣١١

وقد روي عن عمر (١) ، ومعاوية ، وسمرة بن جندب ، ونسب إلى علي «عليه‌السلام» أيضا أن آية الإكمال نزلت في يوم عرفة (٢) ، وإنما كان يوم عرفة يوم الإثنين ، ويؤيد ذلك أن نزول آية الإكمال يوم الإثنين.

ويدل على ذلك : ما روي عن ابن عباس ، من أنه قال : «ولد نبيكم يوم

__________________

(١) راجع : الدر المنثور ج ٢ ص ٢٥٨ عن الحميدي ، وعبد بن حميد ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن حبان ، والبيهقي في سننه ، وراجع : صحيح البخاري ج ٥ ص ١٨٦ وج ٨ ص ١٣٧ و (ط دار المعرفة) ج ١ ص ١٦ وصحيح مسلم ج ٨ ص ٢٣٨ و ٢٣٩ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٣ ص ١٨١ وج ٥ ص ١١٨ وسنن النسائي ج ٨ ص ١١٤ ومسند أحمد ج ١ ص ٢٨ وسنن الترمذي ج ٤ ص ٣١٦ وعمدة القاري ج ١٨ ص ١٩٩ وج ٢٥ ص ٢٣ ومسند الحميدي ج ١ ص ١٩ والسنن الكبرى للنسائي ج ٢ ص ٤٢٠ والمعجم الأوسط للطبراني ج ١ ص ٢٥٣ وج ٤ ص ١٧٤ ومسند الشاميين ج ٢ ص ٦٠ وفضائل الأوقات للبيهقي ص ٣٥١ وكنز العمال ج ٢ ص ٣٩٩ وجامع البيان ج ٦ ص ١٠٩ و ١١١ ومعاني القرآن للنحاس ج ٢ ص ٢٦١ وتفسير السمعاني ج ٢ ص ١٠ وشرح أصول الكافي ج ٦ ص ١٢١ وج ١١ ص ٢٧٨ والمحلى لابن حزم ج ٧ ص ٢٧٢.

(٢) راجع : مجمع الزوائد ج ٧ ص ١٣ والمعجم الكبير ج ٧ ص ٢٢٠ وج ١٢ ص ١٩٨ وج ١٩ ص ٣٩٢ ومسند الشاميين ج ٣ ص ٣٩٦ والجامع لأحكام القرآن ج ٢ ص ١٥ والدر المنثور ج ٢ ص ٢٥٨ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٦ ص ٣١٨ وسير أعلام النبلاء ج ٥ ص ٣٢٣ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٨ ص ٥٠٨ وتفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ١٥ والكامل لابن عدي ج ٥ ص ١١ وكنز العمال ج ٢ ص ٤٠٠ وجامع البيان ج ٦ ص ١٠٦.

٣١٢

الإثنين ، ونبئ يوم الإثنين ، ونزلت سورة المائدة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (١) يوم الإثنين ، وتوفي يوم الإثنين» (٢).

فظهر أن نزول سورة المائدة يوم الإثنين بما فيها آية الإكمال ـ كما قاله ابن عباس ـ يؤيد ما قلناه. وذلك كان يوم عرفة.

أما ما زعموه : من أن يوم عرفة كان الخميس أو الجمعة ، فلا يتلائم مع قولهم : إن يوم الغدير كان في الثامن عشر من ذي الحجة في يوم الخميس أيضا ، حسبما نبه إليه العلامة الأميني في كتابه «الغدير» كما تقدم ..

وإلا .. فلو أردنا الحكم بأن الآية لم تنزل يوم الغدير ، بل نزلت يوم عرفة فقط ، لم يمكن أن تجد لمضمون الآية موردا ، ومنطبقا حسبما أو ضحناه.

متى نزلت آية الإكمال :

وقد روى البخاري ومسلم وغيرهما : أن آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) قد نزلت يوم عرفة (٣).

ولكن العلامة الأميني ردّ ذلك استنادا إلى ما يلي :

أولا : إنهم يقولون : إن وفاة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كانت في الثاني من شهر ربيع الأول (٤).

__________________

(١) الآية ٣ من سورة المائدة.

(٢) الدر المنثور ج ٢ ص ٢٥٨ و ٢٥٩ عن ابن جرير وجامع البيان ج ٦ ص ٥٤ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢١٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٢٣٢.

(٣) الغدير ج ١ ص ٢٣٠ وراجع المصادر المتقدمة في الهوامش السابقة.

