الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٨

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٨

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-200-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٩

رسول الله مولى غنيكم وفقيركم :

وبعد أن أمرهم في الكتاب بأن لا يخونوا ولا يتخاذلوا ، علل لهم ذلك بقوله : «فإن رسول الله مولى غنيكم وفقيركم» ، فلا يشعر الفقير بأن ثمة استقواء عليه ، واستغلالا لحاله ، فيؤخذ بما لا يؤخذ به غيره ، وتفرض عليه قرارات لا تفرض على الغني ، ولا تطلب منه ..

فإن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يطلب ما يطلبه ويفرض ما يفرضه على الجميع ، من دون استثناء ، لأنه ولي الغني والفقير ، والكبير والصغير ..

إنما هي زكاة يتزكى بها :

ويلاحظ : أن الكتاب يقول عن الزكاة : «إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهله ، إنما هي زكاة يتزكى بها على فقراء المؤمنين ، وأبناء السبيل».

فقد تضمنت هذه الفقرة الإشارة إلى أمور عديدة ، فقد عبّرت بكلمة «المؤمنين» ، دون كلمة المسلمين ، ربما لتؤكد : أن مجرد إظهار الإسلام لا يكفي ، بل لا بد من الإيمان بمعناه الصحيح ، الذي هو قول وقبول والتزام قلبي وعملي بكل ما جاء به رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

ثم إن الزكاة تطهير للنفوس ، وتنمية لها ، من خلال إبعادها الإنسان المؤمن عن التعلق بالمال وحب الدنيا ، وإيجابها القرب من الله تعالى ، وهي تدفع إلى الإيثار ، وإلى الشعور بحوائج المؤمنين ..

وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لرسوله :

وقد تقدم : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أوصى لرسوله عياش بن أبي ربيعة

٢١

بأن لا يدخل على من يبعثه إليهم ، وأن يتوضأ قبل دخوله عليهم ، ويصلي ركعتين ، ويسأل الله النجاح والقبول ، وأن يأخذ كتابه بيمينه ، ويدفعه إليهم بأيمانهم ..

أي أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أراد أن يسن لهم ما شرعه الله تعالى في شأن الرسل في هذه المناسبة بالذات ، لتكون حساسيتها من أسباب وعيها بعمق ، وتحسس نتائجها الرضية على الرسول وعلى المرسل إليهم على حد سواء.

ولعل عياش بن أبي ربيعة كان يشعر بخطورة الموقف ، فجاءت التوجيهات منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لتربط على قلبه ، وتعيده إلى الله ، فيشعر بعظمته ، وبهيمنته ، وبقدرته ، وبمحبته له وللمؤمنين ، ولطفه وعناياته بهم .. فيعيش الثقة بالله ، والسكينة في قلبه ، وروحه ، والقوة في دينه ، وعدم المبالاة بالأخطار إذا كان الله محبا له ، راضيا عنه.

على أن هذه القوة الروحية ، والثبات والإتزان في الخطاب وفي الموقف يعطي للكلمة قوة مضاعفة على التأثير ، ويضفي على شخصيته الهيبة ، ويفرض على الآخرين احترامه ، والإصغاء إليه ، والتدبر فيما يأتيهم به.

وفد همدان :

وفي شهر رمضان من سنة تسع ، مرجع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من تبوك قدم وفد همدان على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مع وفد حمير.

وكان الوافد من كل بطن من همدان سيدهم. فمالك بن أيفع من بني ناعط. وعميرة بن مالك من بني حازم ، ومن بني سلمان ضمام بن مالك. ومن بني حدان مسلمة بن هدان ، وهم بطن من همدان. ومن بني خارف من بني

٢٢

حاشد (بطن من همدان) مالك بن نمط ، وكنيته أبو ثور ، ولقبه ذو المشعار.

وقيل : كان مجموع وفد همدان مائة وعشرين نفسا (١).

