الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٩

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٩

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-201-3
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٥

وإظهار القوة ، والرغبة في دفع العدو من الكبير والصغير هو المؤثر في دفع العدو ، حين يلقي الله في قلوب الذين كفروا الرعب ، بحيث يكون أي تخاذل في هذا الإتجاه يظهر حب أصحابه للدنيا ، وتعلقهم بها من موجبات طمع العدو بهم ، وجرأته على مهاجمتهم ، وإنزال ضرباته القوية بهم ..

رابعا : إن من أسباب حفظ الإسلام ، وتحصينه من شر الأشرار هو فضح نوايا المنافقين ، وإكذاب أحدوثتهم ، وكبت عدو أهل الإيمان في الداخل والخارج.

٢ ـ إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أراد أن يقدم نموذجا عمليا لأمر الإمامة من بعده ، وذلك بأن يجعل الناس يتحسسون الحاجة إلى الحافظ القوي ، والإمام الوصي ، حتى لا يعبث أصحاب الأطماع ، وطلاب اللبانات بمصير الناس ، ولا يفرضوا عليهم مسارا يؤدي بهم إلى البوار والهلاك والتمزق والتشتت والتلاشي والتفتت ..

٣ ـ إنه لا بد من أن يسقط هالة القداسة عمن لم يكن أهلا للقداسة ، وإنما هو يضفيها على نفسه لتكون شركا يوقع به البسطاء والسذج من الناس ، ويتخذ منهم أداة لفرض واقع معين ، لا يرضاه الله تعالى ، ويؤدي إلى العبث بجهود الإنبياء ، وتضييع منجزاتهم ..

٤ ـ ثم إنه قد اعلن عن غزوته تلك ليكون ذلك أبعد للسمع ، حيث تتناهى أخبارها إلى بني الأصفر ، فتنخلع لها قلوبهم ، وتطيش لها ألبابهم ، ويتلاشى تدبيرهم في ظلمات الحيرة والضياع ، ويوهن الله بذلك كيدهم ، وتذهب ريحهم.

٥ ـ إن ذلك لا بد من أن يثير الزهو والشعور بالعزة في مجتمع المسلمين

١٤١

أينما كانوا ، وحيثما وجدوا ، وسيشد أنظار كل الناس إليهم ، وسيشتاقون إلى اللحاق بركب أهل الإيمان ، الذي يسير من نصر إلى نصر ، ويضيف مجدا إلى مجد .. قبل فوات الأوان. حيث لم يكن أحد أعظم في أعينهم وأهيب في قلوبهم ، من قيصر ، هذا الرجل المنتصر لتوه على كسرى حسبما ألمحنا إليه ..

فإن تبوك لم تبق مجالا لأن يتوهم أحد أن عدم مبادرة قيصر إلى غزوهم ، قد كانت بسبب غفلته عنهم ، ولعدم اكتراثه بهم ، أو ما إلى ذلك ..

تكاليف الحرب على المحاربين؟! :

لقد يفهم من آيات سورة التوبة ، ومن آية التهلكة : أن نفقات الحرب تقع على عاتق المقاتلين .. وربما يؤيّد ذلك بأن الفارس يعطى سهمين من الغنيمة ، أحدهما له ، والآخر لفرسه .. والمقصود ـ بحسب الظاهر ـ : هو الفرس التي يملكها المقاتل نفسه.

ولكن الحقيقة هي : أن ذلك لا يحتم هذه النتيجة ، ولا يقضي بحصر وجوب الإنفاق لحفظ بيضة الإسلام ، والدفع عن حريم المسلمين بالمقاتلين ، بل هو واجب على جميع الناس ، على سبيل الكفاية ، فإذا قام به البعض سقط عن سائرهم .. وحين تملك الدولة أسباب القوة ، فباستطاعتها أن تستفيد من سهم «سبيل الله» أيضا ..

كما أن ملكية الفارس للفرس وعدم ملكيتها لا تؤثر على لزوم إعطاء الفارس سهمين ، والراجل سهما واحدا ، فيجب أن يعطى سهمين مطلقا ، أي سواء كانت الفرس له أو لم تكن.

على أن التقريع الوارد في سورة التوبة للأغنياء المتخلفين ، إنما هو على

١٤٢

ما يمارسونه من نفاق ، وعلى كذبهم فيما يدعونه ، وما يظهرونه من أعذار واهية ، وعلى رضاهم بسقوط هذا الدين ، وحلول النكبات بإخوانهم لمجرد حبهم للمال والراحة والدنيا وزخارفها .. وعلى عدم امتثالهم أوامر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المباشرة لهم .. وعلى ما يتسببون به من إخلال في تصميم الناس ، وفي طاعتهم وانقيادهم ، وما يشيعونه من ضعف وتخاذل.

