الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٩

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٩

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-201-3
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٥

عندهم. فلما تذكر قال : اللهم لك عليّ أن لا أرجع إلى أهلي ولا مالي.

قال كعب : فذكروا رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة ، فمضيت حين ذكروهما لي.

ونهى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه.

فاجتنبنا الناس ، وتغيروا لنا.

وعند ابن أبي شيبة : فطفقنا نغدو في الناس لا يكلمنا أحد ، ولا يسلم علينا أحد ، ولا يرد علينا سلاما.

وعند عبد الرزاق : وتنكّر لنا الناس حتى ما هم بالذي نعرف ، وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هي بالتي نعرف. انتهى.

ما من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلي عليّ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أو يموت فأكون من الناس بتلك المنزلة ، فلا يكلمني أحد ، ولا يصلي علي حتى تنكرت في نفسي الأرض حتى ما هي التي أعرف.

فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.

فأما صاحباي فاستكانا ، وقعدا في بيتهما يبكيان.

وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم ، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين ، وأطوف الأسواق ، فلا يكلمني أحد ، ولا يرد علي سلاما وآتي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم عليه ، وأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل علي ، فإذا التفت نحوه أعرض عني.

٢٢١

حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة ، وهو ابن عمي. أي أنه من بني سلمة ، وليس هو ابن عمه أخو أبيه الأقرب ، قال كعب : وهو أحب الناس إلي ، فسلمت عليه ، فو الله ، ما رد علي ، فقلت له : يا أبا قتادة ، أنشدك بالله ، هل تعلمني أحب الله ورسوله؟

فسكت ، فعدت له فنشدته ، فسكت [فعدت له فنشدته] فلم يكلمني ، حتى إذا كان في الثالثة أو الرابعة قال : الله ورسوله أعلم.

ففاضت عيناي ، وتوليت حتى تسورت ، قال : فبينما أنا أمشي في سوق المدينة إذا بنبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدل على كعب بن مالك؟

فطفق الناس يشيرون له ، حتى إذا جاءني دفع إليّ كتابا من ملك غسان ، وعند ابن أبي شيبة : من بعض من بالشام ، كتب إلي كتابا في سرقة حرير فإذا فيه :

أما بعد ، فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ، فأقصاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة ، فإن تك متحولا فالحق بنا نواسيك.

فقلت لما قرأتها : وهذا أيضا من البلاء ، قد طمع فيّ أهل الكفر ، فتيممت بها التنور فسجرته بها.

وعند ابن عائذ : أنه شكا قدره إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وقال : ما زال إعراضك عني حتى رغب فيّ أهل الشرك.

قال كعب : حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يأتيني.

٢٢٢

قال محمد بن عمر : وهو خزيمة بن ثابت ، وهو الرسول إلى مرارة وهلال بذلك.

قال كعب : فقال : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يأمرك أن تعتزل امرأتك. أي عمرة بنت حمير بن صخر بن أمية الأنصارية أو خيرة ـ بفتح الخاء المعجمة فالتحتانية.

فقلت : أطلقها ، أو ما ذا أفعل؟

قال : لا ، بل اعتزلها ولا تقربها ، وأرسل إلى صاحبيّ مثل ذلك.

فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك ، فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.

قال كعب : وجاءت امرأة هلال بن أمية ، أي خولة بنت عاصم لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقالت : يا رسول الله ، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم ـ وعند ابن أبي شيبة : إنه شيخ قد ضعف بصره ـ انتهى. فهل تكره أن أخدمه؟

قال : «لا ، ولكن لا يقربك».

قالت : إنه والله ما به حركة إلى شيء!! والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا.

قال كعب : فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في امرأتك كما أذن لهلال بن أمية أن تخدمه.

فقلت : والله لا أستأذن فيها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وما يدريني ما يقول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إذا استأذنته فيها ، وأنا رجل شاب.

٢٢٣

فلبثت بعد ذلك عشر ليال ، حتى كملت لنا خمسون ليلة ، من حين نهى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن كلامنا.

