الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٩

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٩

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-201-3
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٥

١
٢

٣
٤

الفصل الحادي عشر :

الكيد السفياني في حديث المباهلة

٥
٦

إهمال ذكر علي عليه‌السلام :

إن إشراك علي ، والحسنين ، وفاطمة «عليهم‌السلام» في المبالهلة مما تواترت به الأخبار ، واجتمعت عليه كلمة المسلمين ، فقد قال الطبرسي : «أجمع المفسرون على أن المراد بأبنائنا : الحسن والحسين» (١).

وقال الطوسي : «أجمع أهل النقل والتفسير على ذلك» (٢).

وقال الرازي وغيره : «هذا الحديث كالمتفق عليه بين أهل التفسير والحديث» (٣).

وقال الجصاص : «نقل رواة السيرة ، ونقلة الأثر ، ولم يختلفوا في أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أخذ بيد الحسن والحسين وعلي وفاطمة رضي‌الله‌عنهم ،

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب ج ٣ ص ١٤٢ والبحار ج ٣٥ ص ٢٦٦ ومجمع البيان ج ٢ ص ٤٥٢ وراجع : التبيان ج ٢ ص ٤٨٥ ونهج الحق (مطبوع مع دلائل الصدق) ج ٢ ص ٨٣ وتفسير الرازي ج ٨ ص ٨٠ وحقائق التأويل ص ١١٤ وفيه : أجمع العلماء الخ ..

(٢) تلخيص الشافي ج ٣ ص ٦.

(٣) التفسير الكبير للرازي ج ٨ ص ٨٠.

٧

ثم دعا النصارى الذين حاجوه في المباهلة» (١).

وقال الحاكم : «تواترت الأخبار في التفاسير عن عبد الله بن عباس وغيره : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أخذ يوم المباهلة بيد علي والحسن والحسين ، وجعلوا فاطمة وراءهم الخ ..» (٢).

غير أننا نجد في مقابل ذلك : أن ابن كثير تبعا للشعبي لم يذكر عليا «عليه‌السلام» في حديث المباهلة (٣).

قال الطبري في تفسيره : «حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، قال : فقلت للمغيرة : إن الناس يروون في حديث أهل نجران أن عليا كان معهم ، فقال : أما الشعبي فلم يذكره ، فلا أدري ، لسوء رأي بني أمية في علي ، أو لم يكن في الحديث»؟ (٤).

ونقول :

والصحيح هو الأول ؛ لأن ذكره في الحديث متواتر ولا شك. ولكنهم حين لم يجدوا مبررا لإقحام أي من محبيهم في هذا الحدث الهام جدا ، ولم يمكنهم إنكار أو دلالة هذا الحدث على عظيم فضل أمير المؤمنين ، إلى حد أنه يجعله أفضل من سائر الأنبياء باستثناء نبينا الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لجأوا إلى ما ربما يثير شبهة ، أو على الأقل يبعد عليا «عليه‌السلام»

__________________

(١) أحكام القرآن ج ٢ ص ١٦.

(٢) معرفة علوم الحديث ص ٥٠.

(٣) البداية والنهاية ج ٥ ص ٦٥.

(٤) جامع البيان للطبري ج ٣ ص ٢١١ و (ط أخرى) ص ٤٠٧ وعن زاد المعاد ج ٣ ص ٣٩ و ٤٠.

٨

عن الذاكرة ، إلى أن يجدوا مخرجا من هذه الورطة ، وكان الشعبي هو الرائد في تنفيذ هذه الرغبة .. فله موقف بين يدي الله ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، وسيجد فيه أن تجاهله هذا لعلي «عليه‌السلام» سيجر عليه من البلاء ما لا قبل له به ولا قدرة له على تحمله.

أبو بكر وعمر وحفصة وعائشة في المباهلة :

وقد ذكر بعضهم : أن عمر قال للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «لو لا عنتهم بيد من تأخذ؟!

قال : آخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ، وعائشة ، وحفصة. وهذا (أي زيادة عائشة وحفصة) يدل عليه قوله تعالى : (وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ) (١)» (٢).