الإستنفار العام :

قال ابن واضح : «ووجّه إلى رؤساء القبائل والعشائر يستنفرها» (١).

وقال الطبرسي : «تهيأ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في رجب سنة تسع لغزو الروم. وكتب إلى قبائل العرب ، ممن قد دخل الإسلام ، وبعث إليهم الرسل ، يرغبهم في الجهاد والغزو. وكتب إلى تميم ، وغطفان ، وطيء ، وبعث إلى عتاب بن أسيد عامله على مكة يستنفرهم لغزو الروم».

وقالوا أيضا : وضرب «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عسكره فوق ثنية الوداع بمن تبعه من المهاجرين ، وقبائل العرب ، وبني كنانة ، وأهل تهامة ، ومزينة ، وجهينة ، وطيء ، وتميم.

واستعمل الزبير على راية المهاجرين ، وطلحة بن عبيد الله على الميمنة ، وعبد الرحمن بن عوف على المسيرة.

وسار رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى نزل الجرف. فرجع عبد الله بن أبي بغير إذن ، فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «حسبي الله ، هو الذي

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي (ط الحيدرية ـ النجف) ج ٢ ص ٥٧ و (ط دار صادر) ج ٢ ص ٦٧.

١٤٣

أيدني بنصره وبالمؤمنين ، وألف بين قلوبهم» (١).

أضاف اليعقوبي قوله : «وخرجت النساء والصبيان يودعونه عند الثنية ، فسماها ثنية الوداع» (٢).

العدد ، والعدة ، والألوية ، والرايات :

وقالوا أيضا : خرج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في رجب سنة تسع ، فعسكر في ثنية الوداع.

وعن زيد بن ثابت ومعاذ بن جبل قال : خرجنا مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى غزوة تبوك زيادة على ثلاثين ألفا (٣).

__________________

(١) مكاتيب الرسول ج ١ ص ٢٨٧ وفي هامشه عن : البحار ج ٢١ ص ٢٤٤ و ٢٤٥ عن إعلام الورى ، ومغازي الواقدي ج ٣ ص ٩٩٠ وحياة الصحابة ج ١ ص ٤٠٤.

وفي الجامع لأبي زيد ص ٢٩٥ : كتب إلى القبائل سنة ٩ بعد الفتح إلى القبائل التي لم يفش فيها الإسلام يدعوهم ، وكتب إلى التي فشا فيها الإسلام بغزو الروم وواعدهم تبوك.

وراجع الحلبية ج ٣ ص ١٢٩ والسيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) ج ٢ ص ٣٢٣ وشرح المواهب للزرقاني ج ٣ ص ٦٦ وإعلام الورى ص ١٢٩ و ١٣٠ و (ط مؤسسة آل البيت) ج ١ ص ٢٤٣ وتاريخ اليعقوبي (ط الحيدرية ـ النجف) ج ٢ ص ٥٨ والمناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ١٨٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي (ط الحيدرية ـ النجف) ج ٢ ص ٥٨.

(٣) سبل الهدى ج ٥ ص ٤٤٢ عن ابن إسحاق ، والواقدي ، وابن سعد. وفتح الباري لابن حجر ج ٨ ص ٨٧ ، وتفسير القرطبي ج ٨ ص ٢٨٠ ، والكامل لعبد الله بن عدي ج ٧ ص ٢٧٠.

١٤٤

ونقل الحاكم في الإكليل عن أبي زرعة قال : كانوا بتبوك سبعين ألفا (١).

وجمع بين الكلامين : بأن من قال ثلاثين ألفا : لم يعد التابع.

ومن قال سبعين ألفا : عد التابع والمتبوع.

وكانت الخيل عشرة آلاف فرس ، وقيل : بزيادة ألفين (٢).

وفي نص آخر : كانوا أربعين ألفا (٣).

قال عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب : خرج المسلمون في غزوة تبوك ، الرجلان والثلاثة على بعير واحد (٤).

وأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كل بطن من الأنصار والقبائل من العرب أن يتخذوا لواء وراية.

وأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جيشه بالاستكثار من النعال ،

__________________

(١) سبل الهدى ج ٥ ص ٤٤٢ عن الحاكم في الإكليل ، وابن الأمين ، وراجع : عمدة القاري ج ١٨ ص ٤٥ ، ومقدمة ابن الصلاح ص ١٧٧ ، والتسهيل لعلوم التنزيل ج ٤ ص ٢٢٢.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٢ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٢٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٣٦ ، والسيرة الحلبية ج ٣ (ط دار المعرفة) ص ١٠٢.

(٣) راجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٢٥ وعمدة القاري ج ١٨ ص ٤٥ ، ومقدمة ابن الصلاح ص ١٧٧ ، وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٣٦ ، والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ١٠٢.

(٤) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٣ عن البيهقي. وتفسير مقاتل بن سليمان ج ٢ ص ٧٥ ، وتفسير القرآن للصنعاني ج ٢ ص ٢٩٠ ، وجامع البيان ج ١١ ص ٧٥ ، وغيرهم.

١٤٥

وقال : «إن الرجل لا يزال راكبا ما دام منتعلا» (١).

توزيع الرايات ، واللواء الأعظم مع أبي بكر :

ثم قالوا أيضا : لما رحل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من ثنية الوداع عقد الأولوية والرايات ، فدفع لواءه الأعظم إلى أبي بكر الصديق ، ورايته العظمى إلى الزبير بن العوام ، ودفع راية الأوس إلى أسيد بن الحضير ، وراية الخزرج إلى أبي دجانة ، ويقال : إلى الحباب بن المنذر ، وأمر كل بطن من الأنصار أن يتخذ لواءا (٢).

وحمل زيد بن ثابت لواء بني النجار (٣).

وكان دليله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى تبوك علقمة بن الفغواء الخزاعي (٤).

خمسة وعشرون رجلا مؤمنا فقط :

ولا بد أن يستغرب الكثيرون ما جاء في بعض النصوص من أن عدد

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٢ وفي هامشه : عن صحيح مسلم كتاب اللباس (٦٦) وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٢٥. والجامع الصغير ج ١ ص ١٥٢ ، وتفسير العز بن عبد السلام ج ٢ ص ٤٤.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٣ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ٩٩٦ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٢٥.

(٣) المغازي للواقدي ج ٣ ص ٩٩٦.

(٤) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٣ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٢٥ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ٩٩٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٣٦ والإستيعاب لابن عبد البر ج ٣ ص ١٠٨٨ وأسد الغابة ج ٤ ص ١٤ والوافي بالوفيات ج ٢٠ ص ٤٧.

١٤٦

الجيش الذي سار إلى تبوك كان خمسة وعشرين ألفا ، وكان عدد المؤمنين فيه لا يزيد على خمسة وعشرين رجلا ، يقول النص :

«كان مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بتبوك رجل يقال له : «المضرب» من كثرة ضرباته التي أصابته ببدر وأحد ، فقال له رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : عدّ لي أهل العسكر ، فعددهم.

فقال : هم خمسة وعشرون ألف رجل سوى العبيد والأتباع.

فقال : عدّ المؤمنين.

فعددهم ، فقال : هم خمسة وعشرون رجلا ، وقد كان تخلف عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قوم من المنافقين ، وقوم من المؤمنين مستبصرين لم يعثر عليهم في نفاق الخ ..» (١).

نعم ، وهذا هو الذي يفسر نزول ما يقرب من تسعين آية من سورة التوبة لتبين ما جرى في تبوك ، ولتظهر حجم التحدي والخطر الذي واجهه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من هؤلاء المنافقين ، الذين كان قسم منهم يسعى لزعزعة الإستقرار الداخلي حتى احتاج «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى أن يخلف أمير المؤمنين عليا «عليه‌السلام» مكانه ، ليكون منه بمنزلة هارون من موسى.

كما أننا لا نستطيع أن نشكك في صحة النص المذكور آنفا ، فإن عامة من ساروا إلى تبوك إنما أسلموا خلال الأشهر اليسيرة بين فتح مكة في شهر

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ٢١٨ وتفسير البرهان ج ٢ ص ١٣٢ وتفسير القمي ج ١ ص ٢٩٦ والتفسير الصافي ج ٢ ص ٣٨٥.

١٤٧

رمضان ، السنة الثامنة ، وشهر رجب السنة التاسعة .. والذين أسلموا قبل ذلك لم يكن قد مضى على إسلام معظمهم الذي بدأ من صلح الحديبية سوى وقت قليل أيضا .. والباقون الذين قد لا يزيد عددهم على ألف وخمس مائة ، كان قسم كبير منهم يظهر الإسلام ، ويبطن النفاق ، وقد ظهر ذلك في كثير من المواطن ، ومنها غزوة أحد كما هو معلوم ..

