الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣١

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-203-x
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٦

الرمز والشعار :

إننا نلاحظ : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد مازج بين واقع ما يجري ، وبين الرمز المشير ، الذي يجعل الإنسان يعيش الشعور التمثلي الرابط بين الرمز وبين حركة الواقع.

١ ـ فيرى كيف يسبغ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على علي «عليه‌السلام» مقام الرئاسة والسيادة ، وذلك حين يعممه بيده. ولا يأمره بلبس العمامة ، وكأنه يريد أن يحسس الناس بأنه يريد أن يجعل من هذه الحركة الرمزية وسيلة لإنشاء مقام الحاكمية له ..

٢ ـ ثم إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يختار أن تكون العمامة التي يتوّجه بها هي نفس العمامة التي عرف الناس أنها له ، حتى بما لها من اسم ومن خصوصية مميزة .. ليشير بذلك إلى أنه إنما يعطيه الموقع الذي هو له ، أو انه يريده أن يكون امتدادا له فيما يمثله ، وفيما يوكل إليه من مهام ..

٣ ـ ثم هو يتجاوز الفعل إلى القول ، فيعلن : أنه يقصد بفعله هذا تكريس معنى السيادة والحاكمية فيه من خلال هذا التتويج ، ما دام أن العمائم تيجان العرب.

٤ ـ ثم تجاوز ذلك إلى إعطاء هذا التصرف المقصود مضمونا دينيا عميقا ، ومثيرا ، حين أعلن أن ما فعله بعلي «عليه‌السلام» لا يشبه لبس الآخرين من الأسياد والحاكمين لعمائم سيادتهم ، بل هي سيادة خاصة تمتد قداستها ، بعمقها الروحي ، وبمضمونها الإيماني المرتبط بالسماء ، ما دام أن الملائكة فقط هم الذين يعتمون هذه العمة.

٥ ـ ولم يكن فعل الملائكة هذا مجرد ممارسة لأمر يخصهم ، ولا كان يريد

٢٨١

لعلي «عليه‌السلام» أن يتشبه بهم فيه ، أو أن يكون له شبه بهم .. بل هو فعل له ارتباطاته الواقعية والعملية ، بنفس حركة علي «عليه‌السلام» الجهادية والإيمانية ، حيث قرر : أن الملائكة إنما تعتم بهذه العمامة في خصوص بدر وحنين .. وهما الواقعتان المتشابهتان جدا في كثير من خصوصياتهما ، والمتميزتان بأن عليا «عليه‌السلام» جاء بالنصر فيهما ، ولم يكن لأي من مناوئي علي «عليه‌السلام» أي دور أو أثر إلا الفرار من الزحف ، وربما الممالأة لأهل الشرك على أهل الإيمان ..

في حين أن الإسلام كله كان رهن النصر الذي أحرزه سيف علي «عليه‌السلام» دون سواه.

٦ ـ ثم جاء التصريح بعد التلميح ليؤكد على أن هذه العمامة بما لها من دلالات وخصوصيات ترمز إلى أمر أهم من ذلك كله ، وهو : أنها الحد الفاصل بين الإيمان الخالص وبين دنس الشرك ، بمختلف مظاهره وحالاته وحتى لو بمستوى أن يراود خاطر أي من الطامحين والطامعين ، أو تلوث وجدانه استجابة لأي طمع بالحياة الدنيا.

٧ ـ أما ما نسبه الملطي للروافض ، من أنهم قد تأولوا قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «طلع علي في السحاب» ، فلعله لا يقصد بالروافض الإمامية الاثني عشرية أعزهم الله تعالى .. فإننا لا نشعر أن لديهم أي تأويل يعاني من أية شائبة تذكر ..

أما غيرهم ، فإن كان الملطي صادقا فيما يقول ، فلسنا مسؤولين عن أفعال وأقوال أهل الزيغ ، بل سنكون مع من يناوئهم ، ويدفع كيدهم ، ويسقط أباطيلهم.

٢٨٢

نعوذ بالله من شرور أنفسنا :

ثم إن الإنسان قد لا يجد في نفسه دافعا نحو ارتكاب بعض الأمور إلا إذا كان هناك تزيين شيطاني ، ووسوسة ، وسعي لقلب الحقائق ، وجعل القبيح حسنا ، والحسن قبيحا ، ولو بربطه بأمور أخرى تكون ظاهرة الحسن أو القبح ، أو الإيهام بأن هذا مصداق لها ، وفي جملة منطبقاتها ، ولو عن طريق الإدعاء والتخييل.

