الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٣٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-202-1
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥١

وعشرين (١).

عرفهم بعلم النبوة ، فلا مؤاخذة للمجرمين :

ونود أن نذكّر القارئ الكريم : بأن الله تعالى هو الذي أعلم النبي «صلى الله عليه وآله» بأسماء أولئك المجرمين ، فأعلم بها حذيفة ..

وهذا معناه : أنه علم غير ميسور للبشر بما هو متوفر لديهم من وسائل.

إذن .. فليس للنبي «صلى الله عليه وآله» أن يؤاخذهم ..

ولأجل ذلك لم يستجب لطلب حذيفة ـ حينما طلب منه ذلك.

وزعمت رواية الصالحي الشامي المتقدمة : أن أسيد بن حضير هو الذي طلب قتل المتآمرين ..

ولكننا نشك في صحة ذلك ، فإن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يتحدث مع حذيفة ، وعمار ، ولم يكن أسيد حاضرا ، وقد أمر «صلى الله عليه وآله» حذيفة وعمارا بالكتمان ، بعد أن جرى بينه وبينهما ذلك ، كما تقدم (٢) ..

بل صرحت بعض الروايات : بأن حذيفة هو الذي قال للنبي «صلى الله عليه وآله» ذلك ، فراجع (٣) ..

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ٢٣١ والتفسير المنسوب للإمام العسكري «عليه السلام» ص ٣٨٠ و ٣٨٩ والإحتجاج ج ١ ص ١٢٨.

(٢) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٩ عن البيهقي في الدلائل.

(٣) مجمع البيان ج ٥ ص ٤٦ والبحار ج ٢١ ص ١٩٦ و ٢٣٤ عنه وعن الخرايج والجرايح.

١٤١

حمزة بن عمرو الأسلمي :

وقد زعم حمزة بن عمرو الأسلمي أنه لحق برسول الله «صلى الله عليه وآله» بالعقبة .. وأنه قد جمع الذي سقط من المتاع بسبب تنفيرهم برسول الله «صلى الله عليه وآله» ، بعد أن نوّر الله له أصابعه ..

ونقول :

١ ـ إن هذا مشكوك فيه ، فإن النبي «صلى الله عليه وآله» بعد أن أعلمه الله تعالى بالمؤامرة ، قد أمر الناس بأن لا يمر منهم أحد بالعقبة ، وأمر الناس كلهم بسلوك بطن الوادي (١).

٢ ـ إن تنوير أصابع هذا الرجل كلها لا ضرورة له ، إذ كان يكفي تنوير إصبع واحد له بحيث يجعله يضيئ له الدنيا بأسرها .. ، بل هو لا يحتاج إلى نور أصلا ، إذ إن حذيفة يقول : إنه سمع حسّ القوم ، فالتفت فرأى قوما ملثمين ، فلم يعرفهم ، لكنه عرف رواحلهم (٢).

وهذا معناه : أن الظلام لم يكن دامسا بحيث يحتاج إلى تنوير خمس أصابع ..

دباب الحصى ، والهوة السحيقة :

قالوا : وحين رجوع الجيش من تبوك ، كان في طريقهم عقبة صعبة ، لا

__________________

(١) راجع : البحار ج ١٧ ص ١٨٤ ومجمع البيان ج ٥ ص ٥١ وعن الإحتجاج ج ١ ص ١٢٩ وتفسير العسكري ص ٣٨٠ ـ ٣٨٩

(٢) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٦٦ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٣٣.

١٤٢

يجتاز عليها إلا فرد رجل ، أو فرد جمل ، وكان تحتها هوة مقدار ألف رمح ، فمن تعدى عن المجرى هلك من وقوعه في تلك الهوة.

وقد كانت غزوة تبوك ، والعسكر يسير في الليل فرارا من الحرّ.

فسبق بعضهم إلى تلك العقبة ، وكانوا قد أخذوا دبابا كانوا هيأوها من جلد حمار ، وضعوا فيها حصى ، وطرحوها بين يدي الناقة (١).

