الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-202-1
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥١

٤ ـ وإن الله ورسوله بريء من المشركين.

٥ ـ ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة (أو إلا من كان مسلما).

٦ ـ ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامه هذا.

٧ ـ وأن هذه أيام أكل وشرب.

٨ ـ وأن يرفع الخمس من قريش ، وكنانة وخزاعة إلى عرفات (١).

والخمس أحكام كانوا قد قرروها لأنفسهم ترك الوقوف بعرفات والإفاضة منها (٢).

فلما كان أبو بكر ببعض الطريق إذ سمع رغاء ناقة رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وإذا هو علي «عليه السلام» ، فأخذ الكتاب من أبي بكر ومضى.

ويبدو أن الكتب كانت ثلاثة :

أحدها : ما أشير إليه آنفا.

والثاني : كتاب يشتمل على سنن الحج ، كما روي عن عروة.

والكتاب الثالث : كتبه النبي «صلى الله عليه وآله» الى أبي بكر وفيه : أنه استبدله بعلي «عليه السلام» لينادي بهذه الكلمات في الموسم ، ويقيم للناس حجهم.

وعند المفيد : أنه «صلى الله عليه وآله» قال لعلي : «وخيّر أبا بكر أن يسير مع ركابك أو يرجع إليّ» ، فاختار أبو بكر أن يرجع إلى رسول الله «صلى الله

__________________

(١) تفسير فرات ص ١٦١ والبحار ج ٣٥ ص ٣٠٠ عنه ، وراجع : تفسير الميزان للسيد الطباطبائي ج ٨ ص ٨٧.

(٢) راجع : السيرة النبوية لابن هشام ج ١ ص ١٩٩.

٢٤١

عليه وآله» ، فلما دخل عليه قال : «يا رسول الله ، إنك أهلتني لأمر طالت الأعناق فيه إليّ ، فلما توجهت له رددتني عنه؟ ما لي؟ أنزل فيّ قرآن؟

فقال «صلى الله عليه وآله» : لا ، الخ ..» (١).

رجع أبو بكر إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» منزعجا قلقا قائلا : يا رسول الله هل نزل فيّ شيء. فأخبره النبي «صلى الله عليه وآله» بأن جبرئيل جاءه وقال له : إنه لا يبلغ عنه إلا هو أو رجل منه ، وهو علي «عليه السلام».

فقرأ علي «عليه السلام» في موقف الحج سورة براءة حتى ختمها كما عن جابر.

وعن عروة : أنه «صلى الله عليه وآله» أمر عليا «عليه السلام» أن يؤذّن بمكة وبمنى ، وعرفة ، وبالمشاعر كلها : بأن برئت ذمة رسول الله «صلى الله عليه وآله» من كل مشرك حج بعد العام ، أو طاف بالبيت عريان الخ ..

ولهذا الحديث مصادر كثيرة جدا ، فراجعه في مظانه (٢).

__________________

(١) الإرشاد ج ١ ص ٦٥ و ٦٦ والبحار ج ٢١ ص ٢٧٥ وج ٣٥ ص ٣٠٣ عنه ، وعن المناقب ج ١ ص ٣٢٦ و ٣٢٧ والمستجاد من الإرشاد (المجموعة) ص ٥٥ ونهج الإيمان لابن جبر ص ٢٤٧ وكشف اليقين ص ١٧٣.

(٢) راجع هذا الحديث في المصادر التالية : الدر المنثور ج ٣ ص ٢٠٩ و ٢١٠ عن أحمد ، وابن أبي شيبة ، والترمذي ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، وابن حبان ، والطبراني ، والتراتيب الإدارية ج ١ ص ٧٢ ورسالات نبوية ص ٧٢ والبحار ج ٢١ ص ٢٦٦ و ٢٦٧ و ٢٧٤ و ٢٧٥ وج ٣٥ ص ٢٨٥ ـ ٣٠٩ والجامع لأبي زيد القيرواني ص ٣٩٦ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٦٦ والرياض النضرة ج ٣ ص ١١٨ و ١١٩ وذخائر العقبى ص ٦٩ وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٣ ص ٩١ وعن تاريخ الأمم

