الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-202-1
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥١

فلما غاب علي «عليه السلام» إلى مكة لم يجعل أحدا مكان علي «عليه السلام» ، بل كان هو نفسه «صلى الله عليه وآله» يستقبل الناس.

فأذن للناس .. فاستأذنه أبو ذر ، فأذن له. فخرج يستقبل عليا «عليه السلام» ، فلقيه ببعض الطريق ، فالتزمه وقبله ، وسبقه إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» وبشره بقدومه ، فقال النبي «صلى الله عليه وآله» لأبي ذر : «لك بذلك الجنة» (١).

ثم ركب النبي «صلى الله عليه وآله» وركب معه الناس ، فلما رآه أناخ ناقته ، ونزل رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فتلقاه ، والتزمه وعانقه ، ووضع خده على منكب علي «عليه السلام».

وبكى النبي «صلى الله عليه وآله» فرحا بقدومه. وبكى علي «عليه السلام» معه ..

ثم سأله عما صنع ، فأخبره ، فقال «صلى الله عليه وآله» : «كان الله عز وجل أعلم بك مني حين أمرني بإرسالك» (٢) ..

ونقول :

يلفت نظرنا في هذا النص أمور عديدة ، فلاحظ على سبيل المثال ما يلي :

١ ـ النظام والإنضباط :

إن هذا النظام الذي ذكرته الرواية عن استئذان الناس من رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، من شأنه أن يؤكد حالة الإنضباط في الحركة ، المفضي

__________________

(١) إقبال الأعمال للسيد ابن طاووس ج ٢ ص ٤٠ والبحار ج ٣٥ ص ٢٨٩.

(٢) البحار ج ٣٥ ص ٢٨٨ ـ ٢٩٠ وإقبال الأعمال ج ٢ ص ٤٠.

٢٨١

إلى طمأنينة القائد وإشرافه مباشرة على حركة الذين معه ، الأمر الذي يزيده قدرة على التصرف ، وفق معطيات دقيقة ، ومعرفة تفصيلية بما سوف ينتجه تصرفه أو موقفه ، وبما سيؤول إليه الحال بعد ذلك. وسيكون قراره متوافقا مع قدراته ، ومترافقا مع كل فرص النجاح والفلاح ..

٢ ـ تأكيد الإرتباط بالقيادة :

إن هذا الإجراء من شأنه أن يبلور بعفوية شعورا لدى الناس بارتباطهم الفعلي والمستمر بقيادتهم ، وإعطاء القيمة ، والأهمية لدورهم ، ولموقعهم في المنظومة الإجتماعية ، ويذكي لديهم الشعور بالحيوية ، وبالتأثير الإيجابي والفاعل في الحياة ..

٣ ـ الجنة هي ثمن البشارة :

وقد أظهر النبي «صلى الله عليه وآله» اهتماما بالغا بسلامة علي «عليه السلام» ، حتى صار همّ أبي ذر هو : أن يكون له دور في إدخال السرور على قلب رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فاعتبر أن التعجيل في استجلاء خبر علي «عليه السلام» لرسول الله «صلى الله عليه وآله» من أعظم القربات ..

وقد ظهر مصداق ذلك في الثمن الذي تلقاه أبو ذر على بشارته بقدوم علي «عليه السلام» ، حيث قال له النبي «صلى الله عليه وآله» : «لك بذلك الجنة».

وهو ثمن عظيم ربما لم يكن يتوقعه أبو ذر ، ولا أحد ممن حضر .. لأنهم ما عرفوا قيمة علي «عليه السلام» عند الله تعالى ، وعند رسوله «صلى الله

٢٨٢

عليه وآله».

وكيف يعرفون قيمته ، وهم لا يعرفونه حق معرفته؟ إذ ما عرف عليا «عليه السلام» إلا الله تعالى ، وإلا رسوله «صلى الله عليه وآله» ..

٤ ـ إستقبال علي عليه السّلام :

وإنه لمن غير المألوف ولا المعروف أن يستقبل النبي «صلى الله عليه وآله» أحدا بهذه الصورة ، إلا ما وجدناه من أنه استقبل جعفرا بخطوات يسيرة ..