وعند عبد الرزاق : وكانت توبتنا نزلت على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ثلث الليل.

فقالت أم سلمة : يا نبي الله ألا نبشر كعب بن مالك؟

قال : إذا يحطمكم الناس ويمنعونكم النوم سائر الليلة.

قال : وكانت أم سلمة تجيئه في ثاني عشرة بأمري ، فلما صليت الفجر صبح خمسين ليلة ، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا ، فبينا أنا جالس على الحال الذي ذكره الله تعالى قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت ، سمعت صوتا صارخا أو فى على جبل سلع ، يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك ، أبشر.

وعند محمد بن عمر : أن الذي أوفى على سلع أبو بكر الصديق فصاح : قد تاب الله ـ تعالى ـ على كعب ، يا كعب : أبشر.

وعند ابن عقبة : أن رجلين سعيا يريدان كعبا يبشرانه ، فسبق أحدهما ، فارتقى المسبوق على سلع فصاح : يا كعب ، أبشر بتوبة الله تعالى وقد أنزل الله ـ تعالى ـ عزوجل فيكم القرآن ، وزعموا أن اللذين سعياهما : أبو بكر وعمر.

قال كعب : فخررت ساجدا أبكي فرحا بالتوبة ، وعرفت أن قد جاء فرج ، وآذن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بتوبة الله تعالى علينا حين صلى صلاة الفجر ، فذهب الناس يبشروننا ، وذهب قبل صاحبيّ مبشرون ، وركض إليّ رجل على فرس ـ وعند محمد بن عمر : هو الزبير بن العوام.

٢٢٤

قال كعب : وسعى ساع من أسلم حتى أوفى على الجبل ، وعند محمد بن عمر : أنه حمزة بن عمرو الأسلمي.

قال كعب : وكان الصوت أسرع من الفرس ، فلما جاءني الذي سمعت صوته ، وهو حمزة الأسلمي يبشرني ، نزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشراه ، والله ما أملك غيرهما يومئذ. واستعرت ثوبين من أبي قتادة ـ كما عند محمد بن عمر ـ فلبستهما.

قال : وكان الذي بشر هلال بن أمية بتوبته سعيد بن زيد ، فما ظننت أنه يرفع رأسه حتى تخرج نفسه ، أي من الجهد ، فقد كان امتنع عن الطعام حتى كان يواصل الأيام صياما لا يفتر عن البكاء ، وكان الذي بشر مرارة بن الربيع بتوبته سلكان بن سلامة أو سلامة بن وقش.

قال كعب : وانطلقت إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فتلقاني بالتوبة ، يقولون : لتهنك توبة الله تعالى عليك.

قال كعب : حتى دخلت المسجد ، فإذا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جالس حوله الناس ، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني. والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ، ولا أنساها لطلحة.

قال كعب : فلما سلمت على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو يبرق وجهه من السرور : [أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك].

فقلت : يا رسول الله ، أمن عندك أم من عند الله؟

قال : «لا بل من عند الله ، إنكم صدقتم الله فصدقكم الله».

وكان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة

٢٢٥

قمر ، وكنا نعرف ذلك منه.

فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله ، إن من توبتي أن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله تعالى وإلى رسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك».

قلت : نصفه؟

قال : «لا».

قلت : ثلثه؟

قال : «نعم».

قلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر.

وقلت : يا رسول الله ، إنما نجاني الله تعالى بالصدق ، وإن من توبتي ألّا أحدث إلا صدقا ما بقيت ، فو الله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله تعالى في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أحسن مما أبلاني ، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى يومي هذا كذبا ، وإني لأرجوا أن يحفظني الله تعالى فيما بقيت.

فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) إلى قوله : (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (١) ، فو الله ما أنعم الله علي من نعمة ـ بعد أن هداني للإسلام ـ أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك

__________________

(١) الآيتان ١١٧ و ١١٩ من سورة التوبة.

