الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٩

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٩

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-201-3
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٥

عليهم بغفران ذنوبهم.

أي أن الآية تقول : إن الله تاب على الثلاثة. أي عاد إليهم برحمة الهداية للإستغفار ، لكي يتوبوا ، لكنه لم يبين لنا هل تابوا فعلا أم لا .. بل اكتفى بقوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) (١) كما أنه لم بيّن أنه قبل توبتهم أم لم يقبلها.

وقد ادّعى كعب بن مالك : أنه فعل ذلك ، وادّعى أيضا : أن الله قد قبل توبته.

ولكننا نشك في صحة قوله ، إذ لو كان قد تاب فعلا ، وكان الله قد قبل توبته لجاءت الآية هكذا : ثم تاب عليهم ليتوبوا ، فلما تابوا قبل توبتهم .. ولكن الله لم يقل ذلك.

بل قد وجدنا في كلمات كعب المتقدمة ما يدل على خلاف ذلك.

وقد روي عن الإمام أبي جعفر الصادق «عليه‌السلام» أيضا قوله : أقالهم ، فو الله ما تابوا (٢).

لا يثق بما يختاره له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وقد رفض كعب من مالك أن يستأذن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في أمر امرأته ، لأنه لا يدري ما يقول إذا استأذنه .. وهو رجل شاب.

أي أنه يخشى أن يأمره بما لا يتوافق مع ميوله وغرائزه ، كشاب ، وكأنه يرى أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد لا يراعي حاله ، وحاجاته ، ومصلحته ،

__________________

(١) الآية ١١٨ من سورة التوبة.

(٢) البحار ج ٢١ ص ٢٣٧ والبرهان (تفسير) ج ٢ ص ١٦٩ ونور الثقلين ج ٢ ص ٢٧٨ وتفسير العياشي ج ٢ ص ١١٦.

٢٤١

فآثر أن يبقى في دائرة الجهل بما يريده الرسول ، ولا يعرض نفسه لاحتمالات لا يريد أن يعرض نفسه لها ..

وهذا يشير إلى ضعف ثقته بما يختاره الله ورسوله له ، وإبائه عن القبول به ، ويشير أيضا إلى أن نفسه أحب إليه من كل شيء حتى من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

وهذا يدعونا إلى عدم الوثوق بما زعمه من نم على ما فرط منه لقوة احتمال أنه كان يريد أن تأتي الأمور كلها موافقة لأهوائه وما تشتهيه نفسه ، ولعل ما يظهره من توبة إنما هو للتخلص من سلبيات نبذ الناس له ، وحرمانه مما كان يطمح للحصول عليه ، والوصول إليه في الظروف العادية ..

فإن قلت : لعل مراده أن الأمر قد جاء باعتزال امرأته هو وصاحباه ، فألحقها بأهلها ، ثم إن امرأة هلال بن أمية استأذنت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في البقاء لخدمته فأذن لها.

فقال لكعب بعض أهله : استأذن رسول الله في امرأتك. أي أن ترجع إليك لتكون عندك للخدمة كامرأة هلال بن أمية.

فقال : لا أستأذن فيها ، ولا أدري إن كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يجيبني على ما أطلب أم لا؟! وكيف يجيبني إلى استخدام امرأتي وأنا رجل شاب أقدر على خدمة نفسي ، بينما هلال بن أمية شيخ ضعيف البصر؟!

قلنا : إن هذا الوجه وإن كان محتملا ، فإنه لا يمنع من احتمال الوجه الذي ذكرناه آنفا .. وذلك يمنع من الوثوق بنزاهة الرجل كما هو ظاهر ..

٢٤٢

لما ذا كعب دون سواه؟! :

واللافت هنا : أن الصائح يوفي على سلع ، ويصرخ بأعلى صوته بالبشارة لكعب ، ولا يذكر الرجلين الآخرين ، فما هذا الإهتمام بكعب دون سواه؟!

ولما ذا لا تكون البشارة للثلاثة في نداء واحد؟!

