الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٨

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٨

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-200-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٩

بعد حوالي خمس سنوات من ذلك التاريخ ، ولذلك نظائر.

ثالثا : إن سورة الحجرات قد نزلت قبل سورة الفتح ، التي نزلت في الحديبية (١) ، وهذا يؤيد ما ذكرناه : من أن سورة الحجرات قد نزلت قبل حادثة بني أسد بسنوات عديدة ..

بنو الزنية أو الرشدة :

ومن الغريب حقا : أن نجد هؤلاء الأعراب الجفاة يرفضون تسمية النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهم ببني الرشدة ، بدل «بني الزنية».

فأولا : إن هذا الرفض يمثل اعتراضا على قرار نبي الله الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ..

ثانيا : إن التسمية ببني الزنية لا تسعد من تطلق عليه ، ولابد أن يرى فيها إهانة لشرفه ، ولنسبه ، فالمتوقع منه : أن يرفضها بحزم وإصرار ، وربما يحتاج إلى المجابهة والحدة في سعيه إلى أن منع الناس من تداولها ، وأما أن يصر على حفظها ، وعلى إشاعتها بينهم ، ويرضى بإطلاقها عليه ونسبتها إليه ، فذلك ما لا يخطر على البال ..

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ٦٧ عن الحاكم وصححه ، وابن إسحاق ، والبيهقي في الدلائل ، والإفصاح للمفيد ص ١١٢ ، والبحار ج ١٧ ص ٧٥ ، والسنن الكبرى ج ٩ ص ٢٢٣ ، وعمدة القاري ج ١٥ ص ١٠٤ ، والسنن الكبرى للنسائي ج ٦ ص ٤٦١ ، ومعرفة السنن والآثار للبيهقي ج ٧ ص ١٤٧ ، وتفسير الميزان ج ١٨ ص ٢٧٠ ، وتفسير مقاتل بن سليمان ج ٣ ص ٢٤٤ ، وتفسير السمرقندي ج ٣ ص ٢٩٨ ، وتفسير ابن زمنين ج ٤ ص ٢٥٠ و ٢٥٥ ، وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٤.

٨١

إلا إذا افترض مفترض : أن ثمة خللا في عقله ، أو في تفكيره أو في أخلاقياته ، وقيمه ..

وبعد ..

فإن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان معنيا جدا بتغيير هذا الاسم ، لأنه يعلم أن للأسماء آثارها على الروح والنفس ، وهو لا يريد أن يعتاد سمعهم على مثل هذا الأسماء ، ولا أن تألفها أرواحهم ، وتتعلق بها نفوسهم ، بل يريد أن تنكرها النفوس ، وتتأذى منها الأرواح ، وتمجها الأذواق والأسماع.

وإن رفض هؤلاء الناس لمثل هذا الطلب الصادر من أقدس الخلق ، والذي يفترض فيهم أن يتلهفوا لتلبيته ، وأن يكونوا سعداء في استجابتهم له ـ إن هذا الرفض ـ يدل دلالة واضحة على جهلهم ، وجفائهم ، وقلة عقولهم ، وضعف تدبيرهم ..

علم الخط وضرب الرمل :

اختلفوا في المراد من علم الخط ، مع تصريحهم بحرمة العمل به.

قال الصالحي الشامي : قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في الخط : «علمه نبي من الأنبياء الخ ..».

الخط : قال في المطالع والتقريب : «فسروه بخط الرمل ، ومعرفة ما يدل عليه».

وقال في النهاية : [قال ابن عباس : الخط] «هو الذي يخطه الحازي ، وهو علم قد تركه الناس ، يأتي صاحب الحاجة إلى الحازي فيعطيه حلوانا ، فيقول له : اقعد حتى أخط لك ، وبين يدي الحازي غلام له معه ميل ، ثم يأتي إلى

٨٢

أرض رخوة فيخط فيها خطوطا كثيرة بالعجلة لئلا يلحقها العدد ، ثم يرجع فيمحو منها على مهل خطين خطين ، وغلامه يقول للتفاؤل : «ابني عيان أسرعا البيان». فإن بقي خطان فهما علامة النّجح ، وإن بقي خط واحد فهو علامة الخيبة.

وقال الحربي : «الخط هو : أن يخط ثلاثة خطوط ثم يضرب عليهن بشعير أو نوى ، ويقول : يكون كذا وكذا ، وهو ضرب من الكهانة».