وكان على وفد همدان مقطعات الحبرات ، مكففة بالديباج ، وفيهم حمزة بن مالك من ذي مشعار ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «نعم الحي همدان ، ما أسرعها إلى النصر ، وأصبرها على الجهد ، ومنهم أبدال وأوتاد الإسلام» (٢).

فأسلموا ، وكتب لهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كتابا بمخلاف خارف ،

__________________

(١) راجع : مكاتيب الرسول ج ٣ ص ٣٨٧ و ٣٨٨ عن عدد من المصادر.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤٢٧ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٣٨٧ وفي هامشه عن المصادر التالية : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٥٩ والسيرة النبوية لزيني دحلان (بهامش الحلبية) ج ٣ ص ٣١ والكامل لابن الأثير ج ٢ ص ٣٠٠ وتاريخ الأمم والملوك للطبري ج ٣ ص ١٣١ و ١٣٢ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٢ ص ٣٦٩ وينابيع المودة ص ٢١٩ والعبر وديوان المبتدأ والخبر لابن خلدون ج ٢ ص ٨٣٣ وفي (ط أخرى) ج ٢ ق ٢ ص ٥٥ والبحار ج ٢١ ص ٣٦٠ و ٣٦٣ عن إعلام الورى ، وعن الإرشاد للمفيد «رحمه‌الله» وج ٣٨ ص ٧١ والمناقب لابن شهر آشوب ج ٢ ص ١٢٩ والإرشاد للمفيد «رحمه‌الله» ص ٢٨ والبداية والنهاية ج ٥ ص ١٠٥ وزاد المعاد ج ٣ ص ٣٦ ومجموعة الوثائق السياسية ص ١٣٢ / ٨٠ عن إمتاع الأسماع للمقريزي ، وحياة الصحابة ج ١ ص ٩٥ والعدد القوية ص ٢٥١ والتنبيه والإشراف ص ٢٣٨ وذخائر العقبى ص ١٠٩ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٤٥ وإحقاق الحق (الملحقات) ج ١٨ ص ٦٤ وج ٢١ ص ٦٢٠ عن الجامع بين الصحيحين ص ٧٣١ ونثر الدر المكنون ص ٤٣ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٥ ص ٣٩٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٢٠١ من طرق كثيرة ، والتدوين للقزويني ج ٢ ص ٤٢٩ وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٤ ص ٣٤.

٢٣

ويام ، وشاكر ، وأهل الهضب ، وحقاف الرمل من همدان لمن أسلم منهم (١).

وفي زاد المعاد : «قدم عليه وفد همدان منهم : مالك بن النمط ، ومالك بن أيفع ، وضمام بن مالك ، وعمرو بن مالك ، فلقوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عند منصرفه من تبوك ، وعليهم مقطعات الحبرات ، والعمائم العدنية ، برحال الميس على الرواحل المهرية والأرحبية ، ومالك بن النمط يرتجز :

همدان خير سوقة وأقيال

ليس لها في العالمين أمثال

محلها الهضب ومنها الأبطال

لها أطابات بها وآكال

وكان يرتجز بين يدي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ويقول :

إليك جاوزن سواد الريف

في هبوات الصيف والخريف

مخطمات بحبال الليف

وذكروا له كلاما حسنا فصيحا ، سيأتي.

فكتب لهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كتابا أقطعهم فيه ما سألوه ، وأمّر عليهم مالك بن النمط ، واستعمله على من أسلم من قومه ، وأمره بقتال ثقيف. وكان لا يخرج لهم سرح إلا أغاروا عليه (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤٢٧ وقال في هامشه : أخرجه ابن سعد في الطبقات ج ١ ق ٢ ص ٧٤ ، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق ج ٤ ص ٤٤٠ ، وذكره المتقي الهندي في الكنز (٣٤٠٣٠).

