الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٩

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٩

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-201-3
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٥

وصفناه أكثر من مرة.

ثالثا : إذا كانت المصلحة تكمن في تحصين أهل الإسلام من الخارج ، بإلقاء الرعب في قلوب أعداء دينهم ، وتحصين أهل الإيمان من الداخل بفضح أهل النفاق ، وإبطال كيدهم ، فذلك يحتم إخفاء نتائج المسير إلى تبوك عن كل أحد ، إذ إن إظهارها سيفقد ذلك المسير معنى الجدية ، ويحوله إلى حركة إستعراضية فاشلة ، وغير ذات أثر .. هذا إن لم تصل أخبار ذلك إلى مسامع الروم وملكهم ..

رابعا : إن معلومية نتائج تبوك لا يضر بسلامة التصرف النبوي على المنبر ، إذ لا شك في أنه إن تهلك تلك العصابة التي معه فإن الله لن يعبد في الأرض .. بل إن عدم مشاركة المسلمين في ذلك المسير ، ربما يؤدي إلى هلاك هذه العصابة ، حيث يطمع فيهم عدوهم ، ويندفع لإيراد الضربة القاسمة والحاسمة بالإسلام وأهله ، كما أنه قد يقوي من عزيمة أهل النفاق في الداخل ، ويزيد من التمزق ، والتناحر ، ويفتح أمامهم نوافذ التوسع في التآمر وإشراك العدو الخارجي في ممارسة الضغوط الخانقة على أهل الإيمان. لا يدخل الجنة عاص :

قالوا : «ونادى منادي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لا يخرج معنا إلا مقو ، فخرج رجل على بكر صعب ، فصرعه بالسويداء.

فقال الناس : الشهيد الشهيد!!

فبعث النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مناديا ينادي : لا يدخل الجنة عاص» (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٣ وراجع : المصنف للصنعاني ج ٥ ص ١٧٨.

١٦١

وأقول :

ولست أدري مدى صحة هذا الحديث.

فأولا : إن ركوب ذلك الرجل بكرا صعبا لا يعني أنه خالف أمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأن يختار دابة قوية ، فإن البكر الصعب ليس ضعيفا.

ثانيا : سوف يأتي : أن أبا ذر قد لحق بالنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على بعير ضالع ، فلم يسر معه إلا شيئا يسيرا حتى اضطر إلى تركه ، وحمل متاعه على ظهره ، ولحق بالنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ماشيا. فهل كان أبو ذر عاصيا أيضا ، ولا يدخل الجنة؟!.

إلا أن يقال : إن كلام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حول لزوم تهيئة مركوب مناسب لم يصل إلى مسامع أبي ذر .. وكان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عالما بتعمد صاحب البكر الصعب مخالفة أوامره .. وهذا القول يحتاج إلى دليل ، وإلا كان رجما بالغيب!!

١٦٢

الفصل الرابع :

المتخلفون .. والمعذورون

والبكاؤون .. واللاحقون

١٦٣
١٦٤

أبو ذر يلحق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

عن ابن مسعود قال : لما سار رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى تبوك جعل يتخلف عنه الرجل ، فيقولون : يا رسول الله ، تخلف فلان.

فيقول : «دعوه ، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله تعالى منه».

حتى قيل : يا رسول الله ، تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله تعالى منه» (١).

وتلوّم أبو ذر على بعيره ، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره ، ثم خرج يتبع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ماشيا.

قال محمد بن عمر : قالوا : وكان أبو ذر الغفاري يقول : أبطأت على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في غزوة تبوك من أجل بعيري. وكان نضوا

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٣ عن ابن إسحاق. وقال في هامشه : أخرجه البيهقي في الدلائل ج ٥ ص ٢٢١ ، والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٥٠ ، والثقات لابن حبان ج ٢ ص ٩٤ ، وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٧١ ، وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٦٣٢ ، وغيرهم.

١٦٥

أعجف ، فقلت : أعلفه أياما ثم ألحق برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فعلفته أياما ، ثم خرجت ، فلما كنت بذي المروة أذمّ بي ، فتلومت عليه يوما فلم أر به حركة ، فأخذت متاعي فحملته.