قال ابن الأثير : الخط المشار إليه علم معروف ، وللناس فيه تصانيف كثيرة ، وهو معمول به إلى الآن ، ولهم فيه أوضاع ، واصطلاح وأسام ، وعمل كثير ، ويستخرجون به الضمير وغيره ، وكثيرا ما يصيبون فيه. انتهى.

وقال : ضرب الرمل حرام ، صرح به غير واحد من الشافعية والحنابلة وغيرهم (١).

الأنبياء عليهم‌السلام وعلم الخط :

وقال الصالحي الشامي : قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «علمه نبي من الأنبياء» في حفظي أنه سيدنا إدريس «عليه‌السلام» ، ولا أعلم من ذكره فيحرر (٢).

وقد ورد في الروايات عن أهل البيت «عليهم‌السلام» : أن إدريس «عليه‌السلام» ، وهو جد نوح «عليه‌السلام» أول من خط بالقلم (٣). أي

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٦٧.

(٢) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٦٧.

(٣) البحار ج ١١ ص ٢٧٠ و ٢٧٩ وج ٥٥ ص ٢٧٤ وج ٧٤ ص ٧١ ، والخصال ـ

٨٣

كتب به ، فلعل الأمر اشتبه على هؤلاء ، فنسبوا إليه «عليه‌السلام» علم الخط (أي خط الرمل) أو نحوه. مع أن المقصود بالخط : الكتابة بالقلم.

ويكون مراد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقوله : «الخط علمه نبي من الأنبياء ، فمن صادف مثل علمه فقد علم» هو حثهم على تعلم الكتابة ،

__________________

ـ ص ٥٢٤ ، ومعاني الأخبار ص ٣٣٣ ، والإختصاص للمفيد ص ٢٦٤ ، وفرج المهموم لابن طاووس ص ٢١ ، وفتح الباري ج ٦ ص ٢٦٧ ، وصحيح ابن حبان ج ٢ ص ٧٧ ، وموارد الظمآن للهيثمي ج ١ ص ١٩٣ ، وكنز العمال ج ١٦ ص ١٣٢ ، والكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل للزمخشري ج ٢ ص ٥١٣ ، وتفسير جوامع الجامع للطبرسي ج ٢ ص ٤٥٨ وج ٣ ص ٧٧١ ، وتفسير مجمع البيان للطبرسي ج ٦ ص ٤٣٠ وج ١٠ ص ٣٣٢ ، والتفسير الأصفى ج ٢ ص ٧٤٣ ، والتفسير الصافي ج ٣ ص ٢٨٥ ، وتفسير نور الثقلين ج ٣ ص ٥١٣ ، وتفسير الميزان ج ٢ ص ١٤٤ وج ١٤ ص ٦٨ وج ٢٠ ص ٣٢٤ ، وتفسير الثعلبي ج ١٠ ص ١٨٦ ، وتفسير السمعاني ج ٣ ص ٣٠٠ وج ٥ ص ١٤٩ ، وتفسير البغوي ج ٣ ص ١٩٩ ، وتفسير الرازي ج ٢١ ص ٢٣٣ ، وتفسير القرطبي ج ١١ ص ١١٧ ، وتفسير البيضاوي ج ٤ ص ٢٢ ، والتسهيل لعلوم التنزيل للكلبي ج ٣ ص ٦ ، وتفسير ابن كثير ج ١ ص ٥٩٩ وج ٢ ص ٢٣٢ ، والإتقان في علوم القرآن ج ٢ ص ٣٦٤ ، وفتح القدير ج ٣ ص ٣٣٨ ، والثقات لابن حبان ج ٢ ص ١١٩ ، وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٣ ص ٢٧٥ ، والمعارف لابن قتيبة ص ٢١ ، وتاريخ اليعقوبي ج ١ ص ١١ و ١٤٧ ، وتاريخ الطبري ج ١ ص ١١٦ ، والبداية والنهاية ج ١ ص ١١١ وج ٢ ص ١٨٢ ، وقصص الأنبياء للراوندي ص ٨٣ ، وقصص الأنبياء لابن كثير ج ١ ص ٧١ ، وسبل الهدى والرشاد ج ١ ص ٣١٨ ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ٣٠.

٨٤

ليخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم ، والإحتفاظ به ، ونقله إلى الأجيال اللاحقة بدقة وأمانة. وبذلك يظهر فساد قول الصالحي الشامي هنا :

«فمن صادف مثل علمه فقد علم» ، وفي صحيح مسلم : «فمن وافق خطه فذاك» أي : فهو مباح له ، ولكن لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة ، فلا يباح [والمقصود : أنه حرام لأنه لا يباح] إلا بيقين الموافقة ، وليس لنا يقين بها.

