الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٩

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٩

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-201-3
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٥

عندي ما أحملكم عليه» ، حيث أراد بقوله هذا «لا أحملكم على شيء» أنه يرفض معونته بشيء حتى لو كان عنده ما يحملهم عليه ، فكيف إذا لم يكن عنده شيء يعينهم به ويحملهم عليه ، كما هو حاله في تلك الساعة؟!

المتخلفون والمعذّرون من الأعراب :

قال محمد بن عمرو ابن سعد عن المعذرين من الأعراب والمتخلفين : «وهما اثنان وثمانون رجلا من بني غفار ، وأنزل الله : (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١)» (٢).

__________________

(١) الآيات ٦٨ ـ ٩٣ من سورة التوبة.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٠ و ٤٤١ عن الواقدي وابن سعد.

١٨١

قال ابن عقبة : وتخلّف المنافقون ، وحدّثوا أنفسهم أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يرجع إليهم أبدا ، فاعتذروا. وتخلف رجال من المسلمين بأمر كان لهم فيه عذر ، منهم السقيم والمعسر (١).

قال محمد بن عمر : وجاء ناس من المنافقين إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليستأذنوه في القعود من غير علة ، فأذن لهم ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا (٢).

وعن جابر بن عبد الله : استدار برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رجال من المنافقين حين أذن للجد بن قيس يستأذنون يقولون : يا رسول الله ، ائذن لنا فإنّا لا نستطيع أن نغزو في الحر ، فأذن لهم ، وأعرض عنهم (٣).

وجاء المعذّرون من الأعراب ، فاعتذروا إليه ، فلم يعذرهم الله.

قال ابن إسحاق : وهم نفر من بني غفار.

قال محمد بن عمر : كانوا اثنين وثمانين رجلا ، منهم ، خفاف بن أيماء (٤).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٣٨ عن ابن عقبة ، والدر المنثور ج ٣ ص ٢٤٨.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٣٨ عن الواقدي ، وراجع : مسند أحمد ج ٣ ص ٤٥٧ وصحيح البخاري ج ٥ ص ١٣١ وصحيح مسلم ج ٨ ص ١٠٧ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٣٤ وفتح الباري ج ٨ ص ٨٩ وعمدة القاري ج ١٨ ص ٤٩ والسنن الكبرى للنسائي ج ١ ص ٢٦٦ والمعجم الكبير ج ١٩ ص ٤٨ والدرر لابن عبد البر ص ٢٤٤.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٣٨ عن ابن مردويه ، وفي هامشه عن : البيهقي في الدلائل ج ٥ ص ٣١٨ وعن الدر المنثور ج ٣ ص ٢٦٥.

(٤) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٣٨.

١٨٢

بنو غفار هم المنافقون المعذّرون :

بالنسبة للمعذّرين من بني غفار نقول :

١ ـ إذا كان المنافقون من أهل المدينة لم يكونوا من قبيلة بعينها ، بل كانوا منتشرين في جميع القبائل ، وإذا كان النفاق منتشرا أيضا في الأعراب حول المدينة في قبائل مختلفة مثل : غفار ، وأسلم ، وجهينة ، ومزينة .. فلا نرى ما يبرر كون المعذّرين من الأعراب وهم اثنان وثمانون رجلا من خصوص قبيلة غفار.

٢ ـ إن الآيات الكريمة قد صرحت : بأن المعذّرين من الأعراب كانوا من الأغنياء ، فما هذا الغنى الواسع الذي كان في بني غفار؟!

وأين كان سائر الأغنياء من المنافقين في سائر القبائل؟!

٣ ـ وهل تخلف هؤلاء الثمانين كان سيؤثر على جيش يبلغ عدده ثلاثين ألفا ، حتى ينزل القرآن في حقهم بهذه الحدة والشدة؟! وأية خطورة يشكلها هذا العدد القليل على المسلمين ، وهم بهذه الكثرة والقوة؟!

إننا نظن أن ثمة تعمدا لإلقاء التهمة على فريق بعينه ، لعله كان هو الأضعف سياسيا ، ولم يكن فيهم أحد يؤسف عليه من صناع السياسة ، وبذلك يمكنهم حفظ فرقاء آخرين من أن تحوم حولهم الشبهات ، لو تركت الأمور على طبيعتها ..