قال ابن مسعود : وأدرك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في بعض منازله ، قال محمد بن عمر : قال أبو ذر : فطلعت على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نصف النهار وقد أخذ مني العطش ، فنظر ناظر من المسلمين فقال : يا رسول الله ، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «كن أبا ذر».

فلما تأمله القوم قالوا : يا رسول الله ، هو ـ والله ـ أبو ذر.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «رحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده» ، فكان كذلك.

فلما قدم أبو ذر على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أخبره خبره ، فقال : «قد غفر الله لك يا أبا ذر بكل خطوة ذنبا إلى أن بلغتني».

ووضع متاعه عن ظهره ، ثم استقى ، فأتي بإناء من ماء فشربه (١).

ونقول :

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٣ و ٤٤٤ وقال في هامشه : أخرجه مسلم في التوبة باب ٩ (٥٣) والطبراني في الكبير ج ٦ ص ٣٨ وج ١٩ ص ٤٣ و ٨٥ والبيهقي في الدلائل ج ٥ ص ٢٢٣ و ٢٢٦ وانظر البداية لابن كثير ج ٥ ص ٨ وتاريخ الأمم والملوك ج ١١ ص ٤٣. وراجع : تاريخ مدينة دمشق ج ٦٦ ص ١٨٦ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٣٨.

١٦٦

لا فرق بين أبي ذر وغيره :

ومبدأ الإسلام في التعامل صريح وصحيح ، وهو لا يستثني قريبا حبيبا ولا نائيا غريبا .. ولذلك اطلق النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفس المعيار ، وطبقه على أبي ذر ، ولم يظهر أي ليونة تجاهه .. وهو قوله : «دعوه ، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله تعالى منه».

لأن المفروض : أن ما حصل عليه أبو ذر من مقام في الإسلام ، ومن أوسمة على لسان الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يحصل عليه باقتراح ومحاباة منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بل حصل عليه بجهد وجهاد ، رسم حدوده ، وبين معالمه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأبي ذر وللناس كلهم ، فاستفاد أبو ذر منه فربح ، وتقاعس عنه آخرون وفرطوا فيه ، فخسروا.

ومن جهة أخرى ، فإنه لا بد لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يراعي جانب العدل والإنصاف في كل مفردات تعامله ، فإذا كان من الجائز على كل أحد سوى الأنبياء وأوصيائهم أن يحدث لهم تراجع أو اختلال في سلوكهم ، نتيجة لسوء اختيارهم أو تقصيرهم ، أو لغير ذلك من أمور ، فإنه لا بد أن يلتزم بذلك أيضا بالنسبة لأبي ذر ، لأنه هو الآخر من الناس الذين يملكون اختيارا ، ويتعرضون للخطأ ، والتقصير لوسوسات الشيطان.

وهذا بالذات هو ما التزم به النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين أطلق نفس القول بحق أبي ذر الإنسان .. كما كان أطلقه في حق كل من يحمل صفة الإنسانية ..

١٦٧

فسيلحقه الله :

وقول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم .. لا يريد أن يؤكد به مبدأ الجبر ، والتصرف التكويني في البشر إلى حد سلب اختيارهم .. بل هو يريد أن الله تعالى سيمنحه توفيقاته ، وسيفتح له أبواب الهداية ، ليختار هو لنفسه ما ينجيها ، ويعينه عليها لتذليل جماحها ، والرضا بما فيه صلاحها ، ونجاحها ، وفلاحها.

مقايسة بين نوعين من الناس :

ولا أدري كيف تمكن المقارنة بين أولئك الباحثين عن المسارب ، والمهارب للتملص من هذا المسير الجهادي ، وهم أهل الأموال الكثيرة ، التي تمكنهم من تذليل صعاب ذلك السفر ، وتهوين مشاقه ، ويطمعون بدلا عن ذلك ـ بالتنعم بنسمة عليلة ، أو ثمرة يانعة .. وبين هذا الذي يجهد ليمنح بعيره شيئا من القوة ليستفيد منه في طريق الجهاد ، ولكنه حين يعجز عن ذلك ، فإنه يتركه في أوائل ذلك الطريق الطويل جدا ، ويحمل ثقله على ظهره ، ويسير في تلك الصحراء القاحلة في أيام القيظ والحر ، يواجه بوجهه لفحات الهجير ، ويعرض نفسه لمخاطر الموت جوعا أو عطشا ، أو لأخطار الإفتراس ، من حيواناتها الكاسرة ، أو لأخطار نهشات أفاعيها وحيّاتها ، التي عادة ما تكون في أيام القيظ هائجة.