وما هذه العظمة والأهمية لكعب ، حتى جعلت أبا بكر يصرخ بالبشارة له ، بل لعل عمر قد شارك أبا بكر في ذلك أيضا؟!

يوم التوبة خير يوم :

قال الصالحي الشامي :

استشكل إطلاق قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك» بيوم إسلامه ، فإنه مر عليه بعد أن ولدته أمه ، وهو خير ما مر ، فقيل : هو مستثنى تقديرا ، وإن لم ينطق به لعدم خفائه.

قال الحافظ (يعني العسقلاني) : «والأحسن في الجواب أن يوم توبته يكمل يوم إسلامه ، فيوم إسلامه بداية سعادته ، ويوم توبته مكمل لها ، فهو خير من جميع أيامه.

وإن كان يوم إسلامه خيرها ، فيوم توبته المضاف إلى إسلامه خير من يوم إسلامه المجرد عنها» (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٨١ و ٤٨٢.

٢٤٣

ونقول :

إن هذا الذنب العظيم الذي أوجب ردته عن الإسلام ، فيوم توبته منه خير يوم ، لأن توبته كانت السبب في نجاته من الخلود في النار مع الكافرين والمشركين الذين جحدوا بآيات الله ، وعصوا رسوله ..

ولا خير في يوم إسلام تعقبه الردة ..

ولعل هذا هو المراد بكلام الحافظ المذكور أخيرا ..

كعب لا يملك إلا ثوبيه :

وقد زعم كعب : أنه أعطى ثوبيه لمن بشره بتوبة الله عليه ، وقال «والله ما أملك غيرهما يومئذ ، واستعار ثوبين من أبي قتادة».

ونقول :

إن هذا قد لا ينسجم مع قوله حين مسيرهم إلى تبوك : «إني لم أكن قط أقوى ، ولا أيسر مني حين تخلفت عنه تلك الغزوة. والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة».

وقال للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك».

فهل عاد فأنفق ذلك كله في تلك الأيام اليسيرة ، حتى لم يبق معه سوى ثوبيه اللذين يلبسهما؟!

ومما يزيد ريبنا في مقولات كعب : أنه هو نفسه يعود فيدّعي أنه عرض على رسول الله أن يتصدق بجميع ماله ، ثم بنصفه ، فلم يقبل منه ، ثم قبل منه أن يتصدق بثلث ماله ، فمن أين جاءه المال ، إذا كان قد استعار ثوبين

٢٤٤

من أبي قتادة ليلبسهما ، بعد أن أعطى ثوبيه للبشير.

أمن عندك؟! أم من عند الله؟! :

ولا نستطيع أن نغض الطرف عن قول كعب للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين بشره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بخير يوم مرّ عليه : أمن عندك؟ أم من عند الله؟! فإنه يتضمن اتهاما للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنه يقول أشياء من عند نفسه ، مع أن الله تعالى يقول : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١). ولا يمكن أن يصدر هذا من مؤمن صحيح الإيمان ..

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يأمر كعبا بإمساك ماله؟!

وقد ذكر لنا كعب : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يرض منه بأن يتصدق بماله كله ، ولا بنصفه ، وقال له : أمسك بعض مالك فإنه خير لك.

مع أنهم يقولون : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قبل من أبي بكر أن يأتي بماله كله لينفقه في سبيل الله حين كان يتجهز لتبوك ، ورضي بأن لا يترك أبو بكر لأهله شيئا ..

كما أنه قد رضي من عمر بأن يأتي بنصف ماله ، ورضي من عثمان بأن يجهز جيش العسرة كله ..

فإما أن يكون ذلك كله مكذوبا ، أو يكون كلام كعب غير صحيح!! مع احتمال الكذب في الجميع أيضا .. ولعل هذا هو الأقرب والأصوب حسبما ظهر مما ذكرناه في هذا الكتاب.

__________________

(١) الآيتان ٣ و ٤ من سورة النجم.