التزوير في حديث المخذّلين :

قالوا : كان رهط من المنافقين يسيرون مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يخرجوا إلا رجاء الغنيمة ، منهم :

١٨٣

وديعة بن ثابت ، أخو بني عمرو بن عوف.

والجلاس بن سويد بن الصامت.

ومخشّن بالنون ـ قال أبو عمرو وابن هشام مخشي بالتحتية ـ ابن حمير من أشجع ، حليف لبني سلمة.

زاد محمد بن عمر : ثعلبة بن حاطب (١).

فقال بعضهم لبعض ، عند محمد بن عمر : فقال ثعلبة بن حاطب : أتحسبون جلاد بني الأصفر كجلاد العرب بعضهم بعضا ، لكأني بكم غدا مقرنين في الحبال ، إرجافا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وإرهابا للمؤمنين.

وقال الجلاس بن عمرو ـ وكان زوج أم عمير ، وكان ابنها عمير يتيما في حجره ـ : والله لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير.

فقال عمير : فأنت شر من الحمير ، ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» صادق وأنت الكاذب.

فقال مخشن بن حمير : والله لوددت أن أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة ، وأننا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه!!.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعمار بن ياسر : «أدرك القوم فإنهم قد اخترقوا ، فاسألهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل : بلى ، قلتم كذا وكذا» (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٥ وراجع ص ٤٤٣ عن الواقدي وابن إسحاق.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٥ وقال في هامشه : أنظر المغازي للواقدي ج ٣ ص ١٠٠٣. وراجع : تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٧٢ والدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٤ و ٢٥٥ عن ابن إسحاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وراجع ما عن أبي الشيخ ، والفريابي ، وابن مردويه.

١٨٤

«فانطلق عمار إليهم فقال لهم ذلك ، فأتوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يعتذرون إليه ، فقال وديعة بن ثابت ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على ناقته ، وقد أخذ وديعة بن ثابت بحقبها ، ورجلاه تسفيان الحجارة وهو يقول : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ، فأنزل الله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) (١).

وحلف الجلاس ما قال من ذلك شيئا ، فأنزل الله سبحانه وتعالى : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٢)» (٣).

وقال مخشّن : يا رسول الله ، قعد بي اسمي واسم أبي ، فسماه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عبد الرحمن أو عبد الله ، وكان الذي عفي عنه في هذه الآية ، وسأل الله تعالى أن يقتل شهيدا ولا يعلم بمكانه ، فقتل يوم اليمامة ،

__________________

(١) الآيتان ٦٥ و ٦٦ من سورة التوبة.

(٢) الآية ٧٤ من سورة التوبة.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٥ وراجع : البرهان (تفسير) ج ٢ ص ١٤٠ عن تفسير القمي ، وراجع : الدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٤ و ٢٥٥ عن ابن مردويه ، وعبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابي الشيخ.

١٨٥

ولم يعرف له أثر (١).

ونقول :

إن لنا مع ما تقدم العديد من الوقفات :

تضخيم القضية لما ذا؟! :

قد ذكرت النصوص المتقدمة : أن من الذين خرجوا رجاء الغنيمة أربعة نفر ، تكلموا فيما بينهم بكلام بعينه ، فأخبر الله تعالى نبيه بمقالتهم ، وبما سيعتذّرون به عنها.

غير أننا نقول :

ألف : إن ذلك غير مقبول ولا معقول ، إذ إن أحدا لا يتوقع ، أو فقل : لا يستطيع أن يرى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يتابع كلمة صدرت أو حوارا دار بين أربعة أشخاص فقط ، من بين ثلاثين ألفا ، ثم تنزل في ذلك الآيات بالتوبيخ والتقريع ، فإن المتابع للأمور يرى في هذا الأمر اهتماما غير مبرر بالأمور الصغيرة ، وإنه لا معنى لإشغال النفس بها وهي غير ذات قيمة ، وهذا معناه : أن الأمر كان أعظم خطرا ، وأشد ضررا ، إن لم نقل : إن ذلك الخطر كان شاملا وهائلا حتى أوجب هذا المستوى من التصدي

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٦ والبرهان ج ٢ ص ١٤١ والدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٤ عن ابن إسحاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وراجع : كتاب التوابين لابن قدامه ص ٩٣ وتفسير ابن أبي حاتم ج ٦ ص ١٨٣١ وتفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٨١ وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٣٧٢ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٦٤٢ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٥٤ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٩٥٢.

