الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣١

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-203-x
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٦

المصادر قد زعمت خلاف ذلك (١).

وذلك ، لأن أي تأخير ، سوف يكون معناه أن يخرج أشتات من الناس إلى بلادهم ، ولا يتمكن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، من إيصال ما يريد إيصاله إليهم ..

وحين يخرج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» معهم فمن الطبيعي أن يتقيد الناس في مسيرهم بمسير رسول الله ، والكون في ركبه ، إما حياء ، أو طلبا لليسر والأمن ، والبركة ، والفوز بسماع توجيهاته.

هذا .. وقد قطع «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المسافة ما بين مكة والجحفة ، حيث غدير خم ، وهي عشرات الأميال ، في أربعة أيام فقط ، ثم يأتي التهديد الإلهي للمتجرئين بالعودة إلى نقطة الصفر ، وخوض حروب طاحنة معهم تشبه حرب بدر وحنين ، (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (٢). فجمعهم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في غدير خم ، ونصب عليا «عليه‌السلام» هناك إماما للأمة ، وبايعه حتى أشد الناس اعتراضا على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في عرفات وغيرها. ولم يجرؤا على التفوه ببنت شفة إلا همسا ..

لأنهم وجدوا أنفسهم أفرادا قليلين ، لا يتجاوز عددهم بضع عشرات من الناس بين عشرات الألوف ، فقد خلفوا حماتهم ، وهم أهل مكة وما

__________________

(١) السيرة الحلبية (ط سنة ١٣٩١ ه‍) ج ٣ ص ٣٠٧ و (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٣٣٤ والمجموع ج ٤ ص ٣٦٣ وج ٨ ص ٢٤٩ وتحفة الأحوذي ج ٣ ص ٩٠ ومصادر كثيرة من كتب أهل السنة.

(٢) الآية ٦٧ من سورة المائدة.

٢٠١

والاها ، وراء ظهورهم ، وأما اليمن ، فقد أسلمت طائفة من أهلها قبل أيام يسيرة على يد الإمام علي «عليه‌السلام» ، الذي لحق برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في مكة مع بعض من أسلم على يديه ..

سبب جرأتهم :

وربما كان السبب في هذه الجرأة الظاهرة ، والوقاحة السافرة التي تجلت في حجة الوداع ؛ هو شعور هذا الفريق من مهاجري قريش بالقوة وهم في بلدهم ، وبين أنصارهم ومحبيهم ـ أي في محيط مكة وما والاها ـ وقد لاحظنا أن هذا التعاطف معهم كان يظهر منهم بين الفينة والفينة حتى حين كانوا يحاربون الإسلام وأهله وهي حروب لم تخب نارها إلا في فتح مكة قبل مدة يسيرة ، حيث اضطرت قريش إلى الإنكفاء عن الصراع السافر إلى التدبير التآمري الماكر.

لقد أدركت قريش : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بصدد الإعداد لأمر عظيم ، لا تريد أن ترى نفسها راضية به. ألا وهو إبلاغ الأمة بأسرها بإمامة علي «عليه‌السلام» ، وخلافته لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

وأن هذا الإبلاغ يتم بصورة لا تترك لها أية فرصة للتخلص والتملص ، والمناورة ، وتصبح مقهورة على تجرع الغصة وتفوت منها الفرصة ..

ولعل قريشا حين تجرأت على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في عرفات ، أو في منى ، أو فيهما معا ظنت أنها قد أفلحت في درء خطر عظيم ، وتلافي خطب جسيم ، كان قد أوشك أن يلم بها ..

ولكن الله خيب فألها ، وأبار كيدها ، وأبطل مكرها .. ويمكرون ويمكر

٢٠٢

الله ، والله خير الماكرين ..