لا تقتل معي فتدخل النار :

ورأى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» برأس الثنية عبدا متسلحا ، فقال العبد : أقاتل معك يا رسول الله.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «إرجع إلى سيدك لا تقتل معي فتدخل النار» (١).

ونقول :

إن لنا مع النصوص المتقدمة وقفات عديدة نبدؤها بالنص الأخير على النحو التالي :

مشاركة العبد بدون إذن سيده :

إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يرض بمشاركة العبد بدون إذن سيده ، وهذا الموقف منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوضح : انه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن يريد أن يجمع الناس حوله كيفما اتفق ، بل هو يريد أن يتم ذلك

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٣ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ٩٩٦ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٥١.

١٤٨

وفق الضوابط الشرعية ، والمنطق السليم ..

كما أنه لا يريد أن يغرر بالناس ، وبهدف تكثير السواد معه ، بل يريد أن يعطيهم الضابطة الشرعية ، ويلزمهم بها ، ويعطيهم تلك التي تقول : لا يطاع الله من حيث يعصى ..

وهو يريد لهم أن يسعدوا بجهادهم ويكون من أسباب تكاملهم ، وسمو مقامهم عند الله ، ولا يكون ذلك إلا بالإلتزام بأحكامه ، والسير على منهاجه ، وتطبيق شرائعه. ومراعاة حقوق الناس.

إنه لا يريد أن يتخذ الناس منه غطاء لتمرير مخالفاتهم ، ولا ذريعة لتضييع حقوق الآخرين ، حتى لو كان ذلك بالحضور في ساحات الجهاد وتعريض أنفسهم للقتل في سبيل الله ، لأن القتل في سبيله لا بد أن يحمي حقوق الناس ، لا أن يضيعها.

ثنية الوداع :

وقد زعمت رواية اليعقوبي : أن ثنية الوداع قد سميت بهذا الاسم بسبب وداع الناس لنسائهم وصبيانهم في غزوة تبوك ..

وهو كلام غير دقيق ..

فأولا : إنهم تارة يزعمون : أن هذا الاسم قد أطلق على هذه الثنية حين عودتهم من خيبر ، حين تمتع الناس ببعض النساء وفارقوهن عند تلك الثنية ..

ويزعمون تارة أخرى : أن هذا الاسم قد ورد في النشيد الذي استقبل به أهل المدينة النبيّ «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين هجرته ، حيث قالوا :

طلع البدر علينا

من ثنيات الوداع

١٤٩

وجب الشكر علينا

ما دعا لله داع

أيها المبعوث فينا

جئت بالأمر المطاع (١) ..

فأي ذلك هو الصحيح؟! ..

ثالثا : إن الأقرب هو : أن هذا الاسم : «ثنيات الوداع» اسم قديم جاهلي ، يسمى هذا الموضع به لتوديع المسافرين فيه وقد ذكروا في التفاصيل : أنه كان لا يدخل أحد المدينة إلا من ثنية الوداع ، فإن لم يعشّر بها مات قبل أن يخرج.

فإذا وقف على الثنية ، قيل : قد ودع ، فسميت ثنيات الوداع حتى قدم عروة بن الورد فلم يعشر ، ثم دخل ، فسأل اليهود عن سبب التعشير.

فقالوا : لا يدخلها أحد من غير أهلها فلم يعشر بها إلا مات ، ولا يدخلها أحد من غير ثنية الوداع إلا قتله الهزال.

فلما ترك عروة التعشير تركه الناس ، ودخلوا من كل ناحية (٢).

والتعشير هو : أن ينهق كالحمار عشرة أصوات في طلق واحد ، قال عمرو بن الورد العبسي :

لعمري لئن عشرت من خشية الردى

نهاق الحمار إنني لجزوع (٣)

__________________

(١) وفاء الوفاء ج ٤ ص ١١٧١ والغدير ج ٧ ص ٢٥٩ وإمتاع الأسماع ج ٩ ص ٢٠٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٣ ص ٢٧١ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٣٥.

(٢) وفاء الوفاء ج ٤ ص ١١٦٧ و ١١٦٨ وج ١ ص ٥٩ عن ابن شبة. وتاريخ المدينة لابن شبة ج ١ ص ٢٦٩ وسبل الهدى والرشاد ج ١٠ ص ٦.

(٣) وفاء الوفاء ج ١ ص ٥٩. ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس ج ٤ ص ٣٢٥.