وهذا ما يعبر عنه بالتزيين الشيطاني الذي يظهر القبح بصورة الحسن ، قال تعالى : (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) (١). (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) (٢). (زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) (٣). (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) (٤). (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) (٥) وآيات كثيرة أخرى.

وهناك أمور لا يحتاج الإنسان للاندفاع إليها إلى تزيين شيطاني ، بل تكون هي بنفسها تملك زينة ظاهرة ، تلائم نوازع النفس الأمارة ، فيتلهى الإنسان بزينتها تلك عن التدبر في واقعها السيء ، الذي قد يكون بمثابة السم المهلك.

__________________

(١) الآية ٣٧ من سورة التوبة.

(٢) الآية ١٤ من سورة محمد.

(٣) الآية ٨ من سورة فاطر.

(٤) الآية ٣٧ من سورة غافر.

(٥) الآية ١٣٧ من سورة الأنعام.

٢٨٣

وربما يكون الأمر من قبيل الدواء الذي يشفي المريض ، لكن النفس الأمارة حين تتلاءم مع بعض حالات ذلك الدواء ، كما لو كان له طعم العسل مثلا ، تخرج فيه عن المقدار المفيد ، وتتناوله على غير الوصف الذي حدّد له ، فيفقد تأثيره من أجل ذلك ، أو يصبح مضرا ، وربما يؤدي إلى الهلاك في بعض الأحيان ..

والإمارة والسلطان هي من الأمور التي تتلاءم في بعض جوانبها مع نوازع النفس الأمارة ، فتندفع إليها ، ولا تهتم بواقعها السيء ، المتمثل في كونها ظلما وعدوانا على الناس ، واغتصابا لحق الغير .. بل هي حين تفقد شرعيتها تمرد على الله ، وتعد على حاكميته المطلقة ، وتجاوز لحدوده ..

ولأجل ذلك نلاحظ : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد بدأ خطبته بالإستعاذة بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، التي هي الأكثر فعالية ، والأشد تأثيرا في الإندفاع إلى التعدي على حدود الله ، وغصب الحاكمية من صاحبها الشرعي ، والتعدي على حقوق الناس وظلمهم.

لا هادي لمن أضل الله :

ثم إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعد أن استعاذ بالله من شرور الأنفس ، وسيئات الأعمال ، لكي لا يستسلم الناس لدواعي الغفلة ، عرفهم أن الله الذي يعيذهم هو المالك الحقيقي للتصرف ، وأن لجوءهم إليه ، إذا كانوا صادقين فيه ، سوف يجعلهم في حصن حصين ، وسيعني هذا اللجوء أنهم يستحقون أن يعود عليهم بالفضل ، ويفتح أمامهم أبواب الرحمة.

ولن تستطيع أية قوة أن توصد تلك الأبواب ، بل لا بد أن يبقوا في ذلك

٢٨٤

الحصن الحصين ، والمكان الأمين ما شاؤوا .. وما استقاموا على طريق الحق.

وحين يتسبب العبد بأن توصد أمامه أبواب الرحمة والهداية ، فلن يستطيع أحد أن يفتح تلك الأبواب أمامه ، إلا إذا أصلح ذلك العبد ما أفسده ، واستحق أن يعود الله عليه بالرحمة ، فإن الله تعالى وحده دون سواه هو الذي يفتح أمامه تلك الأبواب من جديد ، على قاعدة : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١). وهذا البيان يفسر لنا قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لا هادي لمن أضل الخ ..

الإقرار بالإعتقادات :

ثم إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بادر إلى الشهادة لله بالوحدانية ، والإقرار على نفسه بالعبودية لله ، ولها بالرسولية ، توطئة لتقرير ذلك الحشد بمثل ذلك ، وتسهيلا للإقرار به عليهم ، ورفعا لاستهجانهم ، وإبعادا لأي ظن أو احتمال قد يراود أذهانهم فيما يرتبط بمستوى الثقة ، واليقين بصدق إيمانهم. فإن ذلك أدعى لإلزامهم فيما يلزمون به أنفسهم ، وأقوى في تعظيم أمر النكث وتهجينه ، واستقباح صدوره منهم ، إن لم يكن تدينا وخوفا من العقوبة في الآخرة ، فالتزاما بالإعتبارات التي ألزموا بها أنفسهم في الحياة الدنيا.

