الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٩

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٩

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-201-3
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٥

الفصل السابع :

أحداث جرت في الطريق إلى تبوك

٢٨١
٢٨٢

دعوها فإنها مأمورة :

عن عبد الله بن سلام : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما مر بالخليجة في سفره إلى تبوك قال له أصحابه : المبرك يا رسول الله ، الظل والماء (١). وكان فيها دوم وماء.

فقال : «إنها أرض زرع نفر» ، دعوها فإنها مأمورة ـ يعني ناقته.

فأقبلت حتى بركت تحت الدومة التي كانت في مسجد ذي المروة (٢).

إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يريد أن يعلم الناس : أن عليهم أن يتحاشوا الإضرار بأملاك الناس ، وأن لا يتخذوا من جهادهم وتضحياتهم سببا لاستسهال ذلك ، وأن لا يستفيدوا من تهيّب الناس من قوتهم أو من كثرتهم ، أو حتى من موقعهم ، ولو كان هو موقع النبوة سبيلا لإلحاق الأذى بممتلكات الآخرين ، حتى لو أظهر الآخرون الرضا بذلك ..

هذا ويلاحظ : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لهم عن الناقة : «دعوها فإنها مأمورة» ، مع أنه كان يكفي أن يخبرهم بضرورة حفظ الزرع ويأمرهم بالإبتعاد واختيار موضع آخر ..

__________________

(١) أي : هلمّ إلى الظل والماء.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٦ عن الطبراني ، ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٩٣.

٢٨٣

وذلك ليشير إلى : أن الله تعالى يسدده ، ويحفظه ، من أن يقع في خلاف الواقع ، ولو في الحال التي يعذره الناس فيها ، زاعمين أنه غافل ، فإن الله تعالى يسدد نبيه ليصيب الواقع فيما يرتبط بحقوق الله تبارك وتعالى ، وحقوق الناس .. فلا يخطئ ولا يسهو ، ولا ينسى ، ولا يغفل عن حق أحد ، ولا يقصر في حق الله.

كما أنه في الجانب الآخر لا يأكل ، ولا يلبس ، ولا يشرب ، ولا يمارس أي شيء إلا إذا كان حلالا في الظاهر وفي الواقع على حد سواء .. ولهذا البحث مجال آخر.

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يأكل هريسة اليهود :

وقالوا : لما نزل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وادي القرى أهدى له بنو عريض اليهودي هريسة ، فأكلها ، وأطعمهم أربعين وسقا ، فهي جارية عليهم إلى يوم القيامة.

وقال محمد بن عمر : فهي جارية عليهم إلى الساعة (١).

وعن ابن عمر قال : أتي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بجبنة في تبوك ، فدعا بالسكين ، فسمى وقطع ، رواه أبو داود (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٦ عن الواقدي.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٥٣ وج ٧ ص ١٩٧ عن أبي داود ، وفي هامشه عن الطبراني في المعجم الكبير ج ١١ ص ٣٠٣ وراجع : سنن أبي داود ج ٢ ص ٢١٢ ومعرفة السنن والآثار للبيهقي ج ٧ ص ٢٩٤ وإمتاع الأسماع ج ٧ ص ٢٩٣ وج ١٤ ص ٢٩٨.

٢٨٤

ونقول :

١ ـ الهريسة هي طعام يعمل من الحب المدقوق بالمهراس واللحم (١) ، ونحن نعلم أنه لا يجوز أكل غير المذكى من اللحم وفق الشرائط الشرعية ، ومنها كون الذابح مسلما.

٢ ـ وإذا كان اليهود لا يتحاشون عن مباشرة النجاسات ، المبينة في الشرع الإسلامي ، لأنهم لا يدينون بالإسلام ، فإن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يأكل ما يلامسونه برطوبة مسرية ، فكيف إذا قلنا بنجاسة الكتابي؟

على أن الأنفحة التي يصنع بها الجبن تؤخذ من حيوان محكوم بأنه ميتة ، لأن الذابح يهودي ، ولا شك في نجاسة الميتة ، ونجاسة ما يلامسها ، حتى وإن كان طاهرا في نفسه ، كالأنفحة ..