١٥٠

أبو بكر يصلي بالناس :

وقالوا : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمر أبا بكر أن يصلي بمن تقدمه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

ونقول :

إنه بعد فتح مكة بدأ الفريق المتخصص بمنح الفضائل يشعر بأن الوقت حان لمنح الأوسمة والفضائل لمناوئي أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، فكان أن ظهرت لهم فضائل لم نر لها أثرا قبل غزوة تبوك ، فإنه إذا كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد خلف أمير المؤمنين «عليه‌السلام» على المدينة ، وأعلن أنه منه بمنزلة هارون من موسى ، فلا بد أن يكون لأبي بكر ما يضاهي ذلك أو يزيد عليه ، فكان طبيعيا أن يدّعوا أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» استخلف أبا بكر على الصلاة ، ليكون لأبي بكر نصيب من الخلافة والإستخلاف. فإن إعطاء هذا الوسام لعلي «عليه‌السلام» قد جعل الأمر بالغ الحساسية ، وفي منتهى الخطورة .. ودعوى استخلاف أبي بكر على الصلاة ، ليست ذات قيمة ، ولا تستحق الذكر.

فإن ذلك لا يدل على شيء من الفضائل لدى المستخلف ، أي أنه لا يدل على علم أبي بكر ، ولا على حسن أخلاقه ، ولا على زهده وتقواه ، ولا على أية صفة أخرى سوى صفة العدالة عند الشيعة ، أما أهل السنة ، فإنهم ينكرونها أيضا ، ويفتون ويروون عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أنه

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٢.

١٥١

قال : صلوا خلف كل بر وفاجر (١).

فإذا كانت الإمامة في الصلاة عندهم لا تثبت حتى صفة العدالة ، فهل تثبت الإمامة العظمى ، التي تحتاج إلى كل تلك الصفات ، وسواها مما لا مجال لذكره في أعلى مستوياتها وأفضل حالاتها؟!

كما أن الإمامة تتضمن منصب القضاء وقيادة الجيوش و.. و.. الخ .. فالإمام هو الحاكم والمدبر والمعلم وغير ذلك. وكل واحدة من هذه الأمور تحتاج إلى ما يناسبها. من صفات ومزايا ..

فقيادة الجيوش مثلا تحتاج إلى صفات تناسب هذه المهمة ، مثل

__________________

(١) جامع الخلاف والوفاق ص ٨٤ وفتح العزيز للرافعي ج ٤ ص ٣٣١ والمجموع للنووي ج ٥ ص ٢٦٨ ومغني المحتاج للشربيني ج ٣ ص ٧٥ والمبسوط للسرخسي ج ١ ص ٤٠ وتحفة الفقهاء للسمرقندي ج ١ ص ٢٢٩ وبدائع الصنائع لأبي بكر الكاشاني ج ١ ص ١٥٦ والجوهر النقي للمارديني ج ٤ ص ١٩ والبحر الرائق لابن نجيم المصري ج ١ ص ٦١٠ وتلخيص الحبير ج ٤ ص ٣٣١ ونيل الأوطار ج ١ ص ٤٢٩ وشرح أصول الكافي ج ٥ ص ٢٥٤ والمسترشد للطبري والإفصاح للشيخ المفيد ص ٢٠٢ والمسائل العكبرية للشيخ المفيد ص ٥٤ والطرائف لابن طاووس ص ٢٣٢ وعوالي اللآلي ج ١ ص ٣٧ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٤ ص ١٩ وعمدة القاري للعيني ج ١١ ص ٤٨ وتأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص ١٤٥ وسنن الدارقطني ج ٢ ص ٤٤ وتنقيح التحقيق في أحاديث التعليق للذهبي ج ١ ص ٢٥٦ و ٢٥٧ ونصب الراية ج ٢ ص ٣٣ و ٣٤ والدراية في تخريج أحاديث الهداية ج ١ ص ١٦٨ والجامع الصغير للسيوطي ج ٢ ص ٩٧ وكنز العمال ج ٦ ص ٥٤ وكشف الخفاء للعجلوني ج ٢ ص ٢٩ و ٣٢ وشرح السير الكبير للسرخسي ج ١ ص ١٥٦.

١٥٢

الشجاعة ، والخبرة بشؤون الحرب.

فإذا كانت الإمامة في الصلاة لا تثبت شيئا من الصفات المطلوبة ، فهل تثبت تمييزا فيها على جميع البشر؟!.

وقد تحدثنا ببعض التفصيل عن هذا الأمر حين الكلام عما زعموه من صلاة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خلف عبد الرحمن بن عوف ، وهم في الطريق إلى تبوك. فليلاحظ ما ذكرناه هناك.