وإنما قال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «فمن وافق خطه فذاك». ولم يقل : هو حرام بغير تعليق على الموافقة ، لئلا يتوهم متوهم أن هذا النهي يدخل فيه ذلك النبي الذي كان يخط ، فحافظ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على حرمة ذاك النبي ، مع بيان الحكم في حقنا ، فالمعنى : أن ذاك النبي لا منع في حقه ، وكذا لو علمتم موافقته ، ولكن لا علم لكم بها» (١).

على أننا نقول :

إن هذا الكلام موهون ، ولا يمكن قبوله من جهات عديدة :

فأولا : إذا كان علم الخط ضربا من الكهانة ، فإنه ليس علما ، إذ لا يصح عدّ الكهانة في جملة العلوم ، التي هي عبارة عن قواعد وضوابط توصل إلى نتائج ذات غرض واحد .. ولم نجد في الخط الذي فسّر آنفا بتفاسير مختلفة ما يدخله في هذا السياق ..

ثانيا : إذا كان هذا العلم من الكهانة ، فإن الحكم بتحريم الكهانة قد جاء مطلقا وعاما ، ولم يستثن منها كهانة علم الخط بأي معنى من المعاني المتقدمة ..

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٦٧.

٨٥

ثالثا : إن المعاني التي ذكرت لعلم الخط لا تصلح جميعها للدلالة على معنى صحيح ، ولا توصل إلى شيء من الواقع إلا على سبيل الصدفة ، وليس في السنن الإلهية أن يتدخل الله فيمسك يد ذلك الغلام ، عند عدد بعينه من الحركات السريعة .. أو أن يتدخل في قلب ذلك الغلام ويجبره على اختيار هذا العدد من الحركات أو ذاك.

على أن بقاء خط أو خطين قد يمكن اعتباره نوعا من القرعة ، التي لا اعتبار بها في كشف المستقبل ، وما يكون فيه من فشل ، أو نجاح ، بل تستعمل لتسهيل اختيار أمر حاضر مشتبه لا يجد سبيلا لترجيح أي طرف منه ..

وكذلك الحال بالنسبة للتفسير الثاني للخط ، وهو ضرب النوى أو حبات الشعير على ثلاثة خطوط ، فإنه ليس من السنن الإلهية أن يتحكم الله بالنوى ، أو بحبات الشعير حين تضرب على تلك الخطوط ليبين لنا من ذلك معاني بعينها ..

وبذلك كله يظهر : أنه لا معنى لأن يتعلم إدريس هذا الشيء ، لأنه لا أساس له .. وهو ليس من العلوم التي يصيبها هذا ويخطئوها ذاك .. وقد يتيقن بالموافقة ، وقد يظن ..

رابعا : لو كان هذا من العلوم المرتكزة إلى سنة إلهية ، فلما ذا يحرم على الناس تعاطيها إلا مع اليقن بالموافقة لعلم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. فإنها تكون كأي شيء مجهول يراد الوصول إليه بالتجارب القائمة على ظن الموافقة أو احتمالها ..

٨٦

خامسا : إن الكهانة تقوم على أخذ بعض المعلومات من بعض الجن (١) ، مع العلم بأن هذا الجن قد يكذب ، وقد يجهل الحقيقة ، أو يجهل جزءا منها ، فيخلط الحق بالباطل وما إلى ذلك ، وليس في علم الخط الذي فسر بما ذكر آنفا ما يشير إلى الأخذ من الجن .. فلماذا اعتبروه من الكهانة؟

وفد بني عذرة :

قالوا : قدم على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في صفر سنة تسع وفد بني عذرة ، (قبيلة باليمن من قضاعة) اثنا عشر رجلا ، فيهم جمرة بن النعمان العذري ، وسليم ، وسعد ابنا مالك ، ومالك بن أبي رباح. فنزلوا دار رملة بنت الحدث النجارية. ثم جاؤوا إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فسلموا بسلام أهل الجاهلية.

