الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٨

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٨

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-200-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٩

وبذلك يتبلور لدينا شك في صحة الرواية التي تقول : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لرسولي مسيلمة : «لو لا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما» ، فقد يكون ذلك غير دقيق ، أو غير صحيح ..

منام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

ونحن نشك أيضا في صحة زعمهم : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رأى في منامه أنه وضع في كفيه سواران من ذهب الخ ..

فأولا : لماذا يكون مسيلمة والعنسي بمثابة سوارين من ذهب؟! وما معنى وضعهما في يدي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟! وما معنى نفخه لهما؟!

ثانيا : إن مسيلمة والأسود العنسي قد ادّعيا ما ادّعياه في حياة النبي وليس بعد وفاته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. كما ورد في الرواية الأولى ، وإن أخذنا بالرواية الثانية فقد صرح «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنه بينهما ، وهذا معناه : أنهما خرجا قبل وفاته ، مع أن الروايتين معا قد رويتا عن أبي هريرة!!

إلّا أن يكون المقصود هو : أنهما يعلنان الحرب بعد وفاته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. وهو مجرد احتمال لا شاهد له ، ولا دليل عليه.

ثالثا : إذا كانت اليمامة بين مكة واليمن ، وكانت صنعاء أيضا في قلب اليمن ، فما معنى قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «الكذابين اللذين أنا بينهما» ، فإن معنى كونه بينهما هو أن يكون أحدهما إلى جهة اليمن ، والآخر إلى جهة الشام ، لا أن يكونا معا في جهة واحدة ..

إلا أن يقال : ليس المراد البينيّة المكانية ، بل المقصود بينيّة مقامه ومحله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فهو نبي حقيقي مبعوث من الله ، بين متنبئين كذّابين

٢٤١

مفتريين عليه ، فلاحظ.

رابعا : إن الأسود العنسي ـ وهو عيهلة ـ قد قتل في مرض موت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقتله فيروز الديلمي قبل وفاة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بيوم ، أو يومين ، فأتاه الوحي بذلك ، فأخبر أصحابه (١). أما مسيلمة فقتل في زمن أبي بكر ، فما هو الجامع بين الرجلين في هذا المنام المزعوم؟!

وأما ما رواه الطبراني عن فيروز الديلمي من أنه قال : «أتيت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» برأس أسود العنسي» (٢) ، فنقول فيه :

١ ـ إن سائر الروايات تتناقض معه ، وتقول : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أخبر بموت الأسود ومات قبل أن يصل إليه من يخبره بذلك ، ولم يكن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يرضى بحمل رأس أحد إليه كما هو واضح. بل ذكر الذهبي : أنه «وفد على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» برأس الأسود فيما بلغنا فوجده توفي» (٣).

٢ ـ قال ابن حجر في الإصابة : «وهذا تفرد به ضمرة ، فإن رأس

__________________

(١) شرح المواهب اللدنية ج ٥ ص ١٥٥ وتفسير البيضاوي ج ٢ ص ٣٣٧ وأسد الغابة ج ٢ ص ١٣٥ والإصابة ج ٥ ص ٢٩١.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ١٠ ص ١٢٤ ومجمع الزوائد ج ٥ ص ٣٣٠ والسنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ٢٠٤ ومسند الشاميين ج ٢ ص ٣٨ والإستيعاب ج ٣ ص ١٢٦٥ وكنز العمال ج ٥ ص ٥٣٧ وج ١٤ ص ٥٤٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٩ ص ٥ و ١٦ وأسد الغابة ج ٤ ص ١٨٦ والإصابة ج ٥ ص ٢٩١.

(٣) تاريخ الإسلام للذهبي ج ٤ ص ٢٨٦ والوافي بالوفيات ج ٢٤ ص ٧٢.

٢٤٢

الأسود لم يحمل إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..» (١).

ضرس أحدكم في النار مثل أحد :

وقد ذكروا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رأى الرحال الذي شهد لمسيلمة الكذاب بالنبوة مع أبي هريرة ، وفرات بن حيان ، فقال : «ضرس أحدكم في النار مثل أحد» ، فكان أبو هريرة وفرات بن حيان خائفين ..

فارتد الرحال ، وآمن بمسيلمة وقتل معه ، فعرفوا أنه هو المقصود من بين الثلاثة (٢). وسجد الله شكرا (٣) ..

