الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-202-1
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥١

١
٢

٣
٤

الفصل الثامن :

جيش الإسلام في تبوك

٥
٦

نزول المسلمين في تبوك :

عن حذيفة ، ومعاذ بن جبل ، قال : إنه خرج مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» عام تبوك.

قال : فكان يجمع بين الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء ، قال : فأخر الصلاة يوما ، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا ، ثم دخل فصلى المغرب والعشاء جميعا ، ثم قال : «إنكم ستأتون غدا إن شاء الله تعالى عين تبوك ، وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار ، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي».

وفي حديث حذيفة : «بلغ رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن في الماء قلة ، فأمر مناديا ينادي في الناس : أن لا يسبقني إلى الماء أحد».

قال : فجئناها وقد سبق إليها رجلان ، والعين مثل الشراك تبض بشيء من مائها ، فسألهما رسول الله «صلى الله عليه وآله» : «هل مسستما من مائها شيئا».

قالا : نعم.

فسبهما ، وقال لهما ما شاء الله أن يقول.

ثم غرفوا من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شن ، ثم غسل رسول

٧

الله «صلى الله عليه وآله» فيه وجهه ويديه ، ومضمض ، ثم أعاده فيها ، فجرت العين بماء كثير.

ولفظ ابن إسحاق : فانخرق الماء حتى كان يقول من سمعه : إن له حسا كحس الصواعق ، وذلك الماء فوارة تبوك. انتهى.

فاستسقى الناس ، ثم قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : «يا معاذ ، يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا مليء جنانا» (١).

وعن عروة : أن النبي «صلى الله عليه وآله» حين نزل تبوك وكان في زمان قلّ ماؤها فيه ، فاغترف غرفة بيده من ماء فمضمض بها فاه ، ثم بصقه فيها ، ففارت عينها حتى امتلأت. فهي كذلك حتى الساعة (٢).

وعن جابر قال : انتهى رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى تبوك ، وعينها تبض بماء يسير مثل الشراك ، فشكونا العطش ، فأمرهم فجعلوا فيها

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٥٠ و ٤٥١ عن مالك ، وابن إسحاق ، ومسلم ، وأحمد. والبداية والنهاية ج ٥ ص ١٧ وج ٦ ص ١١٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٢٣ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١١٠ و ١٢٠. وراجع : البحار ج ٢١ ص ٢٥٠ وعمدة القاري ج ١٨ ص ٤٥ والمصنف للصنعاني ج ٢ ص ٥٤٦ وصحيح ابن خزيمة ج ٢ ص ٨٢ وج ٤ ص ٤٦٩ وج ١٤ ص ٤٧٥ والمعجم الكبير ج ٢٠ ص ٥٧ وكنز العمال ج ١٢ ص ٣٧٨ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٦٣٦ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٥٨.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٥١ و ٤٥٢ و ٤٥٣ عن أبي نعيم ، وعن البيهقي في الدلائل ، وعن ابن عائذ. وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٥٨ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١١٠ وإمتاع الأسماع ج ٥ ص ١١٣.

٨

ما دفعها إليهم ، فجاشت بالماء ، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» لمعاذ : «يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد ملئ جنانا» (١).

ونقول :

النبي صلّى الله عليه وآله لا يسب أحدا :

قد تقدم بعض هذا الحديث فيما سبق حين الكلام عن سبب تسمية عين تبوك ، وذلك أول هذا الجزء من الكتاب ، وقد قلنا : إنه لا يصح قولهم :

إن النبي «صلى الله عليه وآله» قد سب أحدا من الناس ، وهو الذي نهى الناس عن السباب ...