ولعلهم إنما وضعوا الحصى في تلك الدباب من أجل أن تصدر منها أصوات تفاجئ الناقة ، وتوجب نفورها ، بالإضافة إلى تعثرها بتلك الدباب ..

غير أن النصوص المتقدمة قد ذكرت : أنه «صلى الله عليه وآله» أخبرهم بأن المتآمرين أرادوا أن يقطعوا أنساع ناقته ، ثم ينخسوها لكي تلقيه ..

فلعل هذا كان هو التدبير الأول لهم ، ثم لما وجدوا أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد منع الناس من سلوك طريق العقبة ، لم يعد يمكنهم الإقتراب منها ، فهيأوا الدباب ، وسبقوه إلى المكان ، ثم نفّروا به الناقة ، فسقط بعض المتاع ، ولم يتم لهم ما أرادوا ..

في تبوك أم في حجة الوداع؟! :

ثم إن معظم المصادر قد ذكرت هذه القضية في غزوة تبوك ، لكن هناك سياق آخر يقول : إنها كانت بعد حادثة الغدير في حجة الوداع.

وإنهم إنما فعلوا ذلك خوفا من أن يأخذ البيعة لعلي «عليه السلام» منهم مرة أخرى في المدينة.

__________________

(١) البحار ج ٢٨ ص ٩٩ و ١٠٠ وج ٣٧ ص ١١٥ و ١٣٥ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٦٠٢ عنه.

١٤٣

ولا نستطيع أن نجزم بكذب أي من الروايتين ، غير أننا نقول :

إن الأعرف بين المؤرخين سنّة وشيعة ، هو أنها كانت في تبوك.

لماذا هذه المؤامرة؟! :

إن هذا النصر الذي سجّله رسول الله «صلى الله عليه وآله» في تبوك ، حيث ظهر لكل أحد رعب قيصر الروم من حركة المسلمين باتجاه بلاده ، بالإضافة إلى أمور أخرى جرت في تبوك وأكّدت ورسّخت مكانة المسلمين ، ليس في منطقة الحجاز وحسب ، بل في المحيط العربي كله ، ثم تجاوز ذلك أيضا حتى بلغ بلاد الروم ـ إن ذلك ـ يطرح سؤالا عن سبب لجوء هؤلاء الناس إلى هذه المؤامرة ..

ولعل الإجابة الأقرب إلى القبول هي : أن هؤلاء الناس قد رأوا في تبوك تباشير مستقبل عظيم الأهمية ، لا بد من أن يكون لهم نصيب فيه ، ومن الواضح أن وجود النبي «صلى الله عليه وآله» سيكون مانعا لهم من التصرف وفق ما تشتهيه أنفسهم ، فكيف وهم يرون أنه لم يزل يؤكد إمامة وخلافة علي «عليه السلام» من بعده ، وهم يعلمون أن حالهم مع علي «عليه السلام» سوف لن تختلف عن حالهم مع النبي «صلى الله عليه وآله» ، فإنه نسخة طبق الأصل عنه ..

ولربما أصبحوا يخشون من أن يبادر «صلى الله عليه وآله» إلى عمل يحرجهم ، ويعرقل خططهم الرامية إلى الإستئثار بالأمر من بعده ، فكانت هذه المبادرة المخزية منهم ..

١٤٤

لمحات أخرى على ما جرى في العقبة :

وقد ذكرت بعض الروايات : أن المنافقين كانوا قد دبروا لقتل علي «عليه السلام» في تبوك كما دبروا لقتل النبي «صلى الله عليه وآله» في العقبة ، وذلك بأن حفروا في طريق علي «عليه السلام» في المدينة حفيرة طويلة بقدر خمسين ذراعا ، وقد عمقوها ثم غطوها بحصر ، ثم وضعوا فوقها يسيرا من التراب ، فإذا وقع فيها كبسوه بالأحجار حتى يقتلوه.