ولكننا لم نجده يخرج من المدينة ، ويركب راحلته ، ويسير ما شاء الله أن يسير ، لاستقبال قادم سوى علي «عليه السلام» ..

ثم هو يضع خده على منكبه «عليه السلام» ، ويبكي علي «عليه السلام» فرحا بلقاء النبي «صلى الله عليه وآله» ، ويبكي النبي «صلى الله عليه وآله» فرحا بقدوم علي «عليه السلام» ..

جزع قريش :

وقالوا : لما أذّن علي «عليه السلام» «ببراءة» في مكة أن لا يدخل المسجد الحرام مشرك بعد ذلك العام. جزعت قريش جزعا شديدا ، وقالوا : ذهبت تجارتنا ، وضاعت عيالنا ، وخربت درونا ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ

٢٨٣

الْفاسِقِينَ)(١)» (٢).

نعم ، إن هذا هو ما يهم أهل الدنيا ، وطلاب زخرفها ، والمهتمين بزبارجها وبهارجها ، مع أن دعوة إبراهيم الله تعالى بأن يجعل أفئدة من الناس تهوي إلى ذلك الوادي ، وأن يرزقهم وأهله من الثمرات ، كانت أقوى من كل تجاراتهم ، وعلاقاتهم ، وأوسع وأكبر من كل آمالهم وتوقعاتهم ، وبهذه الدعوة يرزقهم الله ، لا بكدّهم وجدّهم ، لو كانوا يعقلون ..

__________________

(١) الآية ٢٤ من سورة التوبة.

(٢) البحار ج ٣٥ ص ٢٩٣ وتفسير القمي ج ١ ص ٢٨٤ وتفسير الميزان ج ٩ ص ٢١٦ والتفسير الأصفى للفيض الكاشاني ج ١ ص ٤٥٧.

٢٨٤

الفصل الثاني :

حجة الوداع

٢٨٥
٢٨٦

الإهتمام بحجة الوداع لماذا؟! :

إن من الطبيعي : أن يهتم المسلمون بما جرى في حجة الوداع ، وأن يفردوها بتصانيفهم ، وبحوثهم ، لأنها تضمنت التأكيد على أمور أساسية وحساسة جدا ، ومصيرية ، أهمها : ما جرى في عرفة ، أو في منى من تحد سافر من قبل قريش ومن هم على رأيها ، تجاه رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، ثم التهديد الإلهي لهم الذي أدى إلى إنجاز نصب علي «عليه السلام» وليا وإماما ، وأخذ البيعة منهم له بذلك يوم غدير خم ، في طريق عودة النبي «صلى الله عليه وآله» من حجته تلك إلى المدينة.

أما دوافع هذا الإهتمام ، فلعلها مختلفة إلى حد التباين .. بين من يريد الإثبات ، ومن يريد النفي ، أو على الأقل التشكيك بما حصل ، أو بدلالته على ما سيق للدلالة عليه.

ومهما يكن من أمر ، فقد قال بعضهم عن حجة الوداع :

أفردها بالتصنيف محمد بن المنذر ، وأحمد بن عبد الله المحب الطبري ، وإبراهيم بن عمر البقاعي الشافعيون.

وعلي بن أحمد بن حزم الظاهري.

وبسط الكلام عليها محمد بن أبي بكر الشهير بابن القيم الحنبلي في «زاد

٢٨٧

المعاد».

وإسماعيل بن كثير الشافعي في كتاب السيرة في تاريخه المسمى «البداية والنهاية» ، وهو أوسع من الذي قبله.

كل منهم ذكر أشياء لم يذكرها الآخر ، وهناك أشياء وظفرت بأشياء لم لم يذكروها (١).

إعلان المسير .. جاء بخلائق لا يحصون :

قالوا : أقام رسول الله «صلى الله عليه وآله» بالمدينة عشر سنين يضحي كل عام ، ولا يحلق ، ولا يقصر ، ويغزو المغازي ولا يحج ، حتى كان في ذي القعدة سنة عشر أجمع الخروج إلى الحج. فأذّن في الناس أنه حاج في هذه السنة.