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤٢٧ والمواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ج ٥ ص ١٧٥ و ١٧٦ وأسد الغابة ج ٤ ص ٢٩٤ والإصابة ، والإستيعاب ، والسيرة الحلبية ، والسيرة النبوية لدحلان.

٢٤

ولكننا نشك في هذا الكلام الأخير ، فإن همدان لا يمكن أن تقاتل ثقيفا ، ولا أن تغير على سرحهم ، فإن همدان باليمن ، وثقيفا بالطائف (١).

ثم إن الصحيح هو : أن همدان قد أسلمت على يد علي «عليه‌السلام» ، لا أنها وفدت وأسلمت ، وقد تقدم الكلام في ذلك في موضع آخر من هذا الكتاب.

وقال ابن إسحاق : «فقام مالك بن نمط بين يديه ، فقال : يا رسول الله نصية من همدان ، من كل حاضر وباد ، أتوك على قلص نواح ، [متصلة بحبائل الإسلام ، لا تأخذهم في الله لومة لائم ، من مخلاف خارف ويام] وشاكر ، أهل السود والقود ، أجابوا دعوة الرسول ، وفارقوا الآلهات والأنصاب ، عهدهم لا ينقض [عن سنة ماحل ، ولا سوداء عنقفير] ، ما أقام لعلع ، وما جرى اليعفور بصيلع».

فكتب لهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كتابا فيه :

«بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب من محمد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لمخلاف خارف ، وأهل جناب الهضب ، وحقاف الرمل ، مع وافدها ذي المشعار ، مالك بن نمط ، ومن أسلم من قومه أن لهم فراعها ، ووهاطها ، وعزازها ما أقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، يأكلون ظلافها ، ويرعون عفاءها ، [لنا من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة ، ولهم

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤٢٧ والمواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ج ٥ ص ١٧٨ عن زاد المعاد لابن قيم الجوزية ، وعن السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٦٠ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٩٥.

٢٥

من الصدقة الثلب ، والناب ، والفصيل والفارض ، والداجن ، والكبش الحوري. وعليهم فيها الصالغ والقارح]. لكم بذلك عهد الله ، وذمام رسوله ، وشاهدكم المهاجرون والأنصار». فقال في ذلك مالك بن نمط :

ذكرت رسول الله في فحمة الدجى

ونحن بأعلى رحرحان وصلدد

وهن بنا خوص طلائح تغتلي

بركبانها في لاحب متمدد

على كل فتلاء الذراعين جسرة

تمر بنا مر الهجف الخفيدد

حلفت برب الراقصات إلى منى

صوادر بالركبان من هضب قردد

بأن رسول الله فينا مصدق

رسول أتى من عند ذي العرش مهتد

فما حملت من ناقة فوق رحلها

أشد على أعدائه من محمد

وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه

وأمضى بحد المشرفي المهند (١)

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤٢٧ و ٤٢٨ وراجع : المواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ج ٥ ص ١٧٥ ـ ١٧٨ وراجع : مكاتيب الرسول للعلامة الأحمدي ج ٣ ص ٣٧٦ و ٣٧٧ و ٣٨٨ ـ ٣٩١ وقد نقل العلامة الأحمدي الكتاب المشار إليه عن المصادر التالية : العقد الفريد ج ٢ ص ٣٢ (باب الوفود) وصبح الأعشى ج ٢ ص ٢٦٣ وج ٦ ص ٣٦٠ والسيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) ج ٣ ص ٨٩ ونسيم الرياض ج ١ ص ٣٩٢ وبهامشه شرح القاري ج ١ ص ٣٩١ والشفا ج ١ ص ١٦٨ ونثر الدر للآبي ج ١ ص ٢١٧ ونهاية الإرب ص ٢٢٧ والمصباح المضيء ج ٢ ص ٣٤١ وإعلام السائلين ص ٤٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٢٦٩ وفي (ط أخرى) ص ٢٤٥ وجمهرة رسائل العرب ج ١ ص ٥٦ وسيرة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لإسحاق بن محمد الهمداني قاضي أبرقوه ص ١٠٥٥ وغريب الحديث لابن قتيبة ج ١ ص ٢٣٩ ونشأة الدولة الإسلامية ص ٣٤٨ والمواهب

٢٦

ونقول :

إن لنا مع ما تقدم وقفات هي التالية :

توضيحات :

قد تضمن كتاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مفردات تحتاج إلى إيضاح ، وهي :

خارف : بطن من همدان ، منهم الحارث الأعور.