٢٤٥

على أننا قد سألنا كعبا من أين له هذا المال الذي يريد أن يتصدق به أو بنصفه أو بثلثه وهو يدّعي قبل لحظات أنه أعطى ثوبيه للبشير ، ولم يكن يملك شيئا غيرهما ، ثم استعار ثوبين من أبي قتادة ليلبسهما؟!

على أنه قد اعترف أيضا بأن له سهما بخيبر أيضا ، وقد صرح بأنه يمسكه ، ويتخلى عما عداه.

الإنسجام بين طلحة وبين كعب :

وقال بعضهم : إن سبب قيام طلحة لكعب : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان آخى بينهما لما آخى بين المهاجرين والأنصار ، والذي ذكره أهل المغازي : أن كعبا كان أخا الزبير لكن كان الزبير أخا طلحة في أخوة المهاجرين فهو أخو أخيه (١).

ونقول :

لعل هناك عاملا آخر يمكن إضافته إلى ما ذكره هذا البعض ، وهو أن ثمة انسجاما في الروحية ، وفي الأفكار ، والتصورات ، وربما في السلوك ، بين كعب وبين طلحة.

وقد أظهرت الأحداث مدى جرأة طلحة على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حتى لقد آذاه في عرضه وأزواجه حين قال : «ليموتن محمد ولنجلسن بين خلاخيل نسائه حتى نزل قوله تعالى : (.. وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٨١ وفتح الباري ج ٨ ص ٩٢.

٢٤٦

عَظِيماً) (١)» (٢). ومات النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو ساخط عليه (٣).

ثم حارب وصيه من بعده في حرب الجمل .. إلى غير ذلك من أفاعيله الكثيرة التي لا مجال هنا لتتبعها ..

ثم أظهر حديث كعب السابق ـ موقف كعب من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ وهو موقف يدين كعبا ويكشف حقيقته .. وستأتي الإشارة إلى موقفه من وصيه من بعده أيضا.

وكان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يؤاخي بين كلّ ونظيره حسبما أشرنا إليه في حديث المؤاخاة.

كعب وكتاب ملك غسان :

قال بعضهم : دلّ صنع كعب بكتاب ملك غسان على قوة إيمانه ، ومحبته لله تبارك وتعالى ورسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وإلا فمن صار في مثل حاله من الهجر والإعراض قد يضعف عن احتمال ذلك ، وتحمله

__________________

(١) الآية ٥٣ من سورة الأحزاب.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٩ ص ٥٦ و ٣٢٣ وراجع : الدر المنثور ج ٥ ص ٢١٤ عن ابن أبي حاتم ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن سعد عن السدي ، وقتادة ، ومحمد بن عمرو بن حزم ، والبحار ج ١٧ ص ٢٧ وج ٢٢ ص ١٩٠ وج ٣٢١ ص ١٠٧ والتفسير الأصفى ج ٢ ص ١٠٠٠. وراجع : كتاب الأربعين للشيرازي ص ٢١٧ والتفسير الصافي ج ٤ ص ١٩٩ وج ٦ ص ٦١ وتفسير نور الثقلين ج ٤ ص ٢٩٨.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ١٨٦.

٢٤٧

الرغبة في الجاه والمال على هجران من هجره ، ولا سيما مع أنه من الملك الذي استدعاه إليه ، لأنه لا يكرهه على فراق دينه ، لكن لما احتمل عنده أنه لا يأمن من الإفتتنان ، حسم المادة ، وأحرق الكتاب ، ومنع الجواب.

هذا مع كونه من البشر الذين طبعت نفوسهم على الرغبة ولا سيما مع الإستدعاء ، والحث على الوصول إلى المقصود من الجاه والمال ، ولا سيما والذي استدعاه قريبه ، ومع ذلك فغلب عليه دينه ، وقوي عنده يقينه ، ورجح ما فيه من النكر والتعذيب ، على ما دعي إليه من الراحة والتنعيم ، حبا في الله تعالى ورسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، كما قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» (١).

