الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-202-1
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥١

قال : «ذلك معاوية بن معاوية المزني مات بالمدينة اليوم ، فبعث الله تعالى سبعين ألف ملك يصلون عليه ، فهل لك في الصلاة عليه؟

قال : «نعم».

فخرج رسول الله «صلى الله عليه وآله» يمشي ، فقال جبريل بيده هكذا يفرج له عن الجبال والآكام ، ومع جبريل سبعون ألف ملك ، فصلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» وصف الملائكة خلفه صفين ، فلما فرغ رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال لجبريل : «بم بلغ هذه المنزلة».

قال : «بحبه (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(١) يقرؤها قائما أو قاعدا ، أو راكبا أو ماشيا وعلى كل حال (٢).

«قال الحافظ في لسان الميزان في ترجمة محبوب بن هلال : هذا الحديث علم من أعلام النبوة ، وله طرق يقوى بعضها ببعض.

وقال في فتح الباري ، في باب الصفوف على الجنازة : إنه خبر قوي بالنظر إلى مجموع طرقه.

وقال في اللسان في ترجمة نوح بن عمر : طريقه أقوى طرق الحديث. انتهى.

__________________

(١) الآية ١ من سورة الإخلاص.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٥٦ و ٤٥٧ عن الطبراني في الكبير والأوسط ، وابن سعد ، والبيهقي ، وأبي يعلى ، وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ١٤ وراجع :

السنن الكبرى للبيهقي ج ٤ ص ٥١ ومجمع الزوائد ج ٣ ص ٣٧ ومسند أبي يعلى ج ٧ ص ٢٥٨ والمعجم الكبير ج ١٩ ص ٤٢٩ والإستيعاب (ط دار الجيل) ج ٣ ص ١٤٢٣ وأسد الغابة ج ٤ ص ٣٨٩ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٦٤٠.

٢١

وأورد الحديث النووي في الأذكار في باب : «الذكر في الطريق».

فعلم من ذلك رد قول من يقول : إن الحديث موضوع لا أصل له» (١).

ونقول :

١ ـ لقد مات سلمان الفارسي ، وأبو ذر ، وعمار بن ياسر ، بل لقد استشهد أو مات الكثيرون من الأنبياء ، والأوصياء ، والأولياء ، ولم نر الشمس قد طلعت بضياء وشعاع ونور فريد ، لم تطلع بمثله. باستثناء حالات خاصة أريد بها إفهام الأمة معنى ، وإيقافها على حقيقة تحتاج إلى معرفتها في دينها ويقينها. كما هو الحال بالنسبة لاستشهاد الإمام الحسين «عليه السلام» في كربلاء.

٢ ـ لم توضح الرواية تلك الخصوصية التي ظهرت في نور الشمس وشعاعها ، ونورها ، هل هي الحمرة؟ أم الحدة؟ أم تمازج الألوان؟ أم ما ذا؟

٣ ـ ما الفرق بين ضياء الشمس ونورها ، وكيف اختلف حالهما فيما بينهما ، ثم اختلف الحال بينهما وبين الشعاع.

٤ ـ حين خرج رسول الله «صلى الله عليه وآله» يمشي ، وكان جبريل يزيح الجبال والآكام من أمامه .. إلى أين كان يقصد؟! وإلى أين بلغ؟! ولماذا احتاج إلى قطع هذه المسافات؟! ألم يكن يمكنه «صلى الله عليه وآله» أن يصفّ الناس ، ويصلي على ذلك الميت ، وهو في موضعه؟!

٥ ـ لم يذكر النص الآنف الذكر ما يدل على خروج أحد من المسلمين مع النبي «صلى الله عليه وآله» إلى تلك الصلاة ، بل يذكر ـ فقط ـ أن سبعين

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٥٧.

٢٢

ألف ملك اصطفوا خلف النبي «صلى الله عليه وآله» ، وصلوا بصلاته.

٦ ـ هل يمكن القبول بافتراض أن لا يكون النبي «صلى الله عليه وآله» عارفا بأثر قراءة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) في هذه الأحوال ، أو أنه قد عرف ذلك لكنه لم يعلم حتى الخلّص من أصحابه به ، حتى فاتتهم هذه المنزلة والكرامة؟

قد يدّعى : أن سؤال النبي «صلى الله عليه وآله» لجبرئيل عن سبب بلوغ هذه المنزلة يدل على صحة الإحتمال الأول ، وهو أن هذه الرواية المزعومة تريد أن تدّعي : أنه لم يكن عالما بذلك. نعوذ بالله من الزلل والخطل في الإعتقاد وفي القول وفي العمل ..

٧ ـ وأخيرا لو صح هذا الحديث ـ ودون إثبات صحته خرط القتاد ـ فهو لا يدل على مشروعية صلاة الغائب ، لاحتمال أن يكون ما صنعه جبرئيل قد جاء لإكرام رسول الله «صلى الله عليه وآله» بخفض كل رفع ، ورفع كل خفض له ، حتى أصبحت جنازة ذلك الرجل أمامه ، فصلى عليه النبي «صلى الله عليه وآله» صلاة الحاضر لا الغائب ، تماما كما كان الحال بالنسبة للنجاشي ملك الحبشة حسبما تقدم في بعض فصول هذا الكتاب ..