وعن الصادق «عليه‌السلام» عن أبيه ، في هذه الآية : (تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) (٣) قال : «فجاء بأبي بكر وولده ، وبعمر وولده ، وبعثمان وولده ، وبعلي وولده» والظاهر : أن الكلام في جماعة من المؤمنين (٤).

__________________

(١) الآية ٦١ من سورة آل عمران.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢١٢ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٤٤ و ١٤٥ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٥٠٦ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٣٦.

(٣) الآية ٦١ من سورة آل عمران.

(٤) الدر المنثور ج ٢ ص ٤٠ عن ابن عساكر ، وتفسير المنار ج ٣ ص ٣٢٢ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٥٠٧ وكنز العمال ج ٢ ص ٣٧٩ وتفسير الميزان ج ٣ ص ٢٤٤ وفتح القدير ج ١ ص ٣٤٨ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٩ ص ١٧٧.

٩

ونقول :

١ ـ إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أخذ بيد علي وفاطمة والحسنين «عليهم‌السلام» ، فعلا ، ولم يأخذ بيد عائشة ولا حفصة ..

٢ ـ إن كلمة : «ونساءنا ونساءكم» لا تقتضي إضافة عائشة وحفصة ، وسيأتي توضيح ذلك ، لأن المقصود هو إشراك جنس المرأة الكاملة التي هي المثل الأعلى للتربية الإلهية ، وليس ذلك غير الزهراء «عليها‌السلام» ، وليس المراد مطلق امرأة حتى لو قادت حروبا بين المسلمين ، وضد إمام زمانها بالذات ..

وسيأتي : أن لذلك نظائر في الآيات القرآنية ، التي تتحدث عن جماعة ويكون المقصود بها أفراد بأشخاصهم ، كآية التطهير ، وآيات أخرى ..

٣ ـ إن حديث مجيئه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأبي بكر ، وعمر وعثمان ، وعلي وولدهم بالإضافة إلى أنه مما تكذّبه الروايات المتواترة ، قد جاء موافقا لترتيب الخلافة.

واللافت : أن أحدا من أتباع الخلفاء ومحبيهم لم يذكر هذه الرواية ولا أشار إليها في سياق تشكيكاتهم بصحة أو بدلالة حديث المباهلة .. فكيف فاتهم ذلك ، حتى انفرد به الإمام الصادق «عليه‌السلام» حسبما نسبه إليه ابن عساكر؟!

٤ ـ قد المحت بعض النصوص المتقدمة إلى أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أخرج فاطمة «عليها‌السلام» دون سائر نسائه ، حيث قالت : «وفاطمة تمشي خلف ظهره للملاعنة وله يومئذ عدة نسوة». أي أنه أخرجها دون نسائه رغم تعددهن ، وذلك يدل على عدم صحة إضافة كلمتي : «وعائشة وحفصة» إلى

١٠

الجماعة التي أخرجها «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى المباهلة.

البعض يفتئت ويناقش :

وقد حاول البعض التشكيك في حديث المباهلة ، بأنحاء أخرى ، فنقل عن أستاذه الشيخ محمد عبده : «أن الروايات متفقة على أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» اختار للمباهلة عليا وفاطمة وولديهما. ويحملون كلمة «نساءنا» على فاطمة ، وكلمة «أنفسنا» على علي فقط».

ومصادر هذه الروايات الشيعة ، ومقصدهم منها معروف ، وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا ، حتى راجت على كثير من أهل السنة.

ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية ، فإن كلمة «نساءنا» لا يقولها العربي ويريد بها بنته ، لا سيما إذا كان له أزواج ، ولا يفهم هذا من لغتهم.

وأبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا علي عليه الرضوان.

ثم إن وفد نجران الذين قالوا : إن الآية نزلت فيهم ، لم يكن معهم نساؤهم وأولادهم.

وكل ما يفهم من الآية أمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يدعو المحاجين والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الإجتماع رجالا ونساء ، وأطفالا ، ويبتهلون إلى الله بأن يلعن هو الكاذب فيما يقول عن عيسى.

وهذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه ، وثقته بما يقول. كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب ، سواء كانوا نصارى نجران أو غيرهم ، على امترائهم في حجاجهم ، ومماراتهم فيما يقولون ، وزلزالهم فيما يعتقدون ، وكونهم على غير بينة ولا يقين. وأنى لمن يؤمن بالله أن يرضى بأن

١١

يجتمع مثل هذا الجمع من الناس المحقين والمبطلين في صعيد واحد ، متوجهين إلى الله تعالى في طلب لعنه ، وإبعاده من رحمته؟! وأي جراءة على الله ، واستهزاء بقدرته وعظمته أقوى من هذا؟!

قال : أما كون النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى «عليه‌السلام» فحسبنا في بيانه قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) (١) فالعلم في هذه المسائل الإعتقادية لا يراد به إلا اليقين.

وفي قوله : (نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ ..) (٢) وجهان :

أحدهما : أن كل فريق يدعو الآخر ، فأنتم تدعون أبناءنا ، ونحن ندعو أبناءكم ، وهكذا الباقي.

وثانيهما : أن كل فريق يدعو أهله ، فنحن المسلمين ندعو أبناءنا ونساءنا وأنفسنا ، وأنتم كذلك.

ولا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الأنفس ، وإنما الإشكال فيه على قول الشيعة ومن شايعهم من القول بالتخصيص (٣).

ونقول :

إن هذه المناقشات ظاهرة الوهن بينة السقوط ، فلاحظ ما يلي :

أولا : إن ما زعمه من أن مصادر هذا الحديث هم الشيعة غير صحيح ، فإن هذا الحديث قد روي في صحاح أهل السنة ومجاميعهم الحديثية

__________________

(١) الآية ٦١ من سورة آل عمران.

(٢) الآية ٦١ من سورة آل عمران.

(٣) المنار ج ٣ ص ٣٢٢ و ٣٢٣ وتفسير الميزان ج ٣ ص ٢٣٦.

١٢

والتفسيرية. ومن غير المعقول أن يكون الشيعة قد دسوا هذه الروايات في تلك المجاميع .. إذ إن ذلك يؤدي إلى سقوطها ، ومنها صحيح مسلم والترمذي وتفسير الطبري ، والدر المنثور ، وسائر صحاح ومصادر أهل السنة عن الإعتبار ..

كما أن ذلك لو صح ، لأفسح المجال للقول : بأن الدس في كتب أهل السنة ميسور لكل أحد ، وأن حصره في الشيعة لا وجه له ، وتكون النتيجة هي : أن تصبح روايات أهل السنة كلها مسرحا لتلاعب جميع الفئات ، فتصبح موضع شك وريب ، وتسقط بذلك عن الإعتبار ..

وإن كان المقصود بالشيعة هو خصوص الصحابة والتابعين الذين رووا هذا الحديث فالأمر يصبح أشد خطورة ، إذ هو يؤدي إلى نسبة جماعة من أئمة أهل السنة ، ورواة حديثهم ، وفقهائهم ، إلى التشيع والشيعة ، مع أنه لا يرتاب أحد في تسننهم ، بل فيهم من هو من الأركان في التسنن ..

ثانيا : بالنسبة لقوله عن الشيعة : «ويحملون كلمة نساءنا على فاطمة ، وكلمة أنفسنا على علي فقط» نقول :

إن المقصود من التعبير بالنساء والأبناء هو : إيراد الكلام وفق ما يقتضيه طبعه العام ، وإن كان مصداقه ينحصر في فرد واحد تماما كما هو الحال في قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (١). إذ لا مصداق للمفهوم العام سوى علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» في قضية تصدقه بالخاتم التي يعرفها كل أحد.

__________________

(١) الآية ٥٥ من سورة المائدة.

١٣

وكذلك الحال في قوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (١) ، التي لا يقصد بها سوى الأئمة الإثني عشر ..