١٨٦

والتحدي من الله ورسوله.

وأما لو كان الأمر محصورا بأربعة أشخاص ، أو حتى بعشرات ، فلا مبرر لشيء من ذلك إلا أن يكون هؤلاء الأشخاص من ذوي التأثير القوي في الناس ، وقد جاء كلامهم المثير في سياق التآمر ، والكيد الخطير على الإسلام وأهله.

ب : إن الآيات نفسها قد تضمنت ما يدحض مزاعم هذه الروايات ، لأنها تقول : (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً) (١). الظاهر في وجود جماعات وطوائف شاركت في هذا الأمر.

مع أن الرواية تقول : إن رجلا واحدا فقط هو الذي لم يشارك في مقالة رفاقه الثلاثة .. والشخص الواحد لا يقال له طائفة ..

وقول الفقهاء والمفسرين عند تفسير قوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) بأن أقله واحد (٣).

ويشهد له : ما روي عن غياث بن إبراهيم في ذلك (٤). لا يصلح نفضا لما

__________________

(١) الآية ٦٦ من سورة التوبة.

(٢) الآية ٢ من سورة النور.

(٣) المبسوط للشيخ الطوسي ج ٥ ص ٢٢٣ والخلاف ج ٥ ص ٣٧٤ والسرائر لابن إدريس ج ٣ ص ٤٥٣ وجامع الخلاف والوفاق ص ٥٨٥ وعمدة القاري ج ٢٤ ص ١٣ والتبيان ج ٧ ص ٤٠٦ وتفسير مجمع البيان ج ٧ ص ٢١٩ وجامع البيان للطبري ج ١٨ ص ٩١ وتفسير الثعلبي ج ٧ ص ٦٤ وتفسير البغوي ج ٣ ص ٣٢١ والفصول في الأصول للجصاص ج ٣ ص ٩٥.

(٤) التهذيب ج ١٠ ص ١٥٠ والوسائل (ط دار الإسلامية) ج ١٨ ص ٣٧ والوسائل ـ

١٨٧

نقول ، لأننا لو عملنا بهذا الخبر فإنه يقتصر منه على مورد النص ، فيكون تعبدا شرعيا لاستقرار الفهم العرفي لكلمة طائفة في المورد على خلافه.

وقد اختلفت رواياتهم فيه ، هل هو مخشي بن عمرو (١). أم هو يزيد بن وديعة (٢).

وحين أحرجتهم كلمة : «طائفة» الدالة على أن ثمة جماعة تجرأت ، وجماعة أخرى تحرجت ، وتراجعت حتى استحقت العفو ، بادروا إلى التصرف في لغة العرب ..

فنسبوا إلى الكلبي أنه قال : إنه تعالى «سمى طائفة وهو واحد» (٣).

ونسبوا إلى ابن عباس قوله : «الطائفة الرجل والنفر» (٤).

وإلى مجاهد قوله : «الطائفة الواحد إلى الألف» (٥).

__________________

(ط مؤسسة آل البيت) ج ٢٨ ص ٩٣ وجامع المدارك ج ٧ ص ٥٣ وتفسير نور الثقلين ج ٣ ص ٥٧١.

(١) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٤ و ٢٥٥ عن ابن إسحاق ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، وابن أبي حاتم ، وابن إسحاق.

(٢) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٥ عن عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وأبي الشيخ.

(٣) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٥ عن عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وأبي الشيخ ، وراجع :

تفسير القرآن للصنعاني ج ٢ ص ٢٨٣ وتفسير الميزان ج ٩ ص ٣٤٥ وراجع :

جامع البيان للطبري ج ١٠ ص ٢٢٢.

(٤) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٥ عن ابن أبي حاتم ، وفتح القدير ج ٢ ص ٣٧٨ وتفسير ابن أبي حاتم ج ٦ ص ١٨٣١.