٢٤٢

__________________

والملوك ج ٣ ص ١٢٢ و ١٢٣ والكفاية للخطيب ص ٣١٣ والسنة لابن أبي عاصم ص ٥٨٩ وكنز العمال ج ٢ ص ٤٢٢ و ٤١٧ و ٤٣١ وج ١٣ ص ١٠٩ ومجمع الزوائد ج ٧ ص ٢٩ وتفسير المنار ج ١٠ ص ١٥٧ و ١٥٦ والعمدة لابن البطريق ص ١٦٠ وكشف اليقين ص ١٧٢ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٣٨ وج ٧ ص ٣٥٧ وعمدة القاري ج ١٨ ص ٢٦٠ وج ٤ ص ٧٨ ووسيلة المآل ص ١٢٢ والجمل للمفيد ص ٢١٩ والكامل لابن عدي (ط دار الفكر) ج ٣ ص ٢٥٦ و ٤١٣ وابن زنجويه ج ١ ص ٦٦٣ والمعجم الكبير ج ١١ ص ٤٠٠ وفتح القدير ج ٢ ص ٣٣٤ والمناقب للخوارزمي ص ٩٩ و ١٦٥ و ١٦٤ وزوائد المسند ص ٣٥٣ وفرائد السمطين ج ١ ص ٦١ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٣٨٣ وجامع البيان ج ١٠ ص ٤٤ ـ ٤٧ وتفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٣٣٣ والصواعق المحرقة ص ٣٢ وتفسير أبي حيان ج ٥ ص ٦ وإمتاع الأسماع ص ٤٩٩ والإصابة ج ٢ ص ٥٠٩ وخصائص الإمام علي بن أبي طالب للنسائي ص ٩٢ و ٩٣ والأموال لأبي عبيد ص ٢١٣ و ٢١٥ وتيسير الوصول ج ١ ص ١٥٨ وعن الكشاف ج ٢ ص ٢٤٣ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٢٠٣ والسنن الكبرى ج ٥ ص ١٢٨ ح ٨٤٦١ وج ٩ ص ٢٢٤ وكفاية الطالب ص ٢٥٥ و ٢٥٤ و ٢٨٥ عن أحمد ، وابن عساكر ، وأبي نعيم ، وتشييد المطاعن ج ١ ص ١٦٤ و ١٦٥ ونور الثقلين ج ٢ ص ١٧٧ و ١٨٢ وتهذيب تاريخ دمشق ج ٣ ص ٨٩ ومسند أحمد ج ١ ص ٣ و ١٥١ و ١٥٠ وج ٣ ص ٢١٢ و ٢٨٣ وإرشاد الساري ج ١٠ ص ٢٨٣ وغرائب القرآن (مطبوع بهامش جامع البيان) ج ١٠ ص ٣٦ وتذكرة الخواص ص ٣٧ وترجمة الإمام علي «عليه السلام» من تاريخ مدينة دمشق (بتحقيق المحمودي) ج ٢ ص ٣٧٦ و ٣٩٠ والمستدرك على الصحيحين ج ٢ ص ٣٦١ وج ٣ ص ٥٢ وينابيع المودة ص ٨٩ والطرائف ص ٣٨ و ٣٩ وعن فتح الباري ج ٨ ص ٣١٨ ومختصر تاريخ دمشق ج ١٨ ص ٦ وج ٢٠ ص ٦٨ والجامع الصحيح للترمذي ج ٥ ص ٢٥٧ و ٢٥٦

٢٤٣

وقد نظم الشعراء هذه المنقبة شعرا فقال شمس الدين المالكي المتوفي سنة ٧٨٠ ه‍ :

وأرسله عنه الرسول مبلغا

وخص بهذا الأمر تخصيص مفرد

وقال هل التبليغ عني ينبغي لمن

ليس من بيتي من القوم فاقتد (١)

الثناء على أبي بكر في سورة «براءة» :

وبعد ، فإننا بالنسبة لقولهم : إن أخذ آيات براءة من أبي بكر ، إنما هو لأن السورة تضمنت مدحا لأبي بكر ، فأحب أن يكون على لسان غيره ..

__________________

وتفسير النسفي ج ٢ ص ١١٥ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٦٨ وتفسير البيضاوي ج ١ ص ٣٩٤ ومطالب السؤل ص ١٧ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٢ ص ٤٦ وج ٧ ص ٢٨٨ وسنن الدارمي ج ٢ ص ٦٧ و ٢٣٧ وصحيح ابن خزيمة ج ٤ ص ٣١٩ والروض الأنف ج ٧ ص ٣٧٤ والكامل في التاريخ ج ١ ص ٦٤٤ والتفسير الكبير للرازي ج ١٥ ص ٢١٨ والإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ج ٥ ص ١٩ وج ١٥ ص ١٦ والجامع لأحكام القرآن ج ٨ ص ٤٤ والمواهب اللدنية ج ١ ص ٦٤٠ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٤٠ وروح المعاني ج ١٠ ص ٤٤ و ٤٥ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٤١ والسنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ١٢٨ وج ٢ ص ٤٠٧ وعن ابن خزيمة ، وأبي عوانة ، والدار قطني في الإفراد ، وابن أبي حاتم ، وتفسير البغوي (مطبوع مع تفسير الخازن) ج ٣ ص ٤٩ وتفسير الخازن ج ٢ ص ٢٠٣ والإرشاد للمفيد ج ١ ص ٦٥ و ٦٦ والبرهان (تفسير) ج ٢ ص ١٠٠ و ١٠١ وإعلام الورى ص ١٣٢ وعن علل الشرايع ص ٧٤ وعن الخصال ج ٢ ص ١٦ و ١٧. وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ١٥٢ ومسند علي ص ٧٤١.

(١) الغدير ج ٦ ص ٥٨ عن نفح الطيب ج ١٠ ص ٢٤٤.

٢٤٤

نقول :

إن هذا القائل يشير إلى آية الغار ، فإن أبا بكر مقصود فيها ، وهذا الكلام باطل.