ونقول :

أولا : إن الكلام الأخير يدل على أنهم يفترضون أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يتحدث عن شخص واحد من الثلاثة ، وهو الرحّال .. وهذا ليس صحيحا ، فإن الحديث يدل على أن الأشخاص الثلاثة جميعا من أهل النار ، كما هذا هو مفاد سياق الكلام ، فإذا قيل : رأيت جماعة من بلد كذا يأكل أحدهم خروفا ، أو قيل : رأيت جماعة قلب أحدهم أقسى من الصخر ، أو يفيض طهرا وحنانا ، أو وجه أحدهم أقبح من وجه القرد ، أو أضوأ من القمر ، فإن معناه : أن جميعهم كذلك .. وقد قال تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ

__________________

(١) أسد الغابة ج ٤ ص ١٨٦.

(٢) راجع : الإستيعاب بهامش الإصابة ج ٣ ص ٢٠٣ والإصابة ج ٣ ص ٢٠١ وأبو هريرة للسيد شرف الدين ص ٢١٤.

(٣) راجع : الإستيعاب بهامش الإصابة ج ٣ ص ٢٠٣ والإصابة ج ٣ ص ٢٠١ وأبو هريرة للسيد شرف الدين ص ٢١٤.

٢٤٣

بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) (١). والمقصود : أنهم جميعا كانوا كذلك.

ومثله قوله تعالى : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) (٢).

وقوله تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) (٣).

فإن المقصود بهذه التعابير هو : الجماعة كلها ، فردا فردا ..

ثانيا : إن حرمة المؤمن عظيمة عند الله ، ولا يمكن التفريط فيها خصوصا من قبل نبي الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فلو كان مقصوده «صلى‌الله‌عليه‌وآله» واحدا من الثلاثة ، وهو الرحال ، فلا يصح ولا يجوز أن يتكلم بكلام يلقي فيه الشبهة على غيره من الأبرياء ، ويضعهم في قفص الإتهام مع علمه ببرائتهم .. لأن إلقاء الكلام بهذا النحو يسقط الثلاثة عن درجة الإعتبار ، ويدفع الناس إلى الحذر منهم وإلى إقصائهم عن أي شأن من الشؤون ، فلا يصلي أحد خلفهم جماعة ، ولا يقبل أحد شهادتهم و.. و.. الخ .. فلما ذا لا يحدد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذلك الرجل المقصود بصورة مباشرة ، إن كان هناك ضرورة لتحديده؟!

إلا أن يفترض : أن الله تعالى قد أمره بأن يثير الشبهات ، ويسقط محل هؤلاء الثلاثة جميعهم ، فلا بد أن يكونوا قد فعلوا ما يستحقون به ذلك.

__________________

(١) الآية ٥٨ من سورة النحل.

(٢) الآية ٩٦ من سورة البقرة.

(٣) الآية ١٧ من سورة الزخرف.

٢٤٤

وإذا كان هذا القول سوف يشيع بين الناس ، فلابد لدفع الشبهة عن المتضررين من إبلاغ النتيجة النهائية لكل من بلغه القول الأول .. وهذا ما لم يحصل ، بل لعله كان متعذرا بالنسبة لبعض الموارد.

ولعلك تقول : لعله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد عيّن شخص الرجل المقصود بقرينة حالية لم تصل إلينا ، أو لعل أبا هريرة وفرات بن حيان أيضا لم يلتفتا إليها ..

ونجيب : إن ذلك غير معقول :

إذ لو كان ثمة قرينة لما خفيت على أبي هريرة وفرات ، فإن المتكلم لا يعتمد على القرينة الحالية إلا حين يطمئن إلى أن المخاطب ملتفت إليها ، لأنها تكون جزءا من وسيلة خطابه له .. فإذا أعلن المقصود بالخطاب أنه لا يجد أمامه سوى الخطاب اللفظي ، فليس لنا نحن أن نتوقع العثور على قرينة ، أو أن نحتمل وجودها إلى حد إسقاط ظهور الخطاب اللفظي عن صلاحية الدلالة.

ولعلك تقول أيضا : إن المراد قد اتضح بعد ارتداد الرحال وقتله مع مسيلمة .. وهذا يكفي في دفع غائلة الإبهام المشار إليه.