ومنه : آية التطهير التي قصد بها خصوص الخمسة أصحاب الكساء ، مع أن كلمة أهل البيت يمكن أن تشمل العباس وأولاده أيضا. ولكن الله أخرجهم منها. وبيّن أن المراد بالآية أشخاص بأعيانهم.

وكذلك الحال في قوله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٢) ، مع أن المقصود بها خصوص أصحاب الكساء والأئمة الأثني عشر كما دلت عليه الروايات.

ومنه : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ) (٣) في حين أن إثبات بنات للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» غير الزهراء «عليها‌السلام» صعب المنال ، فراجع كتابنا «بنات النبي أم ربائبه» ، وكتاب : «القول الصائب في إثبات الربائب» ..

ثالثا : بالنسبة لقوله : «إن العربي لا يطلق كلمة نساءنا على بنت الرجل ، لا سيما إذا كان له أزواج ، ولا يفهم هذا من لغتهم» نقول :

ألف : إن الذين أوردوا هذه الروايات التي طبقت الآية على علي وفاطمة «عليهما‌السلام» ، كانوا من العرب الأقحاح الذين عاشوا في عصر النبوة وبعده ، وقد سجلها أئمة اللغة ، وعلماء البلاغة في كتبهم ومجاميعهم ، ولو كان

__________________

(١) الآية ٩٢ من سورة المائدة.

(٢) الآية ٢٣ من سورة الشورى.

(٣) الآية ٥٩ من سورة الأحزاب.

١٤

الأمر كما ذكره هذا الرجل لسجلوا تحفظهم على هذه الروايات أيضا ..

ب : إن إشكال هذا الرجل لو صح ، فهو وارد على قوله هو على جميع الأحوال ، فإنه يزعم : أن وفد نجران لم يكن معه نساء ولا أولاد ، فما معنى أن تقول الآية : (نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ)؟!. فكيف يمكنه تطبيق الآية؟!.

ج : إن المقصود هو أن يبلغهم أنه يباهلهم بجميع الأصناف البشرية التي لها خصوصية اشتراك في العلم والأهلية ، وهم النساء والأطفال والرجال ، حتى لو لم يكن الجامعون للشرائط سوى فرد واحد من كل صنف ، فهو كقول القائل : شرفونا وسنخدمكم نساء ورجالا وأطفالا. أي أن جميع الأصناف سوف تشارك في خدمتهم ، حتى لو شارك واحد أو اثنان من كل صنف.

رابعا : زعم هذا القائل : أن ظاهر الآية هو أن المطلوب هو دعوة المحاجين والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب جميع نسائهم ورجالهم وأبنائهم ، ويجمع النبي جميع أبناء ونساء ورجال المؤمنين ، ثم يبتهلون. وهذا من طلب المحال. ويحق للنصارى أن يرفضوا هذا الطلب ، وبذلك يثبت أن ثمة تعنتا ، وطلبا لما لا يكون. وهو يستبطن الإعتراف بصحة ما عليه النصارى ..

وإن كان المقصود هو : نساء وأبناء الوفد ، ونساء وأبناء النبي فيرد إشكال : إنه لم يكن مع الوفد نساء ..

والجواب :

إن ما زعمه : من أنه لم يكن لدى الوفد أبناء ولا نساء ، غير ظاهر المأخذ ، فإن الناس كثيرا ما كانوا يسافرون ومعهم نساؤهم وأبناؤهم. وكان

١٥

النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يصطحب معه في حروبه إحدى زوجاته ، وكان المشركون يأتون بنسائهم في حروبهم ، كما كان الحال في بدر ، وأحد.

أما في موضوع الوفود فلا يوجد فيها احتمال مواجهة أخطار ، وتعرض لأذى وأسر وسبي ، فالداعي إلى استصحاب النساء والأطفال ، لا يواجهه أي مانع أو رادع ..

خامسا : لقد زعم هذا القائل : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى «عليه‌السلام». ونقول :

إن الآية تدل على يقين النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقد دل فعل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في المباهلة على أن الذين أخرجهم معه كانوا على يقين من ذلك أيضا.

