الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-202-1
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥١

وثانيهما : مسكن عائشة ، الذي لم يكن في تلك الجهة ، وليس ثمة ما يحتم أن تكون الروايات مسوقة لبيان أمر واحد ، إذ لعل هناك حالتين لا بد من أن يخبر النبي «صلى الله عليه وآله» عنهما جميعا ..

الإيمان يمان :

وعن قوله «صلى الله عليه وآله» : «الإيمان يمان» ، نقول :

قد تحدثنا عن هذا الموضوع قبل بضعة صفحات تحت عنوان : «٣ ـ ما هاهنا يمن». وفي فصل : «خمسة وفود بلا تاريخ». تحت عنوان : «وفد الأشعريين». فراجع ..

غير أننا نحب أن نشير إلى أنه إذا كان المقصود باليمن واليمان هو ما يشمل الحجاز كله ، واليمن أيضا ، فلا ضير في ذلك ما دام أصل الإيمان المتمثل بالنبي «صلى الله عليه وآله» وأهل بيته «عليهم السلام» ، قد ظهر في هذه المنطقة ، وتبعهم أولئك الذين تربوا على أيديهم ، ونهلوا من معين علمهم ..

فإن أريد معارضة هذا الحديث بحديث : لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من فارس (١). فيجاب عن ذلك : بأننا لا نمنع من أن ينال رجال من

__________________

(١) المعجم الكبير ج ١٨ ص ٣٥٣ والإستيعاب (ط دار الجيل) ج ٢ ص ٦٣٦ وكنز العمال ج ١٢ ص ٩١ وتفسير السمعاني ج ٥ ص ١٨٧ والتفسير الكبير للرازي ج ٢٨ ص ٧٦ وتفسير أبي السعود ج ١ ص ٥٦ وذكر أخبار إصبهان ج ١ ص ٥ و ٨ و ٩ وفضل آل البيت للمقريزي ص ٩٢ وسبل الهدى والرشاد ج ١٠ ص ١١٦ والبحار ج ٢٢ ص ٥٢ وج ٦٤ ص ٦١ ومجمع البيان ٩ ص ١٠٨ والإختصاص

٤١

فارس الدين والعلم ، ولكن أصله الأصيل ، وحقيقته الظاهرة المتمثلة بصفوة الخلق كله ، إنما كان في منطقة الحجاز اليمانية ..

ما ذنب الفدادين؟! :

قد ذكرت الرواية المتقدمة : أن الجفاء ، وغلظ القلوب ، في الفدادين أهل الوبر ، من نحو المشرق الخ ..

والفداد : هو الشديد الصوت.

والفدادون : هم الرعيان ، والبقارون ، والجمالون ، والفلاحون وسواهم.

وهم أهل الوبر ، لغلظ أصواتهم ، وجفائهم. ولعله لأجل رفع أصواتهم في حروثهم ومواشيهم ، وهم أصحاب الإبل الكثير الذين يملك أحدهم المائتين من الإبل إلى الألف ، وهم مع ذلك جفاة وأهل خيلاء (١).

ونقول :

١ ـ إنه لا دليل على أن رفع الصوت للراعي ، والبقار ، والجمال ، والفلاح ، يوجب الجفاء وغلظ القلب ، إلا إذا كان الدليل هو هذه الرواية وأمثالها ، ثم أخذ المصنفون في اللغة تفاسيرهم من هذه الأحاديث.

ومجتمع أهل الإيمان لا يشير إلى وجود أي فرق في أخلاق الناس الذين يشتغلون بهذه الأمور مع غيرهم من سائر الناس ..

٢ ـ لو كان الرعي أو الفلاحة ، أو اقتناء الإبل ، من موجبات الجفاء

__________________

ص ١٤٣ والتاج الجامع للأصول ٣ ص ٤٢٣ وج ٤ ص ٢٣٥ وفقه القرآن للراوندي ج ١ ص ٣٧١.

(١) لسان العرب (ط سنة ١٤١٦ ه‍) ج ١٠ ص ٢٠١.

٤٢

والخيلاء ، فإن ذلك يفرض انحسار الإهتمام بهذه الأمور في مجتمع أهل الإيمان ، ولكن هذه الأمور قد بقيت كما كانت عليه قبل الإسلام ، واستمرت على نفس الوتيرة عبر العصور والدهور ..