(٥) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٥ عن عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وعمدة القاري ج ١ ص ٢٠٩ وج ٦ ص ٣٥ وجامع البيان للطبري ج ١٨ ص ٩١ والمحرر

١٨٨

وإلى ابن عباس قوله : «الطائفة رجل فصاعدا» (١).

ج : إن الروايات قد صرحت : بأن الذين يحلفون ما قالوا ، هم نفس هؤلاء الثلاثة. والآيات قد صرحت أيضا بأن الذين يحلفون هم الذين هموا بما لم ينالوا.

وقد ذكرت الروايات : أن المراد بهم هم الاثنا عشر الذين نفّروا الناقة بالنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليلة العقبة. وقد وردت أسماؤهم في بعض تلك الروايات.

فما معنى حصر القضية برمتها في هؤلاء الثلاثة ، بل في واحد منهم ، مع العلم بأنهم أشخاص لا يعرف عنهم إلا النزر اليسير ، بل لعل بعضهم شخصية وهمية.

حقيقة القضية :

ولأجل ذلك نقول :

إن هذه القضية قد تعرضت لتزوير هائل وعجيب ، وقد ذكرت الآية نفسها دقائق وتفاصيل حاسمة ، تمنع من تصديق هؤلاء المزورين ومن الإصغاء لهذه الترهات ، وتدل الناس على حقيقة هؤلاء الناس ، وتشي بأن ثمة مؤامرة عظيمة وهائلة قد فشلت ، وأن الإعتذار بالخوض وباللعب كان يقصد به التملص من تبعات فشل هذه المؤامرة ، وأن طائفة منهم قد

__________________

ـ الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ج ٤ ص ١٦٢ وتفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ٢٧٢ والدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٥ وج ٦ ص ٩٠ ولسان العرب ج ٩ ص ٢٢٦.

(١) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٥ عن عبد بن حميد ، وتفسير ابن زمنين ج ٣ ص ٢٢١.

١٨٩

ارتكبوا جريمة تستحق العذاب.

فقد عبرت الآيات بالخوض ، الذي يعبر به عن الكلام في الأمور الباطلة ، وباللعب ، الذي هو تعبير عن حركة عملية ، لا تهدف إلى تحقيق أمر عقلائي ، بل هدفها مجرد اللعب ، وهذا معناه : أن الأمر لم يقتصر على الكلام الباطل ، بل تعداه إلى فعل باطل زعموا أنهم قصدوا به اللعب ، ليبعدوا الشبهة عن حقيقة نواياهم ومقاصدهم به ..

ثم بينت الآية الأخرى ، وهي آية يحلفون بالله ما قالوا : أن هؤلاء قد هموا بما لم ينالوا. فما هو هذا الشيء الذي هموا به ولم ينالوه .. ثم إنه ولا شك شيء خطير وكبير ، لأن الله تعالى يتوعدهم عليه بعذاب دنيوي وأخروي ..

وهذا التوعد بالعذاب يدل على : أن هذا الذي هموا به قد صاحبته حركة وفعل استحقوا العقوبة عليه.

ولا شك في أن دعواهم اللهو واللعب لو كانت للتستر على الأقوال فقط لكانت تكفي لدفع الشبهة ، ودرء العقوبة الدنيوية ، فإن الحدود تدرأ بالشبهات.

فالإصرار على ثبوت العقوبة ، وعدم الإلتفات لهذه التعليلات يدل على أن ما ادّعوه لا يكفي لدفع الشبهة عن الفعل الذي قاموا به ..

فمن خلال ذلك كله نصل إلى نتيجة مفادها : أن هذه الآيات لم تنزل في قصة الجلاس ، ووديعة ، ومخشن ، وثعلبة .. بل نزلت في قضية محاولتهم قتل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين نفّروا ناقته به ليلة العقبة لكي تلقي به في الوادي ، ويقتل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. ولكنهم لم ينالوا ما أملوه ..

وقد أظهرت طائفة من النصوص : أن الذين فعلوا ذلك هم من

١٩٠

الأعيان المعروفين ، والمؤثرين الذين تعلق عليهم قريش آمالها في كل ما اهمها .. وقد كانوا عند حسن ظنها ، وسعوا في تلبية رغباتها ، وحفظ مصالحها في الحالات الصعبة ، التي مرت بقريش في مواجهاتها مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

وقد ذكرت الروايات أسماء هؤلاء بالتفصيل ، وكان حذيفة بن اليمان يعرفهم بأسمائهم ، ولطالما سأله بعض أعيان الصحابة عن نفسه ، إن كان يعرف أنه كان منهم ، كما سنشير إليه إن شاء الله ..

