الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-202-1
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥١

أبو بكر لم يقترف ذنبا ، فلما ذا يعرضه لهذا الإمتحان العسير ، ويفضحه أمام الناس ، ويظهر ضعفه ، أو يظهر عدم أمانته ، أو نحو ذلك؟ ..

وهل تصح العقوبة بالفضيحة قبل الجناية؟!.

ويمكن أن يقال في الجواب : إنه لا شك في أن أبا بكر ، قد هيّأ مقدمات كثيرة ، وقام باتصالات مختلفة ، وتعددت مساعيه لمنع تحقق ما يريده الله ورسوله «صلى الله عليه وآله» ، من أن يكون علي «عليه السلام» هو الإمام والخليفة بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله» .. وكفى بذلك ذنبا يستحق العقوبة عليه بفضح نواياه ، وابتلائه بهذا الإمتحان العسير ..

غير أننا نقول :

إن ذلك قد لا يقنع أولئك الذين يهتمون بالذب عن أبي بكر ، وابتغاء الأعذار له ، ولذلك نقول :

لعل الأقرب إلى الإعتبار أن يقال هناك جوابان آخران :

أحدهما : أن هذا الذي جرى قد كان امتحانا لأبي بكر ، ولله ورسوله الحق في امتحان الناس ، وإظهار قدراتهم ، واستعداداتهم ، حتى لا يحمّلهم ما لا طاقة لهم به ، ولكن أبا بكر قد فشل في تحقيق أدنى درجات النجاح في هذا الإمتحان ، حيث إنه حين أرجعه النبي «صلى الله عليه وآله» في قضية براءة بكى ، وانزعج ، واغتم واهتم ، وعاتب واشتكى ، وأكثر على رسول الله «صلى الله عليه وآله» الكلام.

ولم يرض بما رضيه الله ورسوله «صلى الله عليه وآله» ، ولم نره سلم لرسول الله «صلى الله عليه وآله» تسليما. وكان أبعد ما يكون عن القاعدة

٢٦١

التي أطلقتها زينب «عليه السلام» : «رضا الله رضانا أهل البيت» (١).

ويدل على ذلك خوف أبي بكر من أن يكون قد نزل في حقه شيء من القرآن ، مع أنه يعلم أن الله تعالى أعدل العادلين وأكرم الأكرمين ، فلو لم يكن قد صدر منه شيء خشي المؤاخذة عليه ، أو أضمر شيئا خشي افتضاحه ، لم يكن معنى لخوفه ، ولا لسؤاله عن ذلك ..

ولعل مما يدل على ذلك ما صرحت به الرواية عن علي «عليه السلام» : من أن أبا بكر كان قد تثاقل عن حمل الكتاب كما تثاقل غيره ، حتى لجأ النبي «صلى الله عليه وآله» إلى فرض ذلك عليه ، وإلزامه به (٢).

الثاني : إن أبا بكر كان يرشح نفسه لأخطر موقع ، وأسمى مقام ، فإذا لم يكن أهلا لما يرشح نفسه له ، بل كان من موجبات الهلاك والدمار ، والفساد والبوار ، وسيلحق بالإسلام وأهله ضررا عظيما ، وهائلا ، فإنه يجب تعريف الناس بعدم أهليته لهذا المقام ، وإفهامهم أنه فاقد للمواصفات التي تؤهله لما هو أدنى من ذلك بدرجات ، ويكون نفس طموحه وسعيه لهذا الأمر ذنبا عظيما وخطأ جسيما يصحح إجراء العقوبة عليه ، ولا أقل من أنه يوجب سقوط حقه في كل ما تكون مراعاته من أسباب تقويته على الوصول إليه ..

وبعد أن يتم هذا البيان ، وتقوم به الحجة ، يتحمل الناس أنفسهم

__________________

(١) راجع : البحار ج ٤٤ ص ٣٦٧ واللهوف لابن طاووس ص ٣٨ وكشف الغمة ج ٢ ص ٢٣٩ ومعارج الوصول ص ٩٤ ومثير الأحزان ص ٢٩ ولواعج الأشجان ص ٧٠ ونزهة الناظر وتنبيه الخاطر ص ٨٦ والمجالس الفاخرة للسيد شرف الدين ص ٢٠٧ عن مقتل الخوارزمي ج ١ ص ١٨٦.

(٢) راجع : الخصال ج ٢ ص ٣٦٩ والبحار ج ٣٥ ص ٢٨٦ وج ٣٨ ص ١٧٢.

٢٦٢

مسؤولية أي عمل يقدمون عليه ، وإلى الله يكون إيابهم ، وعليه حسابهم ..

لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك :

قد صرحت الروايات : بأن النبي «صلى الله عليه وآله» قد أخبر أبا بكر ، بأن جبرئيل قال له : لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ..

وصرحت نصوص أخرى : بأنه لا يؤدي عن النبي «صلى الله عليه وآله» إلا هو أو علي ..