٣ ـ إننا لم نجد فرقا بين الفدادين من أهل المشرق والفدادين في المناطق الأخرى ، ولم نجد الشيطان يطلع قرنيه في مشرق جزيرة العرب ، أكثر مما كان ولا يزال يطلعه في سائر المناطق ، مثل بلاد الشام ونجد ، فضلا عن سائر البلاد التي لا تدين بالإسلام ، فإن الشيطان يطلع قرنيه في كل موقع لا يهيمن فيه دين الله تبارك وتعالى ..

فلما ذا اختص الفدادون المشرقيون بهذا التوصيف الحاد؟!.

٤ ـ إن من الأنبياء من كان يرعى الأغنام ، وبعضهم كان يحرث الأرض ويزرعها ، فهل هذا الوصف يشملهم؟!

هبوب ريح لموت عظيم النفاق :

قالوا : وهاجت ريح شديدة بتبوك ، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : هذا لموت منافق عظيم النفاق.

فقدموا المدينة ، فوجدوا منافقا عظيم النفاق قد مات (١) ..

ونقول :

قد تقدم حين الحديث عما جرى في الحجر ، ومنع النبي «صلى الله عليه

__________________

(١) مسند أحمد ج ٣ ص ٣٤١ و ٣٤٧ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٦٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٥٥ عن الواقدي ، وراجع : البحار ج ١٨ ص ١٣١ وج ٢١ ص ٢٥١.

٤٣

وآله» الناس من الإستفادة من مائها ، وإكفائه القدور الخ .. : أنه «صلى الله عليه وآله» أخبر الناس هناك بأنه ستهب في تلك الليلة ريح شديدة ، وأن سبب ذلك هو موت عظيم من المنافقين .. وقد حصل ذلك فعلا.

وقد تكرر ذكر هذه القضية هنا ، غير أن الروايات لم تذكر اسم هذا العظيم النفاق في الموضعين ، مع أنهم يهتمون بتسمية من هو أقل شأنا وخطرا بمراتب ، ولو من دون مناسبة.

فهل كان هذا الرجل العظيم النفاق من أقارب بعض من يرغبون في تفخيمه وتعظيمه ، ولا يريدون التلميح ، فكيف بالتصريح بأدنى شيء يشير إليه أو إلى أحد من أقاربه ، إذا كان مما يشين؟!.

وهل كانت الريح تهب كلما مات منافق عظيم النفاق؟! وهل هبت الريح عند موت عبد الله بن أبي ، الذي يحبون أن يصفوه بأنه رئيس المنافقين في المدينة؟!.

وأما الرواية التي تصرح باسم رفاعة بن تابوب ، أو رافع بن تابوت فيرد عليها : أن هذا العظيم لم يعرف له ذكر أو دور ذو بال في تاريخ الإسلام ، ولا أشار إلى أسباب عظمته في شيء ، بخلاف عبد الله بن أبي ، الذي زعموا أنه كان ينظم له الخرز ليتوج قبيل قدوم النبي «صلى الله عليه وآله» إلى المدينة ..

بئر سعد بن هذيم :

قالوا : قدم على رسول الله «صلى الله عليه وآله» نفر من سعد هذيم ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا قدمنا إليك ، وتركنا أهلنا على بئر لنا قليل ماؤها ، وهذا القيظ ، ونحن نخاف إن تفرقنا أن نقتطع ، لأن الإسلام لم يفش حولنا

٤٤

بعد ، فادع الله تعالى لنا في مائها ، فإنا إن روينا به فلا قوم أعز منا ، لا يعبر بنا أحد مخالف لديننا.

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : «ابغوا لي حصيات».

فتناول بعضهم ثلاث حصيات ، فدفعهن إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، ففركهن بيده ، ثم قال : «اذهبوا بهذه الحصيات إلى بئركم ، فاطرحوها واحدة واحدة ، وسمّوا الله تعالى».

فانصرف القوم من عند رسول الله «صلى الله عليه وآله» ففعلوا ذلك ، فجاشت بئرهم بالرواء ، ونفوا من قاربهم من أهل الشرك ووطئوهم ، فما انصرف رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى المدينة حتى أوطئوا من حولهم غلبة ، ودانوا عليه بالإسلام.