كما أن الروايات قد صرحت بما ذكرناه ، وبينت أن هذا هو المقصود بالآيات المتقدمة ، وليس المقصود الأشخاص الأربعة الذين زعموا أن الآيات تقصدهم ، وكمثال على ذلك نذكر :

١ ـ عن جابر ، عن أبي جعفر «عليه‌السلام» : نزلت هذه الآية : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) (١). نزلت في بني أمية والعشرة معها : أنهم اجتمعوا اثنا عشر ، فكمنوا لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في العقبة ، وائتمروا بينهم ليقتلوه ، فقال بعضهم لبعض : إن فطن نقول : إنما كنا نخوض ونلعب ، وإن لم يفطن لنقتلنه ، فأنزل الله هذه الآية .. (٢).

__________________

(١) الآيتان ٦٥ و ٦٦ من سورة التوبة.

(٢) البرهان (تفسير) ج ٢ ص ١٤٠ والبحار ج ٢١ ص ٢٣٦ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ٢٣٨.

١٩١

٢ ـ قال الطبرسي في قوله تعالى : (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) «نزلت في اثني عشر رجلا ، وقفوا على العقبة ، ليفتكوا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عند رجوعه من تبوك ، فأخبر جبريل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بذلك ، وأمره أن يرسل إليهم ، ويضرب وجوه رواحلهم ، وعمّار كان يقود دابة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وحذيفة يسوقها ، فقال لحذيفة : اضرب وجوه رواحلهم ، فضربها حتى نحاهم.

فلما نزل قال لحذيفة : من عرفت من القوم؟

قال : لم أعرف منهم أحدا.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إنهم فلان وفلان ، حتى عدهم كلهم.

فقال حذيفة : ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟

فقال : أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم» (١).

٣ ـ ورويت القصة عن الإمام الحسن العسكري «عليه‌السلام» بنحو أبسط ، وفيها : أنهم دحرجوا دبابا من فوق الجبل لينفروا به «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ناقته ، فارتفعت الدباب عن الناقة ، ووقعت في الجانب الآخر فراجع (٢).

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ج ٥ ص ٨١ والبحار ج ٢١ ص ١٩٦ والتفسير الصافي ج ٢ ص ٣٥٤ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ٢٣٧ وتفسير الميزان ج ٩ ص ٣٤٢ والبرهان (تفسير) ج ٢ ص ١٤٠ و ١٤١ عن مجمع البيان.

(٢) البرهان (تفسير) ج ٢ ص ١٤١ ـ ١٤٤ والبحار ج ٢٨ ص ٩٩ والدرجات الرفيعة للسيد على خان ص ٢٩٨.

١٩٢

٤ ـ وقد ذكر حذيفة أسماء الذين نفّروا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهم أربعة عشر : أبو الشرور ، وأبو الدواهي ، وأبو المعازف ، وأبوه ، وطلحة ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبو عبيدة ، وأبو الأعور ، والمغيرة ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وخالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وأبو موسى الأشعري ، وعبد الرحمن بن عوف. وهم الذين أنزل الله عزوجل فيهم : (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) (١).

ويلاحظ : أن عبد الله بن أبي الذي يزعمون أنه كان رأس المنافقين لم يكن من بين هؤلاء. وذلك لأنه كان في المدينة ، ولم يشارك في المسير إلى تبوك.

٥ ـ وروى حديث ليلة العقبة : ابن جريج وقال : إنهم اثنا عشر رجلا (٢).

وذكر الزمخشري : أنهم كانوا خمسة عشر رجلا (٣).

٦ ـ وراجع ما روي عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» ، وفيه : (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) من قتل محمد يوم العقبة ، وإخراج ضعفاء الشيعة من المدينة ، بغضا لعلي (٤).

وأما روايات غير أهل البيت وشيعتهم ، فقد اختلفت في المراد من

__________________

(١) البرهان (تفسير) ج ٢ ص ١٤٧ والخصال ص ٤٩٩ والبحار ج ٢١ ص ٢٢٢ وج ٣١ ص ٦٣١ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٦٠٢.