٣ ـ لما ذا يطعم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» اليهود هذه الأوسق من التمر؟ ومن الذي أجراها عليهم حتى الساعة ، أو إلى يوم القيامة؟!. ولو أطعمه يهود المدينة هريسة أو جبنا ، هل كان يجري عليهم مثل ما أجرى على يهود وادى القرى؟ وهل؟ وهل؟ ..

خرص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

قال أبو حميد الساعدي : خرجنا مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عام تبوك حتى جئنا وادي القرى ، فإذا امرأة في حديقة لها ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأصحابه : «اخرصوا».

__________________

(١) أقرب الموارد ج ٢ ص ١٣٨٤.

٢٨٥

فخرص القوم ، وخرص رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عشرة أوسق.

وقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للمرأة : «احفظي ما يخرج منها حتى أرجع إليك إن شاء الله تعالى».

ولما أقبل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من غزوة تبوك إلى وادي القرى قال للمرأة : «كم جاءت حديقتك»؟

قالت : عشرة أوسق خرص رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

ويواجهنا هنا سؤالان ، هما :

١ ـ ما الذي أراده رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعمله هذا؟!

٢ ـ لما ذا فعل ذلك في طريق تبوك ، لا في المدينة؟!

تجربة بلا سوابق :

فأما بالنسبة إلى السؤال الثاني ، فنقول :

لعل المراد هو إجراء التجربة في موقع بعيد عن السوابق الذهنية للناس ، حيث إن الناس يتسامعون بمقادير محاصيلهم في كل عام ،

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٦ عن أحمد ، ومسلم ، وابن أبي شيبة ، وقال في هامشه : أخرجه ابن أبي شيبة ج ١٤ ص ٥٤٠ ومسلم ج ٤ ص ١٧٨٥ (١١) ، وأحمد ج ٥ ص ٤٢٤ والبيهقي في السنن ج ٤ ص ٢٢ وفي الدلائل ج ٤ ص ٢٣٩.

وراجع : صحيح البخاري ج ٢ ص ١٣٢ وسنن أبي داود ج ٢ ص ٥٢ وعمدة القاري ج ٩ ص ٦٤ وصحيح ابن خزيمة ج ٤ ص ٤٠ وصحيح ابن حبان ج ١٠ ص ٣٥٥ وج ١٤ ص ٤٢٧ والبداية والنهاية ج ٥ ص ١٦ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٤٢.

٢٨٦

ويقايسون فيما بينها ، ويعرفون ولو على نحو التقريب غلة أراضيهم ، بما لها من نوع تربة ، وبملاحظة سائر العوامل المؤثرة مثل طبيعة الجو والهواء في حرارته وبرودته ، وسائر تقلباته ، فإن ذلك قد يؤثر بنحو أو بآخر على مقادير المحاصيل ، وفي جودتها ورداءتها ، وما إلى ذلك.

فلعله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أراد لفت نظر أصحابه إلى هذا الأمر بصورة عملية ليؤكد قناعتهم به ، ولكي يعطي القاعدة والضابطة للناس كلهم ، ويدفعهم ذلك إلى أن يدققوا ولا يتعسفوا في تعاملهم مع الناس في أمثال هذه الأمور ، فإن التزام وتيرة واحدة في التعامل لربما تنتهي بهم إلى الظلم والأذى.

إمتحان التخريج :

وهذا بالذات يمثل إجابة مقبولة على السؤال الأول ..

يضاف إلى ذلك : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أراد أن يشاركهم في الخرص بنفسه ، لكي لا يحزنهم تعرضهم لهذا الإمتحان ، الذي سيظهر إخفاقهم فيه ، فإذا كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» معهم ، فسوف لا يرون في هذا الإمتحان أي حرج ، ولا يشعرون بالأذى أو بالمهانة أو ما إلى ذلك.