أولا : قد ذكرنا في هذا الكتاب حديث الغار ، وقلنا : إن الآية التي ذكرت صحبة أبي بكر للنبي «صلى الله عليه وآله» في الغار ، قد تضمنت ما يدل على التعريض بذم أبي بكر لأكثر من سبب ، ومن ذلك : أنها ذكرت : حزن أبي بكر وهو في الغار ، رغم أنه يرى الكرامات والمعجزات الدالة على حفظ الله تعالى لنبيه «صلى الله عليه وآله» ، وهو معه ، والحال أنه «صلى الله عليه وآله» يطمئنه ولا يلتفت إلى ذلك ، وهذا يدل على أنه كان يحتاج إلى المزيد من تأكيد يقينه ، وبلورة إيمانه ، ولا يكتفي بهذا القدر ، الذي لم تكن نتائجه مرضية ومقبولة.

يضاف إلى ذلك : أن الله تعالى سبحانه قد أخبر أنه أنزل سكينتة على نبيه «صلى الله عليه وآله» دون أبي بكر ، مع أن أبا بكر كان هو الخائف الحزين ، وليس النبي «صلى الله عليه وآله».

ثانيا : إنه إذا كان «صلى الله عليه وآله» قد كتب إلى أهل مكة بعشر آيات ، أو بعشرين ، أو بثلاثين آية من سورة براءة ، فليس من بينها أية آية تشير إلى أبي بكر ، لأن آية الغار هي الآية الأربعون في سورة براءة ..

إننا نسجل ملاحظة هامة هنا ، وهي : السؤال عن سبب تأخر الحديث عن الغار ، إلى ما بعد عشر سنوات ، وعدم الحديث عن مبيت علي «عليها السلام» في فراش النبي «صلى الله عليه وآله» حين الهجرة. فهل يراد بذكر الغار الإلماح إلى أن المصائب والبلايا والشدائد قد لاحقت النبي «صلى الله

٢٤٥

عليه وآله» إلى تلك اللحظات ، وأنها كانت تأتيه من الداخل والخارج. وقد نصره الله في المواطن كلها حتى في هذه المواطن؟!

فلييأس المتآمرون ، وليكفّ أعداء الله عن تقصّده بالكيد والتآمر ، فإن الله الذي كان معه في تلك المواطن الخطيرة والصعبة لن يتخلى عنه بعد أن ضرب الإسلام بجرانه ، وعزّ الدين وأهل الدين.

نعم ، هل يراد بالحديث عن الغار بيان هذه الحقيقة؟! أم أن هناك ما هو أبعد من ذلك؟!

من بدع الرافضة!! :

تقدم : أن بعض أهل الأهواء زعم : أن حديث عزل أبي بكر عن إمارة الحج من بدع الرافضة ..

وسنرى : أن هذا الذي ادّعي أنه من بدع الرافضة هو الذي تؤيده أكثر الروايات. باستثناء رواية واحدة رواها محبو أبي بكر ، وبقية الروايات وهي تؤكد على رجوع أبي بكر إلى النبي «صلى الله عليه وآله» من الطريق وهي الأخرى لم يروها الرافضة ، بل رواها أعداؤهم ، ومناوؤوهم الذين لا يتورعون عن كيل الإتهامات الباطلة لهم ، بسبب ، وبدون سبب ..

وليكن ظهور زيف هذه التهمة ، دليلا وشاهدا على قيمة سائر اتهاماتهم للرافضة ، ومدى تجنّيهم عليهم! .. فإنا لله وإنا إليه راجعون .. ويا ساعد الله هذه الأمة التي يكون رعاتها وعلماؤها بهذا المستوى من الجرأة على الباطل ، وعدم الإلتزام بالصدق ، بل وتعمد التجني ، والإصرار على التسويق للباطل ..

٢٤٦

وسيتضح مدى جرأة هؤلاء الناس بملاحظة المطالب التالية :

رجوع إلى روايات غير الشيعة :

قد اختلفوا في هل أن أبا بكر رجع إلى المدينة ، أم واصل سيره إلى مكة مع علي «عليه السلام»؟!.

وإذا كان قد سار إلى مكة ، هل كان هو أمير الحج ، وعلي «عليه السلام» تحت إمارته ورئاسته ، أم العكس؟!.

والجواب : أن الروايات التي رواها غير الشيعة على ثلاثة أقسام :

الأول : ما لم يتعرض لهذا الأمر.

الثاني : ما صرح بمواصلة أبي بكر سيره إلى مكة ، وحج مع علي «عليه السلام». وهذه الروايات عن أبي هريرة ، وابن عباس ، وينسب ذلك إلى أبي جعفر أيضا والسدي.

الثالث : تلك الروايات التي تحدثت عن رجوع أبي بكر إلى المدينة ، وهي منقولة عن علي «عليه السلام» ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، والسدي (١) ، وأبي بكر نفسه ، وعن زيد بن بثيع ..

وقد صرحت بعض روايات هؤلاء : بأنه «صلى الله عليه وآله» بعث «براءة» أولا مع أبي بكر ، ثم دعاه ، فبعث بها عليا «عليه السلام» (٢).

__________________

(١) راجع مكاتيب الرسول ج ١ ص ٢٦٨.

(٢) راجع : مسند أحمد ج ٣ ص ٢٨٣ ونحوه في سنن الترمذي في تفسير سورة التوبة.