الألوية .. والرايات :

وقد لا حظنا هنا عدة أمور في غزوة تبوك ، التي لم يكن فيها قتال ، بل تقدم أن الله سبحانه وتعالى قد أخبر نبيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعدم حصول قتال فيها (١).

الأمر الأول : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أمر كل بطن من الأنصار ، والقبائل من العرب أن يتخذوا لواء وراية. مع أن المعروف هو أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان هو الذي يعطي الرايات للفرسان وللزعماء من كل قبيلة ، أو جماعة ، فراجع ما جرى في فتح مكة ، وخيبر ، وسواهما.

الثاني : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جعل ـ حسب زعمهم ـ الرايات والألوية حسب أقسام الجيش ، فجعل هذا على الميمنة ، وذاك على الميسرة ، أو على المقدمة ، كما يفهم من النصوص المتقدمة ، مع أن ذلك إنما يتم حين المواجهة بين الجيشين المتحاربين ، فيجعل قسما من الجيش ميمنة ، وقسما منه

__________________

(١) البحار ج ٣٧ ص ٢٥٩ وكتاب الأم ج ٤ ص ١٧٥ والمناقب لابن شهرآشوب ج ٢ ص ٢١٩ والمسترشد للطبري ص ٤٤٤.

١٥٣

ميسرة ، وطائفة منه قلبا ، وسواها يكون الجناحين ، ويكون هناك خيالة ، ورجالة ، ومقدمة ، وما إلى ذلك ..

وأما في حال المسير ، مع العلم بأن هنا ثمة مئات الأميال التي تحتاج إلى أيام وليالي كثيرة لقطعها عن جيش الأعداء ، فإن ذلك لا يكون ضروريا. بل قد يكون معيقا لحركة الجيش ..

الثالث : قد لفت نظرنا قولهم : إن أبا بكر حمل اللواء الأعظم ، ثم قولهم : إن الزبير قد حمل الراية العظمى .. حيث لم يتأكد لدينا أن ثمة فرقا بين اللواء والراية ، حيث ينقلون عن بعض أهل اللغة أنه لا فرق بينهما (١).

الرابع : إن النصوص المتقدمة تارة تقول : إن الراية العظمى كانت مع الزبير ، وأخرى تقول : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جعل إليه راية المهاجرين ..

إن ذلك كله يحتاج لمزيد من التأمل والتدبر.

خبير الفرار من الزحف :

١ ـ إن من الطبيعي أن يعطي المتخصصون بمنح الفضائل والكرامات لواء الجيش الأعظم لأبي بكر ، ما دام أن عليا «عليه‌السلام» قد غاب عن ذلك المسير بأمر من الله ورسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لأن المدينة لا تصلح إلا به أو بأخيه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. فإن أبا بكر كان يحتاج إلى هذا اللواء لكي يثبت أهليته لمقام القيادة ، ولا خوف عليه ، فإن هذا المسير ليس فيه حرب ، ولا طعن ولا ضرب ، لكي يخشى عليه من الفرار ، وأن

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٤٧ وراجع : نيل الأوطار ج ٨ ص ٦١ وشرح مسلم للنووي ج ١٢ ص ٤٣.

١٥٤

يولي عدوه الأدبار ..

ولكن الحقيقة هي : أن أبا بكر لن ينتفع كثيرا من هذه الفضيلة المنحولة ، فإنه قد أبان عن شجاعته ، واقتداره ، حين فر في أحد ، وفي قريظة ، وخيبر ، وحنين ، وذات السلاسل ، و.. و..

وحين لم يجرؤ على مباشرة القتال في بدر ، بل بقي معتصما بأمنع حوزة ، حيث آثر أن يكون مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الذي يفديه المسلمون بأرواحهم ، ويدافعون عنه بكل وجودهم .. كما أنه آثر السكوت في الخندق ، ولم نشهد له أي موقف شجاع في كل تاريخ الإسلام ..

وما ذا يفيد أن يحمل اللواء أبو بكر أو غيره في مشهد استعراضي ، حيث لا عدوّ ، ولا قتال.

وحتى لو واجه الأعداء ، فهناك ثلاثون ألفا من الرجال ، لا بد أن يدفع بهم إلى ساحة المواجهة ، حتى إذا أحس بأي خطر يتعرض له ، فقد أعد للفرار عدته ، وقد اكتسب طيلة تلك السنين ، وفي المواجهات المختلفة خبرة عميقة في أساليب الهرب من خلال التجربة المتكررة لها في المواطن العديدة كلما أحس أحس بحاجة إلى ذلك.