وقد أنجاه الله تعالى من كيدهم بكرامة منه ، وعرّفه أسماء تلك الجماعة التي فعلت ذلك ، وأعلنها له ، وكانوا عشرة ، كانوا قد تواطأوا مع الأربعة والعشرين ، الذين دبروا لقتل رسول الله «صلى الله عليه وآله» في العقبة.

ثم تذكر الرواية حديث العقبة ، وأن النبي «صلى الله عليه وآله» قد نزل بإزائها ، وأخبر الناس بما جرى على علي «عليه السلام» .. ثم أمرهم بالرحيل ، وأمر مناديه فنادى : ألا لا يسبقن رسول الله «صلى الله عليه وآله» أحد على العقبة ولا يطأها حتى يجاوزها رسول الله «صلى الله عليه وآله».

ثم أمر حذيفة أن يقعد في أصل العقبة ، فينظر من يمر به ، وأمره أن يتشبه بحجر ، فقال حذيفة : يا رسول الله ، إني أتبين الشر في وجوه رؤساء عسكرك ، وإني أخاف إن قعدت في أصل الجبل ، ثم جاء منهم من أخاف أن يتقدمك إلى هناك ، للتدبير عليك ، يحسّ بي ، فيكشف عني ، فيعرفني ، وموضعي من نصيحتك ، فيتهمني ويخافني فيقتلني.

إلى أن تذكر الرواية : أن حذيفة رأى الأربعة والعشرين رجلا على جمالهم ، يقول بعضهم لبعض : من رأيتموه ها هنا كائنا من كان فاقتلوه ، لئلا يخبروا محمدا بأنهم قد رأونا هنا ، فينكص محمد ، ولا يصعد هذه العقبة إلا نهارا ،

١٤٥

فيبطل تدبيرنا عليه.

فسمعها حذيفة ، واستقصوا فلم يجدوا أحدا.

ثم تذكر الرواية دحرجتهم للدباب ، وأن الله تعالى قد حفظ نبيه «صلى الله عليه وآله» وجاز العقبة ، وأرسل حذيفة إليهم ، فضرب وجوه رواحلهم ، فنفرت بهم ، وسقط بعضهم ، فانكسر عضده ، وبعضهم انكسرت رجله ، وبعضهم انكسر جنبه.

فلأجل ذلك كان حذيفة يعرف المنافقين .. انتهى ملخصا (١).

ونقول :

إنه يستوقفنا في هذه الرواية الأمور التالية :

قصة الحفيرة :

إن المدينة كانت قرية صغيرة ، وكان سكانها قليلين ، وبيوتها متراكمة ومجموعة ، غير منتشرة ، فإذا كان علي «عليها السلام» واليا على المدينة ، ويمر من ذلك الطريق. فإن كان يمر منه في كل يوم فمعنى ذلك : أن هذه الحفرة قد حفرت في أقل من يوم واحد ، والمفروض : أن طولها كان خمسين ذراعا ، فكيف تمكنوا من حفر هذا المقدار في هذه المدة القصيرة؟!

ومن الذي هيأ الأمور بحيث لا يمر أحد من تلك الطريق ممن يمكن أن يخبر عليا «عليه السلام» بما يجري؟!

ولماذا لم يتساءل الأطفال ، والنساء ، والرجال الساكنون ، أو الماروّن من

__________________

(١) راجع : البحار ج ٢١ ص ٢٢٣ ـ ٢٣٢ والإحتجاج ج ١ ص ١١٦ ـ ١٣٢ وج ١ ص ٦٤ ـ ٦٥ والتفسير المنسوب للإمام العسكري ص ٣٨٠ ـ ٣٨٩.

١٤٦

هناك عن سبب حفر تلك الحفرة؟!

وهل لم يكن أحد من أهل الإيمان ومن بني هاشم يسكن في ذلك الحي كله ، فيخبر عليا «عليه السلام» بالأمر؟!