ونجيب : بأن ظهور أمر الرحال قد تأخر مدة طويلة ، كان فيها أبو هريرة ، وكذلك فرات محرومين من حقوقهما ، مشكوكا في أمرهما. فلما ذا فعل بهما النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذلك؟! فإن كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد اعتمد على هذه القرينة الخارجية ، فهي قرينة منفصلة ، تؤدي إلى تأخير البيان عدة سنوات عن وقت الحاجة ، وهذا غير مقبول ، ولا سيما إذا كان يلحق الضرر بالأبرياء إلى حد الإسقاط ..

٢٤٥

ورابعا : إن هؤلاء يفترضون : أن أمر فرات بن حيان ، وأبي هريرة محسوم فيما يرتبط بصحة إيمانهما ، مع أن ذلك يصطدم بأمرين :

أحدهما : أن أمر فرات مشكوك ، بملاحظة : أنه كان قد هجا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وكان عينا لأبي سفيان ، فأمر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقتله ، فأسلم حقنا لدمه ، فأخبروا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أنه يقول : إنه مسلم ، فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إن فيكم رجالا نكلهم إلى إيمانهم ، منهم فرات بن حيان. وحسب نص ابن عقدة على ما في الإصابة : إن منكم من أتألفهم على الإسلام ، وأكله إلى إيمانه ، منهم فرات بن حيان (١).

الثاني : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد جعل أبا هريرة في دائرة الخطر مرة أخرى ، حيث قال له ولسمرة بن جندب ، وأبي محذورة الجمحي : «آخركم موتا في النار» (٢).

__________________

(١) الإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ٣ ص ٢٠٣ والإصابة ج ٣ ص ٢٠١ عن أبي داوود والبخاري في تاريخه ومستدرك الحاكم ج ٤ ص ٣٦٦ وتلخيصه للذهبي (مطبوع مع المستدرك). والإصابة (ط دار الكتب العلمية) ج ٥ ص ٢٧٣.

(٢) الإصابة ج ٢ ص ٧٩. والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ٢ ص ٧٨ وأسدا الغابة ج ٢ ص ٣٥٥ ومناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج ١ ص ٩٥ والبحار ج ١٨ ص ١٣٢ والنص والإجتهاد للسيد شرف الدين ص ٢٢٢ ومجمع الزوائد ج ٨ ص ٢٩٠ وجزء أشيب للبغدادي ص ٥٨ والمعجم الأوسط للطبراني ج ٦ ص ٢٠٨ والمعجم الكبير للطبراني ج ٧ ص ١٧٧ وشرح النهج للمعتزلي ج ٤ ص ٧٨ وأبو هريرة للسيد شرف الدين ص ٢١٥ والتاريخ الصغير للبخاري ج ١ ص ١٣٣ وتهذيب الكمال ج ١٢ ص ١٣٣ والإصابة ج ٣ ص ١٥٠ وتهذيب

٢٤٦

فزعموا : أن سمرة بن جندب سقط في قدر مملوء ماء حارا فمات ، فكان ذلك تصديقا لقول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

غير أننا نقول :

أولا : قال ابن جرير : «فما مات سمرة حتى أخذه الزمهرير ، فمات شر ميتة» (٢).

فأين الزمهرير من النار ، ومن الماء الحار؟!

فلا يصح قولهم : إنه مات في قدر حار. فضلا عن أن يكون آخر الثلاثة موتا.

ثانيا : إن الموت في الماء الحار شيء ، والموت في النار شيء آخر ، فإن الماء الحار ليس نارا.

ثالثا : لو كان المقصود هو : موته بواسطة النار ، أو الماء الذي يغلي بها ، لكان عليه أن يقول : آخركم موتا بالنار. أي بواسطتها ، أما قوله : في النار ،

__________________

التهذيب ج ٤ ص ٢٠٧ وج ١٢ ص ٢٠٠ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٤ ص ٢٣٢ والوافي بالوفيات ج ١ ص ٨٢ وج ١٥ ص ٢٧٧ والبداية والنهاية ج ٦ ص ٢٥٣ وإمتاع الأسماع ج ١٢ ص ٢٢٣ وج ١٤ ص ١٣٢ والشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض ج ١ ص ٣٣٩ وسير أعلام النبلاء ج ٣ ص ١٨٤.

(١) الإصابة ج ٢ ص ٧٩. والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ٢ ص ٧٨ وراجع : أنساب الأشراف ج ١ ص ٥٢٧.