فهو يستعين بكل ما لا مانع شرعا من الإستعانة به لدفع الفساد ، والإفساد ، وتضييق الخناق على الباطل ، وتأكيد وضوح الحق ، فهو نظير

__________________

(١) الآية ٢ من سورة فاطر.

٢٨٥

قول أمير المؤمنين «عليه‌السلام» لأصحابه : أما تستحيون؟! أما تغارون؟! نساؤكم يزاحمن العلوج في الأسواق؟! (١).

فإنه «عليه‌السلام» يريد أن يحرك فيهم معنى الحياء والغيرة ، لكي يبادروا إلى منع ما قد ينشأ عنه الفساد ، ولو في أدنى مستوياته.

وهكذا فعل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فإنه ذكرهم بأصل التوحيد ، فشهدوا لله تعالى بالوحدانية ، وبأصل النبوة ، فشهدوا له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنه رسول من الله إليهم ، مما يعني أن ما يأتيهم به هو من عند الله.

وذكّرهم بالنار التي يعاقب بها المتمردون على الله ، المخالفون لرسوله ، وبالجنة التي يثاب بها المطيعون لهما ، وبأن الموت حق ، والبعث والحساب حق ، فلماذا يتعلقون بالدنيا ، ويفسدون آخرتهم من أجلها ..

ثم ذكّرهم بالإمامة ، وبما يحفظ من الهداية والضلال ، وبميزان الأعمال من خلال التأكيد على حديث الثقلين.

كل ذلك توطئة لنصب أمير المؤمنين «عليه الصلاة السلام» وليا وهاديا ، ومرجعا وإماما.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٥٣٧ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٢٠ ص ٢٣٦ و (ط دار الإسلامية) ج ١٤ ص ١٧٤ والشرح الكبير لابن قدامه ج ٨ ص ١٤٤ وكنز العمال ج ٣ ص ٧٨٠ ومسند أحمد ج ١ ص ١٣٣ ومشكاة الأنوار ص ٤١٧ وراجع : البحار ج ٧٦ ص ١١٥ وجامع أحاديث الشيعة ج ٢٠ ص ٢٧١ ومستدرك سفينة البحار ج ٨ ص ٩٦ موسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم‌السلام» ج ٨ ص ٢٤٣ والمغني لابن قدامه ج ٨ ص ١٣٧ والحدائق الناضرة ج ٢٣ ص ١٥٣ وجامع أحاديث الشيعة ج ٢٠ ص ٢٧١ وجامع السعادات ج ١ ص ٢٣٩.

٢٨٦

الحساب على الحب والبغض :

وربما يسعى بعض الناس إلى إشاعة المفهوم القائل : إن أمر الحب والبغض ليس اختياريا ، وذلك ليتسنى لهم التملص من تبعات حبهم لمن يبغضهم الله ، وبغضهم لمن يحبهم الله تبارك وتعالى.

باعتبار أن الإنسان لا يحاسب على الحب والبغض إلا إذا ظهرت آثارهما في مقام العمل ، فالحساب إنما يكون عليه ، لا عليهما.

ولكن ما ورد في كلام الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوم غدير خم يدل على خلاف ذلك ، حيث دعى «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لمحب علي «عليه‌السلام» ، ودعا على مبغضه ، فقال : «اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحب من أحبه ، وابغض من أبغضه».

ولأجل ذلك ، أوجب تعالى حب أهل الإيمان وبغض أهل الضلال والكفر والطغيان. وعاتب وعاقب من يخالف ذلك .. وتجد في الآيات والروايات ما يؤكد هذا الأمر ، فراجع.

وأدر الحق معه حيث دار :

وقد ضمّن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دعاءه لعلي «عليه‌السلام» يوم الغدير قوله : «وأدر الحق معه حيث دار» ، فدل ذلك على أن المولوية التي جعلها له «عليه‌السلام» تختزن معنى الحق والمسؤولية عنه ، علما أو عملا ، أو كلاهما. إذ لولا ذلك لم يحتج إلى هذا الدعاء.