وهل كان علي «عليه السلام» مفرطا في أمور ولايته إلى حد أن تحفر حفيرة عميقة بطول خمسين ذراعا في طريق عام ، ولا يدري بها؟!

إننا لا نملك جوابا مقبولا أو معقولا على هذه الأسئلة ، يخفف من وطأة حيرتنا ..

سبب منع النبي صلّى الله عليه وآله الناس من مرافقته :

لقد أكدت روايات عديدة على أن النبي «صلى الله عليه وآله» أمر الناس أن لا يطأوا العقبة حتى يجاوزها هو «صلى الله عليه وآله».

وهذا إجراء لافت لا بد من فهمه ، ومعرفة ما يتوخاه «صلى الله عليه وآله» منه ..

ولنا أن نبادر إلى القول : بأن المقصود هو فضح المؤامرة ، والتمكين من تحديد هوية فاعليها ، فإنه لو سار الجيش بأكمله في تلك الطريق لم يمكن ذلك. ولكان قد أعطى الفرصة للمتآمرين لارتكاب جريمتهم ، ثم يغيبون في خضم تلك الجموع الغفيرة ، لتصبح هي الغطاء الطبيعي لهم ، وسيجدون فيها من يساعدهم على إخفاء أنفسهم ، ولربما يدّعون أن الزحام هو السبب في سقوط النبي «صلى الله عليه وآله» إلى الوادي ، وقد يأتون هم إلى مسرح جريمتهم بعد ارتكابها في لهفة واستنكار ، وبكاء واستعبار ، فيساهمون في تشييع جنازة من قتلوا ، ويشاركون في البحث عن القاتل

١٤٧

إمعانا منهم في المكر والتضليل.

إنه «صلى الله عليه وآله» بإجرائه هذا قد أفردهم عن الجيش ، ووضعهم أمام أعين رقبائه الذين رتبهم في مواضع قريبة ، ولم يعد هناك أي فرصة للإيهام نتيجة للإختلاط بالآخرين ، فإن الشبهة ممنوعة.

يضاف إلى ذلك : أن هذا الإجراء نفسه سوف يوقع الكثيرين في الحيرة ، ويدعوهم للتساؤل عن سببه ، فإذا تبين لهم الحق بعد ذلك ، فستجدهم مسارعين لقبوله ، وسوف لن يثور أي جدل حول صحته وواقعيته ، وسوف توصد الأبواب أمام الشائعات ، والتكهنات ، والتشكيكات ، بل تبقى الحقيقة بكل حيويتها ، ووضوحها ، وسيعرفها الناس ، وسينقلونها للأجيال اللاحقة ، وهي على ما هي عليه من الصفاء والنقاء ، والإشراق والبهاء ، وسيترك هذا الحدث أثره في العقل والقلب والوجدان ، لأنه اقترن بمعجزة نبوية ، وتسديد رباني ، كان هو السبب في إبطال كيدهم ، وافتضاح أمرهم.

التخفي بصورة حجر :

ويلاحظ هنا أيضا : أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد أمر حذيفة أن يقعد في أصل العقبة ، وأن يتشبه بحجر ، أي أنه يريد منه أن ينطوي على نفسه بطريقة تظهر للناظر أنه يرى حجرا ، ولا يرى إنسانا.

وذلك لأن الوقت كان ليلا ، وكان المطلوب منه هو أن يتعرف على أشخاص المتآمرين ، ولا يتيسر له ذلك في الليل إلا إذا كان قريبا جدا من الهدف حتى لو كان نور القمر موجودا ، ولو في بعض درجاته .. وقد كان «صلى الله عليه وآله» يعرف كما كان حذيفة يعرف أيضا : أن هؤلاء المجرمين

١٤٨

سوف لن يمكّنوا احدا من اقتفاء اثرهم ، أو التعرف على اشخاصهم ، وأنهم سوف يتخلصون من كل من يصادفونه بالقتل ، إن لم يمكنهم ابعاده ، أو ابعاد أنفسهم عن الأنظار ..