ظروف فرضت نفسها :

إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يعرف : أن معظم الناس قد أعلنوا الإسلام بعد فتح مكة ، أي في السنتين الأخيرتين من حياته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأن إسلام الأكثرين منهم كان سطحيا ، بل صوريا ، فرضته الظروف التي نشأت في المنطقة بعد فتح مكة ، حيث لم يكونوا يعرفون عن هذا الدين الشيء الكثير ، لأنهم كانوا يعيشون في بواديهم ، ووفق مناهجهم الجاهلية ، وعاداتهم القبلية ، ولم يكن زعماؤهم يسمحون للمبلغين المسلمين بأن يصلوا إليهم ، أو أن يحدثوهم بشيء عن هذا الدين وأحكامه ، ومفاهيمه ، وتفاصيله ، و .. و ..

وحتى الذين أسلموا منهم ، فإنهم قد عاشوا حياتهم بمفاهيم الجاهلية أيضا. ولم يفارقوا عاداتها ، ولم يتربّوا بعد على معاني الإيمان والإسلام. بل كان زعماؤهم هم الذين يتحكمون بهم ، ويسيّرون أمورهم ، ويهيمنون على حركتهم ..

ومن جهة أخرى : فقد كان هناك طامعون وطامحون قد أذكى طموحهم هذا التوسع السريع والهائل ، الذي كان من نصيب أهل الإسلام في فترة وجيزة جدا .. وهو توسع قد هيأ لهم المال الوفير والجاه العريض ، والنفوذ ، والقوة .. وما إلى ذلك من أمور لم يكونوا يحلمون بها ..

ومن جهة ثالثة : فقد كان في المدينة وحولها ، من لم يرق لهم الانصهار في المجتمع الإسلامي والذوبان فيه ، والانطلاق به في الحياة .. فكانوا

٢٠٣

يكيدون في الخفاء ، ويشاركون في كل ما يلحق بالإسلام ضررا مهما كان حجمه ونوعه .. وقد وجد هؤلاء في كثير من مسلمة الفتح سندا وعضدا في هذا الإتجاه أيضا ..

هذا .. عدا عن غيرهم من الفئات التي ما أسلمت ولكنها استسلمت ، فلما وجدت الفرصة لإظهار أمرها لم تتوان في ذلك ..

وكل هذا الذي ذكرناه من شأنه أن يصعّد من درجة الخطورة التي يواجهها الإسلام ، والمخلصون من أهله بعد وفاة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

وكان الهدف الأعظم والأهم هو حفظ تعاليم هذا الدين ، وصيانة عقائده ومفاهيمه ، وتمكينها من اختراق هذه السدود ، واجتياز هذه الجدود ، وتذليل كل العقبات التي تواجهها ، وتمنع من حصول الأجيال الآتية عليها.

وهذا بالذات هو ما فعله رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في حجة الوداع ، وفي العديد من المفاصل الحساسة بعدها ..

وهذا ما يفسر لنا جمعه لهذه الجموع العظيمة والهائلة ، التي جاء بها إلى أقدس مكان ، في أقدس زمان ، مع أقدس إنسان خلقه الله تعالى ، لأداء شعيرة عبادية هي من أعظم الشعائر.

وجاء معه أولئك الذين يدبرون في الخفاء ما يدبرون. وكان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يعلم أن مكة وما والاها ؛ من حزبهم ، وإلى جانبهم ، بالإضافة إلى أن طائفة من أهل المدينة وما حولها كانت تتعاطف معهم ، وتميل إليهم .. فكان ما كان مما تقدم بيانه.

٢٠٤

دراسة الحدث في حدود الزمان والمكان :

ونحن في نطاق فهمنا لموقف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في حجة الوداع في منى وعرفات ، ومنع قريش له من نصب علي «عليه‌السلام» إماما للأمة ، نسجل النقاط التالية :

١ ـ يوم عبادة :

إن يوم عرفة هو يوم عبادة ودعاء وابتهال ، وتوبة وانقطاع إلى الله ، سبحانه ، ويكون فيه كل واحد من الناس منشغلا بنفسه ، وبمناجاة ربه ، لا يتوقع في موقفه ذاك أي نشاط سياسي عام ، ولا يخطر ذلك له على بال.