__________________

(١) راجع : البحار ج ٥٢ ص ١٩٨ وج ٥٥ ص ٢٥٩ وج ٦٠ ص ٣٢ ، وتذكرة الفقهاء (ط. ج) ج ١٢ ص ١٤٥ وفي ط. ق ج ١ ص ٥٨٢ ، وقواعد الأحكام للحلي ج ٢ ص ٩ ، ونهاية الإحكام للحلي ج ٢ ص ٤٧٢ ، وإيضاح الفوائد لابن العلامة ج ١ ص ٤٠٦ ، وجامع المقاصد للمحقق الكركي ج ٤ ص ٣١ ، وجواهر الكلام للجواهري ج ٢٢ ص ٨٩ ، ونيل الأوطار للشوكاني ج ٧ ص ٣٦٨ ، وشرح مسلم للنووي ج ١٤ ص ٢٢٣ ، وفتح الباري ج ١٠ ص ١٨٣ ، والديباج على مسلم للسيوطي ج ٥ ص ٢٤٤ ، وتفسير الثعلبي ج ٥ ص ٣٣٤ ، وزاد المسير لابن الجوزي ج ٤ ص ٢٨٦ ، وتفسير العز بن عبد السلام ج ٢ ص ١٧٢ ، وتفسير القرطبي ج ١٠ ص ١١ وج ١٥ ص ٦٦ ، وتفسير الآلوسي ج ٦ ص ٥٩ وج ١٩ ص ١٤١ وج ٢٧ ص ٣٥ ، وسبل الهدى والرشاد ج ٢ ص ٢٠١ ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ٣٣٧ ، ولسان العرب ج ١٣ ص ٣٦٣.

٨٧

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «من القوم»؟

فقال متكلمهم : من لا ننكر ، نحن بنو عذرة إخوة قصي لأمه ، «نحن الذين عضدوا قصيا» ، وأزاحوا من بطن مكة خزاعة وبني بكر ، ولنا قرابات وأرحام.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «مرحبا بكم وأهلا ، ما أعرفني بكم ، فما يمنعكم من تحية الإسلام»؟

قالوا : كنا على ما كان عليه آباؤنا ، فقدمنا مرتادين لأنفسنا ولقومنا. وقالوا : إلام تدعو؟

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وأن تشهدوا أني رسول الله إلى الناس جميعا» أو قال : [كافة].

فقال متكلمهم : فما وراء ذلك من الفرائض؟

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وأن تشهدوا الصلوات ، تحسن طهورهن ، وتصليهن إلى مواقيتهن ، فإنه أفضل العمل».

ثم ذكر لهم سائر الفرائض من الصيام والزكاة والحج.

فقال المتكلم : الله أكبر ، نشهد ألا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، قد أجبناك إلى ما دعوت إليه ، ونحن أعوانك وأنصارك. يا رسول الله إن متجرنا الشام ، وبه هرقل ، فهل أوحي إليك في أمره بشيء؟

فقال : «أبشروا ، فإن الشام ستفتح عليكم ، ويهرب هرقل إلى ممتنع بلاده».

ونهاهم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن سؤال الكاهنة.

٨٨

فقد قالوا : يا رسول الله ، إن فينا امرأة كاهنة قريش والعرب يتحاكمون إليها ، فنسألها عن أمور.

فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «لا تسألوها عن شيء».

فقال متكلمهم : الله أكبر.

ثم سأله عن الذبح الذي كانوا يذبحون في الجاهلية لأصنامهم.

فنهاهم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عنها.

وقال : «لا ذبيحة لغير الله عزوجل ، ولا ذبيحة عليكم في سنتكم إلا واحدة».

قال : وما هي؟

قال : «الأضحية ضحية العاشر من ذي الحجة ، تذبح شاة عنك وعن أهلك».

وسألوا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن أشياء من أمر دينهم ، فأجابهم فيها.

وأقاموا أياما. ثم انصرفوا إلى أهليهم ، وأمر لهم بجوائز كما كان يجيز الوفد ، وكسا أحدهم بردا (١).

نحن بنو عذرة :

لم يرق لبني عذرة سؤال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إياهم بقوله : من

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٨٢ عن الواقدي ، وابن سعد ، وراجع : المواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ج ٥ ص ٢١٥ و ٢١٦ وراجع : الطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٣٣١ وزاد المعاد ج ٣ ص ٤٩ وعن السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٦٥ وعن السيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) ج ٣ ص ٣٩.

٨٩

القوم؟! على اعتبار أن السؤال إنما يكون عن النكرات الذين لا يعرفون ، في حين يرون أن ذكرهم شائع ، وصيتهم ذائع. فأجابوا بما يظهرهم بمظهر الكبار ، مضمّنين إجابتهم ما يشير إلى أنهم يضعون أنفسهم في مصافّ أقدس الناس ، وأطهرهم ، وأعظمهم شأنا ، وأجلهم مكانة وموقعا ..