(٢) البرهان (تفسير) ج ٢ ص ١٤٧ و ١٤٨ وتفسير البحر المحيط ج ٥ ص ٥١ وتفسير أبي السعود ج ٤ ص ٧١ وتفسير الآلوسي ج ١٠ ص ١١٣.

(٣) الطرائف لابن طاووس ص ٣٨٩ وسعد السعود ص ١٣٥ والبرهان (تفسير) ج ٢ ص ١٤٨ وإقبال الأعمال لابن طاووس ج ٢ ص ٢٥٠.

(٤) البرهان (تفسير) ج ٢ ص ١٤٧ عن الطبرسي.

١٩٣

الآيات المشار إليها :

١ ـ فذكرت طائفة منها أن المراد هم الأربعة الذين تقدمت أسماؤهم.

٢ ـ ولكن رواية جابر تدل على أنها نزلت في وداعة بن ثابت ، حيث تخلف في المدينة ، فقيل له : ما خلفك عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟

فقال : الخوض واللعب.

فأنزل الله فيه وفي أصحابه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) (١)» (٢).

٣ ـ هناك روايات أخرى عن شريح بن عبد الله ، وعن عبد الله بن عمر تقول : إن رجلا تكلم في حق القراء ، فجاء به عمر إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقال ذلك الرجل : إنما كنا نخوض ونلعب.

فأوحى الله تعالى إلى نبيه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) (٣)» (٤).

وقد صرحت رواية ابن عمر : أن قائل ذلك هو ابن أبي فراجع (٥).

__________________

(١) الآيتان ٦٥ و ٦٦ من سورة التوبة.

(٢) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٥ عن ابن مردويه ، والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٣٣.

(٣) الآية ٦٥ من سورة التوبة.

(٤) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٤ عن حلية الأولياء ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، وفتح القدير ج ٢ ص ٣٧٨ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٧ ص ١١٩.

(٥) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٤ عن ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والعقيلي ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه ، والخطيب في رواة مالك ، وفتح القدير ج ٢ ص ٣٧٨.

١٩٤

٤ ـ عن مجاهد في قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ..) قال : قال رجل من المنافقين : يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا ، في يوم كذا وكذا ، وما يدريه بالغيب (١). فنزلت الآية.

وهذا يدل على : أن الآية قد نزلت بعد قصة ضياع الناقة ، وهو إنما يناسب قضية العقبة.

الجد بن قيس يرفض المشاركة في تبوك :

عن ابن عباس : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : اغزوا تغنموا بنات بني الأصفر ، فقال ناس من المنافقين : إنه ليفتنكم بالنساء ، فأنزل الله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) (٢)» (٣).

وفي نص آخر أنه قال : نغزو الروم إن شاء الله ، ونصيب من بنات بني الأصفر ، كان يذكر من حسنهن ليرغب المسلمون في الجهاد ، فقام رجل من

__________________

(١) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٤ عن ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، والبحار ج ٢١ ص ١٩٧ وتفسير مجمع البيان للطبرسي ج ٥ ص ٨٢ وتفسير مجاهد ج ١ ص ٢٨٣ ومجمع البيان للطبري ج ١٠ ص ٢٢١ وتفسير ابن أبي حاتم ج ٦ ص ١٨٣٠ وتفسير الثعلبي ج ٥ ص ٦٥ وزاد المسير لابن الجوزي ج ٣ ص ٣١٥ والدر المنثور للسيوطي ج ٣ ص ٢٥٤.

(٢) الآية ٤٩ من سورة التوبة.

(٣) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٤٧ و ٢٤٨ عن الطبراني ، وابن مردويه ، وابن ابي شيبة ، وابن المنذر ، وأبي الشيخ ، ومجمع الزوائد ج ٧ ص ٣٠ ولباب النقول (ط دار إحياء العلوم) ص ١١٨ و (ط دار الكتب العلمية) ص ١٠٥ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ١٠٣.

١٩٥

المنافقين ، فقال : يا رسول الله ، قد علمت حبي للنساء ، فائذن لي ولا تخرجني ، فنزلت الآية (١).