ونقول :

١ ـ إن ما ذكره هذا البعض غير سليم ، ولا قويم ، بل هو موضع تساؤل وريب ، فإن عدم الإستجابة لملك غسان كما يكون بسبب قوة إيمان كعب ، فإنه قد يكون أيضا لأجل ضعف كعب ، وعدم قدرته على مواجهة سلبيات استجابته لطلب ملك غسان .. لا سيما إذا كانت هناك أمور

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٨١. وراجع : المجموع للنووي ج ١٩ ص ٢٢١ و ٢٢٤ وسبل السلام ج ١ ص ٣٥ ونيل الأوطار ج ٣ ص ٣٢٥ و ٣٢٦ وروضة الواعظين ص ٤١٧ ومستدرك الوسائل ج ١٢ ص ٢٣٤ ومشكاة الأنوار للطبرسي ص ٢٢٠ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٦ ص ٢٢٩ ومسند أحمد ج ٣ ص ١٠٣ و ١٧٢ و ٢٠٧ و ٢٣٠ و ٢٤٨ و ٢٧٥ و ٢٧٨ و ٢٨٨ وصحيح البخاري ج ١ ص ١٠ و ١١ وصحيح البخاري ج ٧ ص ٨٣ وج ٨ ص ٥٦ وصحيح مسلم ج ١ ص ٤٨ ومصادر كثيرة أخرى.

٢٤٨

أساسية وهامة ، لا يستطيع أن يعرضها لخطر لا يعرف طبيعته ولا مداه إذا اتخذ قرارا بالإلتحاق بمعسكر الكفر ..

بل إن ما رآه من قوة وشوكة الإسلام ونبي الإسلام كما ظهر في غزوة مؤتة ، ثم تأكد ذلك في غزوة تبوك ، التي لم يجترئ فيها طاغية الروم حتى على التفكر بالتصدي والتحدي ـ إن هذا الذي رآه ـ يجعله شديد التردد في الإستجابة ، لأنه يرى فيها خطرا عظيما على نفسه ، وعلى كل مشروعه في هذه الحياة. لا سيما وأن الرسالة قد وصلته بصورة معلنة وظاهرة ، وقد ذهبت أخبارها في كل اتجاه.

٢ ـ إن ما ذكره النص الآنف الذكر من أن ملك غسان سوف لا يكرهه على فراق دينه غريب وعجيب.

فأولا : من أين ظهر له أن ملك غسان سوف لا يكرهه على فراق دينه .. حتى لو وعده بذلك ..

ثانيا : هل هذا الذي يلجأ إلى أعداء دينه ، وأعداء رسوله يبقى على دين الإسلام ، لا سيما إذا كان التجاؤه هذا مضادة لنبيه ، وكيدا منه له .. لا سيما وأن القرآن قد حدد موقع من يتولى أعداء الله ورسوله ، فقال : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (١).

أسئلة حاسمة حول الرسالة :

وتبقى هناك أسئلة أساسية وحاسمة ، وهي : لما ذا يتصل ملك غسان

__________________

(١) الآية ٥١ من سورة المائدة.

٢٤٩

بكعب بن مالك دون رفيقه ، اللذين نزلت الآية فيه ، وفيهما؟!

بل لما ذا لم يتصل بعبد الله بن أبي الذي يزعمون : أن معسكره لم يكن بأقل المعسكرين ـ حين المسير إلى تبوك؟ أو لما ذا لم يتصل بمحمد بن مسلمة ، وهو لم يكن مريضا ، ولا ضعيفا؟!

وسؤال آخر : لما ذا لم يوص ملك غسان حامل رسالته إلى كعب بن مالك بمراعاة جانب السرية في الإتصال معه؟!

ألا يحتمل أن يكون أمر الرسالة قد اكتشف بواسطة الغيب ، كما اكتشفت رسالة حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة يوم الفتح؟؟.

من المكلف بمقاطعة المتخلفين؟! :

بالنسبة إلى قول أبي قتادة لما سأله كعب : الله ورسوله أعلم. قال القاضي : لعل أبا قتادة لم يقصد بهذا تكليمه ، لأنه منهي عن كلامه. وإنما قال ذلك لنفسه لما ناشده ، فقال أبو قتادة ذلك مظهرا لاعتقاده ، لا ليسمعه.