رؤساء العسكر هم العدو :

وقد قال حذيفة لرسول الله «صلى الله عليه وآله» : «إني اتبين الشر في وجوه رؤساء عسكرك» ، ثم ذكر له : أنه يخشى ان يراه هؤلاء الرؤساء المتآمرون ويقتلوه ..

وهذا يدل على عدم صحة الرواية التي تتضمن اسماء مجهولة ، لا يعرف عنها احد شيئا ..

غير أن هذه الحقيقة ستكون مؤلمة جدا ، وتجعل الشجى يعترض حلق الإنسان المؤمن ، وسيندى جبينه الما وخجلا من أن يكون الرؤساء هم الأعداء والمتآمرون ، وليس لنا إلا ان نقول : إنا لله وإنا اليه راجعون.

١٤٩
١٥٠

الفصل الحادي عشر :

أصح الروايات عن تبوك ..

أو زبدة المخض

١٥١
١٥٢

بداية :

وبعد .. فقد كان كل ذلك الذي قدمناه يعتمد على الروايات التي عرضها لنا أولئك البعداء عن خط أهل البيت «عليهم السلام» ، والذين يدينون الله بالحب والولاء للذين عارضوهم ، وأقصوهم عن مراتبهم التي رتبهم الله تعالى بها ، بالقوة والقهر .. وسعوا إلى تصويب فعلهم هذا وتأويله ، والتماس المخارج المختلفة والمتناقضة له في كثير من الأحيان.

وقد رأينا أن أكثر تلك الروايات لم تكن سليمة عن التحريف والتزييف ، ولكننا لم نغفل شيئا منها يستحق التنويه أو العرض.

ولكننا سوف نذكر هنا رواية ، ادخرناها لنتوج بها جهد المتابع لأحداث هذه الغزوة ، بعد أن يعيش بكل عقله وفكره الأجواء التي يريدون له أن يعيشها ، ثم نفاجئه بهذه الرواية التي هي الأقرب إلى الحقيقة ، والأصوب ، والأصدق في عرض الوقائع ، ليشعر بالفارق بينها وبين جميع ما عداها ، رغم أنها لم توفق لسند يمكن وصفه بالصحة أو بغيرها مما يوصّف به المحدثون والمهتمون بالأسانيد رواياتهم. والرواية هي التالية :

النص الأقرب والأصوب :

لما مات سعد بن معاذ ، بعد أن شفى غيظه من بني قريظة ، قال رسول

١٥٣

الله «صلى الله عليه وآله» : «يرحمك الله يا سعد ، فلقد كنت شجا في حلوق الكافرين ، لو بقيت لكففت العجل الذي يراد نصبه في بيضة الإسلام ، كعجل قوم موسى.

قالوا : يا رسول الله ، أو عجل يراد أن يتخذ في مدينتك هذه؟

قال : «بلى ، والله يراد ، ولو كان لهم سعد حيا ما استمر تدبيرهم. ويستمرون ببعض تدبيرهم ، ثم الله يبطله».

قالوا : أتخبرنا كيف يكون ذلك؟

قال : «دعوا ذلك لما يريد الله أن يدبره».

قال موسى بن جعفر «عليه السلام» : ولقد اتخذ المنافقون من أمة محمد «صلى الله عليه وآله» بعد موت سعد بن معاذ ، وبعد انطلاق محمد «صلى الله عليه وآله» إلى تبوك ، أبا عامر الراهب أميرا ورئيسا ، وبايعوا له ، وتواطأوا على إنهاب المدينة ، وسبي ذراري رسول الله «صلى الله عليه وآله» وسائر أهله وصحابته ، ودبروا التبييت على محمد ، ليقتلوه في طريقه إلى تبوك.

فأحسن الله الدفاع عن محمد «صلى الله عليه وآله» ، وفضح المنافقين وأخزاهم ، وذلك أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال : «لتسلكن سبل من كان قبلكم ، حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة ، حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضبّ لدخلتموه».