مع أنه «صلى الله عليه وآله» قد أرسل عشرات ، أو مئات الرسائل مع مختلف الأشخاص إلى الملوك ، وإلى القبائل ، والبلاد ، والفئات والجماعات. وهذا تبليغ عنه. ولم يكن هو المبلغ ولا رجل منه ..

ويمكن أن يجاب :

أولا : بأن المقصود حينئذ التبليغ عنه فيما هو من شأنه كمبلغ عن الله ، وهذا يرتبط بالشريعة والكتاب ، وليس ما كان «صلى الله عليه وآله» يبعث الرسل فيه من هذا القبيل.

ثانيا : بأن الذين كان يرسلهم إلى الملوك والجماعات برسائله لم يكونوا هم الذين يبلغون عنه ، بل كانت الرسالة هي التي توصل مرادات رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى الأشخاص أو الجماعات ..

وأما في تبليغ سورة «براءة» ، فالمطلوب من حامل الآيات أن يتولى هو مهمة التبليغ عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» .. وأن يعلن الحرب على من يصر على انتهاك حرمة المسجد الحرام بعد ذلك العام ، وإبلاغ أحكام وقرارات حازمة ، وحاسمة ، ترتبط بالتدبير للشأن العام .. وقطع دابر

٢٦٣

الخلاف والمخالفة فيه ، بما في ذلك : أن لا يطوف بالبيت عريان. وإبطال عادات الجاهلية فيما يرتبط بعرفات ، وإنذار المشركين وإعطائهم مهلة إلى أربعة أشهر ، والإعلان عن عدم تجديد عهد مع مشرك ..

وذلك كله يحتاج إلى حزم وحسم ، وتصميم ، واعتبار هذه القرارات نهائية ، لا مجال للمساومة ولا للماطلة فيها ..

ومن جهة أخرى لا بد من أن ينقطع أمل كل أهل الشرك ومن يعنيهم هذا الإعلان من أن يجدوا في القائم بعد النبي «صلى الله عليه وآله» أدنى تعاطف معهم ، بعد وفاته «صلى الله عليه وآله» ، بنقض هذه القرارات ، أو بأن يخفف من حدتها ..

فإذا كان علي «عليه السلام» الذي لم يشرك بالله طرفة عين ، وكان هو حامل راية التوحيد الخالص منذ خلقه الله تعالى ، والذي هو نفس الرسول «صلى الله عليه وآله» بنص القرآن ، وهو أخوه ، وهو منه بمنزلة هارون من موسى ، فإذا كان علي هو المبلغ عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فإنه يكون هو الأعمق أثرا ، وهو الأولى بإعلان براءة الله ورسوله من الشرك والمشركين.

أما أبو بكر الذي عاش أجواء الشرك طيلة عشرات السنين من حياته ، فلن يكون قادرا على إعلان البراءة الحقيقية من الشرك والمشركين بنفس القوة والحزم والفاعلية ، أو هذا ما سيفكر به المشركون على أقل تقدير.

ويؤكد هذه الحقيقة الشواهد التالية :

ألف : قد تقدم : أن بعض الروايات عن علي «عليه السلام» تقول : إنه «صلى الله عليه وآله» كتب الكتاب ، وعرض على جميع أصحابه المضي به إلى

٢٦٤

المشركين ، فكلهم يرى التثاقل فيهم ، فلما رأى ذلك ندب منهم رجلا ، فوجهه به ، فأتاه جبرئيل «عليه السلام» ، فقال : يا محمد ، لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ، فأنبأني رسول الله «صلى الله عليه وآله» بذلك ، ووجهني بكتابه ورسالته إلى مكة الخ .. (١).

ب : قد صرحت بعض نصوص الرواية بأكثر من ذلك ، فعن الإمام الباقر «عليه السلام» قال : لما سرح رسول الله «صلى الله عليه وآله» أبا بكر بأول سورة «براءة» إلى أهل مكة أتاه جبرئيل «عليه السلام» ، فقال : يا محمد ، إن الله تعالى يأمرك أن لا تبعث هذا ، وأن تبعث علي بن أبي طالب «عليه السلام» ، وإنه لا يؤديها عنك غيره ..

فأمر النبي «صلى الله عليه وآله» علي بن أبي طالب «عليه السلام» ، فلحقه ، فأخذ منه الصحيفة ، وقال : ارجع إلى النبي.

فقال أبو بكر : هل حدث في شيء؟!.

فقال : سيخبرك رسول الله.

فرجع أبو بكر إلى النبي «صلى الله عليه وآله» ، فقال : يا رسول الله ، ما كنت ترى أني مؤد عنك هذه الرسالة؟!.

فقال له النبي «صلى الله عليه وآله» ، أبى الله أن يؤديها إلا علي بن أبي طالب «عليه السلام».

فأكثر أبو بكر عليه من الكلام ، فقال له النبي «صلى الله عليه وآله» :

__________________

(١) الخصال ج ٢ ص ٣٦٩ والبحار ج ٣٥ ص ٢٨٦ وج ٣٨ ص ١٧٢.