المرور بين يدي المصلي :

عن يزيد بن نمران قال : رأيت رجلا بتبوك مقعدا ، فقال : مررت بين يدي رسول الله «صلى الله عليه وآله» وأنا على حمار ، وهو يصلي ، فقال : «اللهم اقطع أثره» ، فما مشيت عليها بعدها.

وعن سعيد بن غزوان عن أبيه : أنه نزل بتبوك وهو حاج ، فإذا رجل

٢٣

مقعد فسأله عن أمره ، فقال : سأحدثك حديثا فلا تحدث به ما سمعت أنّي حي ، إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» نزل بتبوك إلى نخلة فقال : «هذه قبلتنا» ، ثم صلى إليها.

فأقبلت وأنا غلام أسعى حتى مررت بينه وبينها ، فقال : «قطع صلاتنا قطع الله أثره». فما قمت عليها إلى يومي هذا (١).

ونقول :

إننا لا نشك في كذب هذه الرواية.

فأولا : إن النبي «صلى الله عليه وآله» لا يدعو بقطع الأثر على غلام لا يحسن تقدير الأمور ، ولم يبلغ سن التكليف ، كما أن الله تعالى لا يستجيب دعاء على بريء ، ولا يشارك في ظلم أحد ..

ثانيا : حتى لو كان هذا الغلام قد بلغ سن التكليف ، ثم مر في حال الغفلة أمام المصلي ، فإنه معذور ، ولا يستحق أن يدعو عليه رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، بل لا يجوز له ذلك ..

ثالثا : من الذي قال : إن ذلك الغلام كان يعرف أن المرور بين يدي المصلي حرام؟!

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٥٣ عن أحمد وأبي داود ، وقال في هامشه : أخرجه أبو داود (٧٠١) و (٧٠٥) ، وأحمد ج ٤ ص ٦٤ ، والبيهقي في السنن ج ٢ ص ٢٣٤ والبداية والنهاية ج ٥ ص ١٤ والبخاري في التاريخ ج ٨ ص ٣٦٦ ، وراجع : عمدة القاري ج ٤ ص ٢٧٩ والمغني لابن قدامه ج ٢ ص ٧٥ ومسند الشاميين ج ٣ ص ١٩٥ والتاريخ الكبير للبخاري ج ٨ ص ٣٦٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢١ ص ٣٣٦.

٢٤

رابعا : إن قول النبي «صلى الله عليه وآله» في دعائه على ذلك الشخص : «قطع الله أثره» ليس معناه أن لا يقف على رجليه .. بل هو شيء آخر يختلف عن مضمون تلك الدعوة تماما ..

فما معنى جعل عدم قدرته على الوقوف على رجليه استجابة لتلك الدعوى؟! ..

خامسا : روي عن عروة عن عائشة أنها قالت : كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» يصلي ، وأنا معترضة بين يديه اعتراض الجنازة.

وقد روي هذا بوجوه مختلفة.

وقالت في بعضها : وأنا حائض.

وفي بعضها : أنه «صلى الله عليه وآله» كان يغمز رجليها فتقبضهما ، فإذا رفع رأسه بسطتهما (١).

__________________

(١) عمدة القاري ج ٤ ص ٢٧٢ عن البخاري ، ومسلم وص ٢٩٧ وراجع : صحيح البخاري باب التطوع خلف المرأة ، وباب من قال : لا يقطع الصلاة شيء ، وباب هل يغمز الرجل امرأته عند السجود؟ وصحيح (ط دار الفكر) ج ١ ص ١٠١ و ١٣٠ وصحيح مسلم ج ٢ ص ٦١ وراجع : وسائل الشيعة (ط دار الإسلامية) ج ٣ ص ٤٢٦ والسنن الكبرى للبيهقي ج ١ ص ١٢٨ وج ٢ ص ٢٦٤ و ٢٧٦ والسنن الكبرى للنسائي ج ١ ص ٩٨ وصحيح ابن حبان ج ٦ ص ١١٠ ومعرفة السنن والآثار ج ٢ ص ١٢١ والإستذكار ج ٢ ص ٨٥ والتمهيد لابن عبد البر ج ٢١ ص ١٦٦ و ١٧٠ ونصب الراية للزيلعي ج ١ ص ١٢٧ وعمدة القاري ج ٤ ص ٢٩٧ والمصنف للصنعاني ج ٢ ص ٣٢ وسنن النسائي ج ١ ص ١٠٢ والموطأ (صلاة الليل) ومسند أحمد ج ٦ ص ٤٤ و ٥٥ و ١٤٢ و ٢٢٥ و ٢٥٥ و ١٨٢

٢٥

فإذا كان اعتراض المرأة خصوصا الحائض بين المصلي ، وبين القبلة لا يقطع الصلاة ، فالمرور من بين يدي المصلي بطريق أولى (١).