٢٨٧

حديث الثقلين :

وهذه المسؤولية عن الحق هي التي فرضت أن يقرن «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بين القرآن والعترة لحفظ الأمة من الضلال ، وجعل استمرار هذا الاقتران بينهما من مسؤولية الأمة أيضا.

ولا بد أن يكون اقترانا متناسبا مع شمولية القرآن ، ومع ما تضمنه من حقائق ، وما يتوخى من موقف للأمة تجاهه .. ومع مسؤولية العترة تجاه القرآن في مجال العلم والعمل ، والتربية ، وما يترتب على ذلك من لزوم الطاعة والنصرة ، وما إلى ذلك .. ولا يكون ذلك إلا بالتمسك به ، وبالعترة في العلم وفي العمل والممارسة .. سواء في الأحكام أو في القضاء بين الناس ، أو في السياسات ، أو في الإعتقادات ، أو في الأخلاق ، وفي كل ما عدا ذلك من حقائق ، لهج وصرح بها القرآن الكريم ، وهذا يختزن معنى الإمامة بكل أبعادها وشؤونها ..

وانصر من نصره :

ويؤكد هذا المعنى ، ويزيده رسوخا قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «وانصر من نصره ، واخذل من خذله ..» ، فإن إيجاب النصر له على الناس ، وتحريم الخذلان إنما هو في صورة التعرض للتحدي ، والمواجهة بالمكروه ، من أي نوع كان ، ومن أي جهة صدرت.

وذلك يشير إلى : أنه «عليه‌السلام» هو المحق في كل نزاع يحاول الآخرون أن يفرضوه عليه ، وأن على الأمة نصره ، بردع المعتدي ، فإن لم تستطع ، فلا أقل من أن لا تنصر أعداءه ، وأن تعتقد بأن غيره ظالم له ، معتد

٢٨٨

عليه ، مبطل في ما يدّعيه.

وقد جاءت هذه الإشارات اللائحة ، والدلالات الواضحة قبل وفاته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بيسير ، وقد واجه علي «عليه‌السلام» المحنة التي فرضها عليه نفس هؤلاء الذين خاطبهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بهذا الخطاب!! واستنطقهم ، وقررهم ، وردوا عليه الجواب. وهم الذين هنأوا عليا «عليه‌السلام» ، وبخبخوا له ، وبايعوه ، حتى قال ابن عباس : وجبت ـ والله ـ في أعناق القوم.

أمهات المؤمنين يهنئن عليا عليه‌السلام :

وقد تقدم : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أمر أمهات المؤمنين بأن يسرن إلى علي «عليه‌السلام» ويهنئنه ، ففعلن ، وما ذلك إلا لأنه يريد أن يقطع العذر لمن تريد منهن أن تشن عليه حربا ضروسا ، يقتل فيها المئات والألوف ، فلا تدّعي أنها لم تعرف شيئا مما جرى في يوم الغدير ، لأنها كانت معزولة في خدرها عن الحدث ، رهينة الحجاب المفروض عليها.

أو أن تدّعي : أن ما عرفته من أفواه الناس من أقاربها كان لا يقيم حجة ، ولا يقطع عذرا ، أما النساء فإنهن وإن أبلغنها بشيء مما كان يجري ، لكن حالهن حالها ، وربما يبلغها ما لا يبلغهن ، أو أن ما يبلغها قد يكون أكثر دقة مما يتناهى إلى مسامعهن ، بعد أن تعبث به الأهواء ، ويختلط مع التفسيرات والتأويلات ، والإجتهادات وما إلى ذلك ..

وإن نفس الطلب إلى نساء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأن يقمن بهذا الأمر ، لا بد أن يفسح المجال لسؤالهن عن سبب هذه التهنئة ، وعن حقيقة

٢٨٩

ما جرى. لا سيما إذا كانت هذه أول مرة يطلب فيها من أمهات المؤمنين أن يشاركن في تهنئة أحد ، فإن هذا أمر له ارتباط بالرجال غير رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. وقد جاء الأمر بذلك عاما وشاملا لهن من دون استثناء ، فلا مجال للتأويل والتحليل ، أو لاحتمال أن ذلك كان لخصوصية اقتضت طلب ذلك من امرأة بعينها ..