شية ماحل : أي عن وشاية وسعاية واش. وروي عن سنة ماحل. والسنة الطريقة أي طريقة ساع ونمام.

الهضب : جمع هضبة. وجناب الهضب اسم موضع.

حقاف الرمل : اسم موضع أيضا. والحقاف : جمع حقف ، وهو ما

__________________

اللدنية شرح الزرقاني ج ٤ ص ١٧٠ والفائق ج ٣ ص ٤٣٣ والمفصل ج ٤ ص ١٨٦ والنهاية لابن الأثير في «حور». ومجموعة الوثائق السياسية ص ٢٣٣ / ١١٣ عن جمع ممن تقدم ، وعن نثر الدر المكنون للأهدل ص ٦٦ والوثائق السياسية اليمنية للأكوع الحوالي ص ١١١. وأرجع إلى مخطوطة التأريخ المجهول ، ثم قال : قابل الطبقات ج ١ ق ٢ ص ٧٣ و ٧٤ والسهيلي في الروض الأنف ج ٢ ص ٣٤٨ وتاريخ الأمم والملوك للطبري ص ١٧٣١ و ١٧٣٢ وأسد الغابة ج ٤ ص ٢٩٤ وج ٢ ص ٥١ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٨٩ وإمتاع الأسماع للمقريزي (خطية) ص ١٠٣٠ والنهاية في «ثلب» واللسان في «حور» وانظر كايتاني ج ٩ ص ٦٧ واشپرنكر ج ٣ ص ٤٥٦ وراجع أيضا ص ٧١٩ وراجع : الإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ٣ ص ٣٧٩ والإصابة ج ٣ ص ٣٥ وزاد المعاد ج ٣ ص ٣٥.

٢٧

اعوّج واستطال من الرمل.

المشعار : موضع أيضا.

الفراع : ما علا من الأرض وارتفع.

الوهاط : المواضع المطمئنة.

الدفء : نتاج الإبل.

الصرام : النخل الذي يصرم ويقطع.

الثلب : ما هرم من ذكور الإبل ، وتكسرت أسنانه.

الناب : الناقة الهرمة التي طال سنها.

الفصيل : ما انفصل من أمه من أولاد الإبل.

الفارض : المسن من الإبل ومن البقر.

الداجن : ما يعلف في المنزل.

الحوري : الذي في صوفه حمرة.

الصالغ : من البقر والغنم ما انتهى سنه بالسادسة.

القارح : من الخيل ما دخل في الخامسة أو السادسة.

أي أن الصدقة لا تعطى لا من الخيار ، ولا من الرذال.

كتاب لهمدان :

ولما بلغ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إسلام همدان كتب إليهم بما يلي :

«بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من محمد رسول الله إلى عمير ذي مران ، ومن أسلم من همدان ، سلم أنتم ، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو.

أما بعد ذلك ، فإنه بلغني إسلامكم مرجعنا من أرض الروم ، فأبشروا ،

٢٨

فإن الله قد هداكم بهداه ، وإنكم إذا شهدتم أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبد الله ورسوله ، وأقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، فإن لكم ذمة الله وذمة رسوله على دمائكم وأموالكم ، وأرض البور التي أسلمتم عليها ، سهلها وجبلها ، وعيونها وفروعها غير مظلومين ، ولا مضيق عليكم.

وإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته ، إنما هي زكاة تزكونها عن أموالكم لفقراء المسلمين ، وإن مالك بن مرارة الرهاوي قد حفظ الغيب وبلغ الخبر ، فآمركم به خيرا فإنه منظور إليه. وكتب علي بن أبي طالب» (١).

ومران : مخلاف باليمن.

__________________

(١) راجع : مكاتيب الرسول ج ٣ ص ٣٩٢ و ٣٩٣ عن : تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٦٥ وفي (ط أخرى) ص ٧٠ والمعجم الكبير ج ١٧ ص ٤٧ و ٤٨ وأسد الغابة ج ٤ ص ١٤٧ ورسالات نبوية ص ٢٠٢ وإعلام السائلين ص ٢٤ والإصابة ج ٣ ص ١٢١ في ترجمة عمير و ٣٥٤ والمصنف لابن أبي شيبة ج ١٤ ص ٣٣٩ و ٣٤٠ / ١٨٤٧٩ ونشأة الدولة الإسلامية ص ٣٤٦. ومجموعة الوثائق السياسية ص ٢٣٠ / ١١١ عن جمع ممن تقدم ، وعن معجم الصحابة لابن قانع (خطية كوپرولو ملخصا) ورقة ص ١٢١ ـ ألف. ثم قال : قابل المعارف لابن قتيبة ص ٢٣٤ وراجع : ٧١٩ عن سبل الهدى للشامي خطية باريس / ١٩٩٢ ورقة ٦٧ ـ ألف. وأوعز إليه في أسد الغابة ج ٢ ص ١٤٥ في «ذي مران» وج ٣ ص ٨٣ في «عامر بن شهر» ، والإصابة ج ٢ ص ٢٥١ في عامر بن شهر ، والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ٢ ص ٤٩٣ والطبقات الكبرى ج ٦ ص ١٨ و ٤٢ والكامل لابن عدي ج ٦ ص ٢٤١٤ والإكليل ج ١٠ ص ٤٩. وفي رسالات نبوية قال الحافظ وابن الأثير : أخرج الطبراني ، ثم ساق الكتاب فقال : قال ابن الأثير : أخرجه ابن مندة ، وأبو نعيم ، وابن عبد البر ، وأخرجه ابن سعد في الطبقات.

٢٩

والبور : الأرض التي لم تزرع.

ورها : بطن من مذجح.

الثناء على همدان :

١ ـ قد تضمنت النصوص المتقدمة ثناء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على قبيلة همدان. وإذا تأملنا في مضمون هذا الثناء ، فسنجد أنه وصفها بأوصاف قد لا نجد لها مصداقا في زمنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإن هذه القبيلة إنما دخلت في الإسلام في وقت متأخر ، ولا يختلف حالها عن حال سائر القبائل من ناحية الثقافة الدينية ، والإلتزام بأحكام الشرع الحنيف. ولم يظهر لنا أنه كان في تلك القبيلة آنئذ من يمكن وصفه بأنه من الأبدال أو من الأوتاد ..

ولو قبلنا وجود أشخاص من هذا القبيل ، فإنهم لا يمكن وصفهم بأنهم أوتاد الإسلام .. فإن أحدا منهم لم يصل إلى مقام سلمان ، وأبي ذر ، وعمار ، والمقداد. فإن صح إطلاق وصف أوتاد الإسلام على أحد ، فإن هؤلاء الأربعة أولى من همدان وسواها بذلك .. فما معنى أن يترك «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هؤلاء ليقرر أن أوتاد الإسلام من همدان؟! ..

٢ ـ أما الحديث عن أن أبدال الإسلام منهم ، فهو الآخر لا يختلف عن سابقه ، وتعارضه روايتهم : أن الأبدال بالشام ، في حين أن قبيلة همدان يمانية ..