٢٢٦

الذين كذبوا ، فإن الله تعالى قال في الذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد ، فقال تبارك وتعالى : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ) إلى قوله : (فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (١).

قال كعب : وكنا قد تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين حلفوا له ، فبايعهم واستغفر لهم ، وأرجأ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمرنا حتى قضى الله سبحانه وتعالى فيه بذلك ، قال الله تعالى : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٢) وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو ، وإنما تحليفه إيانا ، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه ، فقبل منه (٣).

__________________

(١) الآيتان ٩٥ و ٩٦ من سورة التوبة.

(٢) الآية ١١٨ من سورة التوبة.

(٣) الحديث السابق ذكره بطوله في سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧٣ ـ ٤٧٨ والنص له ، وفي الدر المنثور ج ٣ ص ٢٨٧ ـ ٢٨٩ عن عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وابن مردويه ، والبيهقي.

وراجع : الديباج على مسلم ج ٦ ص ١١٥ وصحيح البخاري ج ٥ ص ١٣٥ وعمدة القاري ج ١٨ ص ٥١ وصحيح مسلم ج ٨ ص ١١٢ والسنن الكبرى للنسائي ج ٦ ص ٣٦١ وجامع البيان للطبري ج ١١ ص ٨٣ وتفسير ابن أبي حاتم ج ٦ ص ١٩٠٣ والجامع لأحكام القرآن ج ٨ ص ٢٨٢.

٢٢٧

وعن كعب بن مالك قال : لما نزلت توبتي قبلت يد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

وفي نص آخر : قبلت يده وركبتيه (٢).

ونقول :

خلفوا أم تخلفوا؟! :

إننا قبل أن ندخل في مناقشة النص أو النصوص المتقدمة نحب أن نشير إلى أن التعبير القرآني عن الذين لم يسيروا إلى تبوك قد جاء بصيغة «خلفوا» المبني للمجهول. أي الذين تركوا وخلفهم المسلمون وراء ظهورهم ، وساروا للجهاد في سبيل الله. ربما يشير إلى أن مخالفتهم لأمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دعت المسلمين إلى تركهم ، والإنفصال عنهم ، ومواصلة سيرهم إلى الله تعالى بدونهم ..

هذا وقد فسر الأئمة الطاهرون : زين العابدين ، والباقر ، والصادق ، والكاظم «عليهم‌السلام» بأنهم الثلاثة الذين خالفوا ، أو قرأوها قراءة تفسيرية كذلك (٣). فراجع.

__________________

(١) سبل الهدى الرشاد ج ٥ ص ٤٧٨ عن ابن عساكر ، وكنز العمال ج ١٣ ص ٥٨١ وتاريخ مدينة دمشق ج ٥٠ ص ٢٠.

(٢) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٨٩ عن أبي الشيخ ، وابن مردويه.

(٣) فتح القدير للشوكاني ج ٢ ص ٤١٣ والبرهان (تفسير) ج ٢ ص ٦٩ عن تفسير القمي ، والكليني ، ونور الثقلين ج ٢ ص ٢٧٨ عن مجمع البيان.

٢٢٨

وبعد ما تقدم نقول :

كنا قد ذكرنا في حديثنا عن غزوة بني قريظة في فصل : «فشل المفاوضات وخيانة أبي لبابة» .. حديث خيانة أبي لبابة ، وارتباطه إلى سارية من سواري المسجد النبوي ، حتى أطلق النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سراحه بعد نزول الآيات في حقه .. وأثبتنا أنه حديث غير دقيق ، بل هو في أكثره مكذوب ومختلق ..

وحيث إنهم قد ذكروا عنه هذا الأمر في غزوة تبوك ، فلا محيص عن العودة للإشارة إلى بعض ما يفيد في جلاء الحقيقة ، فنسجل مع مراعاة الإختصار الشديد ما يلي :

خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا :

إن قوله تعالى : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) (١) لا ينطبق على قصة أبي لبابة وأصحابه ، لأن المفروض : أن ما صدر منهم هو التخلف عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ثم الإعتراف بالذنب ، والآية لم تصرح بتوبته.