فسمع بذلك من حول المدينة ، فلم يبق أحد يريد ، وفي لفظ : يقدر أن يأتي راكبا ، أو راجلا إلا قدم ، فقدم المدينة بشر كثير ، ووافاه في الطريق خلائق لا يحصون ، وكانوا من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، مد البصر ، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله «صلى الله عليه وآله» ويعمل مثل عمله (٢).

حجات رسول الله صلّى الله عليه وآله :

قد جزم في النص الآنف الذكر : أنه «صلى الله عليه وآله» كان بعد

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٥٠.

(٢) المصدر السابق.

٢٨٨

الهجرة يضحي ، ولا يحلق ولا يقصر. في أيام الحج ، ويغزو ولا يحج .. وأنه لم يحج من المدينة سوى حجة الوداع.

مع أنه قد روي : أنه «صلى الله عليه وآله» قد حج عشرين حجة مستسرا (١).

وفي الكافي : عشر حجات (٢).

والسبب : أنه كان يستسر بحجه ، إما لأجل النسيء ، لأنهم كانوا يحجون في غير أوان الحج ، أو لمخالفة أفعاله لأفعالهم ، للبدع التي أبدعوها في حجهم (٣) ..

وهناك نصوص أخرى أشرنا إليها في الجزء الرابع عشر من هذا الكتاب ، في فصل : «متفرقات في السنة الخامسة» تحت عنوان : «فرض الحج».

وفي موضع آخر من هذا الكتاب ، ذكرنا عدد حجاته ، وهي تدعو إلى عدم التسرع في إطلاق القول : بأنه «صلى الله عليه وآله» لم يحج سوى حجة الوداع ..

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ٣٩٨ و ٣٩٩ و ٤٠١ وج ١ ص ٢٨٠ عن علل الشرائع ص ١٥٤ وعن المناقب ج ١ ص ١٥٢ وعن السرائر ص ٤٦٩ وعن الكافي ج ١ ص ٢٣٣ و ٢٣٥ والدروس للشهيد الأول ج ١ ص ٤٧٤ ومن لا يحضره الفقيه ج ٢ ص ٢٣٨ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٣ ص ٢٨٥ و (ط دار الإسلامية) ج ٩ ص ٣٨٠ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٠ ص ٢٠١ وج ١١ ص ٥٠٤.

(٢) البحار ج ٢١ ص ٣٩٩ عن الكافي في الفروع ج ١ ص ٢٣٣ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٠ ص ٢٠١ والكافي ج ٤ ص ٢٤٤ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١١ ص ١٢٤ و (ط دار الإسلامية) ج ٨ ص ٨٨.

(٣) البحار ج ٢١ ص ٣٩٨.

٢٨٩

فإن من القريب جدا : أن تكون بعض هذه العشرين حجة ، قد حصلت بعد الهجرة ، وبصورة سرية ، بالطريقة التي تناسب حال رسول الله «صلى الله عليه وآله» ..

ويؤيد ذلك قوله : إنه «صلى الله عليه وآله» كان يستسر بها جميعا ، فإذا كان في أيام النسيء ، لم يحج مع الناس ، وينتظر إلى الوقت الحقيقي ، فيحج سرا ..

الإعلان .. أم الأذان؟ :

إن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكتف بإعلام الناس بأنه حاج في تلك السنة ، بل أمر المؤذنين أن يؤذنوا بأعلى أصواتهم : بأن رسول الله «صلى الله عليه وآله» يحج في عامه هذا (١) ، حتى «بلغت دعوته إلى أقاصي بلاد الإسلام ، فتجهز الناس للخروج معه ، وحضر المدينة ، من ضواحيها ، ومن حولها ، ويقرب منها خلق كثير ، وتهيأوا للخروج معه ، فخرج بهم» (٢) ..

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ٣٩٠ عن الكافي (الفروع) ج ١ ص ٢٣٣ و ٢٣٤ و (ط دار الكتب الإسلامية) ج ٤ ص ٢٤٥ والحدائق الناضرة ج ١٤ ص ٣١٦ والفصول المهمة ج ١ ص ٦٤٩ ومستدرك سفينة البحار ج ١ ص ٩٨ والتفسير الصافي ج ٣ ص ٣٧٤ وتفسير نور الثقلين ج ١ ص ١٤٦ وج ٣ ص ٤٨٧ وتفسير كنز الدقائق ج ١ ص ٣٨٦.