٢٦٥

كيف تؤديها وأنت صاحبي في الغار؟! (١).

فإن قوله الأخير : «كيف تؤديها وأنت صاحبي في الغار» ، قد جاء على سبيل التقريع والتشنيع والذم ، وبيان السبب والمبرر لهذا الإجراء.

ولعل الوجه في ذلك : أن أبا بكر كان في الغار خائفا فزعا ، مع أنه كان يرى الآيات الدالة على حفظ الله تعالى لنبيه «صلى الله عليه وآله» ، مثل نسج العنكبوت ، ونبات شجرة السدر ، ووضع الحمامة الوحشية بيضها ، ووقوفها على باب الغار.

ومع وجوده إلى جانب النبي «صلى الله عليه وآله».

ومع تطمينات نبي الرحمة له.

ومع عدم علم أحد من المشركين بمكانهما. و.. و..

فإذا كان أبو بكر في الغار ، مرعوبا خائفا إلى هذا الحد ، وكل الشواهد تشير إلى أنه في مأمن ، فكيف سيكون حاله إذا أمام مئات أو ألوف المشركين ، وهم يرونه ويعرفون مكانه ، وهو في بلدهم وفي قبضتهم ، وجموعهم تحيط به ، وليس النبي «صلى الله عليه وآله» إلى جانبه ، ليهدىء من روعه ، ولا تظهر الآيات والمعجزات المطمئنة له. مع العلم : بأن أهل الشرك قد أصبحوا موتورين من الإسلام ، الذي قتل صناديدهم ، وآباءهم ، وإخوانهم ، وأبناء عشائرهم ، وفتح بلادهم ، وغنم أموالهم ..

ج : ثم إن هذه الكلمة من رسول الله «صلى الله عليه وآله» توضح : أن الأمر بالنسبة إلى علي «عليه السلام» كان هو الأصعب ، وأن إرساله هو

__________________

(١) إقبال الأعمال ج ٢ ص ٣٩ والبحار ج ٣٥ ص ٢٨٨.

٢٦٦

الأشد خطرا على شخصه ، فإن أبا بكر لم يكن له أثر يذكر في ساحات الحرب ، وفي مواقع الطعن والضرب ، بل كان مقامه مقام أهل الفرار ، والذين كانوا بكلماتهم وبآرائهم يخذّلون الناس عن الدخول في حرب مع المشركين ـ كما كان الحال في بدر والفتح ، وسواهما ، وقد سعى لحفظ حياة أسارى المشركين في بدر ، ولم يعرف له قتيل ولا جريح في أي من الحروب التي شهدها طيلة حياة رسول الله «صلى الله عليه وآله» كما أن دأبه كان الفرار من الزحف في مواقع الشدة والحدة ، كما جرى في أحد وفي حنين ، وفي قريظة ، وخيبر ، ولم يجرؤ على الظهور في الخندق .. وفي سائر المقامات ..

أما علي «عليه السلام» فهو لم يزل يقمعهم ، ويفتك فيهم ، طيلة عشر سنين حتى أباد خضراءهم ، وقتل صناديدهم ، وأذل عزيزهم ، وأكذب أحدوثتهم ، وكانوا يتربصون به الدوائر ، وكان حقدهم عليه لا يقل عن حقدهم على رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وكان نومه على فراش النبي «صلى الله عليه وآله» ، ومواجهتهم بالقتال هو السبب في نجاة رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وفي تمكنه من الهجرة الى المدينة ..

واذا واجههم علي «عليه السلام» بهذا القرار الحاد ، المتضمن لهذا التهديد والوعيد الشديد بالقتل ، وبإعلان الحرب على الشرك وأهله ، ووجدوه وحيدا فريدا بينهم ، وفي عقر دارهم ، وموضع قوتهم ، ومحل اجتماعهم ، فسوف لن يدخروا وسعا في الإنتقام منه لو أمكنهم ذلك ، ولن يجرؤ أحد من بني هاشم على إظهار نفسه في هذه المعمعة الهائلة ، لأن مصيرهم سيكون الدمار والبوار.

د : على أنهم قد زعموا : أن أبا بكر لم يتعرض إلى التعذيب في مكة ، لأنه

٢٦٧

كان محببا في المشركين ، مقربا إليهم.

بل يزعمون : أنه كان أول من بنى مسجدا في الإسلام في بني جمح ، ولم يعترض عليه أو لم يبالي بإعتراض أحد لأجل مكانته وعزته ، كما ذكرناه في جزء سابق من هذا الكتاب ، فراجع.

فلم يكن الأمر بالنسبة إليه يمثل أي خطر ، ولا سيما بعد أن أسلم قومه ، وأصدقاؤه ومحبوه. وإن كنا قد ذكرنا فيما سبق عدم صحة هذا الزعم.