فالإمتحان شرف وكرامة ، وهو سبب تكامل ، وسبيل سمو ورفعة ، وطريقة تعليم ، والسقوط فيه ليس سقوط ذل ، وإنما هو سقوط الطائر ، ليلتقط الحبة التي يحتاج إليها ، ثم يطير بها محلقا إلى سماء الفضل والكمال لتكون تلك الحبة زادا وعونا له ، وقوة ، وسبب حياة.

٢٨٧

جنّي بصورة حية :

وفي الطريق إلى تبوك عارض الناس في مسيرهم حيّة ذكر من عظمها وخلقها ، فانصاع الناس عنها ، فأقبلت حتى واقفت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو على راحلته طويلا ، والناس ينظرون إليها ، ثم التوت حتى اعتزلت الطريق ، فقامت قائمة ، فأقبل الناس حتى لحقوا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال لهم : «هل تدرون من هذا»؟.

قالوا : الله ورسوله أعلم.

قال : هذا أحد الرهط الثمانية من الجن الذين وفدوا إليّ يستمعون القرآن ، فرأى عليه من الحق ـ حين ألمّ به رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يسلم عليه ، وها هو يقرؤكم السلام ، فسّلّموا عليه.

فقال الناس جميعا : وعليه‌السلام ورحمة الله وبركاته (١) ..

ونقول :

١ ـ قد يقال : إن الأحاديث الشريفة قد دلت على أنه لم يؤذن للجن بالظهور للبشر (٢) ، فما معنى أن يظهر هذا الجني للناس في هذه المناسبة ..

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٣ ص ١٠١٥ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٥٠ عنه وعن أبي نعيم في دلائل النبوة ، وابن كثير ، والخصائص الكبرى للسيوطي. وراجع :

إمتاع الأسماع ج ٢ ص ٥٨ وج ٥ ص ٢٧٣ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ٦٦ و ١٢٤.

(٢) البحار ج ١٩ ص ١٠٤ وج ٥٨ ص ٢٩٩ وج ٦٠ ص ٨٣ و ٢٧٣ وعلل الشرائع ج ١ ص ٩٨ وكنز الدقائق ج ١ ص ٢٢٣ وتفسير القمي ج ١ ص ٣١١ ونور الثقلين ج ١ ص ٥٢ والصافي ج ١ ص ١٠٨.

٢٨٨

فقد روي عن أمير المؤمنين «عليه‌السلام» أنه قال في حديث : «واجعل بين الجن وبين خلقي حجابا ، ولا يرى نسل خلقي الجن ، ولا يؤانسونهم ، ولا يخالطونهم».

وقال الطحاوي حول قتل الحيات : «لا بأس بقتل الكل ، لأنه «عليه الصلاة السلام» عاهد الجن ألّا يدخلوا بيوت أمته ، ولا يظهروا أنفسهم ، فإذا خالفوا فقد نقضوا العهد ، فلا حرمة لهم» (١).

فإن قيل : إن هذا الجني لم يظهر على صورته الأصلية .. وإنما ظهر بصورة حية ، فهو لم يخالف ما أخذ عليه ..

فالجواب : أن العبارة تقول : إنه لم يؤذن للجن بالظهور على أية صورة كانت ، أي حتى لو كانت صورة حية ..

غير أن ذلك لا يمنع من أن يعصوا ويحالفوا القرار التشريعي الإلهي ، كما لا يمنع من أن يأذن الله تعالى لبعضهم بالظهور تأكيدا للحق ، ونصرة لأهله ، ولذلك لا يبقى مجال للإعتراض بأن لو قبلنا بهذه الإجابة ، فسوف تواجهنا طائفة من الروايات تقول : إن بعض الجن قد ظهروا للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أو للإمام «عليه‌السلام» تأييدا له ، وتقوية ليقين الناس بصحة ما جاء به ..