وعن ابن عباس ، وجابر بن عبد الله ، وآخرين : أن الجد بن قيس أتى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو في المسجد معه نفر ، فقال : يا رسول الله ائذن لي في القعود ، فإني ذو ضيعة وعلة فيها عذر لي.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «تجهز تجهز فإنك موسر ، لعلك تحقب من بنات بني الأصفر»!

قال الجد : أو تأذن لي ولا تفتني ، فو الله لقد عرف قومي ما أحد أشد عجبا بالنساء مني ، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألّا أصبر عنهن.

فأعرض عنه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وقال : «قد أذنا لك».

زاد محمد بن عمر فجاءه ابنه عبد الله بن الجد ـ وكان بدريا ـ وهو أخو معاذ بن جبل لأمه ، فقال لأبيه : لم ترد على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مقالته؟! فو الله ما في بني سلمة أحد أكثر مالا منك ، فلا تخرج ولا تحمل؟!

فقال : يا بني ، ما لي وللخروج في الريح ، والحر الشديد ، والعسرة إلى بني الأصفر ، فو الله ما آمن ـ خوفا ـ من بني الأصفر وأنا في منزلي ، أفأذهب إليهم أغزوهم؟! إني والله يا بني عالم بالدوائر.

فأغلظ له ابنه وقال : لا والله ولكنه النفاق ، والله لينزلن على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيك قرآن يقرأ به.

فرفع نعله فضرب به وجه ولده ، فانصرف ابنه ولم يكلمه.

__________________

(١) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٤٨ عن أبي الشيخ عن الضحاك.

١٩٦

وأنزل الله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (١).

أي إن كان إنما خشي الفتنة من نساء بني الأصفر ، وليس ذلك به ، فما سقط فيه من الفتنة أكبر بتخلفه عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والرغبة بنفسه عن نفسه ، يقول : وإن جهنم لمن ورائه (٢).

وجعل الجد وغيره من المنافقين يثبطون المسلمين عن الخروج ، قال الجد لجبار بن صخر ومن معه من بني سلمة : «لا تنفروا في الحر ، زهادة في الجهاد ، وشكا في الحق ، وإرجافا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأنزل الله سبحانه وتعالى فيهم : (وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٣)» (٤).

__________________

(١) الآية ٤٩ من سورة التوبة.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٣٧ عن ابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه ، وأبي نعيم في المعرفة ، وابن أبي حاتم ، وابن عقبة ، ومحمد بن إسحاق ، والواقدي ، وقال في هامشه : أخرجه البيهقي في السنن ج ٩ ص ٣٣ وفي الدلائل ج ٥ ص ٢٢٥.

وانظر : الدر المنثور ج ٣ ص ٢٤٧ و ٢٤٨ عن ابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه ، وابن أبي نعيم في معرفة الصحابة ، وابن أبي حاتم ، وابن إسحاق ، والبيهقي في الدلائل ، وتفسير القمي ج ١ ص ٢٩٢.

(٣) الآيتان ٨١ و ٨٢ من سورة التوبة.

(٤) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٣٧ وراجع : تفسير القمي ج ١ ص ٢٩٢ وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٣٦٧ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٦ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٩٤٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥.

١٩٧

ونقول :

في النص المتقدم عدة موارد تحتاج إلى توضيح ، أو تقتضي التصحيح ، فمن ذلك :

لعلك تحقب من بني الأصفر :

زعموا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد حاول أن يشجع الجد بن قيس على المسير إلى تبوك بقوله : «لعلك تحقب من بني الأصفر» ..

ونقول :

أولا : إننا لا نستسيغ هذا التصرف فيما عرفناه من أخلاق رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، الذي يهتم بتوجيه الناس إلى الإخلاص في الجهاد ، والتماس ثواب الله فيه. لا أن يكون جهادهم من أجل الدنيا ، فإن ذلك مما لا يدعو إليه الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، وهو يناقض ما جاؤوا به فلاحظ :

ألف : قال أمير المؤمنين «عليه‌السلام» في بعض خطبه : «يقول الرجل جاهدت ولم يجاهد ، إنما الجهاد اجتناب المحارم ، ومجاهدة العدو ، وقد تقاتل أقوام فيحبون القتال لا يريدون إلا الذكر والأجر ، وإن الرجل ليقاتل بطبعه من الشجاعة ، فيحمي من يعرف ومن لا يعرف ، ويجبن بطبيعته من الجبن ، فيسلم أباه وأمه إلى العدو ، وإنما المثال حتف من الحتوف ، وكل امرئ على ما قاتل عليه ، وإن الكلب ليقاتل دون أهله (١).