(٢) تاريخ الأمم والملوك ج ٥ ص ٢٩٢ والغدير ج ١١ ص ٣٠ وتاريخ الطبري ج ٤ ص ٢١٧ والكامل في التاريخ ج ٣ ص ٤٩٥.

٢٤٧

فيدل على أنه سوف يدخل النار ، ويكون من أهلها.

رابعا : إن هذا النص يبين أن هؤلاء الثلاثة جميعا هم من أهل النار ، إذ لو لم يكن الأمر كذلك ، لم يصح وضع الأبرياء في موضع الشبهة طيلة حياتهم إلى حين موتهم كما يعلم بمراجعة حالهم في كتب التراجم ، بل هي لم تفارقهم إلى يومهم هذا ، لأن الأقوال في آخرهم موتا متناقضة ، لا يمكن حسم الأمر فيها بأي وجه ..

خامسا : إن حال هؤلاء الثلاثة كانت في غاية السوء من حيث ممارستهم ، وارتكابهم ما لا يجوز ارتكابه ، ولا سيما إسهامهم في وضع الحديث على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وشهاداتهم على إمامهم بالزور والبهتان ، فراجع تراجمهم في قاموس الرجال ، وفي كتاب أبي هريرة للسيد عبد الحسين شرف الدين «رحمه‌الله» وغير ذلك.

٢٤٨

الفصل الثامن :

وفود بلا تاريخ قليلة التفاصيل

٢٤٩
٢٥٠

وفد أحمس :

قال ابن سعد : قدم قيس بن غربة (١) الأحمسي في مائتين وخمسين رجلا من أحمس ، فقال لهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «من أنتم»؟!

فقالوا : نحن أحمس الله. وكان يقال لهم ذلك في الجاهلية.

فقال لهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «وأنتم اليوم لله».

وقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لبلال : «أعط ركب بجيلة ، وابدأ بالأحمسيين». ففعل.

وعن طارق بن شهاب قال : قدم وفد بجيلة على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «اكتبوا البجليين ، وابدأوا بالأحمسيين».

فتخلف رجل من قيس ، قال : حتى أنظر ما يقول لهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

قال : فدعا لهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فسمى مرات : «اللهم جد عليهم ، اللهم بارك فيهم».

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٦١ عن الطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ق ٢ ص ٧٨. والطبقات الكبرى لابن سعد (ط دار صادر) ج ١ ص ٣٤٧.

٢٥١

وفي رواية : قدم وفد أحمس ، ووفد قيس ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ابدأوا بالأحمسيين قبل القيسيين».

ثم دعا لأحمس ، فقال : «اللهم بارك في أحمس ، وخيلها ، ورجالها» سبع مرات (١).

ونقول :

إن لنا ها هنا بعض البيانات نعرضها فيما يلي :

أنتم اليوم لله :

قد ظهر : أن الأحمسيين حين عرّفوا أنفسهم لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، كانوا يريدون إظهار ما يعتبرونه امتيازا لهم ، مستفيدين من التعبير الذي كان يطلق عليهم في الجاهلية ، فقالوا : نحن أحمس الله. أي أشداء الله تبارك وتعالى.

ولكن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم ينكر عليهم ذلك صراحة ، ما دام أنهم ينسبون أنفسهم لله تبارك وتعالى ، ولكنه أدخل تصحيحا على المفهوم الذي أطلقوه ، من شأنه أن يعيد الأمور إلى نصابها ، ويفرض حالة من التوازن ، والواقعية ، والدقة حين قال لهم : «وأنتم اليوم لله ..» ، فأفهمهم أن عليهم أن يبتعدوا عن الإفراط والشطط فيما يدّعونه لأنفسهم ، فهم أحمس لله. أي أشداء في سبيل الله سبحانه ، لا أنهم أشداء الله ، وهذا هو الأنسب بمقام العبودية ، والأقرب للطاعة والإنقياد.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٦١ عن أحمد بن حنبل. ومسند أحمد ج ٤ ص ٣١٥ ومجمع الزوائد للهيثمي ج ١٠ ص ٤٩.

٢٥٢

إبدأوا بالأحمسيين :

ثم إن من يراجع حياة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلابد أن يقطع بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يميز فريقا على فريق ، إلا إذا ميزته التقوى ، والعمل الصالح ..

ولم نجد للأحمسيين هذا التميز عن غيرهم من البجليين والقيسيين في هذا أو ذاك. فلما ذا يكون هذا التفضيل لهم على بجيلة أولا ، وعلى القيسيين ثانيا؟!