معنى الولاية في حديث الغدير :

قال السيد المرتضى «رحمه‌الله» : إن أولى بمعنى مولى ، كما قاله أئمة اللغة في تفسير الآية (١).

أما سائر معاني كلمة مولى فهي إما بديهية الثبوت لعلي ، فيكون ذكرها في يوم الغدير عبثا .. مثل : «ابن العم ، والناصر» التي ذكر أنها من معاني «المولي».

وإما واضحة الإنتفاء ، ولا يصح إرادتها. مثل : «معنى المعتق والمعتق ، فلا يصح إرادتهما في مناسبة الغدير ، لأن ذلك يستلزم الكذب فيهما .. وذلك لا يصدر من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..».

فأجاب الرازي بما ملخصه : إنه لو كان مولى وأولى بمعنى واحد لصح

__________________

(١) راجع : رسائل المرتضى ج ٣ ص ٢٥٣ وج ٤ ص ١٣١ والشافي في الإمامة للشريف المرتضى ج ٢ ص ٢٦١ وراجع : العمدة لابن البطريق ص ١١٦ والبحار ج ٣٧ ص ٢٣٨ وج ٣٧ ص ٢٤٠ وتفسير مجمع البيان ج ٨ ص ١٢٥ ونهج الإيمان لابن جبر ص ١٢٤ والصراط المستقيم ج ١ ص ٣٠٨ والرسائل العشر للشيخ الطوسي ص ١٣٥ وراجع : كنز الفوائد ص ٢٢٩ وقد ذكر العلامة الأميني طائفة كبيرة من أقوال العرب وأهل اللغة ، فراجع كتاب الغدير ج ١ ص ٣٤٥ ـ ٣٤٨.

٢٩٠

استعمال كل منهما مكان الآخر ، فكان يجب أن يصح أن يقال : هذا مولى من فلان .. ويصح أن يقال : هذا أولى من فلان (١).

وقد أجاب علماؤنا على كلام الرازي بما يلي :

أولا : إن الترادف إنما يكون في حاصل المعنى ، دون الخصوصيات التي تنشأ من اختلاف الصيغ ، والإشتقاقات ، أو أنحاء الإستعمال .. فكلمة «أفضل» تضاف إلى صيغة التثنيه بدون كلمة «من» ، فيقال : زيد أفضل الرجلين ، لكن حين تضاف إلى المفرد ، فلا بد من كلمة من ، فلا يقال : زيد أفضل عمرو ، بل يقال : زيد أفضل من عمرو.

ثانيا : لنأخذ معنى الناصر في كلمة «مولى» .. فإنه يصح أن يقال : فلان ناصر دين الله ، ولكن لا يصح أن يقال : فلان مولى دين الله.

وقال عيسى : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) (٢). ولا يقال : من مواليّ إلى الله ..

ويقال : الله ولي المؤمنين ومولاهم .. ويقال : فلان ولي الله ، ولا يقال : مولى الله ، كما ذكره الراغب (٣).

ويقال : إنك عالم. ولا يقال : إنّ أنت عالم.

فالمولى اسم للمتولي ، والمالك للأمر ، والأولى بالتصرف. وليس صفة ولا هو من صيغ أفعل التفضيل بمنزلة الأولى ، لكي يقال : إنه لا يأخذ أحكام كلمة «أولى» التي هي صفة ..

__________________

(١) راجع : التفسير الكبير ج ٢٩ ص ٢٢٧ والغدير ج ١ ص ٣٥٠ و ٣٥١ عنه ، وعن نهاية العقول ، تفسير الآلوسي ج ٢٧ ص ١٧٨.

(٢) الآية ٥٢ من سورة آل عمران.

(٣) مفردات الراغب ص ٥٣٣.

٢٩١

ثالثا : لو كان المراد بالمولى المحب والناصر ، فقوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «من كنت مولاه فعلي مولاه». إن كان المراد به : الإخبار بوجوب حبه «عليه‌السلام» على المؤمنين ، أو إنشاء وجوب حبه عليهم ، فذلك يكون من باب تحصيل الحاصل ، لأن كل مؤمن يجب حبه على أخيه المؤمن ، فما معنى أن يجمع عشرات الألوف في ذلك المكان؟! ليقول لهم : يجب أن تحبوا أخاكم عليا؟!

ولماذا يكون ذلك موازيا لتبليغ الرسالة (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ)؟! (١). ولماذا يكمل به الدين ، وتتم به النعمة؟!.