أما علي «عليه السلام» فكانوا يحرقون عليه الأرّم ، وكانت هند قد طلبت من وحشي أن يقتله هو والنبي «صلى الله عليه وآله» أو حمزة.

الحدة بين علي عليه السّلام وبين المشركين :

ويلاحظ هنا : أن الأمور حين إبلاغ سورة براءة قد انقلبت رأسا على عقب ، فبدلا من أن يخاف علي «عليه السلام» المشركين على نفسه ، كان هو الذي يتهددهم ويتوعدهم ويتحداهم ، حتى لقد أبلغهم سورة براءة وكتاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وقد «لمع بسيفه»!! (١).

وفي نص آخر : «لما دخل مكة اخترط سيفه وقال : والله لا يطوف بالبيت عريان إلا ضربته بالسيف» (٢).

__________________

(١) البحار ج ٣٥ ص ٢٨٨ وإقبال الاعمال ج ٢ ص ٣٩.

(٢) البحار ج ٢١ ص ٢٧٥ و ٢٦٧ وج ٣٥ ص ٢٩٦ وإعلام الورى ص ١٣٢ والحدائق الناضرة ج ١٦ ص ٩٤ وجواهر الكلام ج ١٩ ص ٢٧٦ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٣ ص ٤٠١ و (ط دار الإسلامية) ج ٩ ص ٤٦٤ وجامع أحاديث

٢٦٨

وعن علي «عليه السلام» : «فأتيت مكة ، وأهلها من قد عرفتم ، ليس منهم أحد إلا ولو قدر أن يضع على كل جبل مني إربا لفعل ، ولو أن يبذل في ذلك نفسه وأهله ، وولده ، وماله ، فبلغتهم رسالة النبي «صلى الله عليه وآله» وقرأت عليهم كتابه ، فكلهم يلقاني بالتهديد والوعيد ، ويبدي لي البغضاء ، ويظهر الشحناء من رجالهم ونسائهم ، فكان مني في ذلك ما قد رأيتم» (١).

وقالوا أيضا : «لما وصل علي «عليه السلام» إلى المشركين بآيات براءة لقيه خراش بن عبد الله أخو عمرو بن عبد الله وهو الذي قتله علي «عليه السلام» مبارزة يوم الخندق ـ وشعبة بن عبد الله أخوه ، فقال لعلي «عليه السلام» : ما تسيرنا يا علي أربعة أشهر ، بل برئنا منك ومن ابن عمك ، إن شئت إلا من الطعن والضرب».

وقال شعبة : ليس بيننا وبين ابن عمك إلا السيف والرمح ، وإن شئت بدأنا بك.

فقال علي «عليه السلام» : أجل ، أجل ، إن شئت فهلموا (٢).

__________________

الشيعة ج ١١ ص ٣٢٦ ومستدرك سفينة البحار ج ٦ ص ٥٩٧ وتفسير العياشي ج ٢ ص ٧٤ وتفسير جوامع الجامع ج ٢ ص ٤٥ وتفسير مجمع البيان ج ٥ ص ٩ والتفسير الصافي ج ٢ ص ٣٢١ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ١٨٢.

(١) الخصال ج ٢ ص ٣٦٩ و ٣٧٠ والبحار ج ٣٥ ص ٢٨٦ وج ٣٨ ص ١٧٢ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ١٧٨ والإختصاص للمفيد ص ١٦٨.

(٢) البحار ج ٣٥ ص ٢٩٠ وج ٣٥ ص ٣٠٤ عن إقبال الاعمال ص ٣٢٠ و ٣٢١ و (ط مكتب الإعلام الإسلامي) ج ٢ ص ٤١ وراجع : المناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ٣٩٢ والصوارم المهرقة ص ١٢٦ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٧ ص ٤٢٢.

٢٦٩

وعن أبي جعفر الباقر «عليه السلام» : «خطب علي «عليه السلام» الناس : واخترط سيفه ، وقال : لا يطوفن بالبيت عريان الخ ..» (١).

وعن الامام الصادق «عليه السلام» : أخذ علي «عليه السلام» الصحيفة ، وأتى الموسم ، وكان يطوف على الناس ، ومعه السيف ، ويقول : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ..)(٢). فلا يطوف بالبيت عريان بعد عامه هذا ، ولا مشرك ، فمن فعل ، فإن معاتبتنا إياه بالسيف.

قال : وكان يبعثه إلى الأصنام فيكسرها ، ويقول : «لا يؤدي عني إلا أنا أو أنت» (٣).