ونحن لا نريد أن نرهق القارئ بالأسئلة عن مدى صحة أن يكون هؤلاء قد وطأوا جميعا من حولهم غلبة ، ودانوا عليه بالإسلام في غضون أيام يسيرة ـ فإن ذلك مما لا يغفل عنه القارئ الكريم إن شاء الله تعالى.

أعطيت خمسا :

عن عبد الله بن عمر قال : كنا مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» بتبوك ، فقام من الليل يصلي ، وهو كثير التهجد بالليل ، ولا يقوم إلا استاك ، فقام ليلة فلما فرغ أقبل على من كان عنده فقال : «أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد قبلي : بعثت إلى الناس كافة ، وكان النبي يبعث إلى قومه. وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت ، وكان من قبلي لم يعطوا ذلك ، وكانوا لا يصلون إلا في الكنائس

٤٥

والبيع ، وأحلت لي الغنائم آكلها ، وكان من قبلي يحرمونها ، والخامسة هي ما هي ، هي ما هي ، هي ما هي» ثلاثا.

قالوا : يا رسول الله ، وما هي؟

قال : «قيل لي سل ، فكل نبي قد سأل ، فهي لكم ، ولمن شهد أن لا إله إلا الله».

ونقول :

إن لنا مع هذه الرواية عدة وقفات نذكر منها :

متى بعث النبي للعالمين صلّى الله عليه وآله :

جاء في الرواية المتقدمة : أن الله تعالى بعث محمدا «صلى الله عليه وآله» إلى الناس كافة في غزوة تبوك.

ونقول :

أولا : إن الله تعالى يقول في سورة التكوير : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ)(١).

وسورة التكوير نزلت في مكة قبل الهجرة .. وقال تعالى في سورة الفرقان : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً)(٢).

والجمهور على أن سورة الفرقان مكية. وقال الضحاك : مدنية (٣).

__________________

(١) الآية ٢٧ من سورة التكوير.

(٢) الآية ١ من سورة الفرقان.

(٣) الإتقان في علوم القرآن (ط سنة ١٤٢٢ ه‍) ٢٦ و (ط دار الفكر) ج ١ ص ٤٣ والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ج ٤ ص ١٩٩ والجامع لأحكام القرآن ج ١٣ ص ١ وتفسير السمعاني ج ٤ ص ٥ وتفسير الآلوسي ج ١٨ ص ٢٣٠.

٤٦

ثانيا : قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)(١). وهي مكية أيضا.

رابعا : إن رسائله إلى ملوك الأرض في سنة ست دليل على أنه مبعوث إلى الناس جميعا.

آية التيمم متى نزلت؟ :

وقد صرحوا : بأن آية التيمم قد نزلت في غزوة المريسيع ، وغزوة المريسيع قد سبقت غزوة تبوك بعدة سنوات ، وقد قدمنا طائفة من المصادر الدالة على ذلك في فصل : «ما عشت أراك الدهر عجبا» ، في فقرة : «ضياع العقد مرة أخرى».

فكيف تقول الرواية الآنفة الذكر : إن الله تعالى أعطاه التيمم في غزوة تبوك؟!

الصلاة في الكنائس والبيع ، وحرمة الغنائم :

ولا ندري مدى صحة ما أطلقته الرواية : من أن الأنبياء قبل النبي «صلى الله عليه وآله» كانوا لا يصلون إلا في الكنائس والبيع .. فإن ذلك لم نجده إلا في هذه الرواية التي تعاورت عليها العلل والأسقام ، وهل كان الانبياء ، وغيرهم من المؤمنين لا يصلون في أسفارهم وفي حضرهم إذا لم يكن ثمة بيعة أو كنيسة قريبة منهم؟! وكذلك الحال بالنسبة لتحريم الغنائم من قبل من سبقه من الأنبياء ..

أو أنهم كانوا كلما أرادوا الصلاة في أسفارهم بنوا بيعة أو كنيسة لأجل ذلك.

__________________

(١) الآية ١٠٧ من سورة الأنبياء.

٤٧

هي! ما هي؟! :

إننا لم نفهم ما ذا عناه بقوله ثلاثا : هي! ما هي؟! ..