فبأي شيء كان يطمع أولئك إلا بحطام الدنيا وزخرفها الزائل؟! وبأي شيء كان يطمع أبو ذر إلا بالثواب والأجر ، وبالشهادة في سبيل الله تعالى؟!

١٦٨

كن أبا ذر :

وقد ظهر من قول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن ذلك الذي جاء وحده إلى تبوك : «كن أبا ذر» : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد فصل بين موقفه في تعامله المباشر مع الحالة العامة للناس ، ووضع الأسس الصحيحة لهذا التعامل ، وبين تعامل آخر ، صحيح وسليم أيضا ، وهو حقه في أن يعبر عما يحتفظ به من قناعات عن الأشخاص فيما يرتبط بملكاتهم وخصائصهم ، وطبيعة تكوينهم الروحي ، وسلوكهم الشخصي. فتوقع!! أن يكون ذلك القادم وحده من قلب الصحراء أبا ذر الذي عرف أخلاقه ، وما يحمله من مبادئ ، وطبيعة سلوكه ومواقفه ..

يموت وحده ، ويبعث وحده :

وكما كان إبراهيم أمة عابدا وخاضعا وقانتا لله ، فإن أبا ذر كان أمة قانتا لله وخاشعا له ، ويعيش الإستقلالية والغنى عن الإرتباط بأي شيء آخر سوى الله تعالى ، فهو يعيش وحده ، ويموت وحده ، ويبعث يوم القيامة وحده ، لم يجعل أي شيء في وجوده مرتهنا ولا مقيدا بأي شيء آخر.

ولا يعبد شيئا غير الله ، ولا يقيم وزنا لأي شيء سواه.

وهذه مرتبة جليلة لا يصل إليها إلا الصفوة من أهل التقوى ، الذين حرروا أنفسهم من أي ارتباط بما في هذه الحياة الدنيا ..

وما يؤكد ذلك ويوضحه : أن الروايات قد جاءت لتؤكد على غربة الدين وأهله عن هذه الدنيا وعن أهلها ، ليكون أبو ذر «رضوان الله عليه» مصداقا لقول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «إن الإسلام بدأ غريبا ، وسيعود

١٦٩

غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء» (١).

وزاد في نص آخر : فقيل : ومن هم يا رسول الله؟

قال : الذين يصلحون إذا فسد الناس ، إنه لا وحشة ولا غربة على مؤمن ، وما من مؤمن يموت في غربته إلا بكت عليه الملائكة رحمة له ، حيث قلت بواكيه ، وفسح له في قبره بنور يتلألأ من حيث دفن إلى مسقط رأسه (٢).

وعن الإمام الباقر «عليه‌السلام» : «المؤمن غريب ، وطوبى للغرباء» (٣).

وروي أيضا عن أمير المؤمنين «عليه‌السلام» : «العلماء غرباء لكثرة الجهال بينهم» (٤).

أبو خيثمة وعمير بن وهب أيضا :

قالوا : لما سار رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أياما دخل أبو خيثمة على أهله في يوم حار ، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه ، وقد رشت كل منهما عريشها وبردت له فيه ماء ، وهيأت له فيه طعاما ، فلما دخل

__________________

(١) البحار ج ٨ ص ١٢ وج ٥٢ ص ٣٦٧ و ١٩١ وج ٢٥ ص ١٣٦ وج ٢٤ ص ٣٢٨ وج ٧٤ ص ٩٧. وعيون أخبار الرضا «عليه‌السلام» ج ١ ص ٢١٨ ، وإكمال الدين ص ٦٦ و ٢٠١ ، وكتاب الغيبة للنعماني ص ٣٣٦ ، وغيرهم.