وهو يوم لا نظير له في تاريخ حياتهم ، لأنهم يحجون مع أكرم وأعظم نبي في فرصة وحيدة ونادرة في تاريخ البشرية.

وهو أفضل الأيام ، وأكثرها انسجاما مع أجواء التقوى والإنضباط مع القرارات الإلهية ، والخضوع لمشيئته ، وتنفيذ أوامره تعالى ، وقد لفت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نظرهم إلى هذا الأمر حين قررهم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في خطبته ، فأقروا بفضل هذا اليوم عند الله (١).

فإذا رأى الإنسان المؤمن أن النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يبادر إلى عمل من هذا القبيل ، فلا بد وأن يشعر : أن هناك أمرا بالغ الخطورة ، وفائق الأهمية ، فينشدّ لسماع ذلك الأمر ، والتعرف عليه ، ويلاحق جزئياته بدقة ووعي ، وبانتباه فائق. فإذا رأى تمرد أصحابه عليه ، وعاين إساءة الأدب

__________________

(١) راجع : خطبة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في حجة الوداع.

٢٠٥

معه ، من قبل المدّعين للإخلاص في الإيمان ، والمظهرين للإستعداد للجهاد والتضحية ، فإن ذلك سيشكل مفاجأة له إلى حد الصدمة.

وسيتمكن كل من حضر الحج من مشاهدة ومعرفة ما يجري ، فإن الجميع يكونون في هذا اليوم مجتمعين في صعيد واحد.

أما في منى ، أو في سواها ، فالحجاج يكونون منصرفين إلى أعمال ، وموزعين في جهات مختلفة : هذا يرجم الجمرات ، وذلك يحلق أو يقصر ، وآخر يريد أن يذبح أضحيته ، وقد يكون هناك من لا يزال في الطريق ، كما أن هناك من فرغ من ذلك كله ، وذهب إلى خيمته للإستراحة ، أو ذهب إلى الحرم ليطوف ، أو ما إلى ذلك.

٢ ـ الإحرام :

ثم إن جميع الحجاج في موقف عرفة على حالة الإحرام ، الذي بدأوه بتلبية داعي الله تعالى ، وأعلنوا براءتهم من الشرك ورفضهم له ، وأقروا بأن كل شيء مملوك له تبارك وتعالى ، وصادر منه وعنه ، وهو وحده له الحمد ، والنعمة ، والملك ..

وفي الإحرام يمارسون الإمتناع عن الملذات ، وعن كثير مما يحل لهم ، وهم يخوضون تجربة السيطرة على دوافعهم الغريزية ، ومن ذلك امتناعهم عن النساء وما إلى ذلك ، وهم يمتنعون حتى عن إيذاء النملة والقملة ، فهل يمكن أن يؤذوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟! أو هل يقدمون على مخالفة أوامره ونواهيه؟!

كما أنهم يشعرون بمساواة غنيهم لفقيرهم ، وعالمهم بجاهلهم ، وكبيرهم

٢٠٦

بصغيرهم ، وملكهم وسوقتهم ، وحرهم ومملوكهم أمام المحكمة الإلهية العادلة إلى غير ذلك مما لا يخفى.

٣ ـ لماذا في موسم الحج؟! :

وإذا كان موسم الحج هو المناسبة التي يجتمع فيها الناس من مختلف البلاد ، على اختلاف طبقاتهم ، وأجناسهم ، وأهوائهم ، فإن أي حدث متميز يرونه ويشاهدونه فيه لسوف تنتشر أخباره بواسطتهم على أوسع نطاق ، فكيف إذا كان هذا الحدث يحمل في طياته الكثير من المفاجآت ، والعديد من عناصر الإثارة ، وفيه من الأهمية ما يرتقي به إلى مستوى الأحداث المصيرية للدعوة الإسلامية بأسرها.