ألا يثير ذلك حساسيات سلبية لا مبرر لإثارتها لدى قيس وبجيلة تجاه أحمس؟!

ولماذا لم يبادر القيسيون والبجليون إلى الإعتراض ، أو إلى الإستفهام عن سبب تقديم الأحمسيين عليهم على أقل تقدير؟!

الحماس في الدعاء لأحمس :

ثم إننا لم نستطع أن نعرف سبب تخصيص أحمس بالدعاء بالبركة فيها ، وفي خيلها ، ورجالها!! ولماذا كرر دعاءه هذا لها سبع مرات؟!

فهل كانت خيل أحمس موصوفة ومعروفة ، ومتميزة في ساحات القتال؟! وفي أية معركة ظهر لها هذا التميز والتفرد دون قيس وبجيلة؟!

وهكذا يقال بالنسبة لرجال أحمس ، حيث لابد من السؤال عن مواقفهم المشهورة ، التي أظهروا فيها تفوقهم على القيسيين وعلى إخوانهم من البجليين في ساحات الجهاد!!

٢٥٣

وفود قيس بن غربة :

إن الرواية المتقدمة تقول : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سأل الوفد الذي قدم مع قيس بن غربة : من أنتم؟!

فأخبروه أنهم أحمس الله ..

وهذا يشير إلى : أن هذه كانت أول مرة يفدون فيها إليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. ولذلك سألهم أن يعرّفوا له أنفسهم ، ولو أنه كان قد رآهم قبل ذلك ، أو رأى زعيمهم قيس بن غربة لعرفه وعرّفه ، أو لخصه هو بالسؤال عن سبب مجيئه ، وعن هوية الذين جاؤوا معه ..

مع أن ثمة نصا آخر يقول : إن قيس بن غربة كان قد قدم على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأمر منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قبل ذلك ،

قال الراوندي : «روي أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كتب إلى قيس بن عرنة (غربة) البجلي يأمره بالقدوم عليه ، فأقبل ومعه خويلد بن الحارث الكلبي ، حتى إذا دنا من المدينة هاب الرجل أن يدخل ..

فقال له قيس : أما إذا أبيت أن تدخل ، فكن في هذا الجبل حتى آتيه ، فإن رأيت الذي تحب أدعوك ، فاتبعني ، فأقام. ومضى قيس حتى إذا دخل على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المسجد ، فقال : يا محمد ، أنا آمن؟!

قال : نعم ، وصاحبك الذي تخلف في الجبل الخ ..» (١).

__________________

(١) الخرائج والجرائح (ط مؤسسة الإمام المهدي ـ قم) ج ١ ص ١٠٣ والبحار ج ٢٢ ص ٧٦ وج ١٨ ص ١١٧ عنه ، ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٢٠٤.

٢٥٤

إختلاف الروايات :

ثم إن ملاحظة الروايات تعطي : أن ثمة اختلافا فيما بينها ، في عدد ذلك الوفد ، فرواية ابن سعد المتقدمة ، تقول : إن قيس بن غربة وفد في ماءتين وخمسين رجلا من أحمس ..

وفي نص آخر : وفد إليه في خمس مائة من أحمس ، وقدم جرير بن عبد الله البجلي في ماءتين من قيس ، والحجاج بن ذي الأعنق الأحمسي في رهطه (١).

فأي ذلك هو الصحيح؟!

على أننا لا نجد ما يدعو لإيفاد هذا العدد الهائل من الناس .. خمس مائة يضاف إليها مئتان من قيس ، ثم يضاف إلى هؤلاء وأولئك رهط الحجاج بن ذي الأعنق الأحمسي ..

ولا ندري إن كان الأحمسيون كلهم يبلغون هذه الأعداد الكبيرة!! بل إذا كان وفدهم يصل إلى هذا العدد ، فلابد أن يكون من بقي منهم في بلادهم ، ليحمي البلاد والعباد ، ويدفع الغارات عن المال والعرض ، ويحفظ النساء والصبيان أضعاف هذا العدد!.

غزو خثعم بالأحمسيين :

وقد أضافت بعض الروايات : أن نفس وفد الأحمسيين ، وقيس قد «تنادوا عند النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فبعث معهم ثلاث مائة من الأنصار ، وغيرهم

__________________

(١) الإصابة ج ٣ ص ٢٥٦ وفي (ط دار الكتب العلمية) ج ٥ ص ٣٧٤.