(٢) البحار ج ٦٤ ص ٢٠٠. ومستدرك الوسائل ج ١١ ص ٣٢٣ ، والنوادر للراوندي ص ١٠٢ ـ ١٠٣ ، وغيرهم.

(٣) المحاسن للبرقي ج ١ ص ٢٧٢. والكافي ج ١ ص ٣٩١.

(٤) البحار ج ٧٥ ص ٨١ وكشف الغمة للأربلي ج ٣ ص ١٣٩ و ١٤١. وعيون الحكم والمواعظ للواسطي ص ٥٢ ، والفصول المهمة لابن الصباغ ج ٢ ص ١٠٥٥.

١٧٠

قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال : سبحان الله! رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر في الضح والريح والحر ، يحمل سلاحه على عنقه ، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ ، وامرأة حسنة ، في ماله مقيم؟!! ما هذا بالنصف!

ثم قال : والله ، لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فهيئا لي زادا.

ففعلتا ، ثم قدّم ناضحه فارتحله ، ثم خرج في طلب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى أدركه حين نزل تبوك ، وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق يطلب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب : إن لي ذنبا ، فلا عليك أن تخلّف عنى حتى آتي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله». ففعل.

حتى إذا دنا من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال الناس : هذا راكب على الطريق مقبل ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «كن أبا خيثمة».

فقال رجل : هو والله ، يا رسول الله أبو خيثمة.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أولى لك يا أبا خيثمة».

ثم أخبر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الخبر.

فقال له رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : خيرا ، ودعا له بخير.

قال ابن هشام : وقال أبو خيثمة في ذلك :

ولما رأيت الناس في الدين نافقوا

أتيت التي كانت أعف وأكرما

وبايعت باليمنى يدي لمحمد

فلم أكتسب إثما ولم أغش محرما

تركت خضيبا في العريش وصرمة

صفايا كراما بسرها قد تحمما

١٧١

وكنت إذا شك المنافق أسمحت

إلى الدين نفسي شطره حيث يمما (١)

ونقول :

إننا لا ندري مدى صحة هذا الحديث ، الذي يبدو لنا أنه ينتهي إلى ابن إسحاق ، غير أن من الواضح : أن أبا خيثمة ـ كما أظهره النص المنقول عن ابن إسحاق ـ قد تعمد في بادئ الأمر التخلف عن المسير مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى تبوك ، رغم قدرته المالية على ذلك ، فلا معنى لجعله في مصاف أبي ذر الذي حاول جهده أن يهيئ بعيره لحمله. فلم يفلح فبادر إلى السير على قدميه حاملا ثقله على ظهره في ذلك الجو القائظ ، وذلك السفر الطويل ، الذي هو أطول أسفار رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في غزواته.

فإن لم يكن الهدف هو إيجاد شركاء لأبي ذر في هذا الفضل العظيم الذي حازه كما ربما يوحي به التشابه بين ما نسب لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أنه قال : «كن أبا خيثمة». كقوله : «كن أبا ذر». فإننا لا نمنع من ان يكون شخص أو شخصان كأبي خيثمة وعمير بن وهب قد راجعا حساباتهما ، فوجدا أن من الخير أن لا يحسبا في معسكر النفاق ، وفي موقع المعلن بالعصيان لأوامر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. لا سيما وهما يريان أن الإسلام يزداد انتشارا ، وقوة وشوكة ، وعظمة ونفوذا ..

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٤ و ٤٤٥ عن الطبراني ، وابن إسحاق ، والواقدي ، والبداية والنهاية ج ٥ ص ١٢ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٩٤٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ١٤.

١٧٢

غير أن الغريب في الأمر هو : أن حديث أبي خيثمة قد تضمن إشارة تتناقض مع ما يسعى إليه الراوي من تلميع لصورة أبي خيثمة ، وذلك انه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «أولى لك يا أبا خيثمة».

وهذه الكلمة ـ كما ذكره العلماء ـ لعلها أكثر ظهورا في التعبير عن عدم الرضا.

وقد ذكروا : أنها تستعمل في مقام التهديد كما قاله الأصمعي.