٤ ـ وجود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا :

كما أن نفس وجود الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في موسم الحج ، لا بد أن يضفي على هذه المناسبة المزيد من البهجة ، والارتياح ، ولسوف يعطي لها معنى روحيا أكثر عمقا ، وأكثر شفافية. وسيشعر الحاضرون بحساسية زائدة تجاه أي قول وفعل يصدر من جهته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وسيكون الدافع لديهم قويا لينقلوا للناس مشاهداتهم ، وذكرياتهم في سفرهم الفريد ذاك.

فكيف إذا رافق ذلك إعلام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهم أن لقاءهم به سيكون يتيما ، إذ إنه يوشك أن يفارقهم فراقا أبديا ، لا لقاء بعده ، فإن مشاعرهم سوف تتوهج ، وقلوبهم ستمتلئ شغفا بكل حركة ، أو لفتة ، أو كلمة ينطق بها ، وسيعودون إلى بلادهم بأغلى الذكريات واعزها ، وأجملها ، وأفضلها.

٢٠٧

كما أن الناس الذين يعيشون في مناطق بعيدة عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويشتاقون إليه ، لسوف يلذ لهم سماع تلك الأخبار ، وسيجهدون في تتبعها بشغف ، وبدقة وبانتباه زائد ؛ ليعرفوا كل ما صدر من نبيهم ، من : قول ، وفعل ، وتوجيه ، وسلوك ، وأمر ، ونهي وتحذير ، وترغيب وما إلى ذلك.

ثم إن الحدث الذي سمعه هؤلاء الناس من نبيهم وسينقلونه إلى من وراءهم ، هو حدث مثير وخطير في حد ذاته ، ويمثل صدمة كبيرة وخطيرة لمشاعرهم ، وخيبة لكل أمل كان يراود خواطرهم.

وحدث كهذا لا بد ان ينتشر في البلاد وبين العباد ، وسينتقل في الأجيال اللاحقة جيلا بعد جيل ، وستتداوله الفرق ، وتهتم له المذاهب ، وسيثور الجدل حوله بين أربابها ، لأنه الحدث الذي تقوم به الحجة على كل عاقل لبيب ، وأريحي أريب ، وألمعي أديب ، فلله الحجة البالغة على البشر كلهم ، والناس هم الذين يختارون مع أي فريق يكونون ، وأي طريق يسلكون.

٥ ـ ظهور المعجزة :

وقد لوحظ هنا أيضا : أن الله تعالى قد أظهر لهم المعجزة في منى ، حيث كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يخطبهم ، ويصل صوته إلى كل من كان في منى كما تقدم.

ولكنه حين خطبهم في عرفات لم يظهر لهم هذه المعجزة ، فقد ذكرت النصوص : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يخطبهم وكان علي «عليه‌السلام» يقف في مكان آخر ، ويوصل كلامه إلى من هم في الجهة الأخرى ، وقد

٢٠٨

تحدثنا عن ذلك في ما سبق (١).

ويمكن أن نستفيد من هذا : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان في المواضع المشابهة من حيث كثرة الحاضرين ، يمارس هذه الطريقة لإبلاغ كلامه للآخرين ، ولعل هذا هو ما جرى في غدير خم أيضا.

٦ ـ الذكريات الغالية :

وقد قلنا آنفا : إن كل من رافق النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في هذا السفر العبادي ، لسوف يحتفظ في ذاكرته بأدق الذكريات ، لأنها ستكون ذكريات عزيزة وغالية على قلبه ، تبقى حية غضة في روحه وفي وجدانه ، على مدى الأيام والشهور ، والأعوام والدهور ، ما دام أن هذه هي آخر مرة يرى فيها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أعظم وأكرم ، وأغلى رجل وجد ويوجد على وجه الأرض.