وعن عائشة وهي ترد على قولهم : لا يقطع الصلاة إلا الكلب والحمار والمرأة قالت : أعدلتمونا بالكلب والحمار؟! لقد رأيتني مضطجعة على السرير ، فيجيء النبي «صلى الله عليه وآله» ، فيتوسط السرير فيصلي ، فأكره أن أسنّحه (أي أن تستقبله ببدنها في صلاته) ، فأنسل من قبل السرير ، حتى انسل من لحافي (٢).

قال العيني : «وفيه دلالة على أن مرور المرأة بين يد المصلي لا يقطع صلاته ، لأن انسلالها من لحافها كالمرور بين يدي المصلي» (٣).

وقال الطحاوي : «دل حديث عائشة على أن مرور بني آدم بين يدي المصلي لا يقطع الصلاة» (٤).

__________________

وفي (ط دار الحديث) ما ورد برقم : ٢٤٥١٠ و ٢٥٣٠٨ و ٢٤٠٢١ و ٢٤٤٤٣ و ٢٥٥١٣ و ٢٥٥٢٣ و ٢٥٨١٨ و ٢٤١١٨ و ٢٥٥٧٢ و ٢٥٤٧٥ و ٢٦٠٥٩ و (ط دار صادر) ج ٦ ص ١٤٨ و ٢٢٥.

(١) عمدة القاري ج ٤ ص ٢٧٩.

(٢) صحيح البخاري (كتاب الصلاة) باب الصلاة إلى السرير ، وباب استقبال الرجل وهو يصلي ، وباب من قال : لا يقطع الصلاة شيء و (ط دار الفكر) ج ١ ص ١٢٨ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٢ ص ٢٧٦ وصحيح مسلم ج ٢ ص ٦٠ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٢ ص ٢٧٦ ومسند ابن راهويه ج ٣ ص ٨٣٥.

(٣) عمدة القاري ج ٤ ص ٢٨٨.

(٤) عمدة القاري ج ٤ ص ٢٩٩.

٢٦

ونضيف هنا : أن نفس أن يبادر النبي «صلى الله عليه وآله» للصلاة في موضع يكون هناك إنسان معترض في قبلته فيدفعه ذلك إلى الإنسلال من أمامه يدل على عدم قادحية وجود أو مرور إنسان أمام المصلي ..

سادسا : إن الروايات عن أهل البيت «عليهم السلام» وهم أعرف بما فيه تدل عدم حرمة المرور بين يدي المصلي (١).

سابعا : إن ظاهر رواية غزوان عن المقعد الذي رآه في تبوك : أنه لم تكن لغزوان معرفة بذلك الرجل المقعد ، فلما ذا وكيف وثق ذلك المقعد به ، حتى باح له بسره ، وأوصاه ألا يحدّث به ما سمع أنه حي؟! مع العلم : بان غزوان إنما نزل بتبوك ، وهو حاج ، فكيف يسمع بحياة ذلك المقعد وهو في بلده البعيد عن تبوك مئات الأميال .. فهل كان ذكر ذلك الرجل المقعد واسمه يطبق الآفاق؟! لكي يسمع به غزوان ..

كرامات لرسول الله صلّى الله عليه وآله في تبوك :

قال رجل من بني سعد هذيم : جئت رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وهو جالس بتبوك في نفر ، فقال : «يا بلال أطعمنا».

فبسط بلال نطعا ثم جعل يخرج من حميت له ، فأخرج خرجات بيده من تمر معجون بسمن وأقط ، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : «كلوا».

__________________

(١) الوسائل (ط دار الإسلامية) ج ٣ ص ٤٣٤ ـ ٤٣٦ و ٤٢٦ عن كتاب التوحيد للصدوق ص ١٧١ و ١٧٧ وعن تهذيب الحكام ج ١ ص ٢٢٨ وعن الإستبصار ج ١ ص ٢٠٤ وعن الكافي ج ٣ ص ٨٢ وقرب الإسناد ص ٥٤ وعن من لا يحضره الفقيه ج ١ ص ٨٠.

٢٧

فأكلنا حتى شبعنا ، فقلت : يا رسول الله ، إن كنت لآكل هذا وحدي.

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : الكافر يأكل في سبعة أمعاء ، والمؤمن يأكل في معاء واحد».

ثم جئت في الغد متحينا لغدائه لأزداد في الإسلام يقينا ، فإذا عشرة نفر حوله ، فقال : «هات أطعمنا يا بلال».

فجعل يخرج من جراب تمرا بكفه قبضة قبضة ، فقال : «أخرج ، ولا تخش من ذي العرش إقلالا».

فجاء بالجراب ونشره ، فقال : فحزرته مدّين ، فوضع رسول الله «صلى الله عليه وآله» يده على التمر وقال : «كلوا باسم الله».