وكان أقصى ما عندهم أنهم أرادوا الفخر على رجل ينتهي فخرهم إليه ، وهو معدنه ومصدره ، فافتخروا بأن لهم به قرابة ورابطة رحم عن طريق الأم ، لأنهم إخوة قصي لأمه.

ثم افتخروا أيضا : بأن لهم قرابات وأرحام في سائر قريش.

ثم كان عنوان فخرهم الآخر : أنهم عضدوا قصيا ، وأزاحوا خزاعة وبني بكر من بطن مكة .. وكل هذه الأمور منه وإليه .. وبه .. وله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

غير أن قولهم : إنهم أخوة قصي لأمه وإن كان صحيحا ، لكن أم قصي نفسها قد قالت لولدها قصي وزوجها ، وسائر بني عذرة : «أنت والله يا بني أكرم منه نفسا ، ووالدا ، ونسبا ، وأشرف منزلا ، أبوك كلاب بن مرة بن كعب الخ» (١) ..

وأما أنهم هم الذين أزاحوا خزاعة وبني بكر من مكة ، فغير دقيق ، بل غير صحيح ، إن أريد حصر ذلك بهم ، لأن قصيا استعان بأخيه رزاح

__________________

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٦٧ ، وتاريخ الطبري ج ٢ ص ١٥ ، وراجع : عمدة الطالب لابن عنبة ص ٢٦ ، والبحار ج ١٥ ص ١٢٤ ، وتاريخ اليعقوبي ج ١ ص ٢٣٧ ، والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٩ ، وسبل الهدى والرشاد ج ١ ص ٢٧٣ ، والسيرة الحلبية ج ١ ص ١٢.

٩٠

العذري ، فأعانه بثلاث مائة من قومه وإخوته (١) .. بالإضافة إلى من كان معه .. من قريش وكنانة .. فراجع ..

وفد زمل بن عمرو :

وروى ابن سعد عن مدلج بن المقداد بن زمل العذري وغيره قالوا : وفد زمل بن عمرو العذري على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فاخبره بما سمع من صنمهم ، فقال : ذلك مؤمن الجن ، فعقد له لواء على قومه ، وأنشأ يقول حين وفد على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» :

إليك رسول الله أعملت نصها

أكلفها حزنا وقوزا من الرمل

لأنصر خير الناس نصرا مؤزرا

وأعقد حبلا من حبالك في حبلي

وأشهد أن الله لا شيء غيره

أدين له ما أثقلت قدمي نعلي (٢)

ونقول :

إن في النص عدة مواضع تدعو للتأمل ، ومنها :

__________________

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٦٩.

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٣٣٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٢ ص ٢١٨ وج ٦ ص ٣٨٢ ومجموعة الوثائق السياسية ص ٢٠٥ وراجع : الإصابة ج ١ ص ٥٥١ والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ١ ص ٥٨٨ وأسد الغابة ج ٢ ص ٢٠٥ ، والبحار ج ١٨ ص ١٠٣ ، وكنز العمال ج ١٢ ص ٣٨٣ ، وتاريخ مدينة دمشق ج ١١ ص ٤٩٠ وج ١٩ ص ٧٧ ، وعيون الأثر ج ١ ص ١٠٥.

٩١

زمل العذري عند يزيد :

وإن مما يؤسف له : ما يقال عما انتهى إليه أمر زمل بن عمرو هذا فإنه قد شهد صفين مع معاوية (١) ، وكان معه ـ كما زعموا ـ لواؤه الذي عقده له النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢) ، واستعمله معاوية على شرطته ، وكان أحد شهود التحكيم بصفين ، وشهد بيعة مروان و.. و..

بل ذكروا : أن يزيد بن معاوية أيضا قد ائتمن زمل بن عمرو على خاتمه (٣).

ولا ننسى القول المعروف : قل لي من تعاشر ، أقل لك من أنت ، فكيف إذا كان شاهدا ، ومبايعا وناصرا ، وقائد شرطه ، مؤتمنا على الخاتم الذي تختم به عهود الخيانة ، وكتب الظلم والبغي وما إلى ذلك.

عقد له لواء :

وزعمت الرواية السابقة : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد عقد لواء

__________________

(١) الإصابة ج ١ ص ٥٥١ والإستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة) ج ١ ص ٥٨٨ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٣٣٢ وجمهرة أنساب العرب ص ٤٤٩ ، وإكمال الكمال ج ١ ص ٧٧ ، وتاريخ مدينة دمشق ج ١٩ ص ٧٧ ، وأنساب الأشراف للبلاذري ص ٣١٠ ، والأنساب للسمعاني ج ٢ ص ٣٣١ ، واللباب في تهذيب الأنساب لابن الأثير الجزري ج ١ ص ٣٥٣ و ٤٢٧.