(٢) البحار ج ٢١ ص ٣٨٣ و ٣٨٤ عن الإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٧١ وعن إعلام الورى ص ٨٠ ص ٣٩٦ ومستدرك الوسائل ج ٨ ص ٨٤ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٠ ص ٣٣١ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٢٨٣.

٢٩٠

وعن الإمام الصادق «عليه السلام» قال : ذكر رسول الله «صلى الله عليه وآله» الحج ، فكتب إلى من بلغه كتابه ، ممن دخل الإسلام : إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» يريد الحج ، يؤذنهم بذلك ليحج من أطاق الحج ، فأقبل الناس (١) ..

عدد الذين حجوا مع الرسول صلّى الله عليه وآله :

قد ذكر النص المتقدم : أن الذين قدموا على رسول الله «صلى الله عليه وآله» في تلك السنة ليحجوا معه كانوا بشرا كثيرا ، ووافاه في الطريق خلائق لا يحصون ، وكانوا من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، مدّ البصر.

وقد ذكرت الروايات : أن الذين خرجوا معه «صلى الله عليه وآله» كانوا سبعين ألفا (٢).

وقيل : تسعون ألفا (٣).

__________________

(١) الكافي (الفروع) ج ٤ ص ٢٤٩ و (ط دار الكتب الإسلامية) ج ٤ ص ٢٤٩ والبحار ج ٢١ ص ٣٩٦ والحدائق الناضرة ج ١٥ ص ٥٨ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١١ ص ٢٢٤ و (ط دار الإسلامية) ج ٨ ص ١٥٨ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٠ ص ٣٥٩ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٢٨٢ وموسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم السلام» ج ٣ ص ٤٥ ومنتقى الجمان ج ٣ ص ١٦٣

(٢) البحار ج ٣٧ ص ٢٠٢ والتفسير الصافي ج ٢ ص ٥٣ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ٧٣ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٠٨.

(٣) الغدير ج ١ ص ٩ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٠٨.

٢٩١

ويقال : مائة ألف ، وأربعة عشر ألفا (١).

وقيل : مائة وعشرون ألفا (٢).

وقيل : مائة وأربعة وعشرون ألفا. ويقال أكثر من ذلك (٣).

قال العلامة الأميني : «هذه عدة من خرج معه ، أما الذين حجوا معه ، فأكثر من ذلك ، كالمقيمين بمكة ، والذين أتوا من اليمن مع علي «عليه السلام» (أمير المؤمنين) ، وأبي موسى» (٤).

قالوا : «وأخرج معه نساءه كلهن في الهوادج ، وسار معه أهل بيته ، وعامة المهاجرين والأنصار ، ومن شاء الله من قبائل العرب ، وأفناء الناس» (٥).

لماذا هذا الحشد؟! :

ونقول :

إن حشد الأمة إلى الحج ، وإرسال الكتب إلى أقصى بلاد الإسلام ، وأمر المؤذنين بأن يؤذنوا بأعلى أصواتهم : بأن رسول الله «صلى الله عليه وآله» يحج

__________________

(١) الغدير ج ١ ص ٩ والمجموع للنووي ج ٧ ص ١٠٤ ومغني المحتاج ج ١ ص ٣٤٥ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٠٨.

(٢) البحار ج ٣٧ ص ١٥٠ والغدير ج ١ ص ٩ و ٢٩٦ والعدد القوية ص ١٨٣ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٠٨.

(٣) الغدير ج ١ ص ٩ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٠٨.

(٤) الغدير ج ١ ص ٩.

(٥) الطبقات الكبرى لابن سعد (ط ليدن) ج ٣ ص ٢٢٥ وإمتاع الأسماع ص ٥١٠ وإرشاد الساري ج ٦ ص ٤٢٩ والغدير ج ١ ص ٩ عنهم.