وبالنسبة لقول كعب : قال لي بعض أهلي.

قال في النور : الظن أن القائل له من بعض أهله امرأة ، وذلك أن النساء لم يدخلن في النهي ، لأن في الحديث : «ونهى المسلمين عن خطابنا».

وهذا الخطاب لا يدخل فيه النساء ، وأيضا فإن امرأته ليست داخلة في النهي ، فدل على أن المراد الرجال.

وقال الحافظ : لعل القائل بعض ولده أو من النساء ، ولم يقع النهي عن كلام الثلاثة للنساء اللائي في بيوتهن ، أو أن الذي كلّمه كان منافقا ، أو

٢٥٠

الذي يخدمه. ولم يدخل في النهي (١).

ونقول :

١ ـ إن قولهم : نهى المسلمين عن خطابنا لا يدل على عدم شمول النهي للنساء ، فإن المراد بالمسلمين هم الأشخاص المسلمون ، سواء كانوا رجالا أم نساءا ، وهذه هي طريقة الخطابات القرآنية ، كما في قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (٢) ، فإن المراد هم : الناس المؤمنون ، وليس المراد خصوص الرجال المؤمنين ، لأنه استعمل صيغة جمع المذكر السالم .. وهكذا سائر الآيات القرآنية والخطابات النبوية.

ولو أراد الذكور وحدهم لقال ـ مثلا : نهى رجال المسلمين.

٢ ـ إن كعب بن مالك ـ كما في الدر المنثور ـ قال : «نهى رسول الله الناس عن كلامنا» ولم يقل : نهى المسلمين ، ولعل ذلك يفسر لنا التصريح بأن الناس هجروا المتخلفين حتى الصببيان (٣).

وفي تفسير القمي : «لم يكلمهم رسول الله ولا إخوانهم ، ولا أهلوهم ، فضاقت عليهم المدينة» (٤).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٨١ ، وفتح الباري ج ٨ ص ٩١ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٨١.

(٢) الآية ١ من سورة المؤمنون.

(٣) تفسير مجمع البيان للطبرسي ج ٥ ص ١٣٧ والبحار ج ٢١ ص ٢٠٥ والتبيان ج ٥ ص ٣١٦.

(٤) تفسير البرهان ج ٢ ص ١٦٩ وتفسير القمي ج ١ ص ٢٩٨ ونور الثقلين ج ٢ ص ٢٧٩ وتفسير الميزان ج ٩ ص ٣٠٣.

٢٥١

وقد ذكروا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قال لأصحابه : «لا تكلموا رجلا تخلف عنا ، ولا تجالسوه حتى آذن لكم» ، وإنه قد قال ذلك لأصحابه قبل وصوله إلى المدينة حين جاء المنافقون يتلقونه ، ثم إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رحمهم وبايعهم واستغفر لهم ، ثم كانت قضية الثلاثة الذين خلفوا (١).

كعب بن مالك ليس كأبي ذر :

وقد اتضح من جميع ما تقدم : أنه ليس من الصواب اعتبار حال كعب بن مالك كحال أبي ذر ، إذ شتان ما بين الرجلين ، فكعب قد خالف أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأصبح في جملة العصاة ، وقد امر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بهجره ، ولم تتحقق له توبة كما ظهر من النص الذي رواه كعب لنا ، مع ما فيه من محاولة التضخيم والتفخيم.

أما أبو ذر فله شأن آخر سنوضحه فيما يأتي إن شاء الله تعالى ، ولأجل ذلك فنحن لا نوافق على قولهم : وكان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى تخلفوا عنه من غير شك ولا ارتياب منهم : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، وأبو خيثمة ، وأبو ذر الغفاري.

وكانوا نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم انتهى.

__________________

(١) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٨٦ عن ابن مردويه ، وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧٢ عن ابن عقبة ، وعن دلائل النبوة للبيهقي ج ٥ ص ٢٨٠ ، والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ١٢٣ وتخريج الأحاديث والآثار ج ٢ ص ٨١ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٨٠.