يضاف إلى ذلك : أن أهل البيت «عليهم‌السلام» لم يذكروا لنا شيئا عن هؤلاء الأبدال ، بل انحصرت الرواية التي تذكرهم بغير أهل البيت «عليهم‌السلام» وشيعتهم. ولو وجدت رواية عنهم ، فإنها تبقى على درجة من الشذوذ ، بحيث يدور حولها أكثر من سؤال.

٣٠

٣ ـ وأما السرعة إلى النصر ، والصبر على الجهد ، فهي صفات قد تتحقق في المؤمن وفي غيره ، ولكن اقتران ذلك بقوله : نعم الحي همدان ، يفيد أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بصدد الثناء عليها ، ولكنه ثناء يبقى غير حاسم ، فإن الإتصاف ببعض الصفات قد يوجب مدحا ، مثل صفة السخاء والصدق في القول ، ولكنه يبقى مدحا على أمر دنيوي ، لا يعطي منزلة في الدين ولا مقاما عند الله ، إلا إذا انطلق من الطاعة له تعالى ، والتعبد والتقرب به إليه ..

٣١
٣٢

الفصل الرابع :

وفود سنة تسع

٣٣
٣٤

وفود مرّة :

وقالوا : قدم وفد بني مرّة على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين رجع من تبوك سنة تسع ، وهم ثلاثة عشر رجلا رأسهم الحارث بن عوف ، فقالوا : يا رسول الله ، إنّا قومك وعشيرتك ، ونحن قوم من بني لؤي بن غالب ..

فتبسم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ثم قال : «أين تركت أهلك»؟

قال : بسلاح وما والاها.

قال : «وكيف البلاد»؟

قال : والله ، إنهم لمسنتون ، فادع الله لنا.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «اللهم اسقنا الغيث».

فأقاموا أياما ثم أرادوا الإنصراف إلى بلادهم ، فجاؤوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مودعين له ، وأمر بلالا أن يجيزهم ، فأجازهم بعشر أواق فضة ، وفضّل الحارث بن عوف فأعطاه اثنتي عشرة أوقية ، ورجعوا إلى بلادهم فوجدوها قد أمطرت. فسألوا : متى مطرتم؟ فإذا هو ذلك اليوم الذي دعا فيه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وقدم عليه وهو يتجهز لحجة الوداع قادم منهم ، فقال : يا رسول الله ،

٣٥

رجعنا إلى بلادنا فوجدناها مصبوبة مطرا في ذلك اليوم الذي دعوت لنا فيه ، ثم قلدتنا أقلاد الزرع في كل خمس عشرة [ليلة] مطرة جودا ، ولقد رأيت الإبل تأكل وهي بروك ، وإن غنمنا ما توارى من أبياتنا ، فترجع فتقيل في أهلنا.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «الحمد لله الذي هو صنع ذلك» (١).

وفي نص آخر : أن الحارث بن عوف أتى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : ابعث معي من يدعو إلى دينك وأنا له جار.

فبعث معه رجلا أنصاريا ، مادّا به عشيرة الحرث ، فقتلوه ، فقال حسان :

يا حار من يغدر بذمة جاره

منكم فإن محمدا لا يغدر

وأمانة المريّ حين لقيتها

كسر الزجاجة صدعها لا يجبر

إن تغدروا فالغدر من عاداتكم

واللؤم ينبت في أصول السخبر

فاعتذر ، وودى الأنصاري ، وقال : يا محمد ، إني عائذ بك من لسان حسان ، لو أن هذا مزج بماء البحر لمزجه (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤١٠ عن الطبقات الكبرى لابن سعد (ط ليدن) ج ٢ ص ٦٣ والمواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ج ٥ ص ٢١٧ و ٢١٨ وإمتاع الأسماع للمقريزي ج ١٤ ص ٣١٠ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٢٩٨ وراجع : البداية والنهاية ج ٥ ص ١٠٣ وعيون الأثر لابن سيد الناس ج ٢ ص ٣١١ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٧٤.