٢٥٥

من العرب ، فأوقعوا بخثعم باليمن» (١).

ونحن وإن كنا لم نستطع أن نفهم المراد من تناديهم في محضر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فإننا لم نستطع أيضا أن نؤكد صحة ادّعاء إرسالهم في سرية إلى خثعم ، فإن سرية بهذا المستوى ، وبهذه الكثرة ، وقد وصلت إلى اليمن ، وأوقعت بقبيلة مثل خثعم ، لا يمكن أن تخفى أخبارها عن الرواة والمؤرخين ، إلى حد أنهم لم يتمكنوا من التصريح حتى باسم أمير تلك السرية ، ولا ذكروا لنا شيئا عن تفاصيل ما جرى لها ومنها!! ولم نعرف إن كانت قد جاءت بأسرى وسبايا وغنائم!! أم لم تحصل على شيء من ذلك!! ..

كما أننا لا نعرف شيئا عن عدد القتلى من خثعم ، ولا ذكر أحد لنا اسم أحد من المقتولين من هذه القبيلة!!.

وفود غافق :

وقالوا : وفد جليحة بن شجار بن صحار الغافقي على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في رجال من قومه ، فقالوا : يا رسول الله نحن الكواهل من قومنا ، وقد أسلمنا وصدقاتنا محبوسة بأفنيتنا.

فقال : «لكم ما للمسلمين ، وعليكم ما عليهم».

فقال عوذ بن سرير الغافقي : آمنا بالله واتبعنا رسوله (٢).

__________________

(١) الإصابة ج ٣ ص ٢٥٦.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٩٠ عن طبقات ابن سعد (ط ليدن) ج ٢ ص ١١٥. وفي (ط دار صادر) ج ١ ص ٣٥٢.

٢٥٦

وفود حضرموت :

قالوا : وقدم وفد حضرموت مع وفد كندة على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهم بنو وليعة ملوك حضرموت : جمد ، ومخوس ، ومشرح ، وأبضعة ، فأسلموا.

وقال مخوس : يا رسول الله ، ادع الله أن يذهب عني هذه الرتّة من لساني.

فدعا له ، وأطعمه طعمة من صدقة حضرموت (١).

وعن أبي عبيدة من ولد عمار بن ياسر قال : وفد مخوس بن معدي كرب بن وليعة فيمن معه على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ثم خرجوا من عنده ، فأصابت مخوس اللقوة ، فرجع منهم نفر ، فقالوا : يا رسول الله ، سيد العرب ضربته اللقوة ، فادللنا على دوائه.

فقال : «خذوا مخيطا ، فاحموه في النار ، ثم اقلبوا شفر عينه ، ففيها شفاؤه ، وإليها مصيره ، فالله أعلم ما قلتم حين خرجتم من عندي». فصنعوا به فبرأ (٢).

عن عمرو بن مهاجر الكندي قال : كانت امرأة من حضرموت ، ثم من تنعة يقال لها : تهناة بنت كليب صنعت لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٢١ عن ابن سعد ، وفي هامشه عن : الطبقات الكبرى (ط ليدن) ج ٢ ص ١١٢. وفي الطبقات الكبرى (ط دار صادر) ج ١ ص ٣٤٩.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٢١ عن ابن سعد. والطبقات الكبرى لابن سعد (ط دار صادر) ج ١ ص ٣٥٠.

٢٥٧

كسوة ، ثم دعت ابنها كليب بن أسد بن كليب. فقالت : انطلق بهذه الكسوة إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأتاه بها وأسلم ، فدعا له ، وقال كليب حين أتى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» :

من وشز برهوت يهوي بي عذافرة

إليك يا خير من يحفى وينتعل

تجوب بي صفصفا غبرا مناهله

تزداد عفوا إذا ما كلت الإبل

شهرين أعملها نصا على وجل

أرجو بذاك ثواب الله يا رجل

أنت النبي الذي كنا نخبره

وبشرتنا به التوارة والرسل (١)

معنى النبوة في وجدان الناس :