وإذا كان قد تاب فعلا فإن الآية تقول : إن التوبة إنما تعقبت العمل الصالح والسيء اللذين اختلطا. وبدون ذلك فلا يوجد إلا عمل سيء ، واعتبار التوبة هي العمل الصالح غير ظاهر.

بل قد روي : أن هذه الآية نزلت في حق الذي تكلم في حق القراء بما لا

__________________

(١) الآية ١٠٢ من سورة التوبة.

٢٢٩

يليق ، فشكاه عمر بن الخطاب إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولعل ذلك قد جرى في غزوة تبوك أيضا (١).

وقيل : نزلت في عبد الله بن أبي (٢).

وفي نص آخر : أنها نزلت في رجل من المنافقين قال : يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا في يوم كذا وكذا ، وما يدريه بالغيب؟! (٣).

وفي نص آخر : أنها نزلت في بعض المنافقين في تبوك (٤).

خذ من أموالهم صدقة :

وعن آية خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم نقول :

روي عن الإمام الباقر «عليه‌السلام» : أنها نزلت في شهر رمضان فأمر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مناديه فنادى في الناس : إن الله فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة (٥).

__________________

(١) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٤ عن أبي نعيم في حلية الأولياء ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه. وراجع المصادر في الهوامش السابقة.

(٢) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٤ عن ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والعقيلي في الضعفاء ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، والخطيب في رواة مالك.

(٣) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٤ عن ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، والبحار ج ٢١ ص ١٩٧ وتفسير مجمع البيان ج ٥ ص ٨٢ وتفسير مجاهد ج ١ ص ٢٨٣ وجامع البيان للطبري ج ١٠ ص ٢٢١ وتفسير ابن أبي حاتم ج ٦ ص ١٨٣٠ وتفسير الثعلبي ج ٥ ص ٦٥ وزاد المسير ج ٣ ص ٣١٥.

(٤) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٤ عن ابن المنذر ، وابن ابي حاتم ، وأبي الشيخ ، عن قتادة.

(٥) الكافي ج ٣ ص ٤٩٧ وموسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم‌السلام» للشيخ ـ

٢٣٠

وهذا معناه ـ إن كانت الآية تعني أبا لبابة ـ : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يقبل من أبي لبابة ومن معه أموالهم كصدقات ، وإنما أخذ منهم زكاة أموالهم ..

مع ملاحظة أننا قد قلنا فيما سبق : إن الزكاة قد فرضت قبل ذلك في مكة ، فتكون هذه الآية قد جاءت لتمنع من أخذ غير الزكاة المفروضة قبل ذلك ، إما إرفاقا بهم ، وإما للإشارة إلى عدم خلوص نيتهم في هذا العطاء ..

إختلاف الروايات :

وقد ذكرنا في حديثنا عن غزوة بني قريظة طائفة من تناقضات واختلاف الروايات فيما يرتبط بقصة أبي لبابة.

ونشير هنا أيضا إلى : أن هذه التناقضات ظاهرة أيضا بين الروايات التي تدّعي أن ما جرى قد كان في غزوة تبوك ، وكمثال على ذلك نذكر :

أن الرواية المتقدمة عن ابن عباس تقول : إن سبعة ارتبطوا في المسجد ، معلنين توبتهم ، وإن المتخلفين كانوا عشرة.

ولكن رواية أخرى عن ابن عباس تقول : إن المتخلفين كانوا ثلاثة ،

__________________

هادي النجفي ج ٨ ص ٤٦٩ وميزان الحكمة ج ٢ ص ١٥٩٤ ونهج السعادة ج ٨ ص ٦٤ والتفسير الأصفى ج ١ ص ٤٨٨ والتفسير الصافي ج ٢ ص ٣٧١ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ٢٦٠ وتفسير الميزان ج ٩ ص ٣٨٤ ومنتقى الجمان ج ٢ ص ٣٥٨ وتفسير البرهان ج ٢ ص ١٥٦ وذخيرة المعاد (ط. ق) ج ١ ق ٣ ص ٤١٨.