__________________

(١) راجع : مسند أحمد ج ٣ ص ٤٧٧ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢١٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٨ ص ٤ و ٥ وأسد الغابة ج ٢ ص ١٥٥ وج ٥ ص ١١ وتهذيب الكمال ج ٩ ص ٣٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٣٩٦ وأدب الإملاء والإستملاء ص ١٠١ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٢ ص ٣٤٣ و (ط دار الفكر) ج ٣ ص ٢٤٧ وج ٥ ص ١٤٠ والسنن الكبرى للنسائي ج ٢ ص ٤٤٣ والمعجم الكبير ج ٥ ص ١٩ وإمتاع الأسماع ج ٦ ص ٣٨٩ والمغني لابن قدامة ج ١ ص ٦٢٤ وتحفة الأحوذي ج ٥ ص ٣١٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٧ ص ٣١٢ و ٣١٤ زج ٨ ص ٢١٢ وج ٩ ص ١٣٨ وتلخيص الحبير لابن حجر ج ٤ ص ٦٢١ وسنن أبي داود ج ١ ص ٤٣٧ وج ٢ ص ٢٦٣ ونيل الأوطار ج ٢ ص ٩٠ وكشف اللثام (ط. ج) ج ٦ ص ٧٨ و (ط. ق) ج ١ ص ٣٥٦ والمجموع للنووي ج ٨ ص ٩٠.

٢٠٩

والذي نريد أن نضيفه هنا هو : أن العلاقة بالحدث حين تتخذ بعدا عاطفيا ، يلامس مشاعر الإنسان ، وأحاسسيه ، فإنها تصبح أكثر رسوخا وحيوية ، وأبعد أثرا في مجال الإلتزام والموقف ، ولا شك في أن هذا كان من أهم الأهداف التي كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يرمي إلى تحقيقها من خلال اختياره لخصوصية الزمان والمكان .. وغير ذلك من حالات وأوضاع.

٧ ـ الناس أمام مسؤولياتهم :

وقد عرفنا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد اختار الزمان ـ يوم عرفة ـ لأنه يوم العبادة والإنقطاع إلى الله سبحانه.

واختار المكان ، وهو نفس جبل عرفات ، لأن الكل يجتمعون في صعيد واحد ، وعلى حالة واحدة ، بالإضافة إلى خصوصيات أخرى ذكرناها فيما سبق.

ثم اختار أسلوب الخطاب الجماهيري ، لا خطاب الأفراد والأشخاص كما هو الحال في المناسبات العادية ـ لقد اختار «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذلك كله ـ لأنه أراد أن يضع الأمة أمام مسؤولياتها ، ليفهمها : أن تنفيذ هذا الأمر يقع على عاتقها ؛ فليس للأفراد أن يعتذروا بأن هذا أمر لا يعنيهم ، ولا يقع في دائرة واجباتهم ، كما أنهم لا يمكنهم دعوى الجهل بأبعاده وملابساته ، أي أن الجميع أصبحوا مطالبين بإنجاز هذا الواجب ، ومسؤولين عنه ، وليس خاصا بفئة من الناس ، لا يتعداها إلى غيرها ، كفئة المهاجرين أو الأنصار ، أو بني هاشم ، أو أهل المدينة ، أو ما إلى ذلك ..

وبذلك تكون الحجة قد قامت على الجميع ، ولم يبق عذر لمعتذر ، ولا

٢١٠

حيلة لمتطلب حيلة.

٨ ـ إحتكار القرار :

وهذه الطريقة في العمل قد أخرجت القضية عن احتكار جماعة بعينها ، قد يروق لها أن تدّعي : أنها وحدها صاحبة الحل والعقد في هذه المسألة ، لتصبح قضية الأمة بأسرها ، من مسؤولياتها التي لا بد وأن تطالب ، وتطالب بها ، فليس لقريش بعد هذا ، ولا لغيرها : أن تحتكر القرار في أمر الإمامة والخلافة ، كما قد حصل ذلك بالفعل.