تقدم : أن أحد ملوك حضرموت يطلب منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يدعو الله له ليذهب الرتّة من لسانه ، كما أنه حين ضربته اللقوة رجع منهم إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفر فطلبوا منه أن يدلهم على دوائه .. وهذا معناه : أن المرتكز في نفوس الناس هو : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن مجرد سياسي حاكم أو معلّم ومبلّغ للشريعة ، أو قاض ، أو قائد ، أو مصلح اجتماعي. بل هو أيضا بنظرهم طبيب عالم بالدواء ويدلهم عليه ، وهو أيضا حلال مشكلاتهم ، وشافعهم عند الله ، وهو الذي يأتيهم الغيث بدعائه ، وهو الذي يطلب من الله أن يزيل الرتّة من لسان من ابتلي بها ، إلى

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٢١ و ٣٢٢ عن ابن سعد. والطبقات الكبرى لابن سعد (ط دار صادر) ج ١ ص ٣٥٠ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣ ص ٣٩٩ والأعلام للزركلي ج ٥ ص ٢٣٢ والإصابة ج ٥ ص ٤٦٤.

٢٥٨

غير ذلك مما يجده المتتبع لما جرى بينه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وبين من وفد عليه من القبائل المختلفة ، والبلاد المتباعدة ..

وهذا الأمر يدلنا على أن هذا الفهم لمعنى النبوة هو أمر استقر في نفوسهم ، وفي وجدانهم بصورة عفوية ، ولم يستفده الناس من تعليم معلم ، ولا من تصريح صادر عن نبي أو وصي ..

ويلاحظ أيضا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يستجيب لهم ، ولم يقل لأحد منهم ولو مرة واحدة : إن ذلك لا يدخل في صلاحياتي ، أو لم تصل إليه معرفتي ، أو ليس من اختصاصي.

البشائر بالرسول :

وقد أظهر الشعر الذي قاله كليب : أن بشائر اليهود بالنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وما بلغ الناس عن الأنبياء من تأكيد على ظهوره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أسهم في حسم الأمور لدى الكثيرين ، فآمنوا به «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وكان لهم بذلك الفوز العظيم.

وفادة الحكم بن حزن الكلفي :

عن الحكم بن حزن قال : قدمنا على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سابع سبعة ، أو تاسع تسعة ، فأذن لنا فدخلنا ، فقلنا : يا رسول الله ، أتيناك لتدعو لنا بخير ، فدعا لنا بخير ، وأمر بنا فأنزلنا ، وأمر لنا بشيء من تمر ، والشأن إذ ذاك دون.

فلبثنا أياما ، فشهدنا بها الجمعة مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقام متوكئا على قوس أو عصا ، فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات ،

٢٥٩

طيبات مباركات ، ثم قال : «يا أيها الناس ، إنكم لن تطيقوا أن تفعلوا كل ما أمرتم به ، ولكن سددوا وأبشروا (١).

ونقول :

١ ـ إن قوله : أو تاسع تسعة لعله ليس من كلام الحكم بن حزم ، بل هو من كلام الراوي عن الكتاب ، إذ إنه كثيرا ما يشتبه الأمر على القارئ في هذا المورد لتقارب الرسم بين كلمتي سبع ، وتسع ، مع ملاحظة : أن النقط للحروف لم يكن شائعا آنئذ.

٢ ـ ويلاحظ أيضا : أن الناس كانوا يقصدون النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لمجرد طلب الدعاء منه لهم.

وهذا يشير إلى : أن له موقعا خاصا في نفوسهم وقلوبهم ، وأن الأمر لدى الكثيرين قد تجاوز موضوع القناعة ، وإظهار الإعتقاد ، لتصبح علاقتهم برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» علاقة مشاعرية وروحية ووجدانية.

وفود بني بكر بن وائل :

قال ابن سعد : قدم وفد بكر بن وائل على رسول الله «صلى الله عليه

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٨ ص ٢٢٢ وج ٦ ص ٣٢٢ عن أحمد ، وأبي داود ، والبيهقي واللفظ له. وفي هامشه عن : كنز العمال (٥٢١٩). ومسند أحمد ج ٤ ص ٢١٢ ونيل الأوطار ج ٣ ص ٣٣٠ وسنن أبي داود ج ١ ص ٢٤٦ والمعجم الكبير للطبراني ج ٣ ص ٢١٣ ومعرفة السنن والآثار للبيهقي ج ٢ ص ٤٩٠ وكنز العمال ج ٣ ص ٦٧١ وأسد الغابة ج ٢ ص ٣٢ وراجع : تاريخ مدينة دمشق ج ٢٣ ص ٢٠٩ وتهذيب الكمال ج ٧ ص ٩٣.

٢٦٠