ودل على ذلك أيضا قوله تعالى : (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) (١). حيث إنهم جميعا كانوا شركاء في الدعوى ، وعلى يقين من صحتها.

وأما بالنسبة لسائر المؤمنين فلا شيء يثبت أنهم كانوا على يقين من ذلك ، فلعل بعضهم كان خالي الذهن عن كثير من التفاصيل.

بل لقد صرح القرآن بأن الشكوك كانت تراود أكثرهم ، فقال : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (٢).

سادسا : لا معنى لقوله : إن الآية قد تعني أن يفوض إلى النصارى دعوة الأبناء والنساء من المؤمنين ، ويدعو المؤمنون أبناء ونساء النصارى في

__________________

(١) الآية ٦١ من سورة آل عمران.

(٢) الآية ١٠٦ من سورة يوسف.

١٦

المباهلة ، إذ كيف يسلط النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» النصارى على أبناء ونساء المؤمنين ، ثم يطلب من النصارى أن يسلطوه على دعوة نسائهم وأبنائهم .. في حين أن المباهلة لا تحتاج إلى ذلك ، بل يمكن أن يأتي كل فريق بمن أحب لكي يباهل الجماعة التي تأتي من قبل الفريق الآخر؟!.

سابعا : بالنسبة لدعوة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه نقول :

إن الشيعة لا يقولون بأن الآية تفرض ذلك ، بل هم يقولون : إن المراد بقوله : وأنفسنا هو الرجال من أهل بيت الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، الذين يكون حضورهم بمثابة حضور نفس النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهم إنما يحضرون بدعوة بعضهم بعضا (١).

المباهلة بأعز الناس :

زعم بعضهم : أن آية المباهلة قد دلت على لزوم إحضار كل فريق أعز شيء عنده ، وأحب الخلق إليه في المباهلة ، والأعز والأحب هو الأبناء ، والنساء ، والأنفس (الأهل والخاصة).

ثم تقدم بعض آخر خطوة أخرى فزعم : أن إشراك أهل البيت في المباهلة أسلوب اتبعه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للتأثير النفسي على الطرف الآخر ليوحي لهم بثقته بما يدّعيه.

ونقول :

١ ـ إن هذا يؤدي إلى إبعاد قضية المباهلة عن أن تكون بمستوى الجدية

__________________

(١) راجع : تفسير الميزان ج ٣ ص ٢٤٢ و ٢٤٣.

١٧

الحقيقية ، لتصبح أسلوب مناورة ، يهدف للتأثير النفسي على الطرف الآخر ، لينسحب من ساحة المواجهة.

٢ ـ إن اللافت هنا : أن هذا البعض قد نسب هذه المبادرة إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، مع أن الآية قد صرحت : بأن الأمر للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد جاء من الله تبارك وتعالى ، فهي تدبير إلهي ، وقرار رباني.

٣ ـ إن كون هذا الأمر تدبيرا إلهيا يعطي : أن لهؤلاء الصفوة الذين أخرجهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قيمة كبرى ومقاما خاصا عنده تبارك وتعالى ، وليست القضية هي حب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لولده أو سبطه ، أو لصهره الذي يوحي بأن سبب محبته ومعزته لهم هو الرابطة النسبية ، وكونهم أبناءه ونساءه ، وأهله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

٤ ـ إننا لا نريد أن ننفي أن يكون في خروج هؤلاء إلى المباهلة دلالة على قيمتهم عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ودلالة على معنى أن إشراك الحسنين والزهراء وعلي «عليهم‌السلام» في قضية لها مساس بحقيقة دين الإسلام ، من حيث إن ما يراد إثباته ، هو بشرية عيسى «عليه‌السلام» ، ونفي الألوهية عنه يدل دلالة قاطعة على أن من يباهل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بهم قد بلغوا في الفضل والكرامة والسؤدد حدا يصبح معه جعل الله ورسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهم في معرض الخطر ، من أعظم الوثائق الدالة على صدق الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيما يدّعيه من حيث إن التفريط بهم وهم أكرم الخلق عليه ، والنموذج الأمثل للإنسان الإلهي في أسمى تجلياته يكون تفريطا بكل شيء ، حيث لا قيمة لشيء في هذا الوجود

١٨

بدونهم ، وهو ما أشير إليه في الحديث الشريف (١).