وقيل : أولى لك ، اسم فعل مبني ، ومعناه : وليك شر ، أو المراد : الهلاك أولى لك ، أو أولى لك ما تكرهه. وقد كثر استعماله في مثل هذه المعاني ، حتى صار بمنزلة : الويل لك (١).

البكاؤون الذين لا يجد ما يحملهم عليه :

قال الصالحي الشامي :

وروى ابن جرير ، وابن مردويه ، عن ابن عباس وابن جرير عن محمد بن كعب القرظي ، وابن إسحاق ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ عن الزهري ، ويزيد بن رومان ، وعبد الله بن أبي بكر ، وعاصم بن محمد بن عمر بن قتادة وغيرهم : أن عصابة من أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جاؤوه يستحملونه ، وكلهم معسر ذو حاجة لا يحب التخلف عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ

__________________

(١) راجع : تفسير الميزان ج ٢٠ ص ١١٤ و ١١٥ وج ١٨ ص ٢٣٩.

١٧٣

الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) (١) ، وهم سبعة.

واختلفوا في أسمائهم ، فالذي اتفقوا عليه : سالم بن عمير ، من بني عمرو بن عوف الأوسي ، وعلبة بن زيد ، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب. وهرمي بن عبد الله.

والذي اتفق عليه القرظي ، وابن إسحاق ، وتبعهم ابن سعد ، وابن حزم ، وأبو عمرو ، والسهيلي ولم يذكر الأخير ، والواقدي : عرباض بن سارية ، وجزم بذلك ابن حزم ، وأبو عمرو ، ورواه أبو نعيم عن ابن عباس.

والذي اتفق عليه القرظي ، وابن عقبة ، وابن إسحاق : عبد الله بن مغفل المزني ، وفي حديث ابن عباس : عبد الله بن مغفل فيهم.

وروى ابن سعد ، ويعقوب بن سفيان ، وابن أبي حاتم ، عن ابن مغفل قال : إني لأجد الرهط الذين ذكر الله تعالى : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) الآية.

والذين اتفق عليهم القرظي وابن عمر : سلمة بن صخر ، ولفظ القرظي : سلمان.

والذي اتفق عليه القرظي وابن عقبة : عمرو بن عنمة بن عدي ، وعبد الله بن عمرو المزني. حكاه ابن إسحاق قولا بدلا عن ابن مغفل ، وانفرد القرظي بذكر : عبد الرحمن بن زيد أبي عبلة من بني حارثة ، وبذكر : هرمي بن عمرو من بني مازن.

قال محمد بن عمر : ويقال : إن عمرو بن عوف منهم.

__________________

(١) الآية ٩٢ من سورة التوبة.

١٧٤

قال ابن سعد : وفي بعض الروايات من يقول فيهم : معقل بن يسار ، وذكر فيهم الحاكم حرمي بن مبارك بن النجار ، كذا في المورد.

ولم أر له ذكرا في كتب الصحابة التي وقفت عليها.

وذكر ابن عائذ فيهم : مهدي بن عبد الرحمن ، كذا في العيون ، ولم أر له ذكرا فيما وقفت عليه من كتب الصحابة.

وذكر فيهم محمد بن كعب : سالم بن عمرو الواقفي.

قال ابن سعد : وبعضهم يقول : البكاؤون بنو مقرن السبعة ، وهم من مزينة انتهى ، وهم : النعمان ، وسويد ، ومعقل ، وعقيل ، وسنان ، وعبد الرحمن والسابع لم يسم ، قيل : اسمه عبد الله ، وقيل : النعمان ، وقيل : ضرار ، وقيل : [...] وحكى ابن فتحون ـ قولا ـ أن بني مقرن عشرة ، فيتعين ذكر السبعة منهم.

وذكر ابن إسحاق في رواية يونس وابن عمر : أن عبلة بن زيد لما فقد ما يحمله ، ولم يجد عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما يحمله ، خرج من الليل فصلى من ليلته ما شاء الله تعالى ، ثم بكى وقال : اللهم إنك أمرتنا بالجهاد ورغبت فيه ، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها في مال أو جسد أو عرض.

ثم أصبح مع الناس ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أين المتصدق هذه الليلة»؟ فلم يقم أحد.