ولنا أن نعتبر هذا الأمر من أهم إنجازات هذا الموقف ، وهو ضربة موفقة في مجال التخطيط لمستقبل الرسالة ، وتركيز الفهم الصحيح لمفهوم الإمامة لدى جميع الأجيال ، وعلى مر العصور.

حيث كان لا بد لهذه القضية من أن تخرج من يد أناس يريدون أن يمارسوا الإقطاعية السياسية والدينية ، على أسس ومفاهيم جاهلية ، دونما أثارة من علم ، ولا دليل من هدى ، وإنما من منطلق الأهواء الشيطانية ، والأطماع الرخيصة ، والأحقاد المقيتة والبغيضة.

٩ ـ تساقط الأقنعة :

ولعل الإنجاز الأهم هنا ، هو : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد استطاع أن يكشف زيف المزيفين ، وخداع الماكرين ، ويعريهم أمام الناس ، حتى عرفهم كل أحد ، وبأسلوب يستطيع الناس جميعا أن يدركوه ويفهموه على اختلاف مستوياتهم ، وحالاتهم ، ودرجاتهم في الفكر ، وفي الوعي ، وفي السن ، وفي الموقع ، وفي غير ذلك من أمور ..

٢١١

فقد رأى الجميع : أن هؤلاء الذين يدّعون : أنهم يوقرون رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويتبركون بفضل وضوئه ، وببصاقه ، وحتى بنخامته ، وأنهم يعملون بالتوجيهات الإلهية التي تقول :

(لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) (١).

(لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) (٢).

(ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٣).

(أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (٤).

وغير ذلك من آيات تنظم تعاملهم ، وتضع الحدود ، وترسم معالم السلوك معه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، مما يكون الفسق والخروج عن الدين ، في تجاهله ، وفي تعديه.

هذا إلى جانب اعترافهم بما له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من فضل عليهم ، وأياد لديهم ، فإنه هو الذي أخرجهم ـ بفضل الله ـ من الظلمات إلى النور ، ومن الضلال إلى الهدى ، وأبدلهم الذل بالعز ، والشقاء بالسعادة ، والنار بالجنان.

يضاف إلى ذلك كله : ادّعاء هؤلاء أنهم قد جاؤوا مع هذا الرسول الأكرم والأعظم ، في هذا الزمان الشريف ، إلى هذا المكان المقدس ـ عرفات ـ لعبادة

__________________

(١) الآية ١ من سورة الحجرات.

(٢) الآية ٢ من سورة الحجرات.

(٣) الآية ٧ من سورة الحشر.

(٤) الآية ٥٩ من سورة النساء.

٢١٢

الله سبحانه ، وطلب رضاه ، معلنين بالتوبة ، وبالندم على ما فرطوا به في جنب الله ، منيبين إليه سبحانه ، ليس لهم في حطام الدنيا مطلب ، ولا في زخارفها مأرب.

وهم يظهرون أنفسهم بمظهر من يسعى لإنجاز عمل صالح يوجب غفران ذنوبهم ، ورفعة درجاتهم.

نعم ، رغم ذلك كله : فإنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» استطاع أن يري الجميع بأم أعينهم : كيف أن حركة بسيطة منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أظهرتهم على حقيقتهم ، وكشفت خفيّ مكرهم ، وخادع زيفهم ، وقد رأى كل أحد كيف أنهم : قد تحولوا إلى وحوش كاسرة ، ضد نبيهم بالذات ، وظهر كيف أنهم لا يوقرون رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويرفعون أصواتهم فوق صوته ، ويجهرون له بالقول أكثر من جهر بعضهم لبعضهم ، ويعصون أوامره .. و .. و .. كل ذلك رغبة في الدنيا ، وزهدا في الآخرة ، وطلبا لحظ الشيطان ، وعزوفا عن الكرامة الإلهية ، وعن طلب رضى الرحمن.