٢٥٢

هذا وقد لحق أبو خيثمة ، وأبو ذر برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

وقد صرحت النصوص : أن النساء قد شاركوا في مقاطعتهم أيضا ، فقد قالوا : «فأعرض عنهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمؤمنون ، حتى إن الرجل ليعرض عن أبيه وأخيه ، وحتى أن المرأة لتعرض عن زوجها» (٢).

الجهاد فرض عين أو فرض كفاية :

قال الحافظ : إنما غلظ الأمر على كعب وصاحبيه وهو جروا ، لأنهم تركوا الواجب عليهم من غير عذر ، لأن الإمام إذا استنفر الجيش عموما لزمهم النفير ، ولحق اللوم بكل فرد ، أي لو تخلف.

قال ابن بطال : إنما اشتد الغضب على من تخلف ، وإن كان الجهاد فرض كفاية لكنه في حق الأنصار خاصة فرض عين لأنهم بايعوا على ذلك ، ومصداق ذلك قولهم وهم يحفرون الخندق :

نحن الذين بايعوا محمدا

على الجهاد ما بقينا أبدا

وكأن تخلفهم عن هذه الغزوة كبيرة ، لأنها كالنكث لبيعتهم.

قال السهيلي : ولا أعرف له وجها غير الذي قاله ابن بطال.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤١ عن ابن إسحاق والواقدي ، والتفسير الصافي ج ٢ ص ٣٨٤ والبحار ج ٢١ ص ٢١٥ وتفسير القمي ج ١ ص ٢٩٤ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٥٠ وراجع : فيض القدير شرح الجامع الصغير ج ٤ ص ٤٨٤ وو تفسير أبي السعود ج ٤ ص ١١٠ والثقات لابن حبان ج ٢ ص ٩٤.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧٣ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٨٠ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ١٢٤.

٢٥٣

قال الحافظ : قد ذكرت وجها غير الذي ذكره ، ولعله أقعد.

ويؤيده قوله سبحانه وتعالى : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١).

وعند الشافعية : أن الجهاد كان فرض عين في زمنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فعلى هذا ، فيتوجه العتاب على كل من تخلف مطلقا (٢).

ونقول :

إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد ندب جميع الناس إلى الجهاد ، ولم يأذن لأحد بالتخلف ، فمن تخلف فقد عصى أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فيستحق العتاب والعقاب ..

وبذلك يتضح : أن المعيار هنا ليس هو أن الجهاد فرض عين أو فرض كفاية ، لكي يعود الأمر في تشخيص ذلك إلى المكلفين أنفسهم! بل المعيار هو أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فمعصية الرسول ، والتمرد عليه محرم في نفسه ، وطاعته فرض عين ، حتى لو كان الجهاد فرض كفاية ..

٢ ـ كما أنه لا محل للحديث عن أن ذلك يختص بالأنصار وحسب ، فإن بيعتهم إنما هي لتأكيد إلزامهم بالواجب ، تماما كما جرى في بيعة الغدير ، فإن

__________________

(١) الآية ٥١ من سورة المائدة.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٨٠ و ٤٨١ وفتح الباري ج ٨ ص ٩٣.

٢٥٤

الإمامة لا تثبت بالبيعة ، ولا تنتفي بعدمها ، بل هي ثابتة في حق من بايع ، ومن لم يبايع لأنها بالنص ، والبيعة إنما هي لتأكيد وجوب الواجب في حقهم على ما هو عليه ، ولكنها لا تغير من صفة الوجوب ، فلا تجعل الواجب الكفائي واجبا عينيا ولا العكس ..

٣ ـ إن التخلف عن الغزو الذي يحتاج المسلمون إلى القيام به للذب عن دينهم ، وعن أنفسهم ، وقد ندبهم إليه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كبيرة على كل حال ، سواء أكان ذلك ممن بايع أو ممن لم يبايع .. فلا يصح اعتبار تخلف المهاجرين صغيرة ، وتخلف الأنصار كبيرة.