نحن في حيرة من أمرنا :

ونربد ان نعترف هنا : أننا في حيرة شديدة في امر أبي بكر ، حيث نجد

__________________

(١) البحار ج ٣٥ ص ٢٩٦ و ٣٠٣ عن تفسير العياشي ج ٢ ص ٧٥ والمناقب ج ١ ص ٣٢٦ ـ ٣٢٨ والحدائق الناضرة ج ١٦ ص ٩٤ وجواهر الكلام ج ١٩ ص ٢٧٦ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٣ ص ٤٠١ و (ط دار الإسلامية) ج ٩ ص ٤٦٤ وجامع أحاديث الشيعة ج ١١ ص ٣٢٦ ومستدرك سفينة البحار ج ٦ ص ٥٩٧ وتفسير العياشي ج ٢ ص ٧٤ وتفسير جوامع الجامع ج ٢ ص ٤٥ وتفسير مجمع البيان ج ٥ ص ٩ والتفسير الصافي ج ٢ ص ٣٢١ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ١٨٢ وتفسير الميزان ج ٩ ص ١٦٣.

(٢) الآيتان ١ و ٢ من سورة براءة.

(٣) البحار ج ٣٥ ص ٢٩٩ وتفسير فرات ص ١٥٩.

٢٧٠

محبيه ، إذا رأوا أن إظهار الفخامة والعظمة هو المفيد ، فإنهم يجعلون حتى فراره من الزحف شجاعة ، ويجعلون ابتعاده عن المعركة في بدر رياسة ، ويدّعون : أن من دلائل عظمته اقناعه عمر بن الخطاب بموت رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وينسبون له نفوذ الكلمة والإحترام والرياسة بين المشركين في مكة ، فلم يعذبه المشركون لمكانته فيهم ، ولم يمنعوه من إقامة المسجد من أجل ذلك ، كما أن قريشا تبذل فيه مائة ناقة لمن يمكّنها منه حين الهجرة كما بذلت في رسول الله «صلى الله عليه وآله».

وعلى هذا فقس ما سواه.

وإذا احتاجوا لتخليصه من بعض المآزق إلى ادّعاء ضعفه ، وخوفه ، وكونه بلا نصير ، ولا عشيرة ، ولا ظهير .. فإنهم يبادرون إلى ذلك ، ويبالغون فيه ما شاؤا ، وبلا رقيب ولا حسيب.

قصة براءة دليل إمامة أبي بكر :

قال الرازي : «قيل : قرر أبا بكر على الموسم ، وبعث عليا خليفة (خلفه) لتبليغ هذه الرسالة حتى يصلي خلف أبي بكر ، ويكون ذلك جاريا مجرى تنبيه على إمامة أبي بكر ، والله أعلم».

قال : «وقرر الجاحظ هذا المعنى ، فقال : إن النبي «صلى الله عليه وآله» بعث أبا بكر أميرا على الحاج ، وولاه الموسم ، وبعث عليا يقرأ على الناس سورة براءة ، فكان أبو بكر الإمام وعلي المؤتم ، وكان أبو بكر الخطيب وعلي المستمع ، وكان أبو بكر الرافع بالموسم ، والسائق لهم ، والآمر لهم ، ولم يكن

٢٧١

ذلك لعلي» (١).

وقد أجاب العلامة المجلسي على هذا بما ملخصه (٢) :

أولا : إن تولي أبي بكر للموسم ممنوع ، كما أظهرته النصوص.

ثانيا : إن جعل شخص أميرا لا يلزم الناس بالصلاة خلفه ..

ثالثا : إن عليا «عليه السلام» لم يكن من أهل الموسم ليكون أبو بكر أميرا عليه ، بل هو مرسل إليهم برسالة .. وليس في الأخبار ما يدل على أن عليا «عليه السلام» صلى خلف أبي بكر.

رابعا : إن الصلاة خلف أبي بكر لا تعني ثبوت فضيلة له ، على ما زعموه من جواز الصلاة خلف كل بر وفاجر (٣).

خامسا : إن قول النبي «صلى الله عليه وآله» لعلي «عليه السلام» : «لا

__________________

(١) تفسير الرازي ج ١٥ ص ٢١٨ والبحار ج ٣٥ ص ٢٩٩ عن تفسير فرات ص ٥٤ وراجع : تحفة الأحوذي ج ٨ ص ٣٨٧.

(٢) البحار ج ٣٠ ص ٤١٨ فما بعدها.

(٣) راجع : سنن أبي داود كتاب الصلاة : الباب ٦٣ وراجع : فتح العزيز ج ٤ ص ٣٣١ والمجموع للنووي ج ٥ ص ٢٦٨ ومغني المحتاج ج ٣ ص ٧٥ والمبسوط للسرخسي ج ١ ص ٤٠ وتحفة الفقهاء للسمرقندي ج ١ ص ٢٢٩ و ٢٤٨ وبدائع الصنائع لأبي بكر الكاشاني ج ١ ص ١٥٦ و ٣١١ و ٣١٢ والجوهر النقي للمارديني ج ٤ ص ١٩ والبحر الرائق ج ١ ص ٦١٠ وحاشية رد المحتار لابن عابدين ج ٢ ص ٢٢٤ والمغني لابن قدامة ج ٢ ص ٢٥ والشرح الكبير لابن قدامة ج ٢ ص ٢٥ وج ١١ ص ٣٧٩ وكشاف القناع للبهوتي ج ٦ ص ٣٦٦ وتلخيص الحبير ج ٤ ص ٣٣١ وسبل السلام ج ٢ ص ٢٩.