فأكل القوم وأكلت معهم ، وأكلت حتى ما أجد له مسلكا.

قال : وبقي على النطع مثل الذي جاء به بلال ، كأنا لم نأكل منه تمرة واحدة.

قال : ثم غدوت من الغد ، وعاد نفر فكانوا عشرة أو يزيدون رجلا أو رجلين ، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : «يا بلال أطعمنا».

فجاء بلال بذلك الجراب بعينه ، أعرفه ، فنثره ، ووضع رسول الله «صلى الله عليه وآله» يده عليه وقال : «كلوا باسم الله».

فأكلنا حتى نهلنا ، ثم رجع مثل الذي صب ، ففعل ذلك ثلاثة أيام (١).

عن عرباض بن سارية قال : كنت ألزم باب رسول الله «صلى الله عليه

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٥٤ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ١٠١٧ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٦١.

٢٨

وآله» في الحضر والسفر ، فرأيتنا ليلة ونحن بتبوك ، وذهبنا لحاجة ، فرجعنا إلى منزل رسول الله «صلى الله عليه وآله» وقد تعشى ومن معه من أضيافه ، ورسول الله «صلى الله عليه وآله» يريد أن يدخل قبته ـ ومعه زوجته أم سلمة ـ فلما طلعت عليه قال : أين كنت منذ الليلة؟

فأخبرته ، فطلع جعال بن سراقة وعبد الله بن مغفل المزني ، فكنا ثلاثة كلنا جائع ، إنما نغشى باب رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فدخل رسول الله «صلى الله عليه وآله» البيت ، فطلب شيئا نأكله ، فلم يجده ، فخرج إلينا فنادى : «يا بلال هل من عشاء لهؤلاء النفر».

فقال : والذي بعثك بالحق لقد نفضنا جربنا وحمتنا.

قال : «انظر عسى أن تجد شيئا».

فأخذ الجرب ينفضها جرابا جرابا ، فتقع التمرة والتمرتان ، حتى رأيت في يده سبع تمرات ، ثم دعا بصحفة فوضع التمر فيها ، ثم وضع يده على التمرات ، وسمى الله تعالى ، فقال : «كلوا باسم الله».

فأكلنا ، فحصيت أربعا وخمسين تمرة ، أعدها عدا ، ونواها في يدي الأخرى ، وصاحباي يصنعان مثل ما أصنع ، وشبعنا ، فأكل كل واحد منا خمسين تمرة ، ورفعنا أيدينا فإذا التمرات السبع كما هي. فقال : «يا بلال ارفعها ، فإنه لا يأكل منها أحد إلا نهل شبعا».

فلما أصبح رسول الله «صلى الله عليه وآله» صلى صلاة الصبح ثم انصرف إلى فناء قبته ، فجلس وجلسنا حوله ، فقرأ من «المؤمنون» عشرا ، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : «هل لكم في الغداء»؟

قال عرباض : فجعلت أقول في نفسي أي غداء ، فدعا بلالا بالتمرات ،

٢٩

فوضع يده عليهن في الصحفة ، ثم قال : «كلوا بسم الله».

فأكلنا ، فو الذي بعثه بالحق ، حتى شبعنا وإنا لعشرة ، ثم رفعوا أيديهم منها شبعا ، وإذا التمرات كما هي ، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : «لو لا أني أستحي من ربي لأكلنا من هذا التمر حتى نرد المدينة عن آخرنا».

وطلع عليهم غلام من أهل البدو ، فأخذ رسول الله «صلى الله عليه وآله» التمرات فدفعها إليه ، فولى الغلام يلوكهن (١).

الكافر يأكل في سبعة أمعاء :

ونقول بالنسبة لما تقدم ، من أن الكافر يأكل بسبعة أمعاء ، والمؤمن يأكل في معاء واحد (٢) نقول :

قد ذكرنا أن هذا الحديث إن ثبت ، فلا بد أن يكون المراد منه المعنى المجازي ، وهو :

أولا : أن المؤمن لا يأكل رزقه إلا من باب واحد وهو باب الحلال ، أما الكافر فلا يبالي من أي باب أكل ، ومن أين أكل ، فأي باب فتح له أكل منه .. فمآكل الكافر كثيرة ، وذكر السبعة إنما هو لإفادة الكثرة ، كقوله تعالى :

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٥٤ و ٤٥٥ عن الواقدي ، وأبي نعيم ، وابن عساكر ، والمغازي للواقدي ج ٣ ص ١٠١٧ وراجع : كنز العمال ج ١٢ ص ٤٣٢ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٠ ص ١٨٩ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٧٠ وج ١٤ ص ٥٢.

(٢) راجع : البحار ج ٦٣ ص ٣٢٥ و ٣٣٧ والخصال ص ٣٥١ والمحاسن ص ٤٤٧ ومصباح الشريعة ص ٢٧ و ٢٨.

٣٠

(وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ)(١).