الجمع بين الصلاتين وتأخير الصلاة :

وقد تضمن النص المتقدم : أن النبي «صلّى الله عليه وآله» قد جمع بين صلاتي الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء ، وهذا لا إشكال فيه ، إذ

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٥١ عن مالك وعن الخطيب في كتاب الرواة ، وقال في هامشه : أخرجه مسلم ج ٤ ص ١٧٨٤ ـ ١٧٨٥ حديث (١٠ / ٧٠٦) وأحمد ج ٥ ص ٢٣٨ وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد (٥٤٩) ، والبيهقي في الدلائل ج ٥ ص ٢٣٦ وابن خزيمة (٩٦٨) ومالك في الموطأ ١٤٤ وانظر كنز العمال (٣٥٣٩٨). وراجع : صحيح ابن خزيمة ج ٢ ص ٨٢ وصحيح ابن حبان ج ٤ ص ٤٧٠ والمعجم الأوسط ج ٧ ص ٧٦ والمعجم الكبير ج ٢٠ ص ٥٧ وو التمهيد ج ١٢ ص ١٩٤ والإستذكار لابن عبد البر ج ٢ ص ٢٠٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٣٨ وج ٦١ ص ٢٧٥ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٦٣٧ ومصادر كثيرة أخرى.

٩

الجمع بين الصلاتين جائز في فقه أهل البيت «عليهم السلام» مطلقا ، أي سواء أكان ذلك في السفر أو في الحضر ، مع عذر من مطر أو غيره وبدونه ..

ولكن غير الشيعة يلزمون أنفسهم بالتفريق في الحضر ، ويجيزون الجمع في السفر ، وفي حال وجود عذر من مطر أو غيره ..

وقد بدأ الشيعة بالتفريق وبالجمع بين صلاتي الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء ، من عهد الرسول «صلّى الله عليه وآله» ، وذلك اقتداء منهم بهذا النبي الكريم والعظيم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطاهرين ، حيث صرحت الروايات الكثيرة المروية عند السنة والشيعة ، بأسانيد صحيحة : أن النبي «صلّى الله عليه وآله» قد جمع بين الصلوات من دون عذر من سفر ، ولا مطر ، ولا غير ذلك (١).

علما بأن الشيعة لا يرون الجمع واجبا ، كما لا يرون التفريق حتما لازما ..

يضاف إلى ذلك : أن القرآن نفسه لم يحدد سوى ثلاثة أوقات للصلاة اليومية ، حيث قال : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً)(٢).

وقد دلت روايات أهل البيت «عليهم السلام» أيضا : على صحة الجمع

__________________

(١) سنن الترمذي ج ٥ ص ٣٩٢ وراجع : مسند أحمد ج ١ ص ٢٢٣ و ٣٥٤ ، وصحيح مسلم ج ٢ ص ١٥٢ وسنن أبي داود ج ١ ص ٢٧٢ وسنن النسائي ج ١ ص ٢٩٠ والسنن الكبرى ج ٣ ص ١٦٧ وج ١ ص ٤٩١ وتحفة الأحوذي ج ١ ص ٤٧٨ والموطأ (ط دار إحياء التراث العربي) ج ١ ص ١٤٤.

(٢) الآية ٧٨ من سورة الإسراء.

١٠

والتفريق ، فقد روي : أنه إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين ، إلا أن هذه قبل هذه (١).

وهذا معناه : أن وقت فضيلة الظهرين يكون قد بدأ بمجرد الزوال ، مع حتمية تقديم صلاة الظهر ، ثم يستمر وقت فضيلتهما معا إلى حين صيرورة ظل كل شيء مثله كما دلت عليه روايات أخرى ، فينتهي حينئذ وقت فضيلة الظهر ، ويستمر وقت فضيلة العصر إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه .. فينتهي هذا الفضل.

فمن صلّى الظهر بعد صيرورة ظل الشيء مثله ، إلى آخر الوقت ، فإنه يكون قد صلاها في غير وقت فضيلتها.

ومن يصلي العصر بعد صيرورة ظل كل شيء مثليه إلى الغروب ، فإنه يكون قد صلاها في غير وقت فضيلتها.