(٢) جمهرة أنساب العرب ص ٤٤٩ والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ١ ص ٥٨٨ والإصابة ج ١ ص ٥٥١ ، والأنساب للسمعاني ج ٢ ص ٣٣١ ، وأنساب الأشراف للبلاذري ص ٣١٠ ، وتاريخ مدينة دمشق ج ١٩ ص ٧٨ ، وإكمال الكمال لابن ماكولا ج ١ ص ٧٧ ، والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٣٣٢.

(٣) الإصابة ج ١ ص ٥٥١ ، وتاريخ مدينة دمشق ج ١٩ ص ٧٩.

٩٢

لزمل بن عمرو على قومه .. ولم يذكر لنا المؤرخون إن كان قد وفد إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وحده ، أو وفد مع قومه بني عذرة .. فإن كان قد وفد مع قومه ، فلا إشكال ..

لكن يبقى سؤال : لماذا أفردوا وفادته بالذكر دون سائر من كان معه؟! وهو ما لم يفعلوه مع غيره من رؤساء الوفود ، وفيهم من ولّاهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على قومهم؟!

وإن كان قد وفد وحده فلما ذا عقد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» له لواء ، في الوقت الذي كان لا يعقد لواء لأقل من عشرة ـ كما قدمناه في بعض الفصول السابقة (١).

إلا أن يقال : إن ما عرف عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أنه كان لا يعقد لواء لأقل من عشرة ، إنما هو لمن يريد تأميره على مجموعة بعينها ، وفي مهمة محدودة ، أما إذا كان المقصود هو التأمير على بلدة أو على منطقته ، أو عشيرة ، فلا حاجة إلى حضور تلك العشيرة بعينها .. بل يكفي أن يرسل إليها الوالي المعيّن مع كتاب التولية ، حتى لو كان ذلك الوالي وحده ..

علما بأن تلك العشيرة أو البلد ، أو القوم هم أكثر من عشرة ، فيتحقق بذلك النصاب. وليس حضورهم في محضر الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ضروريا ..

والذي نظنه قويا : أن هذا التعظيم والتفخيم لزمل .. ثم لبني عذرة يدخل في سياق مكافآت زمل على خدماته ومواقفه ، وإخلاصه للعرش

__________________

(١) راجع : أسد الغابة ج ٢ ص ٢٥٩ ومصادر كثيرة أخرى في بعض الهوامش السابقة.

٩٣

الأموي ، ولقتله أبناء الأنبياء كما تقدم ..

لا تسألوا الكهان :

ولعل سؤالهم عن أمر الكاهنة قد أريد به الإمتحان والإستكشاف لأمر النبوة ، على أساس أنه إذا كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ والعياذ بالله ـ كاهنا ، فسوف لا يمانع في مراجعتهم لتلك الكاهنة ، وإن كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نبيا حقا فسوف يكون حاسما في المنع من ذلك.

فلما ظهر لهم هذا الأمر الثاني قال متكلمهم : الله أكبر ، على سبيل الإستحسان والظفر بالمطلوب.

هرقل عقدة تحتاج إلى حل :

وقد أظهر بنو عذرة ما يشير إلى أنهم رغم كونهم يعيشون في اليمن ، فإنهم كانوا يعانون من عقدة الخوف من هرقل ، الذي كانت تفصلهم عنه مسافات شاسعة وبلاد واسعة ، لمجرد أنهم يسافرون إلى طرف من أطراف مناطق نفوذ هرقل ، وهو الشام ..

وهم يرون : أن لملكه من القوة والإمتداد ما يجعله خارجا عن تقديرات البشر ، فلا محيص عن اللجوء في ذلك إلى الإخبارات الغيبية الإلهية .. ولذلك سألوا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن أمره ..

ولعل مما هيأهم للإنبهار بهرقل والشعور بعظمته ، وهول أمره : أنهم قد شهدوا أو سمعوا بالنصر الكبير الذي سجله على مملكة فارس ، تصديقا للوعد الإلهي الوارد في سورة الروم : (الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ

٩٤

وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) (١).

ولعل رؤيتهم هزيمة كسرى ، ووقوفهم على مدى ما تعانيه مملكة فارس من مشكلات ، ومن انقسامات تقطع أوصالها ، جعلهم لا يهتمون بمعرفة مصيرها ، فإن شواهده لائحة ، ودلائله واضحة ، ولأجل ذلك اقتصر سؤالهم على هرقل ، وأهملوا ذكر كسرى ..