٢٧٢

يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني» ، يدل على أنها تأدية خاصة لا ينالها أحد من البشر ، أما إمارة الحاج فيتولاها أي كان من الناس ، برا كان أو فاجرا ، وقد تولاها عتّاب بن أسيد قبل أبي بكر ، ولا تحتاج إلى أكثر من المعرفة بما هو الأصلح في سوق الإبل ، والبهائم ، ومعرفة المياه ، والتجنب عن مواضع اللصوص ونحو ذلك .. فهو أمر إداري صرف ..

سادسا : إن إمارة الحاج لا تستلزم خطابة ، لتستلزم الإستماع.

سابعا : إن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يأمر عليا «عليه السلام» بطاعة أبي بكر ، ومجرد رفاقته له ـ لو صحت ـ لا تعني ائتماره بأمره ..

أبو بكر وعمر إلى مكة :

والشيء الذي قلما أشار إليه الباحثون هو : أن النصوص قد صرحت : بأن النبي «صلى الله عليه وآله» قد أرسل أبا بكر وعمر معا ببراءة إلى أهل مكة ، فانطلقا ، فإذا هما براكب ، فقال : من هذا؟!

قال : أنا علي. يا أبا بكر هات الكتاب الذي معك.

فأخذ علي الكتاب ، فذهب به ، ورجع أبو بكر وعمر إلى المدينة ، فقالا : ما لنا يا رسول الله؟!

قال : «ما لكما إلا خيرا ، ولكن قيل لي : لا يبلغ عنك إلا أنت أو رجل منك» (١).

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ج ٣ ص ٥١ وتخريج الأحاديث والآثار ج ٢ ص ٥٠ وشواهد التنزيل للحسكاني ج ١ ص ٣١٨ وأبو هريرة للسيد شرف الدين ص ١٢٤.

٢٧٣

ويؤيد شراكة عمر في هذا الأمر : أن بعض الروايات قد صرحت : بأن النبي «صلى الله عليه وآله» قد عرض حمل الكتاب إلى المشركين على جميع أصحابه فكلهم تثاقل عن حمله ، والمضي به إلى مكة ، فندب منهم رجلا فوجهه به (١).

وهذا معناه : أن عمر كان ممن تثاقل أيضا .. وقد كان تثاقل الناس هذا هو السبب في أنه «صلى الله عليه وآله» قد فرض حمل الكتاب إلى مكة على رجل بعينه!!.

وبذلك يكون حال عمر كحال أبي بكر في جميع ما يترتب على إرجاع النبي «صلى الله عليه وآله» لأبي بكر من آثار ، وما يمكن أن يكون له من دلالات ..

وفي مقابل ذلك نلاحظ : أن بعض الروايات تذكر : أن عمار بن ياسر هو الذي رافق عليا «عليه السلام» إلى مكة ، ولعل عدم ذكر عمر وعمار في غالب الروايات قد جاء اكتفاء بذكر من هو أهم منهما ، فذكر علي «عليه السلام» يكفي عن ذكر عمار ، كما أن ذكر أبي بكر يغني عن ذكر عمر ، لا سيما وأن عمر يستمد شرعية حكومته من شرعية حكومة أبي بكر ، لأنه تلقاها منه بوصية كتبها.

ولعل عمر كان أيضا مرغما على الذهاب معه ، فإنه لم يكن ليجازف بنفسه مختارا ، وقد سبق أن امتنع عمر عن امتثال أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» بالذهاب إلى مكة ليبلغ أشراف قريش بما جاء له في غزوة

__________________

(١) الخصال ج ٢ ص ٣٦٩ والبحار ج ٣٥ ص ٢٨٦ وج ٣٨ ص ١٧٢.

٢٧٤

الحديبية ، فلم يرض بالذهاب وقال : يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي (١).

محاولة فاشلة :

وتبذل محاولة للزعم : بأن أبا بكر قد سأل النبي «صلى الله عليه وآله» عن سبب إرسال علي «عليه السلام» بعد أدائه مناسك الحج .. لأجل الإيهام بأن أبا بكر قد مضى مع علي «عليه السلام» إلى مكة وأقام الحج للناس ، فلما رجع سأل النبي «صلى الله عليه وآله» عن سبب استبداله بعلي «عليه السلام» في حمل الرسالة.

ولكنها محاولة فاشلة ، فإن عددا من الروايات الأخرى تصرح : بأنه حين لقي عليا رجع ، ومضى علي «عليه السلام» إلى مكة ..

وبعضها يقول : إن النبي «صلى الله عليه وآله» أمر عليا «عليه السلام» بأن يردّ أبا بكر ..