١٠ ـ وعلى هذه فقس ما سواها :

ولا بد لكل من عاين هذه الأحداث أن يطرح على نفسه السؤال التالي : إذا كان هؤلاء لا يتورعون عن معاملة نبيهم بهذا الأسلوب الوقح والقبيح ، فهل تراهم يوقرون من هو دونه ، في ظروف وحالات هي أقل بكثير من حالاتهم معه «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!.

وماذا عسى أن يكون موقفهم ممن طفحت قلوبهم بالحقد عليه ، ولهم قبله ترات وثارات أسلافهم الذين قتلهم على الشرك ، وهو أمير المؤمنين

٢١٣

الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه ..

وسيجدون أن الإجابة لن تكون في صالح هؤلاء المتجرئين على نبيهم «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وهكذا .. فإنه يكون «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أفقدهم ، وأفقد مؤيديهم كل حجة ، وحرمهم من كل عذر ، سوى البغي والإصرار على الباطل ، والجحود للحق ؛ فقد ظهر ما كان خفيا ، وأسفر الصبح لذي عينين ، ولم يعد يمكن الإحالة ، على المجهول ، بدعوى : أنه يمكن أن يكون قد ظهر لهم ما خفي علينا.

أو أنهم ـ وهم الأتقياء الأبرار ـ لا يمكن أن يخالفوا أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولا أن يبطلوا تدبيره ، ويخونوا عهده ، وهو لمّا يدفن.

أو أن من غير المعقول : أن تصدر الخيانة من أكثر الصحابة؟! أو أن يسكتوا عنها بأجمعهم.

وما إلى ذلك من أساليب تضليلية ، يمارسها البعض لخداع السذج والبسطاء ، ومن لا علم لهم بواقع أولئك الناس ، ولا بمواقفهم.

فإن كل هذه الدعاوى قد سقطت ، وجميع تلكم الأعذار قد ظهر زيفها وبطلانها ، فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر.

١١ ـ القرار الإلهي الثابت :

والذي ساهم في قطع كل عذر ، وبوار كل حجة : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، قد تابع طريقته الحكيمة في فضح أمر هؤلاء المتجرئين ، بما ستأتي الإشارة إليه ، في أمور فاجأهم بها ، مثل قضية تجهيز جيش أسامة ،

٢١٤

وعزل أبي بكر عن الصلاة ، وطلب كتابة الكتاب ، فيما عرف برزية يوم الخميس.

وكل ذلك قد كان منه في الأيام الأخيرة من حياته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بحيث لم يبق مجال لدعوى الإنابة والتوبة ، أو الندم على ما صدر منهم ، ولا لدعوى تبدل الأوضاع والأحوال ، والظروف والمقتضيات ، ولا لدعوى تبدل القرار الإلهي النبوي الثابت.

١٢ ـ التهديد والتآمر :

هذا .. وقد تقدم : أن هؤلاء أنفسهم حينما رأوا جدية التهديد الإلهي ، قد سكتوا في غدير خم حين أعلن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إمامة علي «عليه‌السلام» ؛ فلم نجد منهم أية بادرة ، إلا فيما ندر من همسات عابرة ، لا تكاد تسمع.

وقد بادر هؤلاء أنفسهم إلى البيعة له «عليه‌السلام» .. وإن كانوا قد أسروا وبيتوا ما لا يرضاه الله ورسوله ، من القول والفعل ، والنية والتخطيط. الذي ظهرت نتائجه بعد وفاة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهو «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما يدفن ، بل وقبل ذلك ، حينما تصدى بعضهم لمنع النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من كتابة الكتاب بالوصية لعلي «عليه‌السلام» ، حينما كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على فراش المرض ، في ما عرف برزية يوم الخميس! وقال قائلهم : إن النبي ليهجر!

أو : غلبه الوجع!

أو فقالوا : هجر رسول الله!