٢٣١

وهم الذين ارتبطوا أنفسهم في سواري المسجد وبقي ثلاثة (١).

وفي نص آخر عن ابن زيد : أن الذين ربطوا أنفسهم كانوا ثمانية (٢).

وفي حديث قتادة : إن المجموع كان سبعة ، والذين ارتبطوا بالسواري كانوا أربعة (٣).

وفي حديث عن جابر : إن المتخلفين كانوا ستة (٤).

اختلاف الروايات في الثلاثة الذين خلفوا :

وعن مقدار المدة التي أرجئ إليها الثلاثة الذين خلفوا تقول رواية تقدمت : إنها سنة.

لكن رواية أخرى تقول : إنهم أرجئوا أربعين يوما (٥).

__________________

(١) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٧٣ عن ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وراجع :

زبدة البيان ص ١٨٤ وتخريج الأحاديث والآثار ج ٢ ص ٩٧ وتفسير الكبير للرازي ج ١٦ ص ١٧٥.

(٢) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٧٣ عن ابن أبي حاتم ، وتفسير الآلوسي ج ١١ ص ١٢ والجامع لأحكام القرآن ج ٨ ص ٢٤٢.

(٣) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٧٣ عن ابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وتفسير ابن أبي حاتم ج ٦ ص ١٨٧٣ و ١٨٧٥ وتفسير الثعلبي ج ٥ ص ٨٩.

(٤) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٧٣ عن أبي نعيم في المعرفة ، وابن عساكر ، وابن مندة ، وأبي الشيخ. وراجع : لباب النقول (ط دار إحياء العلوم) ص ١٢٤ و (ط دار الكتب العلمية) ص ١١١.

(٥) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٧٣ عن أبي الشيخ ، وابن مندة ، وابن عساكر ، وأبي نعيم في معرفة الصحابة ، وتاريخ مدينة دمشق ج ٥٠ ص ١٩٦.

٢٣٢

ورواية كعب بن مالك الطويلة تقول : إنهم بقوا خمسين ليلة (١).

وعن أسمائهم نقول :

قيل : إن الثلاثة الذين لم يربطوا أنفسهم إلى سوار المسجد ، فنزلت فيهم الآية هم : كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية (٢).

وفي نص آخر : هم عثمان وصاحباه (٣).

وعن صفوان ، قال أبو عبد الله «عليه‌السلام» : كان أبو لبابة أحدهم (٤).

__________________

(١) عمدة القاري ج ١٨ ص ٢٧٩.

(٢) تفسير العياشي ج ٢ ص ١١٥ وتفسير البرهان ج ٢ ص ١٦٩ والدر المنثور ج ٣ ص ٢٨٦ ـ ٢٨٩ عن ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبي الشيخ ، وابن مندة ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، وعن تفسير القمي ج ١ ص ٢٩٦ و ٢٩٧ وحواشي الشرواني ج ٧ ص ٤٥٥ والبحار ج ٢١ ص ٢٠٤ و ٢١٩ وعمدة القاري ج ١٣ ص ٢١١ وج ١٧ ص ١٠٢ وج ١٨ ص ٢٧٨ وج ٢٢ ص ١٤٤ والتفسير الصافي ج ٢ ص ٣٨٦ و ٣٨٧ وتفسير السمرقندي ج ٢ ص ٩٣ وجامع البيان للطبري ج ١١ ص ٧٨ وتفسير غريب القرآن للطريحي ص ١٤٣ وتفسير مجمع البيان ج ٥ ص ١٣٧ وتفسير جوامع الجامع ج ٢ ص ١٠٢ والإستيعاب (ط دار الجيل) ج ٤ ص ١٥٤٢ تحفة الأحوذي ج ٨ ص ٤٠٤.