٢ ـ إن هذا الحديث يدل على أن الجن مكلفون بالعمل بالرسالة الإسلامية ، والإيمان برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله». كما هو الحال بالنسبة

__________________

(١) البحر الرائق ج ٢ ص ٥٣ وتكملة حاشية رد المحتار ج ١ ص ١٠٢ وحاشية رد المحتار ج ١ ص ٧٠٢.

٢٨٩

للأنس ، ولهذا شواهد كثيرة من الآيات والروايات ..

لا تدخلوا مساكن ثمود :

وعن عبد الله بن عمر ، وجابر بن عبد الله ، وأبي كبشة الأنماري ، والزهري ، وأبي حميد الساعدي : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما مر بالحجر تقنع بردائه وهو على الرحل ، فاتضع راحلته حتى خلّف أبيات ثمود ، ولما نزل هناك سارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم ، واستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود ، فعجنوا ونصبوا القدور باللحم.

فبلغ ذلك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فنودي في الناس : الصلاة جامعة ، فلما اجتمعوا قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم ، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم ، ولا تشربوا من مائها ، ولا تتوضأوا منه للصلاة ، واعلفوا العجين الإبل».

ثم ارتحل بهم حتى نزل على العين كانت تشرب منها الناقة ، وقال : «لا تسألوا الآيات. فقد سألها قوم صالح ، سألوا نبيهم أن تبعث آية ، فبعث الله تبارك وتعالى لهم الناقة ، فكانت ترد هذا الفج ، وتصدر من هذا الفج ، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها ، وكانت تشرب مياههم يوما ، ويشربون لبنها يوما ، فعقروها ، فأخذتهم صيحة أهمد الله تعالى من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله تعالى.

قيل : من هو يا رسول الله؟

قال : «أبو رغال». فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه ، ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم»؟!.

٢٩٠

فناداه رجل منهم : تعجب منهم؟!

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ألا أنبئكم بأعجب من ذلك؟ رجل من أنفسكم ، فينبئكم بما كان قبلكم ، وما هو كائن بعدكم ، فاستقيموا وسددوا ، فإن الله تعالى لا يعبأ بعذابكم شيئا ، وسيأتي الله بقوم لا يدفعون عن أنفسهم بشيء.

وإنها ستهب عليكم الليلة ريح شديدة ، فلا يقومن أحد ، ومن كان له بعير فليوثق عقاله ، ولا يخرجن أحد منكم إلا ومعه صاحب له».

ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلا رجلين من بني ساعدة ، خرج أحدهما لحاجته ، والآخر في طلب بعيره ، فأما الذي خرج لحاجته ، فإنه خنق على مذهبه ـ أي موضعه الذي ذهب إليه ـ وأما الذي خرج في طلب بعيره ، فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طيء ، اللذين يقال لأحدهما : أجا ، ويقال للآخر : سلمى.

فأخبر بذلك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقال : ألم أنهكم عن أن يخرج منكم أحد إلا ومعه صاحبه ، ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفي ، وأما الآخر فإن طيئا أهدته لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين رجع إلى المدينة (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٦ و ٤٤٧ عن مالك ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وابن إسحاق ، وقال في هامشه : أخرجه البخاري ج ٨ ص ١٢٥ (٤٤١٩) ومسلم ج ٤ ص ٢٢٨٦ (٣٨ و ٣٩ / ٢٩٨٠) وأحمد ج ٢ ص ٩ و ٥٨ و ٧٢ و ٧٤ و ١١٣ و ١٣٧ والبيهقي في الدلائل ج ٥ ص ٢٣٣ وفي السنن ج ٢ ص ٤٥١ والحميدي (٦٥٣) وعبد الرزاق (١٦٢٥) والطبراني في الكبير ج ١٢ ـ

٢٩١

الإستسقاء .. ونزول المطر :

قالوا : ونزلوا الحجر ، فأمرهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن لا يحملوا من مائها شيئا ، ثم ارتحل ، ثم نزل منزلا آخر وليس معهم ماء.