ثانيا : أو يقال : إن المؤمن يأكل ليعيش ، أي أنه لا يهتم إلا بما يمسك به الرمق ، ويقيم الأود ، ولا يعيش ليأكل ، فيكون كالدابة المربوطة همها علفها ، وشغلها تقممها. فكأن المؤمن لشدة قناعته يأكل بمعاء واحد ، وكأن الكافر لشدة شرهه ، واستقصائه في البحث عن اللذة له سبعة أمعاء ..

ثالثا : أو يقال : إن هذا كناية عن طمع الكافر وجشعه ، وحبه للدنيا ، واستغراقه في طلبها ، واتساع رغبته بها ، فهو يأكل كل ما يحصل عليه ، يأكل الدينار ، ويأكل القنطار ، ويأكل البلاد والعباد ..

وأما أن يكون المراد : أن الكافر يأكل سبعة أضعاف ما يأكله المؤمن ، فلا مجال لقبوله ، لأن المشاهد خلاف ذلك ، وأنه لا فرق بين المؤمن والكافر في مقدار الطعام الذي يتناوله كل واحد منهما.

رابعا : يفهم من بعض النصوص : أن النبي «صلى الله عليه وآله» قال : ستكون من بعدي سنة ، يأكل المؤمن في معاء واحد ، ويأكل الكافر في سبعة أمعاء (٢) ..

فإن كان المراد هو الإخبار عن سنة من الزمان يكون فيها ذلك ، فالأمر واضح ، وإن كان المراد بها ـ كما احتمله العلامة المجلسي ـ السّنّة (٣) ـ بالضم والتشديد ـ فالحديث يشير إلى أمر سيحصل ، ولا نعرف متى سيكون ذلك.

__________________

(١) الآية ٧٧ من سورة لقمان.

(٢) المحاسن ص ٤٤٧ والبحار ج ٦٣ ص ٣٣٧ والكافي ج ٦ ص ٢٦٨ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٢٤ ص ٢٤٠ و (ط دار الإسلامية) ج ١٦ ص ٤٠٦.

(٣) البحار ج ٦٣ ص ٣٣٧.

٣١

حديث الجراب في ميزان الإعتبار :

ونحن نعتقد : أن حديث الجراب الذي يرويه ذلك الرجل ، الذي لم نعرف اسمه ، وإن كان ممكنا في حد نفسه ، وأن له نظائر كثيرة جدا في حياة رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وأن صدور أمثال هذه المعجزات والكرامات منه «صلى الله عليه وآله» وعنه يعد بالعشرات ، إن لم يكن بأكثر من ذلك ..

إلا أن اللافت هنا : أن نقل هذه الحادثة قد اقتصر على رجل مجهول من بني سعد هذيم ..

مع أن هذا الحدث قد تكرر أمام جماعة من الناس .. وتكرر مع بلال حامل الجراب ثلاث مرات ، فهل زهد المسلمون بنقل هذه الحوادث لكثرتها؟!

على أن لنا أن نسأل : لماذا لم يأت هذا الرجل نفسه في اليوم الرابع أيضا؟! لكي يأكل من جراب رابع وخامس.

ويلاحظ هنا : أن رقم عشرة تكرر في اليومين الأخيرين ، مع الإشارة إلى أن العشرة الأخيرة كانت هي نفس العشرة التي جاءت في اليوم السابق.

عرباض ملازم لباب الرسول صلّى الله عليه وآله :

وعن رواية عرباض بن سارية نقول :

إن دعواه أنه كان ملازما لباب رسول الله «صلى الله عليه وآله» في السفر والحضر .. لا نجد ما يؤيدها ، بل المعروف خلافه ، إلا إن كان يقصد أنه كان ملازما للمسجد مع أهل الصفة ، الذين كان رسول الله «صلى الله عليه وآله»

٣٢

يهتم بأمرهم ، ويقوم بإعالتهم ، لكونهم من الفقراء ، وكان عرباض منهم (١) ..

لماذا المعجزة والكرامة هنا؟! :

على أننا لا ندري سبب إظهار هذه الكرامة لعرباض ، وجعال ، وابن مغفل ، فإن كان السبب هو جوع هؤلاء ، فإن غيرهم أيضا كان يعاني من نفس المشكلة ، فلما ذا آثر هؤلاء وحرم أولئك؟!. فليظهر هذه الكرامة لكل جائع.

وإن كان السبب هو أن هؤلاء كانوا يحتاجون إلى إظهار المعجزة ، لترسيخ يقينهم ، وإزالة الريب من نفوسهم ، فذلك يعني أن شائبة النفاق كانت ماثلة فيهم ، أو في بعضهم.

وتستمر هذه الشبهة حولهم إلى ما بعد وفاة النبي «صلى الله عليه وآله».

ولعل مما يؤكد هذا الأمر بالنسبة لبعضهم : أنهم يقولون : إن إبليس تصور بصورة مغفل بن سراقة يوم أحد (٢) ..