قالوا : يا ابن رسول الله ، من كان هذا العجل؟! وما ذا كان هذا التدبير؟!

فقال «عليه السلام» : اعلموا أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان يأتيه الأخبار عن صاحب دومة الجندل ، وكان ملك تلك النواحي ، له مملكة عظيمة مما يلي الشام ، وكان يهدد رسول الله «صلى الله عليه وآله» بأنه

١٥٤

يقصده ، ويقتل أصحابه ، ويبيد خضراءهم.

وكان أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» خائفين وجلين من قبله ، حتى كانوا يتناوبون على رسول الله «صلى الله عليه وآله» كل يوم عشرون منهم ، وكلما صاح صائح ظنوا أنه قد طلع أوائل رجاله وأصحابه.

وأكثر المنافقون الأراجيف والأكاذيب ، وجعلوا يتخللون أصحاب محمد «صلى الله عليه وآله» ، ويقولون : إن أكيدر قد أعد من الرجال كذا ، ومن الكراع كذا ، ومن المال كذا ، وقد نادى فيما يليه من ولايته : ألا قد أبحتكم النهب والغارة في المدينة ، ثم يوسوسون إلى ضعفاء المسلمين يقولون لهم : فأين يقع أصحاب محمد من أصحاب أكيدر؟ يوشك أن يقصد المدينة فيقتل رجالها ، ويسبي ذراريها ونساءها.

حتى آذى ذلك قلوب المؤمنين ، فشكوا إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» ما هم عليه من الخدع.

ثم إن المنافقين اتفقوا ، وبايعوا أبا عامر الراهب الذي سماه رسول الله «صلى الله عليه وآله» الفاسق ، وجعلوه أميرا عليهم ، وبخعوا له بالطاعة ، فقال لهم : الرأي أن أغيب عن المدينة ، لئلا أتهم بتدبيركم.

وكاتبوا أكيدر في دومة الجندل ، ليقصد المدينة ، ليكونوا هم عليه ، وهو يقصدهم فيصطلموه.

فأوحى الله إلى محمد «صلى الله عليه وآله» ، وعرّفه ما اجتمعوا عليه من أمرهم ، وأمره بالمسير إلى تبوك.

وكان رسول الله «صلى الله عليه وآله» إذا أراد غزوا ورّى بغيره إلا غزاة تبوك ، فإنه أظهر ما كان يريده ، وأمرهم أن يتزودوا لها ، وهي الغزاة

١٥٥

التي افتضح فيها المنافقون ، وذمهم الله تعالى في تثبيطهم عنها ، وأظهر رسول الله «صلى الله عليه وآله» ما أوحي إليه أن (الله) سيظفره بأكيدر ، حتى يأخذه ويصالحه على ألف أوقية من ذهب في صفر ، وألف أوقية من ذهب في رجب ، ومائتي حلة في صفر ، ومائتي حلة في رجب ، وينصرف سالما إلى ثمانين يوما.

فقال لهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» : «إن موسى وعد قومه أربعين ليلة ، وإني أعدكم ثمانين ليلة ، ثم أرجع سالما غانما ، ظافرا بلا حرب يكون ، ولا أحد يستأسر من المؤمنين.

فقال المنافقون : لا والله ، ولكنها آخر كسراته التي لا ينجبر بعدها ، إن أصحابه ليموت بعضهم في هذا الحر ، ورياح البوادي ، ومياه المواضع المؤذية الفاسدة ، ومن سلم من ذلك فبين أسير في يد أكيدر ، وقتيل وجريح.

واستأذنه المنافقون بعلل ذكروها ، بعضهم يعتلّ بالحر ، وبعضهم بمرض يجده ، وبعضهم بمرض عياله ، وكان يأذن لهم.