فشكوا ذلك إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقام فصلى ركعتين ، ثم دعا فأرسل الله سبحانه وتعالى سحابة فأمطرت عليهم حتى استقوا منها.

فقال رجل من الأنصار لآخر من قومه يتهم بالنفاق : ويحك ، قد ترى ما دعا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأمطر الله علينا السماء.

فقال : إنما أمطرنا بنوء كذا وكذا.

فأنزل الله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (١).

ذكر ابن إسحاق : أن هذه القصة كانت بالحجر.

وروي عن محمود بن لبيد ، عن رجال من قومه قال : كان رجل من المنافقين معروف نفاقه يسير مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حيثما سار ، فلما كان من أمر الحجر ما كان ، ودعا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين دعا ، فأرسل الله تعالى السحابة ، فأمطرت حتى ارتوى الناس ، قالوا أقبلنا عليه نقول : ويحك ، هل بعد هذا شيء؟

__________________

ص ٤٥٧ وانظر الدر المنثور ج ٤ ص ١٠٤.

وراجع : البحار ج ١١ ص ٣٩٣ والعرائس للثعلبي ص ٤٣ وعن مجمع البيان ج ٤ ص ٤٤١ ـ ٤٤٣.

(١) الآية ٨٢ من سورة الواقعة.

٢٩٢

قال : سحابة مارة (١).

وعن عمر بن الخطاب قال : خرجنا إلى تبوك في يوم قيظ شديد ، فنزلنا منزلا ، وأصابنا فيه عطش ، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع ، حتى أن كان الرجل يذهب يلتمس الرجل فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستقطع ، حتى أن كان الرجل لينحر بعيره ، فيعصر فرثه فيشربه ، ويجعل ما بقي على كبده ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إن الله عزوجل قد عودك في الدعاء خيرا ، فادع الله تعالى لنا.

قال : «أتحب ذلك»؟

قال : نعم.

فرفع يديه نحو السماء فلم يرجعهما حتى قالت السماء ، فأظلت ثم سكبت ، فملؤوا ما معهم ، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٨ والدر المنثور ج ٦ ص ٢٦٣ عن ابن أبي حاتم ، والمغازي للواقدي ج ٣ ص ١٠٠٩. وراجع : المحلى لابن حزم ج ١١ ص ٢٢٢ والبحار ج ٢١ ص ٢٥٠ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٧٠ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٢٧٩ والبداية والنهاية ج ٥ ص ١٣ وإمتاع الأسماع ج ٥ ص ١١٦ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٩٤٩ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ١٠٧.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٧ و ٤٤٨ عن أحمد ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم ، وابن إسحاق ، وقال في هامشه : أخرجه البيهقي في السنن ج ٩ ص ٣٥٧ وفي الدلائل ج ٥ ص ٢٣١ وابن خزيمة (١٠١) ، وابن حبان ، ذكره الهيثمي في موارد الظمآن (١٧٠٧) وانظر مجمع الزوائد ج ٦ ص ١٩٥. وراجع : تحفة الأحوذي ج ٨ ـ

٢٩٣

وعن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب قال : خرج المسلمون إلى تبوك في حر شديد ، فأصابهم يوم عطش حتى جعلوا ينحرون إبلهم ليعصروا أكراشها ، ويشربوا ماءها ، فكان عسرة في الماء ، وعسرة في النفقة ، وعسرة في الظهر (١).