٢ ـ إن جميع الدلائل تشير إلى أن ثمة تزويرا في أمر الألوية والرايات ، ومن شأن ذلك أن يزيل الثقة بما يقولونه في هذا المجال ..

إذ ما معنى قولهم : دفع اللواء الأعظم إلى أبي بكر ، والراية العظمى للزبير ، فقد تقدم : أن ثمة صعوبة في إثبات وجود فرق بين اللواء والراية ..

١٥٥

بركات غزوة تبوك :

لقد كان لغزوة تبوك بركات وآثار هامة ، فقد عرف الناس أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقصد بحركته هذه إرهاب أعظم ملك في ذلك الزمن ، وقد كتب إليه يدعوه إلى الإسلام أو الجزية ، ثم أرسل إليه رسالة دعوة أخرى من بلاد يراها ذلك الطاغية جزءا من مملكته وبلاده بعد أن وطأتها جيوش الإسلام ، وبسط «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفوذه عليها ، ونشر دعوته ودينه فيها ..

وأصبحت مناطق منها تدين بالولاء لهذا النبي الكريم والعظيم ، وتؤدي له الجزية ..

وفي تبوك فتح الله له دومة الجندل ، وأخذ ملكها. وفيها جاءه أسقف أيلة وهو يحنّة بن رؤبة ، ووفد عليه أهل أذرح ، وسألوه الصلح على الجزية ، ووفد إليه أهل مقنا وغيرهم (١).

وكل ذلك من شأنه أن يؤلم قيصر ، ويهيج أشجانه ، ويهين كبرياءه ، الشيطاني ، ويثير حميته ، وهو الرجل المغرور بنفسه وبملكه العريض ، ولا يرى له نظيرا على وجه الأرض ، وقد عاد لتوه من نصر عظيم على أعظم مملكة في زمانة ، وهي مملكة الفرس التي كانت تجاريه ، وتباريه ، وتتقاسم معه الملك والنفوذ على الأرض كلها ..

ثم إن مما يزيد الطين بلة والخرق اتساعا بالنسبة لقيصر : أن يقف هذا

__________________

(١) راجع : التنبيه والإشراف ص ٢٣٦ ومكاتيب الرسول للأحمدي ج ٢ ص ٤١٤ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٦٨.

١٥٦

الذي يصفونه بالعربي والمسلم بجيوشه على تخوم مملكته ، ويطأ بجيوشه أطرافا منها عزيزة عليه ، ليطلب منه الإسلام أو الجزية!! فهل هناك من ذل وخزي لقيصر أعظم من هذا؟!

وأية عزة هذه التي منحها الله لرسوله وللمؤمنين!!

ابن أبي في أحد كما في تبوك :

عن كعب بن مالك قال : خرج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى تبوك يوم الخميس ، وكانت آخر غزوة غزاها ، وكان يستحب أن يخرج يوم الخميس (١).

وعسكر عبد الله بن أبي معه على حدة ، وكان عسكره أسفل منه نحو ذباب.

وكان فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين (٢).

فأقام ابن أبي ما أقام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلما سار رسول

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٢ عن ابن سعد ، وعبد الرزاق ، والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٦٧ وراجع : المجموع للنووي ج ٤ ص ٣٨٧ والسنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ٢٤٣ والمعجم الأوسط للطبراني ج ٢ ص ٧٤ ورياض الصالحين للنووي ص ٧٢.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٢. وجامع البيان للطبري ج ١٠ ص ١٩٠ ، وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٦٨ ، وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٦٣١ ، والبداية والنهاية ج ٥ ص ١٠ ، والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٩٤٦ ، وغيرهم.

١٥٧

الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نحو تبوك تخلف ابن أبي راجعا إلى المدينة ، فيمن تخلف من المنافقين ، وقال : يغزو محمد بني الأصفر ، مع جهد الحال ، والحر ، والبلد البعيد إلى ما لا طاقة له به ، يحسب محمد أن قتال بني الأصفر معه اللعب ، والله لكأني أنظر إلى أصحابه مقرنين في الحبال ، إرجافا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وبأصحابه (١).

ونقول :

١ ـ قولهم : إن عسكر ابن أبي لم يكن أقل العسكرين ، قال ابن حزم : وهذا باطل ، لم يتخلف عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلا ما بين السبعين إلى الثمانين فقط (٢).