٢٩٢

في عامه هذا ، وإخراج النبي «صلى الله عليه وآله» نساءه كلهن في الهوادج إلى الحج ، واجتماع هذه الأعداد الهائلة ، لتسير معه ، سوى من سار إلى مكة من دون أن يمر بالمدينة ، وما والاها ، وسوى الذين جاؤوا من اليمن مع ذلك ، إن ذلك لم يكن أمرا عفويا ، ولا مصادفة ، ولا كان استجابة لرغبة شخصية تقضي بجمع النبي «صلى الله عليه وآله» الناس حوله. فحاشاه من ذلك ، ولا لغير ذلك من أمور دنيوية ، فإن النبي «صلى الله عليه وآله» لا يفكر ولا يفعل إلا وفق ما يريده الله تبارك وتعالى .. وحاشاه من أي تفكير أو موقف أو عمل في غير هذا الإتجاه ..

ولعل الهدف من كل هذا الحشد هو تحقيق أمور كلها تعود بالنفع العميم على الإسلام والمسلمين ، ويمكن أن نذكر منها ، ما يلي :

١ ـ إنه أراد للناس المتمردين ، بل والمنافقين ، والذين يحلمون بالإرتداد على الإسلام وأهله عند أول فرصة تسنح لهم ، يريد لهم أن يروا عظمة الإسلام ، وامتداداته الواسعة ، وأنه لم يعد بإمكان أحد الوقوف في وجهه ، أو إيقاف مده ، فلييأس الطامحون والطامعون ، وليراجع حساباتهم المتوهمون ، وليعد إلى عقولهم المتهورون والمجازفون ..

٢ ـ إنه يريد أن يربط على قلوب الضعفاء ، ويشد على أيديهم ، ويريهم عيانا ما يحصنهم من خدع أهل الباطل ، وكيد أهل الحقد والشنآن .. ومن كل ما يمارسونه معهم من تخويف ، أو تضعيف ..

٣ ـ أن ينصب عليا «عليه السلام» إماما وخليفة من بعده أمام كل هذه الجموع الهائلة ، ليكونوا هم الشهداء بالحق على أنفسهم وعلى جميع الناس ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ..

٢٩٣

ثم أن يقطع الطريق على قلة من الناس من أن يتمكنوا من خداع الآخرين ببعض الإدعاءات أو الإشاعات كما سنرى حين الحديث عما جرى في عرفات ، ومنى ، وفي طريق العودة ، في غدير خم.

وأما أخذه لجميع نسائه معه فلعله لأن فيهن من يريد أن يقيم عليها الحجة في ذلك كله ، لأنها سيكون لها دور قوي في الإتجاه الآخر الذي يريد أن يحذر الناس من الإنغماس والمشاركة فيه ..

وباء الجدري والحصبة :

وقالوا : إن وباء الجدري والحصبة أصابت الناس فمنعت من شاء الله أن تمنع من الحج الخ .. (١).

وهذا يؤيد ما قدمناه تحت عنوان : «نقل الوباء إلى خم» ، من أن حديث نقل الوباء من المدينة إلى خم ، أو إلى غيرها ، لا يصح ، غير أن ما يهم هؤلاء هو أن يوهنوا أمر غدير خم ، وأن يثيروا اشمئزاز الناس ونفرتهم منه ، بمجرد سماع اسمه ، حتى لقد قرنوه بالوباء ، وبالحمى ، وبالجدري ، وما إلى ذلك ..

هكذا خرج النبي صلّى الله عليه وآله إلى الحج :

قالوا : وصلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» الظهر بالمدينة أربعا ،

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٠٨ وعيون الأثر ج ٢ ص ٣٤١ وحجة الوداع لابن حزم الأندلسي ج ١ ص ١١٥ وسبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٥٠ والغدير ج ١ ص ٩.

٢٩٤

وخطب الناس وعلمهم ما أمامهم من المناسك ثم ترجل وادهن بزيت ، واغتسل قبل ذلك ، وتجرد في ثوبين صحاريين : إزار ورداء (١).

زاد الواقدي : وأبدلهما بالتنعيم بثوبين من جنسهما ، ولبس إزاره ، ورداءه ، وركب ـ كما قال أنس ـ على رحل وكانت زاملته ، وقال أيضا : حج رسول الله «صلى الله عليه وآله» على رحل رث ، وقطيفة خلقة.