وقال : هذا حديث حسن. وكنز العمال ج ٢ ص ٤٢٢ وراجع الغدير ج ٦ ص ٣٤٥ وغير ذلك وشواهد التنزيل للحسكاني ج ١ ص ٣٠٩ وتاريخ مدينة

٢٤٧

فيلاحظ : أن الذين يقال : إنهم رووا أن أبا بكر واصل سفره إلى مكة ، وإنه أقام الحج للناس. هم ثلاثة أشخاص فقط وهؤلاء هم أنفسهم باستثناء ما نسبوه إلى أبي جعفر ، قد رووا : أن أبا بكر رجع إلى المدينة ..

وبذلك تصبح روايتهم لرجوع أبي بكر إلى المدينة هي المجمع عليها تقريبا.

وبذلك يتضح عدم صحة ما ادّعاه هؤلاء من تواتر الأخبار في حج أبي بكر بالناس في سنة تسع ، قال فضل بن روزبهان في رده على العلامة الحلي : «من الذي حج تلك السنة ، إن رجع أبو بكر؟ أتدّعي أن عليا كان أمير الحاج تلك السنة ، وتخالف المتواتر؟! أم تدّعي أنه لم يحج في سنة تسع أحد»؟ (١).

كما أن القاضي عبد الجبار قد ادّعى : أن ولاية أبي بكر على الموسم والحج قد ثبت بلا خلاف بين أهل الأخبار ، ولم يصح أنه عزله ، ولا يدل رجوع أبي بكر إلى النبي «صلى الله عليه وآله» مستفهما عن القصة على العزل (٢).

__________________

دمشق ج ٤٢ ص ٣٤٤ وكشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد (بتحقيق الآملي) للعلامة الحلي ص ٥٠٩ و (بتحقيق السبحاني) ص ٢٠٤ وشرح إحقاق الحق للسيد المرعشي (الملحقات) ج ٢٢ ص ٤٢٢.

(١) دلائل الصدق ج ٣ ق ١ ص ١٨ و ١٩ عن فضل بن روزبهان ، وإحقاق الحق (الأصل) ص ٢٢٢.

(٢) البحار ج ٣ ص ٣١٤ والمغني لعبد الجبار ج ٢٠ ص ٣٥٠ وراجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ١٩٥ والشافي في الإمامة ج ٤ ص ١٥٣.

٢٤٨

ونقول :

أولا : إن الأخبار متواترة في أن أبا بكر قد رجع إلى المدينة ، ومضى علي «عليه السلام» في طريقه إلى مكة. ولم يرو ـ عندهم ـ مضي أبي بكر إلى مكة سوى ما نسبوه إلى أبي جعفر «عليه السلام».

وأما أبو هريرة ، وابن عباس ، والسدي ، فرووا كلا الأمرين .. فإذا أيدنا رواية الرجوع بما رواه كثيرون غيرهم ، فإن روايتهم لغيرها تسقط عن الإعتبار.

ثانيا : إننا نقول لابن روزبهان : إن الذي حج بالناس في تلك السنة هو علي «عليه السلام» ، كما صرحت به الروايات أيضا.

وتبليغ رسالة النبي «صلى الله عليه وآله» للناس ، لا يمنع عليا «عليه السلام» من إقامة الحج لهم. كما لم يكن مانعا لأبي بكر من المضي في نفس هذين الغرضين ، وكان سيؤديهما معا ، لو أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يرجعه ، ويرسل عليا «عليه السلام» مكانه ..

ثالثا : بالنسبة لكلام القاضي عبد الجبار ، نقول :

ليس هناك إجماع على تولية أبي بكر للموسم ، فقد قال الطبرسي بالنسبة لعلي «عليه السلام» : «روى أصحابنا : أن النبي «صلى الله عليه وآله» ولاه أيضا الموسم ، وأنه حين أخذ البراءة من أبي بكر رجع أبو بكر» (١).

وقد قلنا أيضا : إن أكثر الأخبار خالية عن ذكر مسير أبي بكر إلى مكة.

__________________

(١) مجمع البيان ج ٥ ص ٩ والبحار ج ٢١ ص ٢٦٦ وج ٣٠ ص ٤١٧ والتفسير الصافي ج ٢ ص ٣٢١ والتبيان للطوسي ج ٥ ص ١٦٩ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ١٨٢.

٢٤٩

وإن جميع الروايات ، وجميع الرواة الذين تعرضوا لهذا الأمر قد صرحوا برجوعه إلى المدينة ، باستثناء راو واحد ورواية واحدة.

وإن ثلاثة من الرواة قد ناقضوا أنفسهم في ذلك .. فلا اعتداد بروايتهم هذه ، لأن روايتهم الأخرى مؤيدة بسواها ..

رابعا : لنفترض : أن أهل الأخبار ـ كما قال القاضي عبد الجبار ـ قد ذكروا تولية أبي بكر للموسم. فإذا كانوا كلهم من محبي أبي بكر ، ومن المدافعين عنه ، بكل قوة وحول ويسعون لتبرئته ، ولدفع الطعون عنه.

وإذا كانت جميع الروايات التي رووها هم لنا تخالف قولهم هذا ، مع تناقض باقيها فيما ينقله سوى رواية واحدة ـ وإذا كان الأمر كذلك ـ فإننا نفقد ثقتنا بهم ، ونشك في اعتمادهم سبيل الإنصاف ، وسنرى : أنهم متحيزون بلا حجة ولا دليل ، بل الدليل والحجة والرشد في خلافهم ..