هل القصد أن يطرحها عليهم كأحجية ، يطلب منهم حلها؟! .. أم أنه هو نفسه قد نسي الخامسة ، ثم هو يحاول أن يتذكرها؟!.

نقض أول الكلام بآخره :

واللافت هنا : أن الرواية تذكر : أنه «صلى الله عليه وآله» قد نقض أول كلامه بآخره ، فإنه قد قرر أولا : أن الله تعالى قد أعطاه أولا خمسا لم يعطها أحدا قبله .. ثم عاد أخيرا فنقض ذلك وقال : إن كل نبي قد سأل ، وأنه هو أيضا له الحق في أن يسأل كما سأل من سبقه ، فلم تكن الخامسة مما اختصه الله تعالى به .. وبذلك تكون الخمسة قد نقصت واحدة ، لم تكن مختصة به «صلى الله عليه وآله» ، دون من سبقه ..

لو تركته لسال الوادي سمنا :

عن حمزة بن عمرو الأسلمي قال : خرج رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى غزوة تبوك ، وكنت على خدمته ، فنظرت إلى نحي السمن قد قل ما فيه ، وهيأت للنبي «صلى الله عليه وآله» طعاما فوضعت النحي في الشمس ، ونمت فانتبهت بخرير النحي ، فقمت فأخذت رأسه بيدي.

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» ورآني : «لو تركته لسال الوادي سمنا» (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٦٠ عن أبي نعيم ، والطبراني ، ودلائل النبوة لأبي نعيم (١٥٥٠) وراجع : السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ١١٧.

٤٨

الفصل التاسع :

رسائل .. وأجوبتها

٤٩
٥٠

رسائل بين النبي صلّى الله عليه وآله وقيصر :

قالوا : لما وصل رسول الله «صلى الله عليه وآله» تبوك كان هرقل بحمص ـ وقيل : بدمشق ـ ولم يكن يهمّ بالذي بلغ رسول الله «صلى الله عليه وآله» عنه من جمعه ، ولا حدثته نفسه بذلك ..

وعن أبي بكر بن عبد الله المزني قال : قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : «من يذهب بهذا الكتاب إلى قيصر وله الجنة»؟

فقال رجل : وإن لم يقبل؟.

قال : وإن لم يقبل.

فانطلق الرجل فأتاه بالكتاب (١).

ونص كتاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» لقيصر هو التالي :

من محمد رسول الله إلى صاحب الروم : إني أدعوك إلى الإسلام ، فإن أسلمت فلك ما للمسلمين ، وعليك ما عليهم ، فإن لم تدخل في الإسلام

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٥٧ عن الحارث بن أسامة ، والمعجم الكبير للطبراني ج ١٢ ص ٤٤٢ ومجمع الزوائد ج ٥ ص ٣٠٦ وبغية الباحث عن زوائد مسند الحارث ص ٢٠٢ وصحيح ابن حبان ج ١٠ ص ٣٥٧ وموارد الظمآن ج ٥ ص ٢١٨.

٥١

فأعط الجزية ، فإن الله تبارك وتعالى يقول : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ)(١).

وإلا فلا تحل بين الفلاحين وبين الإسلام أن يدخلوا فيه ، وأن يعطوا الجزية (٢).

فقرأه فقال : اذهب إلى نبيكم ، فأخبره أني متّبعه ، ولكن لا أريد أن أدع ملكي.

وبعث معه بدنانير إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فرجع ، فأخبره ،