ثم قال : «أين المتصدق فليقم»؟! فقام إليه فأخبره.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أبشر ، فو الذي نفسي بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة».

١٧٥

قال ابن إسحاق ، ومحمد بن عمر : لما خرج البكاؤون من عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وقد أعلمهم أنه لا يجد ما يحملهم عليه لقي يامين بن عمرو النضري أبا ليلى وعبد الله بن مغفل وهما يبكيان. فقال : ما يبكيكما؟

قالا : جئنا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليحملنا ، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه ، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج ، ونحن نكره أن تفوتنا غزوة مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فأعطاهما ناضحا له ، وزود كل واحد منهما صاعين من تمر.

زاد محمد بن عمر : وحمل العباس بن عبد المطلب منهم رجلين ، وحمل عثمان بن عفان منهم ثلاثة نفر بعد الذي جهز من الجيش (١). انتهى.

ونقول :

قد سقنا كلام هذا الرجل لنبين مدى الإختلاف في أسماء هؤلاء وقد اقتصرنا على هذا المقدار ، والمراجعة إلى سائر المصادر ، ومقارنة نصوصها ، سوف تزيد من حدة وسعة هذه الإختلافات. وليس المقصود هو التحقيق حول هذا الأمر ، بل المقصود هو لفت نظر القارئ إلى حرص الرواة على تخصيص هذه الفضيلة أو تلك بمن لهم فيه هوى ، أو مصلحة ..

وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أنهم يتعاملون مع روايات السيرة بمنطق المنتفع والمستفيد ، لا بمنطق الأمانة على الحق والحقيقة .. فإنا لله وأنا إليه راجعون ..

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٣٨ ـ ٤٤٠ والدر المنثور ج ٣ ص ٢٤٨ وراجع :

إمتاع الأسماع ج ٢ ص ٤٩.

١٧٦

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يجد ما يحمل عليه أبا موسى ، ثم يجد :

عن أبي موسى الأشعري قال : أتيت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في نفر من الأشعريين ليحملنا ، وفي رواية : أرسلني أصحابي إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أساله لهم الحملان ، فقلت : يا رسول الله إن أصحابي أرسلوني لتحملهم.

فقال : «والله لا أحملكم على شيء ، وما عندي ما أحملكم عليه».

ووافقته وهو غضبان ولا أشعر.

فرجعت حزينا من منع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ومن مخافة أن يكون رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وجد في نفسه ، فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم بالذي قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ثم جيء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بنهب إبل فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادي : أين عبد الله بن قيس؟

فأجبته ، فقال : أجب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يدعوك.

فلما أتيت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «خذ هذين القرينين ، وهذين القرينين ، وهذين القرينين» ، لستة أبعرة ابتاعهن حينئذ من سعد.

وفي رواية : فأمر لنا بخمس ذود غر الذرى ، فقال : «انطلق بهن إلى أصحابك ، فقل : إن الله ـ أو قال : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ يحملكم على هؤلاء ، فاركبوا».

قال أبو موسى : فانطلقت إلى أصحابي فقلت : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يحملكم على هؤلاء ، ولكن والله لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين سألته

١٧٧

لكم ، ومنعه في أول مرة ، ثم إعطائه إياي بعد ذلك ، لا تظنوا إني حدثتكم شيئا لم يقله.

فقالوا لي : والله إنك عندنا لمصدق ، ولنفعلن ما أحببت ، فانطلق أبو موسى بنفر منهم حتى أتوا الذين سمعوا مقالة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من منعه إياهم ، ثم إعطائه بعد ذلك ، فحدثوهم بمثل ما حدثهم به أبو موسى.

قال أبو موسى ، ثم قلنا : تغفلنا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يمينه ، والله لا يبارك لنا ، فرجعنا فقلنا له.

فقال : «ما أنا حملتكم ، ولكن الله حملكم».

قال : «إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت التي هي خير وتحللتها».

فقال : «كفّرت عن يميني» (١).