خامسا : ويرد على القول : بأن رجوع أبي بكر لا يدل على العزل : أن المدعي لبقائه أميرا على الموسم هو الذي ربط بين الأمرين ، واعتبر أن قبوله برجوع أبي بكر معناه إسقاط أبي بكر عن ولاية الموسم ..

وهو محق في ربطه هذا ، لأن الرواية التي اعتمد عليها ، وهي رواية أبي جعفر. ورواية ابن عباس المتناقضة تقولان : إن عليا «عليه السلام» وأبا بكر مضيا إلى مكة ، ولم يرجع أبو بكر إلى المدينة ، فإن ثبت رجوعه ، فذلك يكون دليلا آخر على عدم سقوط هاتين الروايتين عن الإعتبار ، يضاف إلى سائر الأدلة على ذلك.

٢٥٠

هل نقض النبي صلّى الله عليه وآله العهد؟! :

تقول بعض الروايات : «نزلت سورة «براءة» لكي تنقض العهد الذي كان بين رسول الله «صلى الله عليه وآله» وبين المشركين.

ثم بينت : أن المقصود هو العهد العام الذي كان بينه وبين أهل الشرك ، وهو : أن لا يصد عن البيت أحد جاءه ، وأن لا يخاف أحد في الشهر الحرام .. وكان بين ذلك عهود بين رسول الله «صلى الله عليه وآله» وبين قبائل من العرب إلى أجل مسمى.

فنزلت «براءة» لتنقض العهد العام منها (١) ..

ونقول :

إن هذا كلام باطل ، إذ لم يكن عهد بين النبي «صلى الله عليه وآله» وبين أحد ، بل فتحت مكة في سنة ثمان ، وبقيت الأمور على حالها هذه المدة القصيرة ، ثم جاء هذا الحكم الإلهي الصريح ، وكان لا بد من إبلاغه وتطبيقه .. وحاشا رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن ينقض عهدا مع أحد ، عامّا كان أو خاصّا.

بل لقد صرحت الروايات والآيات : بأن من كان بين النبي «صلى الله

__________________

(١) راجع : جامع البيان ج ١٠ ص ٤٢ عن ابن إسحاق ، وراجع ص ٤٣ عن الضحاك ودلائل الصدق ج ٢ ص ٢٤٥ عن فضل بن روزبهان ، وراجع : المغني لعبد الجبار ج ٢٠ ص ٣٥١ وراجع : البحار ج ٢١ ص ٢٦٨ وعمدة القاري ج ١٨ ص ٢٥٨ وتفسير مجمع البيان ج ٥ ص ١٢ وتفسير السمرقندي ج ٢ ص ٣٧ وتفسير الآلوسي ج ١٠ ص ٤٧ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ٧ ص ٤٢٠.

٢٥١

عليه وآله» وبينهم عهد فعهدهم باق إلى انتهاء مدتهم ، لكنه منع من تجديد العهد معهم ، وهذا ليس نقضا ، كما هو ظاهر. ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر.

ولعل الهدف من إعطاء هذه المهلة للمشركين هو إفساح المجال لهم للسؤال عن هذا الدين ، والعيش مع أهله لكي يحسموا خياراتهم بروية وهدوء ، بعيدا عن أي ضغط أو إكراه.

ليس للمشرك أن يأتي بيت الله :

وقد كان المشركون يرفضون الإعتراف بالحق ، والقبول بعبادة الله الواحد الأحد ، فتحققت بذلك المنافرة والمناقضة بينهم وبين التوحيد ، وكل ما يمت إليه بصلة ، وهذا يفرض إقصاءهم ومنعهم من دخول حرم الله تعالى وبيته ، وسيكون دخولهم إليه دخول المبغض الحانق ، الذي لا يطيق رؤية أي من مظاهر هذا التوحيد وتجلياته ، ولو لا أنهم يريدون الحصول على منافع دنيوية ، أو أنهم يريدون الكيد للإسلام وأهله ، لما راق لهم المجيء إلى حرم الله تعالى ، ولما استساغوا التعامل مع أهله ..

والخلاصة : أنه لا يحق لهم المطالبة أو التفكير بدخول الحرم والمسجد ، إذ لا شيء يربطهم به ، أو يشدهم أو يخولهم الدخول إليه ، بل إن دخولهم هذا يمثل عدوانا ، وأذى ، وربما يصاحبه استهزاء ، وإظهار حنق وبغض لبيت الله وحرمه.

يضاف إلى ذلك : أنهم إنما كانوا يدخلونه لعبادة أصناهم ، لا لعبادة الله ، وقد أزيلت تلك الأصنام فيه ، وأصبح موضعا لعبادة الله وتوحيده ، وليس

٢٥٢

لهم في هذا الأمر نصيب.

كيف يتبدل رأي النبي صلّى الله عليه وآله؟! :

وقد يعترض بعض قاصري النظر ، فيقول : إذا كان النبي «صلى الله عليه وآله» معصوما فما معنى أن يتبنى رأيا ، ويبدأ بتنفيذه ، ثم يبدل رأيه هذا بغيره ، ويلغي ما كان قام به ، ويستبدله بما يتوافق مع هذا الرأي المستجد؟!. فيرسل أبا بكر أولا ، حتى إذا قطع مسافة لا يستهان بها ، أرسل إليه من يكون بديلا عنه ..