__________________

(١) الآية ٢٩ من سورة التوبة.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٥٧ عن الحارث بن أبي أسامة والمعجم الكبير للطبراني ج ١٢ ص ٤٤٢ ومجمع الزوائد ج ٥ ص ٣٠٦ وراجع : مكاتيب الرسول ج ٢ ص ٤١٠ و ٤١١ وأشار إلى المصادر التالية : الأموال لأبي عبيد ص ٢٢ وفي (ط أخرى) ص ٣٢ رواه بإسناده عن عبد الله بن شداد ، ورسالات نبوية ص ٣١٣ / ١١٧ ومدينة البلاغة ج ٢ ص ٢٤٧ عن جمهرة رسائل العرب ، ومجموعة الوثائق السياسية ص ١١٠ / ٢٧ عن الأموال ، وسنن سعيد بن منصور ج ٢ ص ١٨٧ وصبح الأعشى ج ٦ ص ٣٦٣ و ٣٧٧ والمطالب العالية ج ٤ ص ٢٢٣١ / ٢٤٧٩ عن الحارث بن أبي أسامة ، وقال : انظر مجلة المعارف شهر يونيو ١٩٣٥ م ص ٤١٦ ـ ٤٣٠) وراجع نشأة الدولة الإسلامية ص ٢٩٩ و ٣٠٠ (عن أبي عبيد والقلقشندي ومحمد حميد الله) وراجع أيضا : ص ٧١٣. وأوعز إليه الحلبي في السيرة ج ٢ ص ٣٧٧ والبداية والنهاية ج ٥ ص ١٥ وابن عساكر ج ١ ص ١١٣ و ١١٤ ودحلان (هامش الحلبية) ج ٢ ص ٣٧٤. ومجمع الزوائد ج ٥ ص ٣٠٧ وقال : «رواه الطبراني ورجاله صحيح».

٥٢

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : «كذب» ، وقسم الدنانير (١).

وعن سعيد بن أبي راشد قال : لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» بحمص ، وكان جارا لي شيخا كبيرا قد بلغ المائة أو قرب ، فقلت : ألا تحدثني عن رسالة رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى هرقل؟

فقال : بلى ، قدم رسول الله «صلى الله عليه وآله» تبوك ، فبعث دحية الكلبي إلى هرقل ، فلما أن جاء كتاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» دعا قسيسي الروم وبطارقتها ، ثم أغلق عليه وعليهم الدار.

فقال : قد نزل هذا الرجل حيث رأيتم ، وقد أرسل يدعوني إلى ثلاث خصال : أن أتبعه على دينه ، أو أن أعطيه مالنا على أرضنا ، والأرض أرضنا ، أو نلقي إليه الحرب. والله لقد عرفتم فيما تقرأون من الكتب ليأخذن

__________________

(١) صحيح ابن حبان ج ١٠ ص ٣٥٨ وموارد الظمآن ج ٥ ص ٢١٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٥٧ وبغية الباحث عن مسند الحارث ص ٢٠٢ وراجع : مكاتيب الرسول ج ٢ ص ٤١٠ و ٤١١ وأشار في هامشه إلى المصادر التالية : تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٦٢ وفي (ط أخرى) ص ٦٧ وأشار إليه الحلبي ج ٣ ص ٢٧٧ والسيرة النبوية لدحلان ج ٣ ص ٦٧ والدلائل للأصبهاني ص ٢٩٢ والبحار ج ٢٠ ص ٣٧٩ و ٣٩٥ ومجموعة الوثائق السياسية ص ١١١ / ٢٨ عن اليعقوبي ، وعن منشآت السلاطين لفريدون بك ج ١ ص ٣٠ وقال : قابل السهيلي ج ٢ ص ٣٢٠ ومسند أحمد ج ٣ ص ٤٤٢ وج ٤ ص ٧٤ ودلائل النبوة للبيهقي ج ١ ص ١٦٦. والطبقات الكبرى ج ١ ق ٢ ص ١٦ وفي فتح الباري ج ١ ص ٤٢ «ذكر السهيلي أنه بلغه أن هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب تعظيما له وأنهم لم يزالوا يتوارثونه ..» وراجع الأموال ص ٣٦٢.

٥٣

أرضنا ، فهلم فلنتبعه على دينه ، أو نعطه مالنا على أرضنا.

فنخروا نخرة رجل واحد حتى خرجوا من برانسهم وقالوا : تدعونا أن نذر النصرانية ، أو نكون عبيدا لأعرابي جاء من الحجاز؟

فلما ظن أنهم إذا خرجوا من عنده أفسدوا عليه الروم رقاهم ولم يكد ، وقال : إنما قلت ذلك لأعلم صلابتكم على أمركم (١).

ثم دعا رجلا من عرب تجيب كان على نصارى العرب ، قال : ادع لي رجلا حافظا للحديث ، عربي اللسان ، أبعثه إلى هذا الرجل بجواب كتابه.