٢١٥

أو : ما شأنه أهجر؟

قال سفيان : يعنى هذى ، استفهموه! (١).

__________________

(١) راجع : مسند أحمد ج ١ ص ٢٢٢ و ٣٢٤ و ٣٢٥ و ٣٥٥ والإيضاح ص ٣٥٩ وتذكرة الخواص ص ٦٢ وسر العالمين ص ٢١ وصحيح البخاري ج ٣ ص ٦٠ وج ٤ ص ٥ و ١٧٣ وج ١ ص ٢١ ـ ٢٢ وج ٢ ص ١١٥ و (ط دار الفكر) ج ٤ ص ٣١ و ٦٦ وج ٥ ص ١٣٧ والمناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ٢٠٢ والسنن الكبرى للنسائي ج ٣ ص ٤٣٤ والمصنف للصنعاني ج ٦ ص ٥٧ وج ١٠ ص ٣٦١ وراجع ج ٥ ص ٤٣٨ والإرشاد للمفيد ص ١٠٧ والبحار ج ٢٢ ص ٤٧٢ و ٤٩٨ وج ٣٠ ص ٥٣٠ و ٥٣٨ وراجع : الغيبة للنعماني ص ٨١ ـ ٨٢ وعمدة القاري ج ١٤ ص ٢٩٨ وج ١٥ ص ٩٠ وج ١٨ ص ٦١ و ٦٢ وفتح الباري ج ٨ ص ١٠١ و ١٠٢ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٢٧ و (ط دار إحياء التراث العربي) ج ٥ ص ٢٤٧ والبدء والتاريخ ج ٥ ص ٥٩ والملل والنحل ج ١ ص ٢٢ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ٢٤٤ وتاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ١٩٢ ـ ١٩٣ و (ط مؤسسة الأعلمي) ج ٢ ص ٤٣٦ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٢٠ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٥٦٢ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٥٥ وج ٦ ص ٥١ وج ١٣ ص ٣١ ونصب الراية ج ٤ ص ٣٤٣ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٦٤ وصحيح مسلم ج ٥ ص ٧٥ و ٧٦ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٤٤ ونهج الحق ص ٢٧٣ وسبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٢٤٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٥٠ والشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض ج ٢ ص ١٩٢ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٤٤٧ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ قسم ٢ ص ٦٢. وراجع : حق اليقين ج ١ ص ١٨١ ـ ١٨٢ ودلائل الصدق ج ٣ قسم ١ ص ٦٣ ـ ٧٠ والصراط المستقيم ج ٣ ص ٣ و ٦ والمراجعات ص ٣٢٢ و ٣٥٣ و ٣٥٤ والنص والاجتهاد ص ١٤٩ ـ ١٦٣ ومسند الحميدي ج ١ ص ٢٤٢.

٢١٦

وسيأتي إن شاء الله أنهم أخذوا هذا الأمر من صاحبه الشرعي بقوة السلاح ، بعد أن ارتكبوا جرائم وعظائم ، وانتهكوا لله حرمات .. فإنا لله وإنا إليه راجعون ..

الخير في ما وقع :

وأخيرا .. فإن ما جرى في عرفة ، ومنى ، وإظهار هؤلاء الناس على حقيقتهم ، وما تبع ذلك من فوائد وعوائد أشير إليها ، قد كان ضروريا ولازما ، للحفاظ على مستقبل الدعوة ، وبقائها ، فقد عرفت الأمة الوفي والتقي ، من المتآمر والغادر ، والمؤمن الخالص ، من غير الخالص ، وفي ذلك النفع الكثير والخير العميم. (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (١). وصدق الله ورسوله ، وخاب من افترى .. (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) (٢).

__________________

(١) الآية ١٩ من سورة النساء.

(٢) الآية ١٠ من سورة الفتح.

٢١٧
٢١٨

الفصل الرابع :

حديث الغدير وأسانيده

٢١٩
٢٢٠