ثم ألا يضعف ذلك ثقة الناس بالنبي «صلى الله عليه وآله» ، ويخل بمكانته في نفوسهم؟!.

والجواب :

إن القضية لم تكن قضية رأي ظهر خطؤه ، وبان أن غيره هو الصواب ، أو الأصوب ، أو حتى الأفضل منه .. وإنما كان المطلوب أمران :

أحدهما : إرسال أبي بكر إلى المكان الذي وصل إليه ، ثم إرسال علي «عليه السلام» ليأخذ منه كتاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فإن في هذا الأمر مصلحة يراد تحقيقها. وقد كان بوحي من الله ، لا برأي ظهر خطؤه من رسول الله «صلى الله عليه وآله».

وذلك لأنه «صلى الله عليه وآله» : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(١) ،

__________________

(١) الآيتان ٣ و ٤ من سورة النجم.

٢٥٣

الثاني : إرجاع أبي بكر وإرسال علي «عليه السلام» دونه ، وكان هذا بوحي من الله تعالى أيضا ..

لا ينقض العهد إلا العاقد أو رجل منه :

وقد حاول المشفقون على أبي بكر تبرير ما جرى ، فادّعوا ـ كما تقدم ـ : أن العقود والعهود لا يحلها إلا المطاع والعاقد لها ، أو رجل من أهل بيته (١).

وهذا كلام مرفوض :

أولا : إن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يرسل أبا بكر ولا عليا «عليه السلام» لحل عقد ، أو نقض عهد ، كما أوضحناه تحت عنوان : «هل نقض النبي «صلى الله عليه وآله» العهد؟».

ثانيا : لو سلمنا : أن الأمر كان كذلك ، فلما ذا أرسل أبا بكر من أول الأمر؟! فإنه «صلى الله عليه وآله» لم يكن جاهلا برسوم المجتمعات في زمانه ، وبين قومه ، وبالأعراف القائمة التي يفترض فيه أن يراعيها. ولا كان هناك من هو أعرف منه بها.

ثالثا : إن دعوى أن من عادات العرب أن العهد لا ينقضه إلا العاقد أو رجل من أهل بيته ، دعوى كاذبة على أهل الجاهلية ، ولم نجد لها شاهدا ، ولا مؤيدا ولا دليلا ، إلا نفس دعواهم لها في هذا المورد.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي : ذلك غير معروف من عادة العرب ، وإنما هو تأويل تأوله المتعصبون لأبي بكر ، لانتزاع سورة براءة منه ، وليس

__________________

(١) راجع : دلائل الصدق ج ٢ ص ٢٤٥ عن فضل بن روزبهان وبقية المصادر تقدمت في بداية الحديث عن موضوع تبليغ سورة «براءة».

٢٥٤

بشيء (١).

فالذي قاله المرتضى أصح وأظهر ، وما نسب إلى عادة العرب غير معروف ، وإنما هو تأويل تأول به متعصبو أبى بكر لانتزاع براءة منه ، وليس بشىء.

ولم نسمع أن أحدا توقف في نقض عقد أو عهد حتى يبلغه إياه عاقده أو أحد أقاربه (٢) ، بل المطلوب هو الوثوق بأن صاحب العلاقة قد نقض العهد ، وحل العقد.

رابعا : لو كان الأمر كذلك ، فلما ذا يخاف أبو بكر من أن يكون قد نزل فيه شيء؟!.

خامسا : لماذا لا يعترض أبو بكر على رسول الله «صلى الله عليه وآله» وهو في المدينة ، ويقول له : أرسل أحد أقاربك ، فإن أعراف العرب تمنع من إرسالي .. وقد عهدناه هو وعمر يكثران من الإعتراض على رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، والإقتراح عليه ..

أو لماذا لم يعترض أحد من الصحابة عليه في ذلك؟!.

سادسا : هناك ما يدل على : أن تبليغ براءة لا يمكن أن يقوم به حتى جميع أقارب النبي «صلى الله عليه وآله» ، بل هو خاص بعلي «عليه السلام» ، فقد رووا عنه «صلى الله عليه وآله» أنه قال : «لا يؤدي عني إلا أنا أو علي». روي ذلك عن يحي بن آدم السلولي ، وعن حبشي بن جنادة ، وعن حنش ،

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٠٠ والبحار ج ٣٠ ص ٤٢٢ وج ٣٥ ص ٣١٢ عنه.

(٢) راجع : الشافي ج ٤ ص ١٥٠ والصراط المستقيم ج ٢ ص ٦ والبحار ج ٣ ص ٣١٩.

٢٥٥

وعمران ، وأبي ذر الغفاري (١) ، وروي أيضا عن ابن عباس (٢) فراجع.