(٢) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٥ ص ٢١٨ والأغاني (ط ساسي) ج ٤ ص ١١ وأسد الغابة ج ١ ص ٣٤٢ ـ ٣٤٣ ترجمة الحارث ، ومجمع الزوائد للهيثمي ج ٦ ص ١٣٢ ـ ١٣٣ والإصابة لابن حجر ج ١ ص ٦٨٣ والوافي بالوفيات للصفدي ج ١١ ص ١٩٤ وأنساب الأشراف ج ٤ ص ٢٢٨.

٣٦

ونقول :

تحدثنا في مواضع عديدة من مناقشاتنا لما يذكرونه عن سائر الوفود عن عدد من النقاط التي وردت في النص الآنف الذكر ، وذلك مثل :

١ ـ إنهم حاولوا التقرب من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالنسب ، وأنهم قومه وعشيرته ، وأنهم من بني لؤى بن غالب ..

ويلاحظ : هنا أيضا أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يجبهم بشيء ، بل اكتفى بالتبسم ..

٢ ـ إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سألهم عن حال بلادهم ، من حيث الجدب والخصب ، ولم يسألهم ولم يحدثهم عن شيء آخر قد يكون له علاقة بالقربى النسبية ..

٣ ـ إنهم بعد أن أخبروه بالجدب في بلادهم طلبوا منه أن يدعو لهم ، مؤكدين بذلك نظرتهم إلى الأنبياء ، وتوقعاتهم منهم ..

٤ ـ إن المعجزة قد تحققت ، حيث سقاهم الله الغيث في نفس الساعة التي دعا لهم فيها ، وقد أدركوا هم أنفسهم ذلك ..

ونضيف إلى النقاط المتقدمة ما يلي :

الكرامة صنع إلهي :

إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم ينسب نزول الغيث ، وحصول الخصب إلى نفسه ، بل قال : «الحمد لله ، الذي هو صنع ذلك» ، فالحمد ثناء على الله لأجل فعل اختاره سبحانه وتعالى ، ليكون بمثابة استجابة لدعائه .. ثم أكد على نفس هذا المعنى وبطريقة تفيد التخصيص والحصر به تعالى ، حيث قال :

٣٧

«هو» صنع ذلك. ولم يقل : «الذي» صنع ذلك .. وذلك لكي لا يدخل في وهم أحد من قاصري النظر أي وهم يؤثر على سلامة اعتقاده ، وذهابه بهذا الأمر إلى أكثر مما يجوز فيه ..

قتل الدعاة إلى الله :

ولا شك في أن قتل بني مرة لذلك الأنصاري كان في غاية القبح ، ومن موجبات أعظم الخزي ، فإنهم لم يقتلوا ذلك الرجل لذنب جناه ، ولا لدفع ضرر يأتي من ناحيته ، حتى ولو بمستوى أن يأكل من طعامهم ، ولا طمعا في ماله ، أو بغير ذلك مما يرتبط به .. كما أنهم لم يقتلوه لمجرد التلهي بسفك دمه ..

بل قتلوه لأنه يريد أن يعلمهم لكي يخرجهم من الظلمات إلى النور ، وينيلهم السعادة في الدنيا ، والفوز بجنات الله في الآخرة. ولأنه يحمل إليهم رسالة الله ، ويرشدهم إلى الحق والخير ، ويدعوهم إلى الهدى .. فكان جزاؤه منهم أقبح وأخزى مما جوزي به سنمار ..

وقد أدرك الحارث بن عوف هذه الحقيقة ، وأن شعر حسان بن ثابت من شأنه أن يفضح بني مرة في العرب ، ويكون له عليهم أوخم العواقب ، لا سيما وأن فعلتهم هذه قد جاءت في وقت انتصار الإسلام وانتشاره ، وقوته ، وظهور بخوع العرب له ، والتزامهم به ، وهم يرون ثمرات إسلامهم أمنا ورفعة شأن ، وصلاح أمور ، ونشوء حضارة ، وتخلصا من كثير من المشاكل ..