(٣) الكافي ج ٨ ص ٣٧٧ والبحار ج ٢١ ص ٢٣٧ وج ٨٩ ص ٥٨ وتفسير العياشي ج ٢ ص ١١٥ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ٢٧٨ والبرهان في تفسير القرآن ج ٢ ص ١٦٩.

(٤) البحار ج ٢١ ص ٢٣٧ وتفسير العياشي ج ٢ ص ١١٦ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ٢٧٨.

٢٣٣

هل كفر المتخلفون؟! :

وقد ذكرت الروايات المتقدمة : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أرسل إلى المتخلفين ، وهم : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع يأمرهم باعتزال نسائهم .. فهل هذا لمجرد التضييق عليهم ، أم أن ما فعلوه. قد أظهر ردتهم عن الإسلام ، ولا يصح نكاح المرتد ، بل لا بد لزوجته من أن تعتد منه؟!

ألا نبشر كعب بن مالك؟! :

ويستوقفنا هنا أيضا ما زعمته رواية كعب : من أن براءتهم قد نزلت في الثلث الأخير من الليل ، فقالت أم سلمة : ألا نبشر كعب بن مالك؟

فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إذن يحطمكم الناس ، ويمنعونكم النوم سائر الليلة ..

وهذا غير مقبول أيضا :

أولا : لما ذا اهتمت أم سلمة بخصوص كعب بن مالك ، وأهملت رفيقيه ، فإن كان قريبا لها فذلك لا يمنع من تبشير سواه ، وقد تقدم : أنها هي التي يزعمون أنها بشرت أبا لبابة حين ربط نفسه في المسجد في قصة بني قريظة ..

ثانيا : هل يصح إبقاء إنسان مسلم رهن العذاب ولو نفسيا لمجرد الخوف من اجتماع الناس ومنعهم المبشر من إكمال نومته تلك الليلة؟!

لم يعاتب الله أحدا تخلف عن بدر :

زعم كعب بن مالك : أن الله لم يعاتب أحدا تخلف عن بدر.

٢٣٤

وإنما يريد بكلامه هذا : أن يعذر نفسه ، ويحفظ ماء وجهه في تخلفه عن ذلك المشهد العظيم .. بل هو يحاول أن يفضل بيعة العقبة عليها ..

ونقول :

١ ـ إن عدم لوم الله لهم لا يعني أن ما فعلوه كان مقبولا ، فإن نفس عدم استجابتهم لدعوة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهم للمسير معه خذلان عظيم. وعدم عتاب الله تعالى لهم إنما هو بفضل منه ، ورحمة.

٢ ـ إن الله تبارك وتعالى قد عاب على من تخلف عن بدر تخلفهم ، فقال : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (١).

وفي هذا الكلام لوم وتقريع ظاهر ، فلما ذا يحاول كعب أن ينكره؟!

٣ ـ أما تفضيل بيعة العقبة على غزوة بدر فهو غير مسموع ، لأن الذين شهدوا العقبة ، قد أعطوا العهد والميثاق ، والتزموا بنصرة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وبايعوه على ذلك .. فمن وفى منهم فله أجره ومنزلته عند الله بوفائه ، لا بنفس بيعته. ومن قعد عن نصرته ، ونكث بعهده جوزي بفعله ..

وأما قبل حضور وقت النصر ، فإن للبيعة فضلها ، من حيث تضمنها لدرجة من الطمأنينة والتأييد.

أما الذين شهدوا بدرا ، فالذين جاهدوا منهم بأموالهم وأنفسهم واستشهدوا ، قد وفوا بعهدهم ، وعقدهم وبيعتهم ، ومن لم يستشهد فلا بد من الإنتظار إلى الأخير لنرى ما تكون نهايته ، وإلى ما يؤول إليه أمره ..

__________________

(١) الآيتان ٥ و ٦ من سورة الأنفال.