السؤال عن الأشخاص :

ويلاحظ هنا : أنهم سألوا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن مصير هرقل ، لا عن مصير مملكة الروم ، لأنهم اعتادوا أن يكون الملك للشخص ، وأن يردوا كل شيء مسخرا لخدمته ، وأغراضه ، وتلبية رغباته والإستجابة لشهواته ، والإنسياق مع أهوائه ؛ فالحكم والحكومة والمال والرجال ، والعساكر ، والبلاد والعباد ، ليس بذي قيمة ، ولا يشعر أحد بوجود أي شيء من ذلك إلا بمقدار ما يؤدّيه من خدمات في هذا الإتجاه .. ولأجل ذلك لم يسألوا عن مصير مملكة الروم أو مملكة فارس ، بل سألوا عن مصير شخص هرقل.

ولكن الإسلام يعلّم أتباعه : أن يعتبروا أن الإرتباط أولا وبالذات يكون بالله ، ثم بالنهج والدين والحق ، وبالرسول والإمام من حيث إنه باب الله الذي منه يؤتى ، وأنه نهجه القويم ، وصراطه المستقيم ، وأنه مصباح هدى ، وسفينة نجاة ..

__________________

(١) الآيات ١ إلى ٣ من سورة الروم.

٩٥

وفود بلي :

عن رويفع بن ثابت البلوي قال : قدم وفد من قومي في شهر ربيع الأول سنة تسع ، فأنزلتهم في منزلي ببني جديلة ، ثم خرجت بهم حتى انتهينا إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو جالس مع أصحابه في بيته في الغداة ، فسلمت. فقال : «رويفع».

فقلت : لبيك.

قال : «من هؤلاء القوم»؟

قلت : قومي.

قال : «مرحبا بك وبقومك».

قلت : يا رسول الله ، قدموا وافدين عليك مقرّين بالإسلام ، وهم على من وراءهم من قومهم.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «من يرد الله به خيرا يهده للإسلام».

قال : فتقدم شيخ الوفد ، أبو الضبيب ، فقال : «يا رسول الله ، إنّا قدمنا عليك لنصدقك ونشهد أن ما جئت به حق ، ونخلع ما كنا نعبد ويعبد آباؤنا».

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «الحمد لله الذي هداكم للإسلام ، فكل من مات على غير الإسلام فهو في النار».

وقال له أبو الضبيب : يا رسول الله ، إني رجل لي رغبة في الضيافة ، فهل لي في ذلك أجر؟

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «نعم ، وكل معروف صنعته إلى

٩٦

غني أو فقير فهو صدقة».

قال : يا رسول الله ، ما وقت الضيافة؟

قال : «ثلاثة أيام ، فما بعد ذلك فصدقة ، ولا يحل للضيف أن يقيم عندك فيحرجك».

قال : يا رسول الله ، أرأيت الضالة من الغنم أجدها في الفلاة من الأرض.

قال : «لك ولأخيك ، أو للذئب».

قال : فالبعير.

قال : «ما لك وله ، دعه حتى يجده صاحبه».

[قال رويفع] : وسألوا عن أشياء من أمر دينهم فأجابهم.

ثم رجعت بهم إلى منزلي ، فإذا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يأتي بحمل تمر يقول : «استعن بهذا التمر».

قال : فكانوا يأكلون منه ومن غيره.

فأقاموا ثلاثا ، ثم جاؤوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يودعونه.

فأمر لهم بجوائز كما كان يجيز من كان قبلهم ، ثم رجعوا إلى بلادهم (١).

تنبيه :

إنه إذا صح أن رجوع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من تبوك كان في شهر

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٨٢ عن الطبقات الكبرى لابن سعد (ط ليدن) ج ٢ ص ٩٤ وعن ابن شاهين عن ابن إسحاق ، والمواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ج ٥ ص ٢١٦ و ٢١٧ ، وعيون الأثر لابن سيد الناس ج ٢ ص ٣١٠ ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٧٣.

٩٧

رمضان ، فوفد ثقيف لا يمكن أن يكون في شعبان .. ويتأكد صحة أن يكون وفدهم الثاني قد جاء إليه في شهر رمضان. وفي جميع الأحوال نقول :

الوفد الثاني لثقيف :

وجاء وفد ثقيف الثاني ـ كما يقول بعضهم ـ في شهر شعبان سنة تسع وكان خروجه من المدينة إلى تبوك يوم الخميس في رجب في تلك السنة (١).