ولماذا يهنئه عمر وأبو بكر بهذا الأمر ، ويقولان له : أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ، وكأنه لم يكن كذلك. قبل هذا الوقت باعتقادهما.

ألم يكن الله تعالى قد أوجب على المؤمنين أن يحب بعضهم بعضا؟!

ألم يكن الله قد اعتبر المؤمنين بمثابة الإخوة؟!

يضاف إلى ما تقدم : أن وجوب النصرة والمحبة لا يختص بعلي «عليه‌السلام» ، بل يشمل جميع المؤمنين.

وإن كان المقصود هو إيجاب نصرة مخصوصة تزيد على ما أوجبه الله على المؤمنين تجاه بعضهم ، فهو المطلوب ، لأن هذا هو معنى الإمامة ، ولا سيما مع الإستدلال على هذه النصرة الخاصة بمولوية النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهم ..

وإن كان المراد الإخبار بأنه يجب على علي «عليه‌السلام» أن يحبهم وأن

__________________

(١) الآية ٦٧ من سورة المائدة.

٢٩٢

ينصرهم .. فلا يحتاج هذا إلى جمع الناس يوم الغدير ، ولا إلى نزول الآيات ، وما إلى ذلك .. إذ كان يكفي أن يخبر عليا بأنه يجب عليه ذلك ..

وعلى كل حال ، فإن قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ألست أولى بكم من أنفسكم» يفيد أنها ولاية نصرة ومحبة ناشئة عن هذه الأولوية منهم بأنفسهم .. كما أن جعل وجوب نصرة علي «عليه‌السلام» كوجوب نصرة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهم يؤكد ذلك ..

فإن نصرة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهم إنما هي من حيث نبوته ، وملكه لأمورهم ، وزعامته عليهم .. وليست كوجوب نصرتهم أو محبتهم لبعضهم بعضا.

وأما القول بأن المراد بالمولى المالك والمعتق ، فيرد عليه : أنه لم يكن هناك مالكية حقيقية ، ولا عتق ، ولا انعتاق.

وإن كان المراد بكلمة مولى : السيد ، فهو يقترب من معنى الأولى ، لأن السيد هو المتقدم على غيره. وهذا التقدم ليس بالقهر والظلم ، لأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قرن سيادة علي «عليه‌السلام» بسيادة نفسه ، فلا بد أن يكون التقدم بالإستحقاق ، من خلال ما يملك من مزايا ترجحه عليهم ، وبديهي : أن أية مزية شخصية لا توجب تقدما ، ولا تجعل له حقا عليهم ، يجعله أولى بهم من أنفسهم ، إلا إذا كانت هذه المزية قد أوجبت أن يجعل من بيده منح الحق ومنعه لصاحب هذه المزية مقام الأولوية بهذا المستوى الذي هو من شؤون النبوة والإمامة. وليس لأحد الحق في منح هذا المقام إلا لله تبارك وتعالى ..

وكذلك الحال لو كان المراد بكلمة المولى ، المتصرف والمتولي للأمر ، فإن

٢٩٣

حق التصرف إنما يثبت له بجعل من له الحق في الجعل ، وهو الله سبحانه وفق ما ذكرنا آنفا ..

الجمع بين المعاني :

وقد ذكر العلامة الأميني وغيره : أن الذي يجمع تلك المعاني كلها هو الأولى بالشيء ، فإنه مأخوذ من جميع تلك المعاني بنوع من العناية ، ف «المعتق» أولى. لأن له حقا على «المعتق» ، وهو أولى به لتفضله عليه.

والمالك أولى بالمملوك ، والسيد أولى بمن هم تحت سيادته ، والابن أولى بالأب ، والأخ أولى بأخيه ، والتابع أولى بمتبوعه ، والصاحب أولى بصاحبه الخ ..

فالمعاني التي تذكر لكلمة مولى ليست معاني لها على سبيل الإشتراك اللفظي ، بل هي خصوصيات في موارد استعمال كلمة مولى ، وليس لها دخل في معناها وهو «الأولى». وقد اشتبه عندهم المفهوم بخصوصية المصداق.

وقوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ألست أولى بكم من أنفسكم» يدل على ما نقول ..