لو لا أني أستحي من ربي!! :

وحين نقرأ قوله «صلى الله عليه وآله» : «لو لا أني أستحي من ربي ، لأكلنا من هذا التمر حتى نرد المدينة عن آخرنا» .. قد يراودنا خاطر يزعج

__________________

(١) الإصابة ج ٢ ص ٤٧٣ و (ط دار الكتب العلمية) ج ٤ ص ٣٩٨ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٠ ص ١٧٦ و ١٧٧ وج ٤٠ ص ١٨٧ وتهذيب الكمال ج ١٩ ص ٥٤٩ وتقريب التهذيب ج ١ ص ٦٦٩ وتهذيب التهذيب ج ٧ ص ١٥٧.

(٢) الإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ١ ص ٢٦٠ و (ط دار الجيل) ج ١ ص ٢٧٤.

٣٣

اليقين لدينا بصحة هذا القول ، من حيث تضمنه جرأة على مقام العزة الإلهية ، لأنه يعطي : أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان أكرم من الله على عباد الله ، وأرفق بهم منه .. وهذا المنطق مرفوض ومدان جملة وتفصيلا .. لأنه يؤدي إلى الخروج من الدين.

فلا بد أن يكون المقصود : أنه «صلى الله عليه وآله» يستحي من الله لأن هذا الطلب يؤدي إلى نقض الغرض من المعجزة أو الكرامة .. لأن أولئك الناس قد ينتزعون منه فكرة خاطئة ، أو يزينها الشيطان لهم ، وهو أن هذا العطاء ، وهذه الكرامة .. قد منحهم الله إياها عن استحقاق منهم لها.

أو لربما يدخل في وهمهم : أن هذا العطاء هو السنة الإلهية التي لو لم يجرها الله تعالى فيهم لكان ظالما لهم ، ولكان لهم الحق في أن يطالبوه بها ..

أو غير ذلك من الأوهام الشيطانية التي تؤدي إلى أن يصبح حالهم مع النبي «صلى الله عليه وآله» حال بني إسرائيل مع موسى «على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام» ..

أو لأن المقصود هو ـ كما ذكره بعض الإخوة ـ : أنه لا ينبغي للنبي «صلى الله عليه وآله» أن يعتمد ، ولا يغري المؤمنين بالإعتماد على المنح الإلهية التي حباه الله تعالى بها في تحصيل الأرزاق ، فإن ذلك يؤدي إلى قعود الناس عن طلب الرزق ، وإلى غير ذلك من أمور ..

نفضنا جربنا :

إن ثمة سؤالا يحتاج إلى إجابة ، وهو أنه إذا كان الطعام قد فقد ، وكانوا قد نفضوا جربهم و.. و.. حتى احتاجوا إلى التصرف النبوي ، والإستجابة

٣٤

الإلهية .. فماذا كانوا سيأكلون ، وينفقون في الأيام التالية ، وإلى حين رجوعهم إلى المدينة؟! والحال أن البلاد ليست بلادهم ، وليس لهم فيها زراعة ولا تجارة ، ولا غير ذلك!!.

إلا أن يكون المقصود : أن الطعام الذي كان عند رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد استنفد ، أما الآخرون فكان لديهم طعام ، ولعلهم لا يتركون رسول الله «صلى الله عليه وآله» في الأيام التالية ..

أو يقال : إن نفاد الطعام لا يعني نفاد المال الذي يشتري به في اليوم التالي حيث يبيعه المسلمون أو غيرهم من سكان تلك المنطقة.

يطلع قرن الشيطان من المشرق :

وقالوا : كان رجل من بني عذرة يقال له : عدي يقول : جئت رسول الله «صلى الله عليه وآله» بتبوك ، فرأيته على ناقة حمراء يطوف على الناس ، يقول :

«يا أيها الناس ، يد الله فوق يد المعطي ، ويد المعطي الوسطى ، ويد المعطى السفلى ، أيها الناس ، فتغنوا ولو بحزم الحطب ، اللهم هل بلغت» ثلاثا.

فقلت : يا رسول الله ، إن امرأتيّ اقتتلتا ، فرميت إحداهما ، فرمي في رميتي ـ يريد أنها ماتت ـ فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : «تعقلها ولا ترثها».

فجلس رسول الله «صلى الله عليه وآله» في موضع مسجده بتبوك ، فنظر نحو اليمين ، ورفع يده يشير إلى أهل اليمن ، فقال : «الإيمان يمان».

ونظر نحو الشرق ، فأشار بيده فقال : إن الجفاء وغلظ القلوب في

٣٥

الفدادين أهل الوبر ، من نحو المشرق ، حيث يطلع الشيطان قرنيه (١).

ونقول :

إن لنا مع هذا النص وقفات ، نقتصر منها على ما يلي :

تعقلها ، ولا ترثها :

هناك حكم شرعي يقول : لا يرث القاتل من المقتول إذا قتله عمدا ، وإذا كان القتل شبيها بالعمد ، كأن يكون قاصدا لإيقاع الفعل على المقتول غير قاصد للقتل ، وكان الفعل مما لا يترتب عليه القتل في العادة ، فقد اختلفت كلمات الفقهاء فيه ، تبعا لاختلاف ما استفادوه من النصوص ..