ونقول :

إننا لا نريد أن نقول هنا : في كل واد أثر من ثعلبة ، إذ قد ينسبنا البعض

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٠ عن البخاري ومسلم ، وقال في هامشه : أخرجه البخاري ج ١١ ص ٦٠١ (٦٧١٨) ومسلم ج ٣ ص ١٢٦٩ (٧ / ١٦٤٩) ، والمجموع للنووي ج ١٨ ص ١١ والمدونة الكبرى ج ٢ ص ١٠٢ وراجع : الشرح الكبير لابن قدامه ج ١١ ص ١٩٩ ونيل الأوطار للشوكاني ج ٩ ص ١٣٥ وصحيح البخاري ج ٧ ص ٢١٧ وصحيح مسلم ج ٥ ص ٨٢ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٦٨١ وسنن أبي داود ج ٢ ص ٩٦ وسنن النسائي ج ٧ ص ١٠ والمستدرك للحاكم ج ٤ ص ٣٠١.

١٧٨

إلى التعسف في إطلاق التهمة ، واللجوء إلى التجني ، والإمعان في ذلك بلا مبرر أو داع إلى ذلك.

غير أننا نسجل من تحفظاتنا الكثيرة على النص المتقدم ما يلي :

لا حافظة لكذوب :

وقد اختلفت الروايات هنا بصورة لافتة ، ونحن نكتفي بما قاله المتحذلقون لدفع غائلة هذه الإختلافات ، وسيرى القارئ الكريم كم هي تعسفية وممجوجة ، لا تليق بمن ينسب نفسه إلى العلم ، أو يدّعي لنفسه اليسير من الإنصاف.

قال الصالحي الشامي :

قول أبي موسى : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «خذ هذين القرينين ، وهذين القرينين ، أي الجملين المشدودين أحدهما إلى الآخر» لستة أبعرة ، لعله قال : هذين القرينين ثلاثا ، فذكر الرواة مرتين اختصارا.

ولأبي ذر ، عن الحموي ، والمستملي : وهاتين القرينتين وهاتين القريتنين ، أي الناقتين.

وفي رواية في باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن في الصحيح : فأمر لنا بخمس ذود.

وفي باب الإستثناء في الأيمان : بثلاثة ذود.

والرواية الأولى تجمع بين الروايات ، فلعل رواية الثلاثة باعتبار ثلاثة أزواج ، ورواية الخمس باعتبار أن أحد الأزواج كان قرينة تبعا ، فاعتد به تارة ولم يعتد به أخرى.

١٧٩

ويمكن أن يجمع بينهما : بأنه أمر لهم بثلاثة ذود أولا ، ثم زادهم اثنين ، فإن لفظ زهدم أحد رواة الحديث : ثم أتي بنهب ، ذود ، غر الذرى ، فأعطانا خمس ذود ، فوقعت في رواية زهدم جملة ما أعطاهم ، ورواية غيلان : مبدأ ما أمر لهم به ، ولم يذكر الزيادة.

وأما رواية : خذ هذين القرينين ، ثلاث مرار ، وفي رواية : ستة أبعرة ، فعلى ما تقدم أن تكون السادسة كانت تبعا ، فلم تكن ذودتها موصوفة بذلك.

قال الحافظ في رواية : ستة أبعرة ، إما أن يحمله على تعدد القصة ، أو زادهم على الخمس واحدا.

وقال : في رواية أبي موسى قال : أتي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بنهب إبل ، فأمر لنا بخمس ذود.

وفي رواية بعد قوله : «خذ هذين القرينين» ابتاعهن من سعد.

ولم ينبه الحافظ على الجمع بين الروايتين فيحتمل ـ والله أعلم ـ أن يكون ما جاء من النهب أعطاه لسعد ، ثم اشتراه منه لأجل الأشعريين ، ويحتمل على التعدد (١). انتهى.

والله لا أحملكم على شيء :

ثم إننا لا نرى أن ثمة تناقضا في قوله : «والله لا احملكم على شيء ، ولا

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٠ و ٤٨٠ وراجع : صحيح البخاري ج ٥ ص ١٢٩ وصحيح مسلم ج ٥ ص ٨٣ وفتح الباري ج ٨ ص ٨٥ ومسند أبي يعلى ج ١٣ ص ٢٤٢ و ٢٨٣ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ١٠.

١٨٠