لكن قال في زاد المعاد : قال ابن إسحاق : وقدم في رمضان سنة تسع منصرفه من تبوك وفد ثقيف ، وكان من حديثهم : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما انصرف عنهم اتّبعه عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يدخل المدينة ، فأسلم ، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام.

فقال له رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «إنهم قاتلوك» ، وعرف أن فيهم نخوة الإمتناع الذي كان منهم.

فقال عروة : لو وجدوني نائما ما ايقظوني. أو قال : يا رسول الله ، أنا أحب إليهم من أبكارهم. وكان فيهم كذلك محببا مطاعا.

فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء ألا يخالفوه لمنزلته فيهم. فلما أشرف لهم على علّيّة له ، وقد دعاهم إلى الإسلام ، وأظهر لهم دينه ، رموه بالنبل من كل وجه ، فأصابه سهم فقتله. فقيل لعروة : ما ترى في دمك؟

قال : «كرامة أكرمني الله بها ، وشهادة ساقها الله إلى ، فليس فيّ إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قبل أن يرتحل

__________________

(١) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٥ ص ١٢١ عن ابن سعد ، ومغلطاي.

٩٨

عنكم ، فادفنوني معهم». فدفنوه معهم.

فزعموا أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال فيه : «إن مثله في قومه لكمثل صاحب يس في قومه» (١).

ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهرا ، ثم إنهم لما رجع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من تبوك ، وكانت ثقيف قد رأت ممن حولها ما يسوؤها في الأموال والأنفس ، إذ أسلم من حولهم وكانوا يستلبون أموالهم ، ويرعون زروعهم ، ولا يؤدون لهم ديونهم ، فقرر الذين لم يسلموا منهم أن يسلموا.

فائتمروا بينهم ، ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب ، وقد بايعوا وأسلموا. وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رجلا كما أرسلوا عروة ، فكلموا عبد ياليل بن عمرو بن عمير ، وكان سنّ عروة بن مسعود ، وعرضوا عليه ذلك. فأبى أن يفعل ، وخشي أن يصنع به إذا رجع كما صنع بعروة.

فقال : لست فاعلا حتى ترسلوا معي رجالا.

فأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف ، وثلاثة من بني مالك ،

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٩٦ والمواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ج ٥ ص ١٢١ و ١٢٢ وأسد الغابة ج ٣ ص ٤٠٥ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٩٤ والكامل لابن بن الأثير ج ٢ ص ١٠٨ وعن السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٤٣ وعن السيرة لدحلان (بهامش الحلبية) ج ٣ ص ٨ ، وعمدة القاري ج ١٤ ص ٩ ، والإستيعاب ج ٣ ص ١٠٦٧ ، وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٣٦٣ ، والوافي بالوفيات ج ١٩ ص ٣٦١ ، والبداية والنهاية ج ٥ ص ٣٦ ، والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٥٤.

٩٩

فيكونوا ستة ، وقيل : غير ذلك (١).

وكانت ثقيف طائفتين : بنو مالك والأحلاف ، وكانوا أهل حرث وتجارة ولهم أموال عظيمة وديون كثيرة على الناس ، فبعثوا مع عبد ياليل : الحكم بن عمرو بن وهب ، وشرحبيل بن غيلان. ومن بني مالك : عثمان بن أبي العاص ، وأوس بن عوف ، ونمير بن خرشة.

فخرج بهم عبد ياليل ، فلما دنوا من المدينة ، ونزلوا قناة ألفوا بها المغيرة بن شعبة. فاشتد ليبشر بهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلقيه أبو بكر فقال : أقسمت عليك بالله لا تسبقني إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى أكون أنا أحدثه.

فدخل أبو بكر على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فأخبره بقدومهم. ثم خرج المغيرة إلى أصحابه فروح الظهر معهم. وعلمهم كيف يحيون رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله». فأبوا إلا تحية الجاهلية.

ولما قدموا على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ضرب لهم قبّة في ناحية المسجد ، لكي يسمعوا القرآن ، ويروا الناس إذا صلوا.

وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى كتب كتابهم بيده. وكانوا لا يأكلون طعاما يأتيهم من عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى يأكل منه خالد حتى أسلموا.

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٩٦ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٣٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٩٥ و ١٩٧ وعن الكامل لابن الأثير ج ٢ ص ١٠٨ وعن السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٤٤ وعن السيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) ج ٣ ص ٩.

١٠٠