__________________

(١) إعلام الورى ص ١٣٢ والإرشاد للمفيد ج ١ ص ٦٦ ومسند أحمد ج ٤ ص ١٦٤ و ١٦٥ وج ١ ص ١٥٠ والرياض النضرة ج ٣ ص ١١٩ والدر المنثور ج ٣ ص ٢١٠ عن ابن الشيخ ، وكنز العمال ج ٢ ص ٤٢٢ وج ١١ ص ٦٠٣ وتذكرة الخواص ص ٣٦ والمقاصد الحسنة ص ١٢٤ وجامع البيان ج ١٠ ص ٤٦ ومطالب السؤول ص ١٨ والجامع الصغير ج ٢ ص ١٧٧ والجامع الصحيح للترمذي ج ٥ ص ٤٩٥ والسنن الكبرى ج ٥ ص ١٢٨ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٤٤ وخصائص علي بن أبي طالب للنسائي ص ٩١ ومصابيح السنة ج ٤ ص ١٧٢ والمعجم الكبير ج ٤ ص ١٦ والروضة الندية ص ٢٥٧ وينابيع المودة ج ١ ص ٥٢ ونور الأبصار ص ١٦٠ ونزل الأبرار ص ٣٨ والمصنف لابن أبي شيبة ج ١٢ ص ٥٩ والصواعق المحرقة ص ١٢٢ ومشكاة المصابيح ج ٣ ص ٣٥٦ ومناقب الإمام علي بن أبي طالب ص ٢٢٢ وكفاية الطالب ص ٢٧٦ وتهذيب الأسماء ج ١ ص ٣٤٨ وتذكرة الحفاظ ج ٢ ص ٤٥٥ وكنوز الحقائق ج ٢ ص ١٦ وفرائد السمطين ج ١ ص ٥٩ والبداية والنهاية ج ٧ ص ٣٥٦ وإسعاف الراغبين (بهامش نور الأبصار) وعن ابن قانع ، وابن أبي عاصم ، والضياء المقدسي ، والجارودي ، والعقد النبوي للشيخ ابن العيدروس ، والبحار ج ٢١ ص ٢٧٤ و ٢٧٥.

(٢) البرهان (تفسير) ج ٢ ص ١٠٥ عن ابن شهرآشوب وعلل الشرائع ج ١ ص ١٩٠ والبحار ج ٣٥ ص ٢٨٥ وجامع أحاديث الشيعة ج ١١ ص ٣٢٥ والغدير ج ٦ ص ٣٤٤ والمعجم الكبير للطبراني ج ١١ ص ٣١٦ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ١٧٩ وجامع البيان للطبري ج ١٠ ص ٨٤ وشواهد التنزيل للحسكاني ج ١ ص ٣١٧ والكامل لابن عدي ج ٣ ص ٢٥٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٢ ٣٤٥ وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج ١٤ ص ٦٥٢ وج ٢٢ ص ٤٢٣ وج ٢٣ ص ٢٠٦ وج ٣٠ ص ٦٢٠.

٢٥٦

لماذا أرجع أبا بكر؟ :

وعن سبب إرجاع أبي بكر عن تبليغ سورة «براءة» ، وسائر الأحكام التي أرسلها رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى المشركين ، وأهل مكة نقول :

لعل سبب ذلك يعود إلى بعض أو كل الإحتمالات التالية :

١ ـ قد يقال : إن المقصود هنا هو إظهار أن أبا بكر لا يؤتمن على إبلاغ الرسالة التي وكل بإبلاغها ، ولذلك قال له رسول الله «صلى الله عليه وآله» : «لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني» ، ولم يقل : إنك لا تقدر على التبليغ ..

غير أننا نقول :

إن كلمة النبي «صلى الله عليه وآله» : «لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني» لا تحتم أن يكون سبب عدم تبليغ غيره عنه هو عدم أمانته ، لاحتمال أن يكون المقصود : هو النهي عن تولية غير علي «عليه السلام» لتبليغ شيء عن رسول الله «صلى الله عليه وآله».

غير أن هذا الإحتمال يبقى موضع جدال ونقاش.

فإنه ـ كما أوضحه بعض الإخوة ـ إذا كان الرسول «صلى الله عليه وآله» هو المبلغ عن الله تعالى إلى الناس كتابه وشرائعه ، وقال : «لا يبلغ عني إلا علي» كان من المحتمل جدا ـ إن لم يكن هو الظاهر ـ إرادة أنه لا يقوم مقامي في التبليغ عني ـ الذي هو تبليغ بالواسطة عن الله تعالى ـ إلا علي ، وهذا دليل إمامته «عليه السلام» وعدم صلاح غيره لهذا المقام.

وأما الرواة والفقهاء وحفظة القرآن بعد رسول الله «صلى الله عليه

٢٥٧

وآله» فإنهم وإن كانوا يبلغون عنه إلا أن المرجعية العليا في ذلك هي للإمام بعده «صلى الله عليه وآله» ، لأنه هو الحافظ للشريعة وأحكامها والكتاب وآياته. وكل ما يتداولونه حينذاك إنما يصح الإعتماد عليه لأنه تحت إشرافه وبإمضائه «عليه السلام» وهذا غير ما سيأتي تحت رقم (٥) فإن المذكور هناك هو الإستدلال بالأولوية ، فإذا كان لا يصلح للنيابة في تبليغ رسالة فكيف يصلح للنيابة في الرياسة العامة ، وأما هنا فإنه استدلال مباشر على أصل المسألة التي هي مقام النيابة عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» في حفظ الشريعة وتبليغها ، ويكون المورد ـ أي تبليغ براءة ـ من مصاديقها.