أما قتل الخطأ فلا يمنع من التوارث ..

فقد يقال : إن قتل هذا الرجل لزوجته لم يكن متعمدا ، بل هو شبيه بالعمد .. وقد حكم النبي «صلى الله عليه وآله» بعدم إرثه منها .. فهذا يؤيد قول من قال : بعدم الإرث في شبه العمد.

ونجيب : بأن هذا المورد ليس من موارد شبه العمد ، لأن الآلة التي استعملت ، والفعل الذي حصل هو بحسب الظاهر مما يترتب عليه القتل

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٣ ص ١٠١٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٥٥ عنه ، وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٧ ص ٢١٣ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٦٠ ومسند الحميدي ج ٢ ص ٤٥٢ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٧ ص ٥٥٢ وراجع : مسند أحمد ج ٤ ص ١١٨ وج ٥ ص ٢٧٣ وصحيح البخاري ج ٤ ص ٩٧ و ١٥٤ وج ٥ ص ١٢٢ وج ٦ ص ١٧٨ وصحيح مسلم ج ١ ص ٥١ وفتح الباري ج ٦ ص ٢٥٠ وعمدة القاري ج ١٥ ص ١٩١ وج ١٨ ص ٣١ وج ٢٠ ص ٢٩٣ والمعجم الكبير ج ١٧ ص ٢٠٩.

٣٦

عادة ، لأن الظاهر من كلامه أنه رماها بسهم ، والسهم يقتل عادة ، أو هو من آلات القتل والقتال.

إن قلت : لكن رواية الضحاك تقول : «فرميت إحداهما بحجر» (١).

قلنا : إن الحجر يمكن أن يكون كبيرا بحيث يقتل عادة ، أو يكون رماه بحيث يصيب منها مقتلا في العادة بحسب جلستها أو نومتها أو حالها ، وعلى كل حال ، فمع مثل هذه الإحتمالات لا يثبت أنه شبه العمد ، لأنه على بعض الوجوه عمد كرميها بسهم أو نحوه.

هاهنا يطلع قرن الشيطان :

وقد ادعت الرواية المتقدمة : أن النبي «صلى الله عليه وآله» أشار إلى الشرق ، وقال : إن الجفاء ، وغلظة القلوب في الفدادين أهل الوبر ، من نحو الشرق ، حيث يطلع قرن الشيطان ..

ونقول :

إن الحديث المعروف والثابت والمتداول هو ذلك الذي رواه البخاري عن نافع ، عن ابن عمر قال : قام النبي «صلى الله عليه وآله» خطيبا ، فأشار إلى مسكن عائشة ، وقال : ها هنا الفتنة ـ ثلاثا ـ من حيث يطلع قرن الشيطان (٢).

__________________

(١) الآحاد والمثاني ج ٥ ص ٣٠٢ و (ط دار الدراية للطباعة) ج ٥ ص ٣٠٨.

(٢) صحيح البخاري (ط دار الفكر) ج ٤ ص ٤٦. والعمدة لابن البطريق ص ٤٥٦ والطرائف لابن طاووس ص ٢٩٧ والصراط المستقيم ج ٣ ص ٢٣٧ ووصول الأخيار إلى أصول الأخبار ص ٨٣ والجمل لابن شدقم ص ٤٧ والبحار ج ٣١ ص ٦٣٩ وج ٣٢ ص ٢٨٧ ومناقب أهل البيت للشيرواني ص ٤٧١ ومسند أحمد ج ٢ ص ١.

٣٧

وفي البخاري أيضا قال : خرج النبي «صلى الله عليه وآله» من بيت عائشة ، فقال : رأس الكفر من ها هنا ، من حيث يطلع قرن الشيطان (١).

وحين صدمتهم دلالة هذا الحديث حاولوا إيجاد مخارج له .. فتمخض الجبل فولد فأرة حين زعموا : أن حجرة عائشة كانت إلى جهة الشرق.

وباقي الأحاديث تقول : إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» أشار إلى الشرق ، وقد فسره «صلى الله عليه وآله» بقوله : «حيث يطلع قرن الشيطان» ، أي من جانب الشرق ..

قالوا : ولو كان المراد حجرة عائشة ، فكيف يصح أن يقول : إن الشيطان يطلع من حجرته المقدسة؟!.

والحال أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» يطلع من الحجرة؟! (٢).

ونقول :

أولا : إن ظاهر الكلام يمنع من إرادة جهة الشرق ، بل المقصود هو مسكن عائشة ، الذي يزعمون أنه يقع في جهة الشرق ، ولذلك صرح البخاري : بأنه أشار إلى مسكن عائشة ، وأورده في باب ما جاء في بيوت أزواج النبي «صلى الله عليه وآله» ، فإن كان قد ذكر جهة الشرق حقا ، فلأن

__________________

(١) مسند أحمد ج ٢ ص ٢٣ و ٢٦ وصحيح مسلم ج ٨ ص ١٨١ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٧ ص ٥٥٢ وكنز العمال ج ١١ ص ١١٩.