ثم قال : «اللهم اجعله حجا مبرورا ، لا رياء فيه ، ولا سمعة» (٢).

وخرج رسول الله «صلى الله عليه وآله» من المدينة نهارا بعد الظهر ، لخمس بقين من ذي القعدة (٣).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٥١ عن ابن سعد ، والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٧٣ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ١٠٢.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٥١ عن البخاري ، وابن ماجة ، والترمذي في الشمائل ، وأبي يعلى في هامشه عن ابن ماجة ج ٢ ص ٩٦٥ وحاشية الدسوقي ج ٢ ص ١٠ ومجمع الزوائد للهيثمي ج ٣ ص ٢٢١ والشمائل المحمدية للترمذي ص ١٨٠ والعهود المحمدية للشعراني ص ٢١٥ وإمتاع الأسماع ج ٧ ص ٢٣٧ والشفا بتعريف حقوق المصطفى ج ١ ص ١٣٢.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٥١ وسبل السلام ج ٢ ص ١٨٨ وراجع : كتاب الأم ج ٢ ص ١٣٨ وموطأ مالك ج ١ ص ٣٩٣ ونيل الأوطار ج ٥ ص ١٩١ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١١ ص ٢٣٥ و (ط دار الإسلامية) ج ٨ ص ١٦٨ والإرشاد ج ١ ص ١٧١ والبحار ج ٢١ ص ٣٨٤ وج ٣٠ ص ٦١٠ وكتاب المسند للشافعي ص ١١١ ومسند أحمد ج ٦ ص ٢٧٣ وصحيح البخاري ج ٢ ص ١٨٤ وصحيح مسلم ج ٤ ص ٣٢ وسنن ابن ماجة ج ٢ ص ٩٩٣ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٥ ص ٥ ومسند الحميدي ج ١ ص ١٠٤ ومسند ابن

٢٩٥

والصحيح : أنه «صلى الله عليه وآله» خرج لأربع بقين منه (١).

وقيل : خرج يوم السبت (٢).

وعند ابن حزم : يوم الخميس (٣).

وخرج رسول الله «صلى الله عليه وآله» على طريق الشجرة ، وكان يخرج منها ، وصلى في مسجدها (٤).

__________________

راهويه ج ٢ ص ٤٢٥ والسنن الكبرى للنسائي ج ٢ ص ٣٢٧ و ٤٥٣ وصحيح ابن حبان ج ٩ ص ٢٣٨ وراجع : فتح الباري ج ٣ ص ٣٢٣ وج ٦ ص ٨١ وج ٨ ص ٨٠.

(١) البحار ج ٢١ ص ٣٨٩ و ٣٩٠ عن السرائر ص ٤٧٧ وعن الكافي (الفروع) ج ١ ص ٢٣٣ ومنتهى المطلب (ط. ق) للحلي ج ٢ ص ٨٨٦ والكافي ج ٤ ص ٢٤٥ و ٢٤٨ وعلل الشرائع للصدوق ج ٢ ص ٤١٢ وتهذيب الأحكام للطوسي ج ٥ ص ٤٥٤ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١١ ص ٢١٤ و ٢٢٢ وج ١٣ ص ١٩٩ و (ط الإسلامية) ج ٨ ص ١٥١ و ١٥٧ وج ٩ ص ٣١٨ ومستطرفات السرائر لابن إدريس ص ٥٩١ والبحار ج ٢١ ص ٣٨٩ و ٣٩٥ وج ٩٦ ص ٨٨ وتفسير العياشي ج ١ ص ٨٩ وتفسير نور الثقلين ج ١ ص ١٨٥ وتفسير كنز الدقائق ج ١ ص ٤٦٦ وتفسير الميزان ج ٢ ص ٨٣.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٥١ عن ابن القيم ، وابن كثير ، والدمياطي ، والحاكم في الإكليل ، وابن سعد ، وسبل السلام ج ٢ ص ١٨٨ وفتح الباري ج ٣ ص ٣٢٣ وج ٦ ص ٨ وج ٨ ص ٨٠.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٥١ وفتح الباري ج ٣ ص ٣٢٣ وج ٦ ص ٨١ وج ٨ ص ٨٠ وعمدة القاري ج ٩ ص ١٦٨.