فلما صح عزم رسول الله «صلى الله عليه وآله» على الرحلة إلى تبوك عمد هؤلاء المنافقون فبنوا مسجدا خارج المدينة وهو مسجد الضرار ، يريدون الإجتماع فيه ، ويوهمون أنه للصلاة ، وإنما كان ليجتمعوا فيه لعلة الصلاة ، فيتم لهم به ما يريدون.

ثم جاء جماعة منهم إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» وقالوا : يا رسول الله إن بيوتنا قاصية عن مسجدك وإنا نكره الصلاة في غير جماعة ، ويصعب علينا الحضور ، وقد بنينا مسجدا ، فإن رأيت أن تقصده وتصلي فيه لنتيمّن ونتبرك بالصلاة في موضع مصلاك ، فلم يعرّفهم رسول الله «صلى

١٥٦

الله عليه وآله» ما عرّفه الله من أمرهم ونفاقهم ، وقال : ائتوني بحماري.

فأتي باليعفور فركبه يريد نحو مسجدهم ، فكلما بعثه هو وأصحابه لم ينبعث ولم يمش ، فإذا صرف رأسه إلى غيره ، سار أحسن سير وأطيبه.

قالوا : لعل هذا الحمار قد رأى في هذا الطريق شيئا كرهه ، فلذلك لا ينبعث نحوه.

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : «إيتوني بفرس فركبه ، فكلما بعثه نحو مسجدهم لم ينبعث ، وكلما حركوه نحوه لم يتحرك ، حتى إذا ولوا رأسه إلى غيره سار أحسن سير.

فقالوا : لعل هذا الفرس قد كره شيئا في هذا الطريق.

فقال : تعالوا نمش إليه ، فلما تعاطى هو وأصحابه المشي نحو المسجد جفوا في مواضعهم ، ولم يقدروا على الحركة ، وإذا هموا بغيره من المواضع خفت حركاتهم ، وحنت أبدانهم ، ونشطت قلوبهم.

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : إن هذا أمر قد كرهه الله ، فليس يريده الآن ، وأنا على جناح سفر ، فأمهلوا حتى أرجع إن شاء الله تعالى ، ثم أنظر في هذا نظرا يرضاه الله تعالى.

وجدّ في العزم على الخروج إلى تبوك ، وعزم المنافقون على اصطلام مخلّفيهم إذا خرجوا ، فأوحى الله تعالى إليه : يا محمد ، إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول لك : «إما أن تخرج أنت ويقيم علي ، وإما أن يخرج علي وتقيم أنت».

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : «ذاك لعلي».

فقال علي «عليه السلام» : السمع والطاعة لأمر الله وأمر رسوله ، وإن

١٥٧

كنت أحب أن لا أتخلف عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» في حال من الأحوال.

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟!

فقال : رضيت يا رسول الله.

فقال له رسول الله «صلى الله عليه وآله» : «يا أبا الحسن! إن لك أجر خروجك معي في مقامك بالمدينة ، وإن الله قد جعلك أمة وحدك ، كما جعل إبراهيم أمة ، تمنع جماعة المنافقين والكفار هيبتك عن الحركة على المسلمين.

فلما خرج رسول الله «صلى الله عليه وآله» وشيعه علي «عليه السلام» خاض المنافقون وقالوا : إنما خلفه محمد بالمدينة لبغضه له ، وملاله منه ، وما أراد بذلك إلا أن يبيته المنافقون فيقتلوه ، ويحاربوه فيهلكوه.

فاتصل ذلك برسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فقال علي «عليه السلام» : تسمع ما يقولون يا رسول الله؟

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : أما يكفيك أنك جلدة ما بين عيني ، ونور بصري ، وكالروح في بدني.

ثم سار رسول الله «صلى الله عليه وآله» بأصحابه ، وأقام علي «عليه السلام» بالمدينة ، وكان كلما دبر المنافقون أن يوقعوا بالمسلمين فزعوا من علي «عليه السلام» ، وخافوا أن يقوم معه عليهم من يدفعهم عن ذلك ، وجعلوا يقولون فيما بينهم : هي كرة محمد التي لا يؤوب منها.