فجاءني ، فدفع إلي هرقل كتابا ، فقال : اذهب بكتابي هذا إلى هذا الرجل ، فما سمعته من حديثه ، فاحفظ لي منه ثلاث خصال : هل يذكر صحيفته التي كتب إلي بشيء؟

وانظر إذا قرأ كتابي هذا هل يذكر الليل؟

وانظر في ظهره هل فيه شيء يريبك؟

قال : فانطلقت بكتابه حتى جئت تبوكا ، فإذا هو جالس بين ظهراني أصحابه محتبيا على الماء ، فقلت : أين صاحبكم؟

__________________

(١) حياة الصحابة ج ١ ص ١٠٦ و ١٠٧ عن عبد الله بن أحمد ، وأبي يعلى ، وراجع : تاريخ الأمم والملوك للطبري ج ٢ ص ٦٥١ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٦٧ و ٢٦٨ وج ٥ ص ١٥ و (ط دار إحياء التراث العربي) ج ٥ ص ٢٠ وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج ١ ص ١١٤ وفتح الباري ج ١ ص ٤١ ومجموعة الوثائق السياسية ص ١١٢ / ٢٨ ـ ألف ب. وموارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان ص ٣٩٢ ومجمع الزوائد ج ٨ ص ٢٣٥. وراجع : مسند أحمد ج ٣ ص ٤٤٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٢٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٥٨.

٥٤

قيل : ها هو ذا.

قال : فأقبلت أمشي حتى جلست بين يديه ، فناولته كتابي ، فوضعه في حجره ، ثم قال : «ممن أنت»؟

فقلت : أنا أخو (أحد) تنوخ.

فقال : «هل لك في الإسلام ، الحنيفية ، ملة أبيك إبراهيم»؟

فقلت : إني رسول قوم ، وعلى دين قوم ، [لا أرجع عنه] حتى أرجع إليهم.

فضحك ، وقال : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(١).

يا أخا تنوخ ، إني كتبت بكتاب إلى كسرى فمزقه ، والله ممزقه وممزق ملكه ، وكتبت إلى النجاشي بصحيفة فمزقها ، والله ممزقه وممزق ملكه.

وكتبت إلى صاحبك بصحيفة فأمسكها ، فلن يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام في العيش خير.

قلت : هذه إحدى الثلاث ، التي أوصاني بها صاحبي ، فأخذت سهما من جعبتي ، فكتبتها في جفن سيفي.

ثم ناول الصحيفة رجلا عن يساره ، قلت : من صاحب كتابكم الذي يقرأ لكم؟

قالوا : معاوية.

فإذا في كتاب صاحبي : تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض

__________________

(١) الآية ٥٦ من سورة القصص.

٥٥

أعدت للمتقين ، فأين النار؟

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : «سبحان الله أين النهار إذا جاء الليل».

قال : فأخذت سهما من جعبتي فكتبته في جفن سيفي ، فلما فرغ من قراءة كتابي قال : «إن لك حقا ، وإنك لرسول ، فلو وجدت عندنا جائزة جوزناك بها ، إنا سفر مرملون».

قال قتادة : فناداه رجل من طائفة الناس قال : أنا أجوزه ، ففتح رحله ، فإذا هو بحلة صفورية ، فوضعها في حجري.

قلت : من صاحب الجائزة؟

قيل لي : عثمان.

ثم قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : «أيكم ينزل هذا الرجل»؟

فقال فتى من الأنصار : أنا.

فقام الأنصاري وقمت معه ، حتى إذا خرجت من طائفة المجلس ناداني رسول الله «صلى الله عليه وآله» فقال : «تعال يا أخا تنوخ».

فأقبلت أهوي حتى كنت قائما في مجلسي الذي كنت بين يديه ، فحل حبوته عن ظهره وقال : «ها هنا امض لما أمرت له».

فجلت في ظهره فإذا أنا بخاتم النبوة في موضع غضروف الكتف ، مثل المحجمة الضخمة (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٥٨ عن أحمد وأبي يعلى ، وقال في هامشه : قال الحافظ ابن كثير ج ٥ ص ١٦ : هذا حديث غريب ، وإسناده لا بأس به ، تفرد به

٥٦

قال محمد بن عمر : فانصرف الرجل إلى هرقل ، فذكر ذلك له.