(٤) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٥١ عن البخاري.

٢٩٦

ولما أراد الخروج جعل على المدينة أبا دجانة سماك بن خرشة الساعدي (١).

ويقال : بل سباع بن عرفطة (٢).

ودخلها لأربع مضين من ذي الحجة (٣).

ودخل مكة من أعلاها ، من عقبة المدنيين ، وخرج من أسفلها (٤).

النبي صلّى الله عليه وآله بذي الحليفة :

قالوا : فسار «صلى الله عليه وآله» حتى أتى ذا الحليفة ، وهو من وادي العقيق فنزل به ، تحت سمرة في موضع المسجد ، ليجتمع إليه أصحابه ، وصلى بهم العصر ركعتين.

وأمر بالصلاة في ذلك الوادي.

فعن ابن عباس ، قال : سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٥٠ والدرر لابن عبد البر ص ٢٥٩ والبداية والنهاية ج ٥ ص ١٢٧ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٢٠.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٥٠ عن ابن هشام ، والدرر لابن عبد البر ص ٢٥٩ والبداية والنهاية ج ٥ ص ١٢٧ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٢٠.

(٣) البحار ج ٢١ ص ٣٨٩ و ٣٩٠ و ٣٩٥ وج ٣٠ ص ٦١٨ وج ٩٦ ص ١٩٣ والسرائر ص ٤٧٧ وعن الكافي (الفروع) ج ١ ص ٢٣٣ و ٢٣٤ والمجموع للنووي ج ٧ ص ١٥٤ وكشاف القناع للبهوتي ج ٢ ص ٤٨٢ وتلخيص الحبير ج ٧ ص ١٠٨ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٣ ص ١٩٩ و (ط دار الإسلامية) ج ٩ ص ٣١٨ وجامع أحاديث الشيعة ج ١١ ص ٢٧١.

(٤) البحار ج ٢١ ص ٣٨٩ و ٣٩٠ و ٣٩٥ والسرائر ص ٤٧٧ وعن الكافي (الفروع) ج ١ ص ٢٣٣ و ٢٣٤ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٢٦.

٢٩٧

بوادي العقيق : «أتاني آت من ربي» ، ولفظ البيهقي : «جبريل» فقال : «صل في هذا الوادي المبارك».

وقال : «عمرة في حجة ، فقد دخلت العمرة في الحج ، إلى يوم القيامة والله تعالى أعلم» (١).

ثم بات بذي الحليفة ، وصلى المغرب والعشاء ، والصبح والظهر ، فصلى بها خمس صلوات ، وكان نساؤه معه كلهن في الهودج ، وكن تسعة ، وطاف عليهن تلك الليلة ، واغتسل.

وعن عائشة : أنها طيبته قبل طوافه عليهن تلك الليلة ، واغتسل (٢).

ونقول :

لماذا إفشاء أسرار رسول الله صلّى الله عليه وآله :

إن من القبيح جدا أن تتحدث عائشة أو غيرها عن مباشرة النبي «صلى الله عليه وآله» لزوجاته ، ما دام أن ذلك لا يفيد في كشف حكم شرعي ، أو أخلاقي ، بل هو مجرد كشف لستر لا يريد الله سبحانه أن يكشف.

ومن الذي يرضى : أن تخبر زوجته الناس بمجامعته إياها واغتساله ،

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٥١ ورواه أحمد ، والبخاري ، وأبو داود ، وابن ماجة ، والبيهقي ، وفي هامشه عن : أحمد ج ١ ص ٢٥٧ وابن ماجة ج ٢ ص ٩٩١ وراجع : المعتبر للحلي ج ٢ ص ٧٨٦ والمبسوط للسرخسي ج ٤ ص ٤ وبدائع الصنائع ج ٢ ص ١٤٤ و ١٧٥ وصحيح البخاري ج ٣ ص ٧١ وسنن ابن ماجة ج ٢ ص ٩٩١.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٥١ عن مسلم ، والبيهقي.

٢٩٨

كلما فعل ذلك؟!