ونقول :

السنة الإلهية باقية :

إن مرور النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أبيات ثمود ، وإظهاره هذه الخشية والإشفاق من المرور بمساكن الظالمين التي حل العذاب بأهلها قبل مئات أو آلاف السنين يشير إلى أن السنة الإلهية في الطغاة والعصاة لم تبطل ، بل هي لا تزال جارية وسارية ، فعلى الناس أن يحاذروا من الوقوع فيما وقع فيه أسلافهم ، وعليهم أن يراجعوا حساباتهم ، ويدققوا في مواقفهم ومسيرهم

__________________

ص ٤٠٤ وصحيح ابن حبان ج ٤ ص ٢٢٣ ونصب الراية ج ١ ص ١٩٢ وموارد الظمآن ج ٥ ص ٣٥٢ وكنز العمال ج ١٢ ص ٣٥٣ وجامع البيان للطبري ج ١١ ص ٧٦ وتفسير الثعلبي ج ٥ ص ١٠٥ وتفسير البغوي ج ٢ ص ٣٣٣ وزاد المسير ج ٣ ص ٣٤٨ والجامع لأحكام القرآن ج ٨ ص ٢٧٩ وتفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٤١١ وتفسير الثعالبي ج ٣ ص ٢٢٤ والدر المنثور ج ٣ ص ٢٨٦ وفتح القدير ج ٢ ص ٤١٤.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٧ وفي هامشه عن : دلائل النبوة للبيهقي ج ٥ ص ٢٢٧. وراجع : البداية والنهاية ج ٥ ص ١٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ١٦.

٢٩٤

ومسارهم ، حتى لا ينتهي بهم الأمر إلى ما انتهى إليه أسلافهم.

تجسيد الحدث :

ثم إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يرو لهم ما جرى على قوم صالح بنحو يفيد في تكوين تصورات ، وإحداث انفعالات يتوقع أن تتبخر وتتلاشى ، تبعا لتلاشي تلك الصور التي استحضرت بواسطة حديث يتلى ، وخبر يروى ..

بل هو «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد ربط لهم الصورة الذهنية بأمور عينية واقعية ، لها مساس بأشخاصهم ، حين تركهم ينقلون الماء من آبار ثمود ، ويعجنوا بها عجينهم ، وينصبوا القدور المملوءة باللحم والماء ، ثم ينادي فيهم بالصلاة جامعة ، وقد كان ذلك بعد منعهم من الإستفادة من الماء في ذلك المكان كله ، ثم أمرهم بأن يعلفوا العجين الإبل ..

أي أنه لم يكتف بمنعهم من الإستفادة من الماء الذي تعبوا بحمله ، بل ألحق به ما اختلط به ، مما تعبوا في الحصول عليه ، وفي حمله ، ونقله ، ويرون أنفسهم بأمس الحاجة إليه ، للغذاء والبقاء ..

مع أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين وصل إلى تلك المساكن كان يعلم أن الناس المتعبين الذين يسيرون في حر الهاجرة في تلك الصحراء القاحلة ، سوف يتهافتون على الماء ، وسيبادرون للإستفادة منه في إعداد أطعمتهم ، وفي تبردهم ، وغسلهم وشربهم ، ولكنه لم يحذّرهم منه ، ولم يذكر لهم شيئا في هذا السياق .. بل سكت حتى بلغ بهم التعامل مع ذلك حدا جعله محط أنظارهم ، ومهوى أفئدتهم ..

٢٩٥

ولعله لو كان قدّم لهم النهي عنه ، لوجد فيهم من يستسيغ مخالفته ، ويكون حالهم حينئذ حال طالوت مع جنوده ، حيث قال لهم : (.. إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ ..) (١).

آثار السخط الإلهي :

إن هذه القضية قد أظهرت أن آثار سخط الله تبارك وتعالى قد تمتد عبر الأجيال والأحقاب إلى آلاف السنين ، ولأجل ذلك نلاحظ : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يصلي صلاة المختار في أرض خسف بها ، بل هو يسرع السير ليتجاوزها ، ثم يصلي أو يعيد ما كان قد صلاه في حالة الإضطرار ..