وأنفسنا :

وزعم بعضهم : أن المراد ب «أنفسنا» الرجال (٢) ، أي بقول مطلق ، فتطبيق ذلك على علي «عليه‌السلام» لا لخصوصية فيه ، بل لكونه رجلا ، وحسب.

وجوابه واضح :

فأولا : روي عن علي «عليه‌السلام» ، قوله يوم الشورى : أنشدكم بالله ، هل فيكم أحد أقرب إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في الرحم مني ، ومن جعله نفسه ، وأبناءه أبناءه ، ونساءه نساءه غيري؟!

قالوا : اللهم لا (٣).

وعن الشعبي : أنه قال : أبناؤنا الحسن والحسين ونساؤنا فاطمة ، وأنفسنا علي بن أبي طالب (٤).

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ١٧٩ و ١٩٨ والغيبة للنعماني ص ١٣٩ و ١٣٨ وبصائر الدرجات ص ٤٨٨ و ٤٨٩ وإكمال الدين للصدوق ص ٢٣٣ وغيبة النعماني ص ١٤٢ والبحار ج ٢٣ ص ٤٣ وتاريخ آل زرارة للزراري ص ١٧٠.

(٢) راجع كلام الفضل بن روزبهان في دلائل الصدق ج ٢ ص ٨٣.

(٣) دلائل الصدق ج ٢ ص ٨٥ والبحار ج ٣٥ ص ٣٦٧ والغدير ج ١ ص ١٦١ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٢ ص ٤٣٢ والفصول المهمة لابن الصباغ ج ٢ ص ١١٦١ وكتاب الولاية لابن عقدة ص ١٧٧.

(٤) دلائل الصدق ج ٢ ص ٨٥ والطرائف في معرفة مذاهب الطوائف لابن طاووس ص ٤٧ والبحار ج ٣٥ ص ٢٦٢ وأسباب نزول الآيات للنيسابوري ص ٦٨ ونهج الإيمان لابن جبر ص ٣٤٦.

١٩

فإن ذلك كله يدل على أن المراد : هو خصوص شخص بعينه ، لا مطلق الرجال ..

مساواة علي عليه‌السلام للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وقال العلامة الحلي «رحمه‌الله» : إن الله تعالى جعل عليا «عليه‌السلام» نفس محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فساواه بالنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأجاب الفضل بن روزبهان بأن دعوى المساواة خروج من الدين.

فرد عليه الشيخ محمد حسن المظفر : بأن المقصود هو : المساواة في الخصائص والكمال الذاتي عدا خاصة أوجبت نبوته ، وميزّته عنه ، وهو مفاد ما روي : من أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لعلي «عليه‌السلام» : ما سألت الله شيئا إلا سألت لك مثله ، ولا سألت الله شيئا إلا أعطانيه ، غير أنه قيل لي : إنه لا نبي بعدك (١).

ويدل عليه : ما روي مستفيضا عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إن عليا

__________________

(١) دلائل الصدق ج ٢ ص ٨٢ و ٨٣ و ٨٥ والحديث الأخير نقله عن كنز العمال في فضائل علي «عليه‌السلام» عن ابن أبي عاصم ، وابن جرير وصححه ، وابن شاهين في السنة ، والطبراني في الأوسط. والعقد النضيد للقمي ص ٧٩ وكتاب السنة لابن أبي عاصم ص ٥٨٢ وأمالي المحاملي ص ٢٠٤ والمعجم الأوسط للطبراني ج ٨ ص ٤٧ ونظم درر السمطين للحنفي ص ١١٩ وكنز العمال ج ١٣ ص ١٧٠ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٢ ص ٣١١ وكشف الغمة للإربلي ج ١ ص ١٥٠ وراجع : كشف اليقين للحلي ص ٢٨٣.

٢٠