دخلت العمرة في الحج :

وعن حديث : «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» نقول :

سيأتي : أن ذلك يرتبط بتشريع حج التمتع ، الذي بدأ في سنة عشر ، وبهذه الكلمة بالذات. غير أن الظاهر أن قول الرواية : أنه «صلى الله عليه وآله» قد قال ذلك بوادي العقيق غير دقيق ، بل قاله في مكة نفسها ، كما سنرى في الفقرات التاليات إن شاء الله تعالى ..

ولادة محمد بن أبي بكر :

وولدت أسماء بنت عميس ـ زوجة أبي بكر ـ بذي الحليفة (بالبيدا) محمد بن أبي بكر ، فأرسلت أبا بكر إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» تقول : كيف أصنع؟

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : «اغتسلي ، واستثفري بثوب ، وأهليّ» ، وفي رواية : «وأحرمي» (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٥٣ عن مسلم ، وفي هامشه عن المصادر التالية : مسلم ج ٢ ص ٨٨٦ حديث (١٤٧ / ١٢١٨) والشافعي في المسند ج ١ ص ٢٩٦ (٧٧٠) وأبو داود ج ٢ ص ١٨٢ (١٩٠٥) والنسائي ج ١ ص ٦٥٤ وابن ماجة ج ٢ ص ١٠٢٢ (٣٠٧٤) وأحمد ج ٣ ص ٣٢٠ وراجع : المغني لابن قدامة ج ٣ ص ٢٦١ وتلخيص الحبير ج ٧ ص ٢٤٢ ونيل الأوطار ج ١ ص ٣٠١ والبحار ج ٢١ ص ٤٠٣ وسنن الدارمي ج ٢ ص ٤٥ وصحيح مسلم ج ٤ ص ٣٩ وسنن

٢٩٩

وزاد في نص آخر ، عن أبي بكر : وتصنع ما يصنع الناس ، إلا أنها لا تطوف بالبيت (١).

ونقول :

لا معنى لأن يأمرها بالغسل ، وهي لا تزال نفساء ، إلا إن كان المراد أن تغسل الدم.

والصواب هو : ما روي عن أهل البيت «عليهم السلام» ، من أنه «صلى الله عليه وآله» أمرها فاستثفرت ، وتنظفت بمنطقة ، وأحرمت (٢).

والإستثفار هو : أن تشد المرأة فرجها بخرقة عريضة بعد أن تحتشي.

فلما قدموا مكة ، وقد نسكوا المناسك وقد أتى لها ثمانية عشر يوما ،

__________________

ابن ماجة ج ١ ص ٢٠٤ وسنن النسائي (ط دار الفكر) ج ٥ ص ١٦٤ وشرح مسلم للنووي ج ٨ ص ١٧٢ ومنتخب مسند عبد بن حميد ص ٣٤١ والسنن الكبرى للنسائي ج ٢ ص ٣٥٦ ومسند أبي يعلى ج ٤ ص ٢٤ و ٩٣ والمنتقى من السنن المسندة ص ١٢٣.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٤٥٣ عن النسائي ، وابن ماجة ، وفي هامشه عن : النسائي ج ٥ ص ٩٧ وابن ماجة ج ٢ ص ٩٧٢ وراجع : الآحاد والمثاني ج ١ ص ٤٧٤ والسنن الكبرى للنسائي ج ٢ ص ٣٣١ وصحيح ابن خزيمة ج ٤ ص ١٦٨ وكنز العمال ج ٥ ص ٢٧٦.

(٢) البحار ج ٢١ ص ٣٧٩ عن الكافي (الفروع) ج ١ ص ٢٨٧ و ٢٨٨ وذخيرة المعاد (ط. ق) ج ١ ق ٣ ص ٥٨٨ والكافي ج ٤ ص ٤٤٤ وج ٥ ص ٣٨٩ و ٣٩٦ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٢ ص ٤٠٢ و (ط دار الإسلامية) ج ٩ ص ٦٦ وجامع أحاديث الشيعة ج ١١ ص ٢٩ وج ١١ ص ٤٢٩ ومنتقى الجمان ج ٣ ص ١٦٧.

٣٠٠