ثم إن علينا أن لا ننسى أن الجمع بين الصلاتين حتى في السفر ، أو المطر ، أو غير ذلك دليل على أن أوقات الصلاة اليومية ثلاثة ، لأنها لو كانت خمسة لكان الجمع بين الصلاتين يقتضي أن تكون إحدى الصلاتين قد وقعت في خارج وقتها ، أو الإلتزام بسقوط شرطية الوقت في الصلوات الأربع من الأساس ، لأن الجمع بين الصلاتين قد يكون بتقديم العصر إلى

__________________

(١) الوسائل (ط دار الإسلامية) ج ٣ ص ٩٥ والكافي ج ٣ ص ٢٧٦ وراجع : من لا يحضره الفقيه ج ١ ص ٢١٥ والإستبصار للطوسي ج ١ ص ٢٤٦ وتهذيب الأحكام للطوسي ج ٢ ص ٢٦ وفقه الرضا لابن بابويه ص ٧٤ والهداية للصدوق ص ١٢٧ وتذكرة الفقهاء (ط. ج) للحلي ج ٢ ص ٣٠٨ ومنتهى المطلب (ط. ج) للحلي ج ٤ ص ٩٤ وجواهر الكلام ج ٧ ص ٧٨ والبحار ج ٨٠ ص ٣٢ و ٤٦.

١١

وقت الظهر ، وقد يكون بتأخير الظهر إلى وقت العصر ، كما أنه قد يكون بتقديم العشاء إلى وقت المغرب ، وقد يكون بتأخير المغرب إلى وقت العشاء ..

وأما ما ذكرته الرواية المتقدمة عن تأخير النبي «صلّى الله عليه وآله» لصلاته ، فلا بد أن يكون المقصود به هو التأخير مع البقاء في داخل وقت الفضيلة ، وبدون ذلك ، فإن الحديث يكون مكذوبا لأن النبي «صلّى الله عليه وآله» لا يختار من الأعمال إلا ما هو أفضل وأتم ..

خطبة النبي صلّى الله عليه وآله في تبوك :

وقالوا : خطب رسول الله «صلّى الله عليه وآله» عام تبوك وهو مسند ظهره إلى نخلة فقال : «ألا أخبركم بخير الناس وشر الناس إن من خير الناس رجلا يحمل في سبيل الله على ظهر فرسه ، أو على ظهر بعيره ، أو على قدميه حتى يأتيه الموت. وإن من شر الناس رجلا فاجرا جريئا ، يقرأ كتاب الله ، لا يرعوي إلى شيء منه (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٩ ص ٢٧٣ وج ٥ ص ٤٥٢ عن أحمد وقال في هامشه :

أخرجه أحمد في المسند ج ٣ ص ٣٧ و ٥٨ و ٤١٤ والحاكم ج ٢ ص ٦٧ وسنن النسائي ج ٦ ص ١٢ ، والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ١٦٠ والجهاد لابن المبارك ص ١٥٨ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٤ ص ٥٩٢ ومنتخب مسند عبد بن حميد ص ٣٠٥ والسنن الكبرى للنسائي ج ٣ ص ٩ والجامع الصغير للسيوطي ج ١ ص ٤٣٩ وكنز العمال ج ١٥ ص ٧٧١ والبداية والنهاية ج ٥ ص ١٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٢٣ وراجع : الجامع لأحكام القرآن ج ١ ص ٤٣٧.

١٢

وعن عقبة بن عامر : أن رسول الله «صلّى الله عليه وآله» لما أصبح بتبوك حمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال :

«أيها الناس ، أما بعد ، فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وأوثق العرى كلمة التقوى ، وخير الملل ملة إبراهيم ، وخير السنن سنة محمد ، وأشرف الحديث ذكر الله ، وأحسن القصص القرآن.

هذا وخير الأمور عوازمها ، وشر الأمور محدثاتها ، وأحسن الهدى هدى الأنبياء ، وأشرف الموت قتل الشهداء ، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى ، وخير الأعمال ما نفع وشر العمى عمى القلب ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى ، وشر المعذرة حين يحضر الموت ، وشر الندامة يوم القيامة.

ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبرا ، ومنهم من لا يذكر الله إلا هجرا.