(٤) أشار في هامش كتاب الغدير ج ١ ص ٢٣٠ إلى المصادر التالية : الكامل لابن ـ

٣١٣

ثم يقولون : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يعمّر بعد نزول هذه الآية إلا أحدا وثمانين يوما ، أو اثنين وثمانين يوما (١).

قال العلامة الأميني : وكأن فيه تسامحا بزيادة يوم واحد على الإثنين وثمانين يوما ، بعد إخراج يومي الغدير والوفاة (٢).

ثانيا : إنه لا مجال لتجاهل النصوص التي رويت عن أبي سعيد الخدري ، وغيره ، كأبي هريرة ، وابن عباس ، وجابر ، وعن الإمامين الباقر والصادق

__________________

الأثير ج ٢ ص ٩ وإمتاع الأسماع ص ٥٤٨ والبداية والنهاية ج ٦ ص ٣٣٢ وعن السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٨٢. وراجع : تلخيص الحبير لابن حجر ج ٧ ص ٣ وتفسير السمعاني ج ٢ ص ١١.

(١) الدر المنثور ج ٢ ص ٢٥٧ والتفسير الكبير ج ٧ ص ١١٢ وج ١١ ص ١٣٩ وتفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ١٤ و ٤١٦ وتفسير الثعالبي ج ١ ص ٥١ وتفسير البحر المحيط ج ٢ ص ٣٥٦ وفتح القدير ج ٢ ص ١٢ وتفسير البيضاوي ج ١ ص ٥٧٧ والبداية والنهاية ج ٥ ص ١١٧ وج ٦ ص ٢٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ١٩٤ وتنبيه الغافلين عن فضائل الطالبين لابن كرامة ص ٥٨ وإرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم لأبي السعود ج ٣ ص ٧ والغدير ج ١ ص ٢٣٠ و ٢٣٧ وتفسير الرازي ج ١١ ص ١٣٩ والمناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ٢٠١ وج ٢ ص ٢٢٦ والبحار ج ٢٢ ص ٤٧١ وج ٣٧ ص ١٥٦ وفتح الباري ج ٨ ص ٥٦٤ وعمدة القاري ج ١٨ ص ١٣٢ و ١٩٩ وتفسير مجمع البيان ج ٢ ص ٢١٤ وتفسير الثعلبي ج ٢ ص ٢٩٠ وتفسير البغوي ج ١ ص ٥٠٤ وج ٢ ص ١٠ وتفسير الآلوسي ج ٣ ص ٥٥ وج ٦ ص ٦٠ وزاد المسير ج ١ ص ٢٨٩ وج ٢ ص ٢٣٩.

(٢) الغدير ج ١ ص ٢٣٠.

٣١٤

«عليهما‌السلام» ، وعن مجاهد ، الدالة على أن هذه الآية نزلت في غدير خم ، ورواية أبي هريرة صحيحة الإسناد عند هؤلاء.

ثالثا : إننا حتى لو سلمنا بصحة روايتي البخاري ومسلم فمن الممكن أن تكون هذه الآية قد نزلت مرتين ..

رابعا : إن آية (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) إن كانت نزلت في غدير خم لم يجز أن تكون آية الإكمال قد نزلت قبلها في عرفة ، لأن مفاد آية التبليغ أنه قد بقي شيء من الدين يوازي الدين كله ، وبذلك تنضم الروايات التي صرحت بنزول آية البلاغ في مناسبة الغدير إلى روايات نزول آية الإكمال فيها أيضا ، وتصبح أقوى في معارضة رواية البخاري ومسلم.

خامسا : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يبلّغ شيئا من الدين في يوم عرفة ، لكي تنزل آية الإكمال ، وإنما بلّغ يوم الغدير أمرا عظيما وهاما ، فنزول آية الإكمال في يوم الغدير يصير هو المتعين ، لكي يتوافق مع الوقائع ..

أبو طالب عليه‌السلام وحراسة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وقد رووا عن ابن عباس : أن أبا طالب «عليه‌السلام» كان يرسل كل يوم رجالا من بني هاشم ، يحرسون النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حتى نزلت هذه الآية (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ، فأراد أن يرسل معه من يحرسه ، فقال : يا عم : إن الله عصمني من الجن والإنس (١).

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ج ٦ ص ١٥٨ ولباب النقول في أسباب النزول ص ٨٣ عن ابن مردويه ، والطبراني ، وتفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٨١ والغدير ج ١ ص ٢٢٨ ولباب النقول للسيوطي (ط دار إحياء العلوم) ص ٩٥ و (ط دار

٣١٥

ونقول :

أولا : إن ما ذكرناه آنفا من الإجماع على نزول سورة المائدة في المدينة ، وأنها آخر ما نزل ، أو من آخر ما نزل .. ومن الصحابة من يقول : إنها نزلت في حجة الوداع ـ إن ذلك ـ يكفي للرد على هذه المزعمة. فإن أبا طالب قد توفي قبل الهجرة إجماعا ..