__________________

(١) البحار ج ٩٧ ص ٤٢ وج ٦٥ ص ٢٣٣ عن الغارات للثقفي ، ومستدرك الوسائل ج ١١ ص ١٨ والغارات للثقفي ج ٢ ص ٥٠٢ و ٥٠٣ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٣ ص ١٢١ وموسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم‌السلام» ج ١ ص ١٠٣.

١٩٨

ب : وعن كعب بن عجرة قال : مر عليّ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فرأى أصحاب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيّ جلدة ونشاطة ، فقالوا : يا رسول الله ، لو كان هذا في سبيل الله!!

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان (١).

ثانيا : إنه إذا كان الجدّ بن قيس لا يصبر عن بنات بني الأصفر ، فإن ذلك لا يمنع من خروجه ، إذ إنهن إذا وقعن في السبي ، يصبح الوصول إليهن سهل المؤونة ، حيث إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سوف يقسم ذلك السبي على مستحقيه ، ويزيل العلة ، وتنحل بذلك عقدة الجد بن قيس وغيره ممن هم على شاكلته ، ولا يتضمن ذلك أية فتنة له ولا لغيره .. فما معنى أن يتعلل بأنه إن رآهن لا يصبر عنهن؟! فإنهن إذا كن في حماية جيش العدو ، فلا سبيل إليهن ، وإن أصبحن في حوزة المسلمين ، فإن العقدة تنحل ، وتزول الموانع بأسهل طريق.

ثالثا : إننا لا نرى مبررا لقسوة الابن على أبيه إلى حد مواجهته بتهمة النفاق ، كما جرى بين عبد الله بن الجد بن قيس مع ابيه ، فإن ذلك مما لا

__________________

(١) مجمع الزوائد ج ٤ ص ٣٢٥ وميزان الحكمة ج ٤ ص ٣٤١٥ عن الترغيب والترهيب ج ٣ ص ٦٣ والمعجم الأوسط ج ٧ ص ٥٦ والمعجم الصغير ج ٢ ص ٦٠ والمعجم الكبير ج ١٩ ص ١٢٩ والعهود المحمدية للشعراني ص ٢٩٢ وفيض القدير للمناوي ج ٣ ص ٤١ والدر المنثور ج ١ ص ٣٣٧.

١٩٩

يرضى به رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، إن كان ذلك قد حصل بمرأى منه ومسمع ، كما أنه مما لا تسمح به آداب الإسلام.

النبذ الإجتماعي للمتخلفين :

لما دنا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من المدينة تلقاه عامة الذين تخلفوا عنه ، وقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لأصحابه «لا تكلموا رجلا منهم ، ولا تجالسوهم ، حتى آذن لكم» (١).

فأعرض عنهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمؤمنون حتى إن الرجل ليعرض عن أبيه وأخيه ، وحتى إن المرأة لتعرض عن زوجها ، فمكثوا كذلك أياما حتى ركب الذين تخلفوا ، وجعلوا يعتذرون إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالجهد والأسقام ، ويحلفون له ، فرحمهم ، وبايعهم ، واستغفر لهم (٢).

ونقول :

إن أسلوب المقاطعة الذي أريد به تعريف الناس بحقيقة ما يجري ، وإيقافهم على مدى خطورة ما صدر عن هؤلاء ، ودلالتهم على مناشئ الخطر ، والمتسببين به ، قد سبق ومورس مع من ارتكبوا خطأ فادحا ، تسبب في إضعاف

__________________

(١) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٨٦ عن ابن مردويه ، وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧٢ عن ابن عقبة ، وعن دلائل النبوة للبيهقي ج ٥ ص ٢٨٠ ، والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ١٢٣ وتخريج الأحاديث والآثار ج ٢ ص ٨١ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٨٠.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٧٢ و ٤٧٣ والدر المنثور ج ٣ ص ٢٨٦.

٢٠٠