__________________

(١) راجع تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٧٨ وإقبال الأعمال ج ٢ ص ٣٨ عنه ، وعين العبرة في غبن العترة لأحمد آل طاووس ص ٢٤ والبحار ج ٣٥ ص ٢٨٧ ومسند أحمد ج ٤ ص ٣٢٤ وتخريج الأحاديث والآثار ج ٣ ص ٣١٠ وجامع البيان للطبري ج ٢٦ ص ١١١ وتفسير الثعلبي ج ٩ ص ٤٧ وتفسير البغوي ج ٤ ص ١٩٣ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٢٠٠ و ٢١٠ وتفسير الثعالبي ج ٥ ص ٢٥٤ والثقات لابن حبان ج ١ ص ٢٩٨ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٩ ص ٧٨ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٩١ وعيون الأثر ج ٢ ص ١١٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣١٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٦.

٢٧٥

والروايات متفقة على رجوعه ، وإن اختلفت في بعض الخصوصيات الأخرى ، التي يمكن حل اختلافاتها بأدنى تأمل.

وحتى لو كان قد سار الى مكة مع علي «عليه السلام» ، فإن ذلك لا يستلزم الحكم بأنه هو الذي حج بالناس ، فإنه يكون قد ذهب ليحج عن نفسه ، وتحت إمرة علي «عليه السلام» ، ولا مضايقة من أحد في ذلك.

أبو بكر لم يعزل :

وحين ضاقت الأمور على بعض المتعصبين لأبي بكر ، وجدوا أنفسهم في موقع الإنكار لأصل الواقعة ، وهذا ما فعله عباد بن سليمان ، والقوشجي ، وأضرابهما (١).

واستدل بعضهم على ذلك : بأن عزل أبي بكر عن تأدية براءة قبل الوصول إلى موضعها يلزم نسخ الفعل قبل حضور وقت العمل ، وهو غير جائز (٢).

غير أننا نقول :

أولا : إن إنكار أصل الواقعة لا يلتفت إليه ، لأنه إنكار لما هو أوضح من الشمس ، وأبين من الأمس ، كما اعترف به القاضي عبد الجبار (٣).

__________________

(١) المغني للقاضي عبد الجبار ج ٢٠ ص ٣٥٠ والبحار ج ٣٠ ص ٣١٥ و ٣١٨ وراجع : منار الهدى ص ١٨٧ عن القوشجي ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٠٠.

(٢) المغني ج ٢٠ ص ٣٥٠ والبحار ج ٣٠ ص ٣١٥ و ٣١٨.

(٣) البحار ج ٣٠ ص ٣١٥ و ٣١٨.

٢٧٦

ثانيا : حديث عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل في هذا المقام .. غير سديد.

فإن هذا ليس نسخا ، فإن المورد ليس من الأحكام الشرعية الكلية ليتعلق به النسخ ، بل هو أمر مرتبط بشخص بعينه ، وإنما كانت هناك مصلحة في إعطاء أبي بكر الكتاب والآيات إلى أن يبلغ بها ذلك الموضع من الطريق لكي يكون ذلك مقدمة لبلورة مصلحة أخرى تكمن في أخذ علي «عليه السلام» الآيات والكتاب منه ، وإيصاله إلى مكة وأهل الموسم ، ولعل هذه المصلحة هي إظهار فضل علي «عليه السلام» على أبي بكر ، وأن أبا بكر لا يصلح لما يعمل من أجله ..

ثالثا : قد جوز جمهور الأشاعرة وكثير من علماء الأصول النسخ قبل حضور وقت العمل (١).

رابعا : إن عزل أبي بكر ليس من قبيل الأحكام ، لكي يجري فيه النسخ ، فإدخاله في هذا الباب غريب وعجيب.

خامسا : لو سلمنا : أنه من قبيل النسخ قبل حضور وقت العمل ، فنقول :

إذا دلت الأخبار المتواترة على وقوعه ـ وأجمع نقلة الأخبار على حصوله كان ذلك دليلا على جوازه .. وبه يعلم خطأ من ذهب إلى عدم الجواز ..

__________________

(١) هداية المسترشدين ج ١ ص ٥٩٠ وبداية الوصول ج ٤ ص ٢٥٦ وعناية الأصول ج ٢ ص ٣٣٤.

٢٧٧

من لم يصلح لتبليغ سورة لا يصلح للخلافة :

هذا ، وقد استدل علماء الشيعة بهذه الواقعة على عدم صلاحية أبي بكر للخلافة ، فضلا عن الإمامة ، فقالوا : من لم يصلح لأداء سورة واحدة إلى أهل بلدة. فهو لا يصلح للرئاسة العامة ، المتضمنة لأداء جميع الأحكام إلى عموم الرعايا في سائر البلاد (١).

أضاف الشريف المرتضى «رحمه الله» قوله : «لو سلمنا أن ولاية الموسم لم تنسخ (أي لو سلمنا أنه ولي الموسم) لكان الكلام باقيا ، لأنه إذا كان ما ولي مع تطاول الأزمان إلا هذه الولاية ، ثم سلب شطرها ، والأفخم ، والأعظم منها ، فليس ذلك إلا تنبيها على ما ذكرنا» (٢).