ثانيا : لقد كانت هناك حراسات للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تجري في المدينة ، وفي المسجد أسطوانة يقال لها : أسطوانة المحرس .. وكان علي «عليه‌السلام» يبيت عندها يحرس رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. فإذا كانت الآية المشار إليها قد نزلت في مكة ، فترك الحرس منذئذ ، فلا معنى لتجديد الحراسات عليه في المدينة.

ثالثا : قد تقدم في هذا الكتاب : أن أبا طالب «عليه‌السلام» كان في الشعب إذا حلّ الظلام ، وهدأت الأصوات يقيم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من موضعه ، وينيم عليا «عليه‌السلام» مكانه. حتى إذا حدث أمر ، فإن عليا يكون هو الفداء للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فلو صح : أن أبا طالب كان يرسل رجالا لحراسته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كل يوم ، فلا تبقى حاجة لهذا الإجراء ، فإن الحرس موجودون ، وأي أمر يحدث ، فإنهم هم الذين يتصدون له ..

__________________

الكتب العلمية) ص ٨٣ ومجمع الزوائد ج ٧ ص ١٧ وأسباب نزول الآيات ص ١٣٥ والمعجم الكبير ج ١١ ص ٢٠٥ والدر المنثور ج ٢ ص ٢٩٨.

٣١٦

آية البلاغ في اليهود :

لقد حاولوا : أن يكثروا من الأقاويل حول آية (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) ، حتى زعموا : أن الأقوال فيها قد بلغت العشرة .. وقد ذكرها العلامة الأميني فراجع (١).

وذكر : أن الرازي رجّح أنها تريد أن تؤمّن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وتعصمه من مكر اليهود والنصارى ، فأمره الله تعالى بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم ، لأن ما قبل الآية وما بعدها كان كلاما مع اليهود والنصارى (٢).

ونقول :

أولا : إن السياق ليس بحجة ، ولا سيما بعد ورود الروايات الموضحة للمقصود عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ثانيا : إن أمر اليهود كان قد حسم قبل ذلك بعدة سنوات ، ولم يعد النبي يخشاهم. ولم يكن للنصارى نفوذ يذكر في الجزيرة العربية ، وكان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين نزول سورة المائدة قد بلغ جميع الأحكام ، فلم يبق أي شيء يتوهم أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يكتمه مما كان لدى اليهود والنصارى حساسية تجاهه ..

ولم يبق مما يخشى أهل النفاق فيه سوى أخذ البيعة للإمام علي «عليه‌السلام» بالخلافة بعده «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لا سيما إذا كانت سورة المائدة قد

__________________

(١) راجع : الغدير ج ١ ص ٢٢٥ و ٢٢٦.

(٢) التفسير الكبير ج ١٢ ص ٥٠.

٣١٧

نزلت ـ كما يقول محمد بن كعب ـ في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة (١). وقد كانت سائر الأمور الحساسة قد حسم الأمر فيها في ذلك الوقت.

وروي عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قوله في حجة الوداع : «إن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا» (٢).

وصرحت عدة روايات بنزولها في حجة الوداع. فراجع ما روي عن محمد بن كعب القرظي ، والربيع بن أنس (٣).

وعن عائشة : إن المائدة آخر سورة نزلت (٤).

__________________

(١) الإتقان في تفسير القرآن ج ١ ص ٢٠ والدر المنثور ج ٢ ص ٢٥٢ عن أبي عبيد.

(٢) الغدير ج ١ ص ٢٢٧ وتفسير الثعلبي ج ٤ ص ٥ وتفسير الآلوسي ج ٦ ص ٤٧ وتفسير أبي السعود ج ٣ ص ٤ وتفسير الخازن ج ١ ص ٤٢٩ والجامع لأحكام القرآن ، والدر المنثور ج ٢ ص ٢٥٢ عن أبي عبيد ، عن ضمرة بن حبيب ، وعطية بن قيس.

(٣) الدر المنثور ج ٢ ص ٢٥٢ عن أبي عبيد وابن جرير ، وعمدة القاري ج ١٨ ص ١٩٥ و ١٩٦ وتفسير الآلوسي ج ٦ ص ٤٧ والغدير ج ٦ ص ٢٥٦ وراجع : جامع البيان للطبري ج ٦ ص ١١٢.