وإذا أصبحت فعلتهم هذه على ألسنة الشعراء ، فتلك هي المصيبة العظمى ، والداء الذي لا دواء له ، ولذلك طلب الحارث من النبي «صلى

٣٨

الله عليه وآله» أن يكف عنه لسان حسان ، فأجابه إلى ما طلب ، رحمة ورأفة ، وحسن تقدير ، وصحة تدبير ..

وفود فزارة :

روى ابن سعد ، والبيهقي عن أبي وجزة يزيد بن عبيد السعدي قال : لما رجع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من تبوك ، وكانت سنة تسع ، قدم عليه وفد بني فزارة ، بضعة عشر رجلا ، فيهم خارجة بن حصن ، والحر بن قيس بن حصن ، وهو أصغرهم ـ وهم مسنتون ـ على ركاب عجاف ، فجاؤوا مقرين بالإسلام. فنزلوا دار رملة بنت الحدث. وسألهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن بلادهم.

فقال أحدهم : يا رسول الله ، أسنتت بلادنا ، وهلكت مواشينا ، وأجدب جنابنا ، وغرث عيالنا ، فادع لنا ربك يغيثنا ، واشفع لنا إلى ربك ، وليشفع لنا ربك إليك.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «سبحان الله ، ويلك ، هذا أنا أشفع إلى ربي عزوجل ، فمن ذا الذي يشفع ربنا إليه؟

لا إله إلا هو العلي العظيم ، وسع كرسيه السماوات والأرض ، فهي تئط من عظمته وجلاله كما يئط الرحل الجديد» (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٩٤ و ٣٩٥ عن : دلائل النبوة للبيهقي ج ٦ ص ١٤٣ والطبقات الكبرى لابن سعد (ط ليدن) ج ٢ ص ٩٢ والبداية والنهاية ج ٦ ص ١٠٠ والمواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ج ٥ ص ٢٠٦ و ٢١١ وإمتاع الأسماع للمقريزي ج ٥ ص ١٢٩ وعيون الأثر لابن سيد الناس ج ٢ ص ٣٠٥ ـ

٣٩

وقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «إن الله عزوجل ليضحك من شففكم ، وأزلكم ، وقرب غياثكم».

فقال الأعرابي : يا رسول الله ، ويضحك ربنا عزوجل؟

فقال : «نعم».

فقال الأعرابي : لن نعدمك من رب يضحك خيرا (١).

فضحك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من قوله ، وصعد المنبر ، فتكلم بكلمات ، وكان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الإستسقاء. فرفع يديه حتى رئي بياض إبطيه.

وكان مما حفظ من دعائه : «اللهم اسق بلادك وبهائمك ، وانشر رحمتك ، وأحي بلدك الميت ، اللهم اسقنا غيثا مغيثا ، هنيئا مريئا ، طبقا واسعا ، عاجلا غير آجل ، نافعا غير ضار ، اللهم اسقنا رحمة ولا تسقنا عذابا ، ولا هدما ، ولا غرقا ، ولا محقا ، اللهم اسقنا الغيث ، وانصرنا على الأعداء».

فقام أبو لبابة بن عبد المنذر الأنصاري ، فقال : يا رسول الله ، التمر في المربد.

وفي لفظ : المرابد.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «اللهم اسقنا».

__________________

ـ وزاد المعاد لإبن قيم الجوزية ج ٣ ص ٥٦٩. وراجع : الدر المنثور ج ١ ص ٣٢٩ وراجع ص ٣٢٤ و ٣٢٥ عن أبي الشيخ.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٩٤ و ٣٩٥ وراجع ج ٩ ص ٤٤٣ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٦ ص ٣١٥ وزاد المعاد لإبن قيم الجوزية ج ٣ ص ٥٦٩ والبداية والنهاية ج ٦ ص ١٠٠.

٤٠