فدعا قومه إلى التصديق بالنبي «صلى الله عليه وآله» ، فأبوا حتى خافهم على ملكه ، وهو في موضعه بحمص لم يتحرك ولم يزحف ، وكان الذي خبر النبي «صلى الله عليه وآله» من تعبئة أصحابه ، ودنوه إلى وادي الشام لم يرد ذلك ولا هم به (١).

__________________

الإمام أحمد. ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٤١٥ و ٤١٦ وأشار في هامشه إلى المصادر التالية : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٨٠ والسيرة النبوية لزيني دحلان (بهامش الحلبية) ج ٣ ص ٧٠ وإعلام السائلين ص ١٩ ورسالات نبوية ص ٢٧٨ وأعيان الشيعة ج ٢ ص ١٤٢ وفي (ط أخرى) ج ٢ ص ٢٤٤ وجمهرة رسائل العرب ، والخطط للمقريزي ج ١ ص ٢٩ وحسن المحاضرة ج ١ ص ٤٢ والمواهب اللدنية للقسطلاني ج ١ ص ٢٩٢ وج ٣ ص ٣٩٧ ، ونشأة الدولة الإسلامية ص ٣٠٤ عن فتوح مصر (ط ليدن) ص ٤٦ ، ومجلة الهلال أكتوبر سنة ١٩٠٤ م ، وصبح الأعشى ج ٦ ص ٣٥٨ ـ ٣٦٦ و ٣٧٨ وزاد المعاد لابن القيم ج ٣ ص ٦١ ونصب الراية للزيلعي ج ٤ ص ٤٢١ وراجع : الإصابة ج ٣ ص ٥٣١ ودائرة المعارف لوجدي ج ٩ ص ٣١٧ وشرح المواهب للزرقاني ج ٣ ص ٣٤٧ وتأريخ الخميس ج ٢ ص ٣٧ ولغت نامه دهخدا ج ٤٣ ص ٩٥٥ وصبح الأعشى ج ٦ ص ٣٦٤ والمصباح المضيء ج ٢ ص ١٢٩ ومجموعة الوثائق السياسية ص ١٠٥ / ٤٩ ورسالات نبوية ، وإعلام السائلين ، ومفيد العلوم للقزويني ، وحسن المحاضرة للسيوطي ، ونصب الراية للزيلعي ، وصبح الأعشى ، والبيهقي ، والمنفلوطي ، ومنشئات السلاطين لفريدون بك ، وشرح المواهب للزرقاني ، والحلبي وغيره.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٥٩ عن الواقدي ، والبحار ج ٢١ ص ٢٥١ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٣٧ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٦١ ج ٩ ص ٢٦٤.

٥٧

وذكر السهيلي : أن هرقل أهدى لرسول الله «صلى الله عليه وآله» هدية فقبل رسول الله «صلى الله عليه وآله» هديته ، وفرقها على المسلمين (١).

ثم إن هرقل أمر مناديا ينادي : ألا إن هرقل قد آمن بمحمد واتبعه ، فدخلت الأجناد في سلاحها وطافت بقصره تريد قتله ، فأرسل إليهم : إني أردت أن أختبر صلابتكم في دينكم ، فقد رضيت عنكم ، فرضوا عنه.

ثم كتب إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» كتابا مع دحية يقول فيه : إني معكم ، ولكني مغلوب على أمري ، فلما قرأ رسول الله «صلى الله عليه وآله» كتابه قال : «كذب عدو الله ، وليس بمسلم بل هو على نصرانيته».

ونقول :

إن لنا مع ما تقدم وقفات :

نص الراوندي :

قد روى الراوندي : هذا الحديث باختلاف ظاهر عما ذكرناه آنفا ، ففيه : أن رسول قيصر كان رجلا من غسان ، وأن الثلاث التي أمره أن يحفظها هي : من الذي يجلس على يمين النبي «صلى الله عليه وآله» ، وعلى أي شيء يجلس ، وخاتم النبوة.

فوجد الغساني رسول الله «صلى الله عليه وآله» جالسا على الأرض ، وكان علي «عليه السلام» عى يمينه ، ونسي الغساني الثالثة ، فقال له «صلى الله عليه وآله» : تعال ، فانظر إلى ما أمرك به صاحبك ، فنظر إلى خاتم النبوة ..