ويدل عليه أيضا : ما ورد في بعض نصوص الحديث ، من أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سأل الناس ، فقال : فمن وليكم؟!

قالوا : الله ورسوله مولانا.

وقوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في نص آخر : «تمام نبوتي ، وتمام دين الله في ولاية علي بعدي ..» فإن ما يتم به الدين هو الولاية بمعنى الإمامة.

وفي بعض النصوص أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال في تلك المناسبة : هنئوني ،

٢٩٤

هنئوني ، إن الله تعالى خصني بالنبوة ، وخص أهل بيتي بالإمامة ..

يضاف إلى ذلك قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : الله أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضا الرب برسالتي ، والولاية لعلي من بعدي.

ويؤيد ذلك أيضا ، بل يدل عليه : بيعتهم لعلي «عليه‌السلام» في تلك المناسبة ، وقد استمرت ثلاثة أيام.

وكذلك قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «إني راجعت ربي خشية طعن أهل النفاق ومكذبيهم ، فأوعدني لأبلغها أو ليعذبني» أو ما هو قريب من هذه المعاني ، فإن طعن أهل النفاق ، وخوف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من الإبلاغ إنما هو لأمر جليل كأمر الإمامة ، ولا ينسجم ذلك مع إرادة المحب أو الناصر من كلمة المولى.

يضاف إلى ذلك ، التعبير بكلمة : «نصب عليا» ، أو «أمر الله تعالى نبيه أن ينصبني» ، أو «نصبني» أو نحو ذلك.

وعبارة ابن عباس : وجبت والله في رقاب (أو في أعناق) القوم.

ونزول قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (١).

وثمة مؤيدات وقرائن أخرى ذكرها كلها العلامة الأميني في كتابه الغدير ، فراجع الجزء الأول منه ، فصل «القرائن المعيّنة لمعنى الحديث». وراجع الأحاديث الأخرى المفسرة لمعناه أيضا في كتاب الغدير ج ١ ص ٣٨٥ ـ ٣٩٠.

__________________

(١) الآية ٦٧ من سورة المائدة.

٢٩٥
٢٩٦

الفصل السادس :

في ظلال آيات الغدير

٢٩٧
٢٩٨

بداية :

قال تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١).

إننا من أجل توضيح المراد نحتاج إلى البحث في جهات عدة ، نجعلها ضمن العناوين التالية :

قد عرفنا : أن هناك آيتين قد نزلتا في مناسبة الغدير ، وهما قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٢).

والأخرى قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ

__________________

(١) الآية ٣ من سورة المائدة.

(٢) الآية ٦٧ سورة المائدة.

٢٩٩

الْإِسْلامَ دِيناً) (١).

وثمة أمور تحتاج إلى توضيح وبيان ، نذكر منها هنا ما يلي :

تأكيد التحريم لا تأسيس! :

بالنسبة لقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) نقول :

قد ذكرت الآية المباركة بعض ما حرمه الله تعالى من الأطعمة ، فيما يرتبط باللحوم. فذكرت حرمة أربعة منها ، هي : الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به. وهي أمور قد ورد تحريمها في آيات أخرى ، في سور أخرى نزلت قبل سورة المائدة ، وهي : سورة الأنعام الآية ١٤٥ ، وسورة النحل الآية ١١٤ و ١١٥ وهما مكيتان ، وسورة البقرة الآية ١٧٣ وهي مدينة قد نزلت في أوائل الهجرة.

فتكون آية سورة المائدة قد جاءت لتأكيد التحريم لا للتأسيس.

ثم أضاف تعالى بعض مصاديق الميتة إما واقعا ، أو ما اعتبره الشارع بحكم الميتة ، من حيث كونه من مصاديق الفسق المشار إليه بقوله : (ذلِكُمْ فِسْقٌ) (٢) ، الذي حرمته الآية ١٤٥ من سورة الأنعام المكية.

فذكر من مصاديق الميتة الواقعية : المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع ، فإن موتها قد استند لغير التذكية.

وذكر أيضا من مصاديق ما هو بحكم الميتة لكونه من الفسق : ما ذبح على النصب ، وهي الأحجار التي كانت تنصب حول الكعبة للذبح عليها ،

__________________

(١) الآية ٣ من سورة المائدة.

(٢) الآية ٣ من سورة المائدة.

٣٠٠