فلما صار بين رسول الله «صلى الله عليه وآله» وبين أكيدر مرحلة قال تلك العشية : يا زبير بن العوام ، يا سماك بن خرشة ، امضيا في عشرين من

١٥٨

المسلمين إلى باب قصر أكيدر ، فخذاه ، وائتياني به.

قال الزبير : وكيف يا رسول الله «صلى الله عليه وآله» نأتيك به ومعه من الجيش الذي قد علمت ، ومعه في قصره ـ سوى حشمه ـ ألف ما دون عبد وأمة وخادم؟

قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : تحتالان عليه ، وتأخذانه.

قال : يا رسول الله ، وكيف وهذه ليلة قمراء ، وطريقنا أرض ملساء ، ونحن في الصحراء لا نخفى؟

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : أتحبان أن يستركما الله عن عيونهم ، ولا يجعل لكما ظلا إذا سرتما ، ويجعل لكما نورا كنور القمر لا تتبينان منه؟

قالا : بلى.

قال : «عليكما بالصلاة على محمد وآله الطيبين ، معتقدين أن أفضل آله علي بن أبي طالب ، وتعتقد يا زبير أنت خاصة أن لا يكون علي «عليه السلام» في قوم إلا كان هو أحق بالولاية عليهم ، ليس لأحد أن يتقدمه.

فإذا أنتما فعلتما ذلك وبلغتما الظل الذي بين يدي قصره من حائط قصره ، فإن الله سيبعث الغزلان والأوعال إلى بابه ، فتحك قرونها به ، فيقول : من لمحمد في مثل هذا؟ فيركب فرسه لينزل فيصطاد.

فتقول له امرأته : إياك والخروج ، فإن محمدا قد أناخ بفنائك ، ولست آمن أن يحتال عليك ، ودس من يغزونك.

فيقول لها : إليك عني فلو كان أحد يفصل عنه في هذه الليلة لتلقاه في هذا القمر عيون أصحابنا في الطريق. وهذه الدنيا بيضاء لا أحد فيها ، فلو كان في ظل قصرنا هذا إنسي لنفرت منه الوحش.

١٥٩

فينزل ليصطاد الغزلان والأوعال ، فتهرب من بين يديه ، ويتبعها فتحيطان به وتأخذانه».

وكان كما قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فأخذوه ، فقال : لي إليكم حاجة.

قالوا : ما هي؟ فإنا نقضيها إلا أن تسألنا أن نخليك.

قال : تنزعون عني ثوبي هذا ، وسيفي ومنطقتي وتحملونها إليه ، وتحملوني في قميصي لئلا يراني في هذا الزي ، بل يراني في زي تواضع فلعله أن يرحمني.

ففعلوا ذلك ، فجعل المسلمون والأعراب يلبسون ذلك الثوب ويقولون : هذا من حلل الجنة ، وهذا من حلي الجنة يا رسول الله؟

قال : «لا ، ولكنه ثوب أكيدر ، وسيفه ومنطقته ، ولمنديل ابن عمتي الزبير وسماك في الجنة أفضل من هذا ، إن استقاما على ما أمضيا من عهدي إلى أن يلقياني عند حوضي في المحشر.

قالوا : وذلك أفضل من هذا؟

قال : بل خيط من منديل بأيديهما في الجنة أفضل من ملء الأرض إلى السماء مثل هذا الذهب.

فلما أتي به رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال : يا محمد أقلني ، وخلني على أن أدفع عنك من ورائي من أعدائك.

فقال له رسول الله «صلى الله عليه وآله» : فإن لم تف به؟

قال : يا محمد ، إن لم أف لك فإن كنت رسول الله فسيظفرك بي ، من منع ظلال أصحابك أن يقع على الأرض حتى أخذوني ، ومن ساق الغزلان إلى بابي حتى استخرجتني من قصري ، وأوقعتني في أيدي أصحابك.

١٦٠