ومن أعظم الخطايا اللسان الكذاب ، وخير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى ، ورأس الحكمة مخافة الله عز وجل ، وخير ما وقر في القلوب اليقين ، والإرتياب من الكفر ، والنياحة من أعمال الجاهلية ، والغلول من جثى جهنم ، والسكركة (١) من النار ، والشعر من إبليس ، والخمر جماع الإثم ، والنساء حبالة الشيطان ، والشباب شعبة من الجنون ، وشر المكاسب كسب الربا ، وشر المأكل مال اليتيم ، والسعيد من وعظ بغيره ، والشقي من شقي في بطن أمه ، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع ، والأمر إلى الآخرة ،

__________________

(١) السكركة : خمر الحبشة ، وهو من الذرة ، وتسمى الغبيراء أيضا.

١٣

وملاك العمل خواتمه ، وشر الرؤيا رؤيا الكذب ، وكل ما هو آت قريب ، وسباب المؤمن فسوق ، وقتال المؤمن كفر ، وأكل لحمه من معصية الله عز وجل ، وحرمة ماله كحرمة دمه ، ومن يتألّ على الله يكذبه ، ومن يغفر يغفر له ، ومن يعف يعف الله عنه ، ومن يكظم الغيظ يأجره الله ، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله ، ومن يبتغ السمعة يسمع الله به ، ومن يصبر يضعف الله له ، ومن يعص الله يعذبه الله.

اللهم اغفر لي ولأمتي ـ قالها ثلاثا ـ استغفر الله لي ولكم (١).

الإرتياب من الكفر :

ومن الواضح : أن الإرتياب الذي هو من الكفر هو ذلك الذي يكون في الله عز وجل .. أو في نبوة نبيه «صلّى الله عليه وآله» ، أو في البعث ، أو في القرآن ، وغير ذلك ، وكذلك الحال إذا كان الريب في صفات الله ، كأن يرتاب في علمه تعالى ، أو في عدله .. أو في قدرته وما إلى ذلك ..

النياحة من أعمال الجاهلية :

والنياحة التي هي من أعمال الجاهلية هي النّياحة بالباطل ، أو تلك التي تصاحبها بعض الأمور المحرمة ..

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٥٢ عن البيهقي ، وقال في هامشه البيهقي ج ٥ ص ٢٤١ قال الحافظ ابن كثير في البداية ج ٥ ص ١٣ و ١٤ هذا حديث غريب ، وفيه نكارة ، وفي إسناده ضعيف. وراجع : كنز العمال ج ١٥ ص ٩٣٠.

١٤

الشعر من إبليس :

والشعر الذي هو من إبليس هو الذي تحدث الله تعالى عنه بقوله : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(١).

وهو الشعر الذي يراد به إشاعة الباطل ، أو العدوان على الناس ، أو ما إلى ذلك.

الشقي من شقي في بطن أمه :

وعن قوله : «الشقي من شقي في بطن أمه» نقول :

قد يتخيل البعض أن هذه الفقرة تؤيد مقولة الجبر الإلهي للعباد على أفعالهم ..

وهو تخيل باطل ، فإن الآيات الكثيرة وكذلك الروايات المتوافرة قد دلت على أن الإنسان هو الذي يختار طريق السعادة ، أو طريق الشقاء ..

وعلم الله تعالى بما يختاره لا يؤثر في ذلك الإختيار شيئا ، ولا يجعله مقهورا أو مجبورا على فعله ، بل يكون مثل علمنا بأن فلانا سوف يأكل أو سوف يشرب ، وأن الشمس ستطلع في صباح اليوم التالي ، وأن الأرض سوف تنبت نباتها وزرعها .. وما إلى ذلك ..

كما أن وجود الدوافع القوية نحو الشر في داخل الإنسان لا تجعله مجبرا

__________________

(١) الآيات ٢٢٤ ـ ٢٢٧ من سورة الشعراء.

١٥

على اختيار طريق الشر ، مهما كانت تلك الدوافع والنوازع قوية ، وعاصفة ، وحتى لو كانت قد ولدت معه ..

فقد ورد أن محمد بن أبي عمير ، قال : سألت أبا الحسن موسى بن جعفر «عليهما السلام» عن معنى قول رسول الله «صلّى الله عليه وآله» : «الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه».

فقال : الشقي من علم الله وهو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال الأشقياء ، والسعيد من علم الله وهو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال السعداء.