وفي هذه المرة أيضا نلاحظ : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين مر بالحجر ، تقنع بردائه ، واتضع راحلته (أي خفض رأس بعيره) حتى خلّف أبيات ثمود وراء ظهره ..

كما أنه قد نهى أصحابه عن دخول مساكن ثمود ، ومنعهم من شرب ماء تلك البقعة ، ومن الوضوء به ، ومن استعماله في سائر المجالات ..

مساكن ثمود :

إن النهي عن دخول مساكن ثمود ، وقول الرواية : حتى خلف أبيات ثمود ، يدل على أن تلك المساكن كانت لا تزال ماثلة للعيان ، رغم مرور السنين والأحقاب ..

__________________

(١) الآية ٢٤٩ من سورة البقرة.

٢٩٦

في حين أننا نجد كثيرا من الآثار التي لها هذا المقدار من القدم مطمورة بالتراب الذي تحمله الرياح من هنا وهناك .. وهذا يؤكد القناعة بأن ذلك من التدبير الإلهي ، ومن أسباب الهداية ، أو إقامة الحجة على من تأمل وتفكر ، ولاحظ وتدبر ..

عليّ عليه‌السلام هو المقصود :

إن سياق الكلام المنقول عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهو يعلن منعهم من دخول مساكنهم ، يعطي : أنه لم يكن يأمن على قومه من أن يصيبهم ما أصاب قوم ثمود ، ولذلك منعهم من دخول مساكنهم إلا أن يكونوا باكين أن يصيبهم ما أصابهم ، ولا يصيبهم من ذلك إلا إذا فعلوا كفعلهم ، ولذلك قال لهم : لا تسألوا الآيات ، فقد سألها قوم صالح .. أي لا تفعلوا كما فعل أولئك ..

ثم إنه بين لهم : أن أمرهم أعجب من أمر قوم صالح ، فإن رجلا سيكون من أنفسهم ، سوف ينبؤهم بخبر ما كان قبلهم ، وما هو كائن بعدهم.

ثم إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» اقتصر على ذكر هذه العلامة لذلك الرجل ، ولم يبين ما ذا سيصنعون به ، وكيف سيكون حالهم معه ، وإنما اكتفى «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأمرهم بالإستقامة والسداد ..

ولعله لأجل أن لا يتوهموا الجبرية في هذا الأمر ، ولكي يفسح المجال لهم للتوبة والعودة والإنابة ، مبينا لهم : أنهم إن لم يستقيموا على المحجة ولم يسددوا ، فسينالهم العذاب كما نال قوم صالح حين عقروا الناقة .. ولا يعبأ

٢٩٧

الله بعذابهم شيئا ..

ثم أثبت لهم صحة كلامه هذا بأن أخبرهم بما سيجري في تلك الليلة مباشرة ، مما لا يمكن أن ينال علمه إلا الله تبارك وتعالى .. وأمرهم بأمره ..

وقد ظهر صدق كلامه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في تلك الليلة ، وجرى عليهم نفس ما وصفه لهم .. فهل من معتبر؟!

علي عليه‌السلام يخبر بما كان وبما يكون :

هذا وقد صرح التاريخ بأن الذي كان يخبر الناس بما كان وما يكون هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» ، وقد بلغ من كثرة إخباره : أن صاروا يتهمونه بالكذب ، فقد :

١ ـ سمع أعشى همدان (وهو غلام) حديثه «عليه‌السلام» ، فاعتبره حديث خرافة (١).

٢ ـ وكان قوم تحت منبره «عليه‌السلام» ، فذكر لهم الملاحم ، فقالوا : قاتله الله ، ما أفصحه كاذبا (٢) ..

وهناك قضية أخرى تشبه هذه القضية أيضا ، فراجعها (٣) ..