(٢) دلائل الصدق ج ٣ ق ٢ ص ١٥٧ عن فضل بن روزبهان ، والخصائص الفاطمية للكجوري ج ١ ص ٥٠٤ والبحار ج ٢ ص ٨٧ ح ٢٤١ وإحقاق الحق (الأصل) ص ٣٠٨ وكشف الغطاء (ط. ق) ج ١ ص ١٩ ووصول الأخيار إلى أصول الأخبار لوالد البهائي العاملي ص ٨٣ عن صحيح البخاري عن ابن عمر.

٣٨

مسكن عائشة كان يقع في تلك الجهة حسب زعمهم .. أي أن المطلق ، وهو جهة الشرق يحمل على القيد ، وهذا هو طبع الكلام في الموارد المختلفة ..

ثانيا : إن مسكن عائشة كان إلى جانبه بيوت كثيرة ، ولم يكن وحده في تلك الجهة ، فلما ذا خص الراوي مسكنها بالذكر؟!.

ثالثا : لماذا قال «صلى الله عليه وآله» : «من ها هنا» (الذي هو للإشارة للقريب) ، ولم يقل : من هناك الذي يشار به للبعيد؟!.

في حين أنه قد استعمل لفظ : «هناك» في الحديث الذي أشار به إلى نجد فقال : هناك الزلازل والفتن (١).

رابعا : إنه «صلى الله عليه وآله» لم يرد أن كل من يطلع من تلك الحجرة فهو قرن شيطان ، لكي يشمل نفسه بهذا الكلام ـ كما زعموا ـ بل أراد التكنية عن شخص بعينه ، يكون منه ما لا يرضاه الله تعالى. كما أظهرته الوقائع بعد استشهاد النبي «صلى الله عليه وآله» ..

خامسا : إننا نقول : إن الروايات التي تتحدث عن الشرق ربما تكون مجعولة ، من أجل تخفيف وطأة حديث البخاري ، ويكون ذلك مخرجا له ..

__________________

(١) الإستذكار لابن عبد البر ج ٨ ص ٢٢١ وصحيح البخاري ج ٢ ص ٢٣ وج ٨ ص ٩٥ وفتح الباري ج ٢ ص ٤٣٣ وج ١٣ ص ٣٩ وعمدة القاري ج ٧ ص ٥٨ وج ٢٤ ص ٢٠٠ وسير أعلام النبلاء للذهبي ج ١٢ ص ٥٢٤ وج ١٥ ص ٣٥٦ وعوالي اللآلي ج ١ ص ١٥٤ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٢ ص ٢٧٧ والتمهيد لابن عبد البر ج ١ ص ٢٧٩ وج ٢١ ص ٢٦٧ والعهود المحمدية للشعراني ص ٥١٣ وكنز العمال ج ١٢ ص ٣٠٠ والدر المنثور ج ٣ ص ١١٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ١ ص ١٣٣ و ١٣٤ وتذكرة الحفاظ للذهبي ج ٣ ص ٨٣٦.

٣٩

إذ إن بيت عائشة لم يكن إلى جهة الشرق ، بل كان في جهة القبلة في مسجد رسول الله «صلى الله عليه وآله». فلاحظ ما يلي :

١ ـ قالوا : «والمعروف عند الناس أن البيت الذي على يمين الخارج من خوخة آل عمر المذكورة هو بيت عائشة» (١) ..

وخوخة آل عمر كانت قبلي المسجد الشريف ، وهي اليوم ، «يتوصل إليها من الطابق الذي بالرواق الثاني من أروقة القبلة. وهو الرواق الذي يقف الناس فيه للزيارة أمام الوجه الشريف ، بالقرب من الطابق المذكور» (٢) ..

وكان دار حفصة قبلي المسجد (٣) ، ملاصقا لبيت عائشة من جهة القبلة (٤).

٢ ـ وقال محمد بن هلال عن بيت عائشة : كان بابه من جهة الشام (٥).

وقال ابن عساكر : «وباب البيت شامي» (٦) ..

ومن المعلوم : أن الجهة الشامية التي للمسجد هي الجهة الشمالية ، فإذا كان باب بيت عائشة يقابل الجهة الشمالية ، فإنه لا يكون لجهة الشرق ..

سادسا : وأخيرا نقول :

إنه لا مانع من أن يطلع قرن الشيطان من موضعين أحدهما : جهة المشرق ..

__________________

(١) وفاء الوفاء ج ٢ ص ٧١٩.

(٢) وفاء الوفاء ج ٢ ص ٧٠٦.

(٣) رحلة ابن بطوطة ص ٧٢.

(٤) وفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٤٣.

(٥) وفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٤٢ و ٤٥٩ و ٤٦٠.

(٦) وفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٤٢ و ٤٥٩ و ٤٦٠.

٤٠