(٤) الغدير ج ١ ص ٤٢٩ عن تفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٣ عن أحمد ، والحاكم ، والنسائي ، والدر المنثور ج ٢ ص ٢٥٢ عن أحمد ، وأبي عبيد في فضائله ، والنحاس في ناسخه ، والنسائي ، وابن المنذر ، والحاكم وصحح ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، والمحلى لابن حزم ج ٧ ص ٣٩٠ وج ٩ ص ٤٠٧ والإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج ١ ص ٨٤ ونيل الأوطار ج ٩ ص ٢٠٤ ومسند أحمد ج ٦ ص ١٨٨ ومسند الشاميين ج ٣ ص ١٤٤ والجامع لأحكام القرآن ج ٦ ص ٣١ وتفسير السمرقندي ج ١ ص ٣٨٨ وأحكام القرآن للجصاص ج ٢ ص ٦١٥ والفتح

٣١٨

وعن عبد الله بن عمر : إن آخر سورة أنزلت ، سورة المائدة ، والفتح (١) ، يعني سورة النصر ، كما يقول الأميني.

وعن أبي ميسرة : آخر سورة أنزلت سورة المائدة ، وإن فيها لسبع عشرة فريضة (٢).

ثالثا : إن الآية قد صرحت : بأن هذا الذي أمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بإبلاغه يعدل الدين كله ، حيث قالت : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) .. مع أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أبلغ الرسالة كلها ، فهذا التعبير يشير إلى أن هذا الأمر له مساس بجميع أحكام الدين وشرائعه وحقائقه ..

ولو كان المقصود : أنه لم يبلغ حكما ما ، فقد كان الأولى أن يقول : وإن لم تفعل فالدين يبقى ناقصا .. لا أن يقول : إنك لم تبلغ شيئا من الرسالة أصلا ..

__________________

السماوي ج ٢ ص ٥٥٢ وتفسير الآلوسي ج ٦ ص ٤٧ وتخريج الأحاديث والآثار ج ١ ص ٣٧٧ وفتح القدير ج ٢ ص ٣ ومعرفة السنن والآثار للبيهقي ج ٥ ص ٣٠٢ والسنن الكبرى للنسائي ج ٦ ص ٣٣٣ ومسند ابن راهويه ج ٣ ص ٩٥٦ وعون المعبود ج ١٠ ص ١٣ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٧ ص ١٧٢ والمستدرك للحاكم ج ٢ ص ٣١١.

(١) الغدير ج ٢ ص ٢٢٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٥٧ وتخريج الأحاديث والآثار ج ١ ص ٣٧٧ وسنن الترمذي ج ٤ ص ٣٢٦ وتفسير الآلوسي ج ٦ ص ٤٧ وتفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٣ عن الترمذي ، والدر المنثور ج ٢ ص ٢٥٢ عن أحمد ، والترمذي وحسّنه ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه.

(٢) الدر المنثور ج ٢ ص ٢٥٢ عن سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وراجع : الجامع لأحكام القرآن ج ٦ ص ٣٠.

٣١٩

موقع آية البلاغ بين الآيات :

وقد حاول البعض أن يقول : إن الآيات التي سبقت آية الإبلاغ ولحقتها تتحدث عن أهل الكتاب. فينبغي أن تكون آية (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (١). ناظرة إلى تبليغ ما أنزله الله تبارك وتعالى في أهل الكتاب ، مثل قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) (٢)» (٣).

وأجيب أولا : بأن قوله تعالى في الآية : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (٤) يدل على أن ثمة خطرا يتهدد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أو الدين نتيجة لإبلاغ هذا الحكم .. ولم يكن اليهود والنصارى يشكلون أي خطر على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» آنئذ ، بل كان خطرهم قد انحسر بدرجة كبيرة جدا ، ولم يعد هناك ما يبرر إحجامه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن تبليغ أمر يرتبط بهم ، بانتظار أن يمنحه الله العصمة منهم.

ثانيا : ليس في الآية حدة توجب خوفه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أهل الكتاب ، وقد أبلغ «صلى‌الله‌عليه‌وآله» اليهود ما هو أشد منها .. علما بأن شوكة اليهود وكذلك النصارى كانت قد كسرت حين نزول سورة المائدة ،

__________________

(١) الآية ٦٧ من سورة المائدة.

(٢) الآية ٦٨ من سورة المائدة.

(٣) تفسير الميزان ج ٦ ص ٤٢ ودلائل الصدق ج ٢ ص ٥١ و ٥٢ عن الرازي.

(٤) الآية ٦٧ من سورة المائدة.

٣٢٠