ويؤكد ما قاله علماؤنا هنا ما ذكرناه فيما سبق ، من أنه «صلى الله عليه وآله» قد استبدله بعلي «عليه السلام» الذي كان خطر بطش المشركين والحاقدين به قويا جدا ، بخلاف أبي بكر الذي لم يكن لهم عنده ثارات ، وكانت له مواقف إيجابية خلصت أسراهم وصناديدهم من خطر محتم ، كما جرى في غزوة بدر وفي غيرها ..

بل إن نفس قوله «صلى الله عليه وآله» حكاية عن جبريل «عليه السلام» : «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» ، يتضمن اتهاما خطيرا

__________________

(١) راجع : البحار ج ٣٠ ص ٢١١ وج ٣٥ ص ٣١٠ ومنهاج الكرامة ص ١٨١ ونهج الحق ص ٢٦٥ وإحقاق الحق (الأصل) ص ٢٢٢.

(٢) الشافي ج ٤ ص ١٥٥ والبحار ج ٣٠ ص ٤١٧ عنه ، وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ١٩٧ والصوارم المهرقة ص ١٢٦.

٢٧٨

لأبي بكر بعدم أدائه للأمانة ، وأن القضية لم تكن بسبب الخوف ، وإلا لكان قال لأبي بكر : إنك إن أبلغتهم الرسالة قتلوك ، إذ إن الخطر إنما يتوجه إليه بعد إبلاغها.

فاتضح : أن هذا التعبير من رسول الله «صلى الله عليه وآله» يرمي إلى إفهام أمر آخر ، ليس هو الخوف على أبي بكر من أن يلحقه أذى.

نحن في حيرة من أمرنا :

والمناسبة تفرض علينا أن نعترف بأننا في حيرة من أمرنا.

علي عليه السّلام وعمار :

وقد تقدم : أن بعض النصوص أشارت إلى أن عمار بن ياسر قد رافق عليا «عليه السلام» إلى مكة ، وتقول : إن فلانا وفلانا قد انزعجا من إرسال علي «عليه السلام» ، وأحبا أن يرسل من هو أكبر سنا ، فقالا : بعث هذا الصبي ، ولو بعث غيره إلى أهل مكة ، وفي مكة صناديد قريش ورجالها. والله ، الكفر أولى بنا مما نحن فيه.

ثم إنهما سارا إلى علي «عليه السلام» وإلى عمار ، وخوفاهما بأهل مكة ، وغلظا عليهما الأمر ، وقالا لهما : إن أبا سفيان ، وعبد الله بن عامر ، وأهل مكة قد جمعوا لهم ..

فقال علي «عليه السلام» : حسبنا الله ونعم الوكيل ، ومضيا ، فلما دخلا مكة أنزل الله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ

٢٧٩

اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)(١)» (٢).

ولعل انزعاج فلان وفلان قد كان بعد تثاقلهما أولا ، وبعد الإنتداب القسري لأبي بكر للمهمة ، ثم عزله عنها ، حيث فاجأهما هذا العزل ، وأزعجهما أن يكون علي «عليه السلام» هو البديل ، واستفاقا على ضربة معنوية هائلة ، وموجعة جدا ، فأحبا تدارك الأمر ، ولو بأن يعلن علي «عليه السلام» انصرافه ، أو تردده ، وخوفه ، بسبب تخويفهما إياه بجمع الناس ..

كما أن نفس إظهار شيء من الحرص على تولي هذه المهمة قد يعيد شيئا من الإعتبار لمن فقده ، مهما كان قليلا وضئيلا ..

عودة علي عليه السّلام :

وعن عودة علي «عليه السلام» من سفره تقول الرواية التي لخصناها :

إن عليا «عليه السلام» انصرف إلى المدينة يقصد في السير ، وأبطأ الوحي عن النبي «صلى الله عليه وآله» في أمر علي «عليه السلام» ، وما كان منه ، فاغتم لذلك غما شديدا ..

وكان من عادته «صلى الله عليه وآله» أنه إذا صلى الغداة استقبل القبلة ، واستقبل علي «عليه السلام» الناس خلف النبي «صلى الله عليه وآله» ، فيستأذنون في حوائجهم ، وبذلك أمرهم «صلى الله عليه وآله».

__________________

(١) الآيتان (١٧٣ و ١٧٤) من سورة آل عمران.

(٢) راجع : تفسير العياشي ج ١ ص ٢٠٦ و ٢٧٩ والبحار ج ٣٠ ص ٢١٧ وج ٣٥ ص ٢٩٤ عنه ، وتفسير نور الثقلين ج ١ ص ٤١١ و ٥٦٢ وتفسير كنز الدقائق ج ٢ ص ٢٨٩ و ٦٥٤ وغاية المرام ج ٤ ص ٢٢٧.

٢٨٠