قلت له : فما معنى قوله «صلّى الله عليه وآله» : «اعملوا فكل ميسر لما خلق له»؟

فقال : إن الله عز وجل خلق الجن والإنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه ، وذلك قوله عز وجل : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(١). فيسر كلا لما خلق له ، فالويل لمن استحب العمى على الهدى (٢).

ولهذا البحث محل آخر ، وقد تقدم بعض منه أكثر من مرة في هذا الكتاب فراجع ..

عباد بن بشر على الحرس في تبوك :

وقد استعمل رسول الله «صلّى الله عليه وآله» على حرسه بتبوك من

__________________

(١) الآية ٥٦ من سورة الذاريات.

(٢) التوحيد للصدوق ص ٣٥٦ والبحار ج ٥ ص ١٥٧ ونور البراهين للجزائري ج ٢ ص ٢٨٥ ومستدرك سفينة البحار ج ١٠ ص ٥٩٠ وميزان الحكمة ج ٢ ص ١٤٧٩ وراجع : نور الثقلين ج ٢ ص ٣٩٦.

١٦

يوم قدم إليها ، إلى أن رحل منها عباد بن بشر ، فكان عباد يطوف في أصحابه على العسكر ، فغدا على رسول الله «صلّى الله عليه وآله» يوما ، فقال : يا رسول الله ، ما زلنا نسمع صوت تكبير من ورائنا حتى أصبحنا ، فولّيت أحدنا يطوف على الحرس؟!

قال رسول الله «صلّى الله عليه وآله» : «ما فعلت ، ولكن عسى أن يكون بعض المسلمين انتدب».

فقال سلكان بن سلامة : يا رسول الله ، خرجت في عشرة من المسلمين على خيلنا ، فكنا نحرس الحرس.

فقال رسول الله «صلّى الله عليه وآله» : «رحم الله حرس الحرس في سبيل الله ، ولكم قيراط من الأجر على كل من حرستم من الناس جميعا أو دابة» (١).

ونقول :

إن هذا النص ملتبس بدرجة كبيرة ، وذلك من عدة جهات.

الأولى : في أن سلكان بن سلامة وتسعة معه كانوا يحرسون الحرس ، وهذه سابقة غير معهودة ، فإن الناس إنما ينتدبون لحراسة الجيش الذي يخلد إلى الراحة ، خوفا من أن يفاجئه عدو متربص ، ويوقع به .. أما حراسة الحرس ، فلم نسمع بها في التدابير المألوفة في مسير الجيوش ، وفي حلها وارتحالها ..

الثانية : ما معنى أن يسمع الحرس ذلك التكبير بالقرب منهم ، ولا

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٥٣ عن الواقدي ، وراجع : إمتاع الأسماع ج ٢ ص ٦٨.

١٧

يتحرون مصدره ، ولا يسعون لكشف حقيقته ، فلعلها مكيدة لهم ولعله عدو متربص بهم ، ولعل .. ولعل ..

الثالثة : هل الذي يتصدى للحرس يعلن بالتكبير حتى يسمعه الآخرون؟!. فلو فرض أن جماعة تفكر في الإيقاع أو الإغارة على بعض أطراف الجيش ، ألا يكون صوت الحرس في جوف الليل ، من موجبات تحديد موقعهم ، وذلك بالتالي يعطي القدرة للعدو على تجنب المرور على مواضع تمركز ذلك الحرس ، ويبحث عن ثغرات أخرى يستطيع التسلل والنفوذ منها؟!.

الرابعة : هل كان الحرس متمركزين في موقع بعينه ، حتى استطاع عشرة أشخاص فقط أن يقوموا بمهة حفظهم وحراستهم في ذلك الموقع علما بأن ذلك الجيش الذي يتولون حراسته كان يعد بثلاثين ، أو أربعين أو سبعين ألفا ، وتحتاج حراسة موقع نزول هذا العدد ، بما معه من دواب ومراكب إلى أعداد كبيرة ، قد تصل إلى المئات ، لأن المساحة التي يحتاجونها ستكون كبيرة ..