٢ ـ إنه «صلى الله عليه وآله» خاف أن يضعف أبو بكر في أداء مهمته ، وربما ينكل عن مواجهة المشركين بهذا الإعلان القوي. حيث إنه قد يخشى من المشركين أن يغتالوه أو أن يؤذوه ، ولا يثق بنصرة أهل مكة له ، لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام.

وقد أشار المعتزلي إلى ذلك فقال : لعل السبب في ذلك ، أن عليا «عليه السلام» ، من بني عبد مناف ، وهم جمرة قريش في مكة ، وعلي «عليه السلام» أيضا شجاع لا يقام له ، وقد حصل في صدور قريش منه الهيبة الشديدة ، والمهابة العظيمة ، فإذا حصل مثل هذا البطل وحوله من بني عمه من هم أهل العزة والقوة والحمية ، كان أدعى إلى نجاته من قريش ، وسلامة نفسه الخ .. (١).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٠٠ والبحار ج ٣٠ ص ٤٢٣.

٢٥٨

ولكنّ علماءنا (١) ناقشوا في ذلك ، فقالوا : لو كان الغرض من استبدال أبي بكر بعلي «عليه السلام» هو سلامة من أرسله رسول الله «صلى الله عليه وآله» من الأذى كان الأحرى أن يرسل «صلى الله عليه وآله» العباس ، أو عقيلا ، أو غيرهما ممن لم يكن لدى قريش حقد عليهم ، لأنهم لم يشاركوا في قتل آباءهم ، وإخوانهم.

وحديث الخوف من شجاعة علي «عليه السلام» لا ينفع هنا ، فإن قريشا كانت تجترىء على علي «عليه السلام» وتسعى لقتله في الحروب ، وإن كانت تمنى دائما بالخزي والخيبة ، فهل تكف عنه إذا وجدته وحده في مكة بالذات وكان معها ألوف من أهل الشرك؟!

على أنهم قد زعموا : أن أبا بكر قد ذهب إلى مكة أميرا على الحاج (٢) ، فلما ذا لم يخف من قريش ومن المشركين أن يغتالوه إذا كان قد خاف من القتل ، بسبب حمله لرسالة النبي «صلى الله عليه وآله» إليهم؟!.

٣ ـ ولا نريد أن نوافق بعضهم حتى على إبداء احتمال أن يؤدي ضعف أبي بكر به إلى مصانعة الأعداء ، وممالأتهم ، والتآمر معهم .. فإن أبا بكر كان يعلم : أن النبي والمسلمين كانوا هم الأقوى ، كما أظهرته الوقائع وكما ظهر من غزوة مؤتة ، وتبوك ، والفتح ، وحنين ، وخيبر ، وأحد ، وبدر ، والخندق .. وما إلى ذلك .. وهو لن يجازف بالغدر بهم ، ويعرض نفسه لأخطار سيكون

__________________

(١) راجع البحار ج ٣٠ ص ٤٢٣.

(٢) فتح العزيز ج ٧ ص ٣١ والبحار ج ٣٠ ص ٤١٨ وعمدة القاري ج ١٨ ص ٢٦٠ وتحفة الأحوذي ج ٨ ص ٣٨٧ وجامع البيان للطبري ج ١٠ ص ٧٧ والتفسير الكبير للرازي ج ١٥ ص ٢١٩ والمعارف لابن قتيبة ص ١٦٥.

٢٥٩

علي «عليه السلام» هو مصدرها ، وربما يهدر النبي «صلى الله عليه وآله» دمه .. ولا يجد بعد هذا ملاذا له في أي مكان.

٤ ـ هناك من يطرح احتمال أن يكون أبو بكر غير قادر على الإجابة على أسئلة الناس ، وعن أحكام حجهم ، ودينهم ، وسياساته ، وحقائقه ، وشرائعه ..

٥ ـ لعل الهدف من إرجاع أبي بكر : هو تجسيد حقيقة حاله ، وأنه لا يصلح لأن ينوب عن النبي «صلى الله عليه وآله» أو غير قادر حتى في إبلاغ رسالة له إلى أهل مكة ، فهل يصلح للرياسة العامة التي يرشح نفسه لها ، أو يقدر على القيام بمقتضياتها ، ولا سيما مع وجود علي أمير المؤمنين «عليه السلام» ..

وهذا ما صرحت به الرواية التي وردت في التفسير المنسوب إلي الإمام العسكري «عليه السلام» ، حيث تقول : إن جبرئيل قال لرسول الله «صلى الله عليه وآله» عن «براءة» : «ما أمرك ربك بدفعها إلى علي ، ونزعها من أبي بكر سهوا ، ولا شكا ، ولا استدراكا على نفسه غلطا ، ولكن أراد أن يبين لضعفاء المسلمين : أن المقام الذي يقومه أخوك علي «عليه السلام» لن يقومه غيره سواك يا محمد ، وإن جلّت في عيون هؤلاء الضعفاء من أمتك مرتبته ، وشرفت عندهم منزلته» (١).

الله لا يؤاخذ على النوايا :

وهنا سؤال يقول :

إننا نعلم : أن الله تبارك وتعالى لا يؤاخذ الناس على نواياهم ، فإذا كان

__________________

(١) البحار ج ٣٥ ص ٢٩٧ عن التفسير المنسوب للإمام العسكري ص ٢٣١ و ٢٣٢.

٢٦٠