٢٣٥

ولا ينفع تبجح كعب بن مالك بنفس البيعة ، فإن الأمور مرهونة بخواتيمها ، فضلا عن أن الوفاء بالبيعة لا يكفي فيه الحضور في المشاهد المتعاقبة ، بل لا بد من صدق الجهاد فيها ، وصحة النية ، وعدم الفرار من الزحف في أحد ، وخيبر ، وقريظة ، وحنين ، وغير ذلك.

وليس لأحد ان يفضل مقاما على مقام ، ومشهدا على مشهد من عند نفسه ، ولغايات شخصية .. بل لا بد أن يقدم الشاهد على ذلك من القرآن والسنة الشريفة.

مبررات المتخلفين :

لقد ساق كعب الكثير من العبارات التي تشير إلى وجود مثبطات له ولغيره من المسلمين عن ذلك المسير ، مثل : الحر الشديد ، وأنه استقبل سفرا بعيدا ، ومفازا ، وعددا كثيرا ، وأن المسلمين الذين كانوا يريدون السفر كثيرون. وأن الثمار طابت ، والناس خارفون في نخيلهم ، وأنه يصبو للظلال والثمار.

غير أننا نقول :

إن ذلك لو صح ، ولم يكن السبب في تخلفه هو ضعف الإيمان ، فقد كان يجب أن يؤثر على عزيمة الثلاثين ألفا الباقين الذين نفروا مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله». فلما ذا لم يؤثر ذلك إلا على جماعة يبالغون في تصغير حجمها حتى ادّعى بعضهم : أن مجموعها يصل إلى بضعة وثمانين شخصا حسب زعمهم؟!

على أن ذلك لو صح أيضا لكان يجب أن نجد ولو واحدا من هؤلاء

٢٣٦

الناس يذكر ذلك لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويطلب منه تأجيل مسيره ، أو التفكير في حل لهذه المشكلة ..

كما أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان أرأف وأرحم بالمسلمين منهم بأنفسهم ، فلما ذا لم يلاحظ ذلك ، ولا سيما مع شدة الحر ، وبعد الشقة ، وما إلى ذلك من اعتبارات؟!

وقد صرح القرآن بهذه الحقيقة ، حين قال : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١) ،

يضاف إلى ذلك : أن الله تعالى هو أرحم الراحمين ، فلما ذا لم يعفهم من ذلك المسير رحمة ، وهو تعالى يعلم واقع حالهم. مع العلم بأن المنافع التي سيجنونها منه ، لا قيمة لها في قبال الضرر الذي سينا لهم بسببه؟!

إن ذلك كله يوضح : أن كلام كعب غير صحيح ، وأن الحقيقة هي تلك التي أظهرها كعب بن مالك نفسه في بعض كلماته المتقدمة حيث قال : «فكنت إذا خرجت في الناس ، بعد خروج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه بالنفاق ، أو رجلا ممن عذر الله تعالى من الضعفاء».

حبسه برداه ، ونظره في عطفيه :

وقد ظهر من سكوت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن ذلك الرجل الذي تناول كعب بن مالك بقوله : «حبسه برداه ونظره في عطفيه» أن النبي

__________________

(١) الآية ١٢٨ من سورة التوبة.

٢٣٧

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم ير في كلام هذا الرجل ما يوجب الإعتراض ، وأنه لم يعتبر ذلك من مفردات الغيبة المحرمة .. كما أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يؤيد معاذ بن جبل في دفاعه ، فدل ذلك على جواز غيبة كعب ، وإنما تجوز غيبة الفاسق فيما تجاهر به على الأقل ..

على أن دفاع معاذ لا فائدة فيه ، فإن معاذا لم يبرئ كعبا مما قاله ذلك الرجل ، لأن معاذا لم يزد على ادّعاء أنه لا يعرف عن كعب شيئا ..

الصدق والكذب في كلام كعب بن مالك :

إن النص المتقدم رواه لنا كعب بن مالك عن نفسه ، ولا نستطيع أن نؤكد صحة جميع ما ورد فيه ، لا لأجل قوة احتمال : أنه يريد أن يجر النار إلى قرصه ، مع ظهور حرصه في مختلف الفقرات على التأكيد على براءته من النفاق ، مع اعترافه بأنه يرى من المتخلفين إلا من كان منافقا باستثناء الضعفاء ..