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٥٩ وج ١١ ص ٣٥٦.

٥٨

فعاد الغساني إلى هرقل ، فأخبره بما رأى وجرى ، فقال : «هذا الذي بشر به عيسى بن مريم ، أنه يركب البعير ، فاتبعوه ، وصدقوه».

ثم قال للرسول : أخرج إلى أخي ، فاعرض عليه ، فإنه شريكي في الملك ..

فقلت له : فما طاب نفسه عن ذهاب ملكه (١).

وليس في الرواية : أن ذلك قد حصل في تبوك ، بل فيها ما يدل على خلاف ذلك ، فإن ذكر أمير المؤمنين «عليه السلام» يدل على أن ذلك كان في المدينة ، لأنه «عليه السلام» لم يكن مع النبي «صلى الله عليه وآله» في تبوك ، لأنه خلفه في المدينة ..

ولعل الرواة قد خلطوا بين ما حصل في تبوك من مراسلات ، وبين ما حصل في المدينة قبل ذلك ، حين راسل «صلى الله عليه وآله» الملوك ومنهم قيصر الروم.

على أن لنا أن نحتمل : أن يكون النبي «صلى الله عليه وآله» قد كتب إلى ملك الروم ، ثم جاء جوابه مع دحية إلى تبوك ، ثم جاء رسوله الآخر ، وهو ذلك الرجل التنوخي إلى المدينة ، ولكن الرواة قد تعمدوا أو اجتهدوا ، فذكروا تبوك دون المدينة ..

لماذا ضمان الجنة؟! :

وقد ضمن النبي «صلى الله عليه وآله» الجنة لمن حمل رسالته إلى ملك الروم .. ولعل هذا يشير إلى أن الناس كانوا يشعرون بخطر عظيم من التوغل

__________________

(١) الخرائج والجرائح ج ١ ص ١٠٤ والبحار ج ٢٠ ص ٣٧٨ ومستدرك سفينة البحار ج ١٠ ص ٥٣٢.

٥٩

في بلاد الروم ، ويرون أن من الصعب جدا وصول الرسول إلى هرقل حيا. وحتى لو وصل إليه ، فإن خطر أن يأمر ذلك الطاغية الغاضب والحانق بقتل الرسول قائم ، وجدي ، لا سيما وأن مرسل الرسالة هو قائد هذا الجيش العظيم الذي يقف على مشارف بلاده ، ويخشى أن ينقض عليها ، وينقض ملك ذلك الجبار ، وربما ينتهي الأمر بقتله ، والتعجيل بروحه إلى النار ..

فلأجل ذلك كان ثمن الدخول في هذا الخطر العظيم والجسيم هو الجنة ، إذ لا شيء سواها يمكن أن يطمع به من يعرض نفسه للقتل ..

غير أن لسائل أن يسأل هنا فيقول : إذا كان الله يطلع نبيه على الغيب فلما ذا لم يسترشد النبي «صلى الله عليه وآله» من ربه سبحانه ، ويستأذنه بإعلام هذا الرسول بنجاته من شر هرقل ، ومن شر الروم كلهم .. ويدفع بذلك الخوف عنه ، ويكون من ثم أكثر ثباتا وإقداما؟!.

ولنا أن نجيب : بأنه «صلى الله عليه وآله» لا يريد أن يعوّد أصحابه على هذه الطريقة في التعامل مع الأمور ، ومواجهة قضاياهم .. أي أنه لا يريد لهم أن يتكلوا على الغيب إلى هذا الحد ، فإن سلبيات هذه الطريقة كثيرة وخطيرة ، إذ هي تؤدي :

أولا : إلى حرمانهم من ثواب الجهاد في سبيل الله ، وقصد القربة ، وثواب الخوف والتغرب ، وحمل النفس وتوطينها على مواجهة الضرر والخطر ..

ثانيا : إن ذلك يجعلهم إتكاليين في مواجهاتهم ، ويسلب منهم روح الإبداع والخلاقية ، ويمنعهم من التدبر في الأمور ومن التدبير الصحيح والسليم ..

ثالثا : إنه إذا مست الحاجة إلى ارتكاب المخاطر حتى الاستشهاد ، وكان

٦٠