٢ ـ إذا صح قولهم : أن ابن أبي تخلف عن تبوك ، وصح أنه عسكر مع جماعة من أصحابه بصورة منفصلة عن باقي العسكر ، فيمكن أن يكون الراوي قد ضخّم الأمر ، حتى ادّعى أن جماعة ابن أبي يضاهون بكثرتهم عسكر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لكي يبرئ ساحة جماعات أخرى قد يظهر أنهم تخلفوا وتسببوا بمشكلة كبيرة نزلت فيها الآيات التي تلوم وتقرّع ..

أو لعل الراوي كان قد رأى جمعهم في بداية تكوين عسكر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حين كان لا يزال عددهم قليلا جدا ، وقبل قدوم العساكر

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٢ و ٤٤٣ عن ابن إسحاق ، والواقدي ، وابن سعد .. وراجع المصادر السابقة.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٤٢. وراجع : السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ١٠٢.

١٥٨

من سائر الجهات ، فأخبر عما رآه في تلك الساعة ، ثم تناقله الرواة فيما بعد من دون ملاحظة ذلك.

والذي نراه هو : أن الأمر كان كما ذكره هذا الراوي ، وأن المنافقين كانوا بهذه الكثرة العظيمة ، لأن أكثرهم قد اظهر الإسلام بعد فتح مكة ، أي قبل مدة يسيرة من غزوة تبوك ، فاقتضى ذلك نزول الآيات الكثيرة التي تؤنبهم على نفاقهم ، وعلى ممارستهم الخبيثة التي تكاد تلحق أذى عظيما في الإسلام ، فنزلت أكثر آيات سورة التوبة لمعالجة هذا الواقع ، فنجحت المحاولات ، واستعاد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قسما كبيرا ممن تخلف ، وبقيت طائفة منهم وهي أيضا طائفة كبيرة وخطيرة أيضا ، وكانت تضمر للإسلام شرا ، ولم يكن يمكن السيطرة عليها ، ومعالجة أمرها إلا بأمير المؤمنين «عليه‌السلام» أو النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فخلّف «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمير المؤمنين عليا «عليه‌السلام» ، وسار هو بالجيش الذي هيأه كما هو معلوم.

٣ ـ لقد تعلل ابن أبي لرجوعه مع غيره من المنافقين بخوفه من بني الأصفر ، وهم الروم .. وببعد الشقة ، وثقل وخطورة المهمة ، وبأنه يرى أن المسلمين سيتحولون إلى أسرى في يد أعدائهم .. مع أنه قد رأى من المعجزات على يد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما لا يبقي عذرا لأحد في أي تخاذل عن نصرته .. لأن تلك المعجزات تضطره إلى الإيمان بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» متصل بالله تبارك وتعالى .. فلا بد من إطاعته ، ما دام أنه لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى.

إنه قد رأى كيف انتصرت قلة قليلة من المسلمين على ما يفوقهم عددا بأضعاف كثيرة ، ولم تكن غزوة مؤتة إلا حجة دامغة على كل منافق لا يؤمن

١٥٩

بيوم الحساب .. فضلا عما جرى في بدر وخيبر ، وحنين ، والخندق ، وقريظة ، وغيرها ..

نتائج تبوك معلومة سلفا :

وهنا سؤال يقول :

قد صرح الشيخ المفيد : بأن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يعلم عن طريق الوحي بأن غزوة تبوك ستنتهي من دون حرب ، فما معنى إصرار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على المسلمين بالمشاركة في هذا المسير؟!

ولما ذا جاءت الآيات الكريمة في سورة التوبة بهذه الحدة والشدة؟!

ولما ذا الإصرار على إدانة وتقبيح عمل من تخلف عن تلك الغزوة؟!

وما معنى أن يقول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على المنبر : إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبدا؟!

والجواب :

أولا : قد ذكرنا أكثر من مرة : أن ما يطلع الله تعالى عليه نبيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من الغيوب بوسائط غير عادية ، فليس له أن يرتب الأثر عليه ، ولا أن يأخذ الناس به ..

ثانيا : إن السبب في عدم حصول القتال في تلك الغزوة هو نفس مبادرة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى جمع الجموع للتصدي لتدبير كانوا يخفونه ، ويعتقدون أنه يخفى على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. حيث إن هذا الحشد الكبير سوف يرعبهم ، وسيجعلهم يفكرون مرات ومرات قبل أن يقدموا على أي عمل عدواني .. ولا سيما بعد ما رأوه في مؤتة ، حسبما

١٦٠