بل لأننا وجدناه ، يصرح : بأنه كان مهتما بتبرئة نفسه ولو بصنع كذبة حتى على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. وإنه لم يتراجع عنها إلا خوفا من أن يفضحها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الذي كان يعلم بالغيب ، لأنه لو كذب عليه ليرضى عنه ليوشكن الله تعالى أن يسخطه عليه ، بإعلامه بكذبه عليه ..

غير أن ثمة استثناء كان الناس يعرفونه ، وهو أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن يصرح بنفاق أهل النفاق ، إذ ليس للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يفعل ذلك. بل يجب أن يعاملهم وفق ظاهر حالهم ..

وقد صرح «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بذلك ، كما ذكره كعب نفسه في

٢٣٨

الحديث المتقدم ـ حيث نقل عنه أنه حين اعتذر له المخلفون «قبل منهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» علانيتهم ، وبايعهم ، واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى ..».

ولذلك يدّعي كعب : أنه قال للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ما نافقت ، ولا بدلت ، ولا ارتبت».

مفارقة مرفوضة :

وقد اتهم كعب بن مالك النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأمر خطير ، وارتكاب مفارقة غير مقبولة في تعامله مع المخلفين ، حيث ذكر : أن المخلفين جاؤوا إليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فاعتذروا ، فقبل منهم علانيتهم. وبايعهم ، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى ..

ولكنه حين جاءه كعب بن مالك. وقدم له عذره ، فإنه بالرغم من أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، قد صدقه ، فإنه لم يقبل منه علانيته ، ولا بايعه ، ولا استغفر له ، بل قال له : «.. فقم حتى يقضي الله تعالى فيك ما يشاء».

فإن كان المخلفون قد كذبوا فيما اعتذروا به ، وصدق كعب ، فهل يكون جزاء الصدق والصادق التضييق والمعاناة ، وجزاء الكذب والكاذب الرفق والمحاباة؟!

ولما ذا يدفعه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بتعامله معه إلى أن يندم على صدقه ، وتحدثه نفسه باللجوء إلى الكذب؟!

ولما ذا ينهى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الناس عن كلام هؤلاء الثلاثة الذين صدقوا ، دون سواهم ممن كذب ونافق؟!

٢٣٩

إلا إذا كان كعب يريد بذلك أن يقول : إن المنافق كان يعامل بظاهره ، وتوكل سريرته إلى خالقه ـ وأما هو فليس من المنافقين ، ولذا لم يكتف منه بالظاهر حتى يكون الله تعالى هو الذي يحكم فيه.

وفي هذا من مدح النفس وتزكيتها ما لا يخفى ..

الثلاثة لم يتوبوا :

ثم إن الآية الشريفة تقول : (.. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١).

وقد زعموا : أن هذه الآية قد دلت على توبة الثلاثة ، وعلى قبولها من الله تبارك وتعالى ، وقد تقدم ذلك في رواية كعب بن مالك أيضا ..

غير أننا نقول :

إن الآية الشريفة لا تدل على توبتهم ولا على قبولها ، بل هي وسابقتها قد دلتا على أن الله تعالى قد عاد على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالرحمة ، كما عاد على المهاجرين والأنصار بها ، فذكر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في الآية الأولى تشريفا للأمة وتكريما للرسول ليفيد أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو الواسطة في نزول الخير والبركات على أمته ، ثم ذكر في الآية الثانية الثلاثة الذين خلفوا ، وأنه قد تاب عليهم أي رجع عليهم برحمة الهداية إلى الخير ، لكي يهتدوا بها إلى الإستغفار والتوبة ، فإذا فعلوا ذلك قبل توبتهم وعاد

__________________

(١) الآية ١١٨ من سورة التوبة.

٢٤٠