كعب بن مالك يحتاج إلى أوسمة :

وقد كان لا بد من البحث عن أوسمة ، أو اختراعها لكي تمنح لكعب بن مالك ، فإنه كان عثمانيا لم يبايع عليا «عليه‌السلام» (١).

وكان عثمان قد استعمله على صدقة مزينة ، وترك ما أخذ منهم له (٢).

وقد رثى عثمان بأمور منكرة (٣).

وربما من أجل ذلك كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد آخى بينه وبين الزبير (٤) ، أو بينه وبين طلحة (٥).

__________________

(١) تاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٤٥٢.

(٢) تاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٤٥٢ والكامل في التاريخ ج ٣ ص ١٩١.

(٣) تاريخ مدينة دمشق ج ٣٩ ص ٥٣٦.

(٤) المصنف لابن أبي شيبة ج ٦ ص ٢٦٥ وأحكام القرآن للجصاص ج ٢ ص ٩٨ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٣ ص ٥٤٢ والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ـ ج ١٤ ص ١٢٤ ولباب النقول (ط دار إحياء العلوم) ص ١١٥ و (ط دار الكتب العلمية) ص ١٠٢ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٢٧١ والمجموع للنووي ج ١٥ ص ٤٠٣.

(٥) الإستيعاب (ط دار الجيل) ج ٢ ص ٧٦٤ وإمتاع الأسماع ج ٦ ص ١٤١.

٢٥٥

وقد تقدم : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يؤاخي بين كل ونظيره ..

وكان كعب بن مالك ، وحسان بن ثابت ، ونعمان بن بشير عثمانية ، يقدمون بني أمية على بني هاشم ، ويقولون : الشام خير من المدينة ، واتصل بهم أن ذلك بلغ عليا «عليه‌السلام» ، فدخلوا عليه ، فقال له كعب : أخبرنا عن عثمان أقتل ظالما فنقول بقولك؟ أو قتل مظلوما فتقول بقولنا ، ونكلك إلى الشبهة فيه؟ فالعجب من تيقننا وشكك .. وقد زعمت العرب أن عندك علم ما اختلفنا فيه ، فهاته نعرفه.

فقال لهم أمير المؤمنين «عليه‌السلام» : لكم عندي ثلاثة أشياء : استأثر عثمان فأساء الإثرة ، وجزعتم فأسأتم الجزع ، وعند الله ما تختلفون فيه إلى يوم القيامة.

فقالوا : لا ترضى بهذا العرب ، ولا تعذرنا به.

فقال أمير المؤمنين «عليه‌السلام» : أتردون علي بين ظهراني المسلمين بلا نية صادقة ، ولا حجة واضحة؟! أخرجوا عني فلا تجاوروني في بلد أنا فيه أبدا.

فخرجوا من يومهم فساروا حتى أتوا معاوية فقال : لكم الكفاية أو الولاية ، فأعطى حسانا ألف دينار وكعبا ألف دينار ، وولى النعمان حمص (١).

__________________

(١) نهج السعادة ج ١ ص ٢١٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ٥٠ ص ١٧٨.

٢٥٦

وكان كعب أحد من عاون المصريين ، وشهر سلاحه ، فلما ناشد عثمان الناس أن يغمدوا سيوفهم ، انصرف ، ولم ير أن الأمر ينتهي إلى قتله فلما قتل وقف على الأنصار وقال :

من مبلغ الأنصار عنك رسالة

رسل تقص عليهم التبيانا (١)

إلخ ..

وعن الزهري : أن كعب بن مالك قال يوم الدار : يا معشر الأنصار ، انصروا الله .. مرتين (٢).

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ج ٣٩ ص ٥٣٩ ، وراجع الأغاني.

(٢) شرح الأخبار ج ٢ ص ٢٩ والإستيعاب (ط دار الجيل) ج ٣ ص ١٣٢٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٩ ص ٤٣٢ وأسد الغابة ج ٥ ص ١٧٢.

٢٥٧
٢٥٨

الفصل السادس :

هكذا يكيدون عليا عليه‌السلام

٢٥٩
٢٦٠