٣ ـ وحين أخبر الناس بأنه لو كسرت له الوسادة لحكم بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وبين أهل الفرقان بفرقانهم ، وما من آية إلا وهو يعلم أين ومتى ، وفي من نزلت.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٨٩ والبحار ج ٣٤ ص ٢٩٩ وج ٤١ ص ٣٤١.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ١٣٦.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ١٣٦.

٢٩٨

قال رجل من القعود تحت منبره : يا لله وللدعوى الكاذبة (١).

وكان ميثم التمار يحدث ببعض العلوم والأسرار الخفية ، فيشك قوم من أهل الكوفة ، وينسبون أمير المؤمنين «عليه‌السلام» إلى المخرقة ، والإيهام ، والتدليس الخ (٢) ..

وقال «عليه‌السلام» : «والله لو أمرتكم فجمعتم من خياركم مائة ، ثم لو شئت لحدثتكم إلى أن تغيب الشمس ، لا أخبركم إلا حقا ، ثم لتخرجن فتزعمن : أني أكذب الناس وأفجرهم ..» (٣).

وقال مخاطبا أهل العراق : «ولقد بلغني أنكم تقولون : علي يكذب! قاتلكم الله» (٤) ..

وقد تحدث ابن أبي الحديد عن أن قوما من عسكر أمير المؤمنين «عليه‌السلام» كانوا يتهمونه فيما يخبرهم به عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أخبار الملاحم ، والغائبات. وقد كان شك منهم جماعة في أقواله ، ومنهم من

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ١٣٦.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٩١ والبحار ج ٣٤ ص ٣٠٢.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ١٢٨.

(٤) راجع : نهج البلاغة (بشرح عبده) ج ١ ص ١١٩ وخصائص الأئمة للشريف الرضي ص ٩٩ والإختصاص ص ١٥٥ عن كتاب ابن دأب ، والإرشاد للمفيد ص ١٦٢ والفصول المختارة ص ٢٦٢ والإحتجاج ج ١ ص ٢٥٥ وينابيع المودة ج ٣ ص ٤٣٥ والبحار ج ٣٤ ص ١٠٣ و ١٣٦ وج ٣٥ ص ٤٢١ وج ٣٨ ص ٢٦٩ وج ٤٠ ص ١١١ وشرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ١٢٧ ونهج الإيمان ص ١٦٤ وجواهر المطالب في المناقب الإمام علي «عليه‌السلام» ج ١ ص ٣٢١.

٢٩٩

واجهه بالشك والتهمة (١) ..

أبو بكر هو الوسيط :

ولا نتفاجأ إذا كان أبو بكر هو الوسيط الذي طلب من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يدعو الله أن يسقيهم ، فهناك اعتبارات عديدة لا بد من النظر إليها ، فلاحظ ما يلي :

١ ـ إن حديث النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن شخص يحدثهم بما كان وبما هو كائن ، إنما هو حديث عن إنسان يملك علما خاصا ، ليس لأحد منهم كلهم أي سبيل إليه ، فهو رجل متصل بالغيب ، وقد اختصه الله بما لم يعطه أحدا من خلقه ، إلا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دون سواه ..

٢ ـ إن هذا العلم هو ما نسميه بعلم الإمامة ، وهو أحد سبيلي معرفة شخص الإمام. والسبيل الآخر هو النص ..

٣ ـ إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تحدث عن رجل غائب ، وحذر جميع من حضر من مغبة الخروج على جادة الإستقامة والسداد بمخالفته ، وأن عاقبة ذلك ستكون هي عذابهم ، ولا يعبأ الله تعالى بهم ..

ولا تعذب الأمة بمخالفة أحد إلا إن كان نبيا ، أو وصي نبي ..

٤ ـ ومن جهة أخرى فإننا نلاحظ : أن الذي غاب بإذن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في هذه الغزوة هم أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، والضعفاء ، والنساء والصبيان ، والذين لا يجدون ما يحملهم عليه. والمنافقون ..

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٨٦.

٣٠٠