الخامسة : إذا كان النبي «صلى الله عليه وآله» قد دعا لهم لأنهم قد حرسوا الحرس ، فما معنى أن يتحدث عن الأجر على حراسة الدواب أيضا .. فإن المفروض : أنهم لم يحرسوها.

وما معنى قوله : «جميعا أو دابة».

السادسة : لماذا انتظر عباد بن بشر إلى الصباح ليعلم النبي «صلى الله عليه وآله» بأمر ذلك التكبير الذي سمعه؟!. ألم يكن الأحرى به ، والأصوب له أن يخبره «صلى الله عليه وآله» بالأمر فور سماعه لذلك التكبير؟!

١٨

السابعة : ما معنى أن تقتصر حراسة عباد على الطواف بأصحابه على العسكر؟! ألم يكن ذلك من شأنه أن يهييء الفرصة للعدو ليورد ضربته حين يصبح الحرس المتجولون بعيدين عن النقطة التي يريد الهجوم منها ..

مسجد تبوك :

قالوا : لما انتهى رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى تبوك وضع حجرا قبلة مسجد تبوك ، وأومأ بيده إلى الحجر وما يليه ، ثم صلى بالناس الظهر ، ثم أقبل عليهم فقال : «ما هاهنا شام ، وما هاهنا يمن» (١).

ونلاحظ هنا ما يلي :

١ ـ تحديد الجهات :

إن تحديد الجهات للناس الذين يدخلون بلادا لم يعرفوها ضروري جدا ، ليعرفوا قبل كل شيء موقعهم ، والجهة التي يتربص بهم عدوهم فيها ، أو يأتيهم الخطر من جهتها ، كما أنه يحدد لهم الجهة التي يشعرون بالأمن والسكينة فيها ، وتحن قلوبهم إليها أو يرجون الخير فيها ..

٢ ـ مسجد تبوك وقبلته :

ثم إن أول شيء صنعه «صلى الله عليه وآله» في تبوك هو تحديد المسجد والصلاة فيه ، وتعيين قبلته بواسطة وضع حجر فيها ، ليعرف الناس موضع صلاتهم ، ويكون المسجد هو نقطة الإرتكاز في تحركهم في تلك المنطقة ثم

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ص ٤٥١ عن الواقدي.

١٩

أشار إلى الحجر ، وإلى الجهة كلها لتصبح جهة القبلة معلومة للجميع.

وإنما أشار إلى ما يلي الحجر ، حتى لا يدخل في وهم أحد أن للحجر نفسه خصوصية كما هو الحال بالنسبة لعبادة الأصنام .. بل الخصوصية للجهة ، من حيث إنها جهة القبلة ، فيتوجه الناس إليها ، لا إلى الحجر بما هو حجر ..

٣ ـ ما هاهنا يمن :

وقوله «صلى الله عليه وآله» : «ما هاهنا شام ، وما هاهنا يمن». يؤيد ما ذكرناه في موضع سابق من هذا الكتاب ، من أن اليمن يطلق حتى على أهل مكة ، بل وعلى أهل المدينة أيضا.

بل إن هذه العبارة المذكورة هنا تفيد أن كل ما بعد تبوك إلى جهة اليمن ، هو يمن .. وأن كل ما قبل تبوك إلى جهة الشام فهو شام .. فتبوك هي الحد الفاصل بين هاتين المنطقتين ..

واللافت هنا : أنه قد عبر عن ذلك بالاسم الموصول ، وهو كلمة «ما» بالنسبة لليمن والشام على حد سواء ، فدل ذلك على أنه يريد إطلاق كلمة يمن وشام على كل أرض بعد تبوك لتكون يمنا ، وكل أرض قبلها ، فهي شام ..

النبي صلّى الله عليه وآله في تبوك يصلي على ميت في المدينة :

عن معاوية بن أبي سفيان ، وعن أنس قالوا : كنا مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» بتبوك ، قال أنس : فطلعت الشمس بضياء وشعاع ونور لم أرها طلعت بمثلهم فيما مضى ، فأتى جبريل رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : «يا جبريل ما لي أرى الشمس اليوم طلعت بضياء وشعاع ونور لم أرها طلعت بمثلهم فيما مضى»؟!

٢٠