الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٨

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٨

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-200-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٩

قال : «ادن مني».

فدنا منه. فقال : «هل بك برص تكتمه»؟

قال : والذي بعثك بالحق نبيا ما علم به أحد ، ولا اطلع عليه غيرك.

قال : «فهو ذلك».

قال : يا رسول الله ، ورأيت النعمان بن المنذر وعليه قرطان ، ودملجان ، ومسكتان.

قال : «ذلك ملك العرب عاد إلى أحسن زيه وبهجته».

قال : يا رسول الله ، ورأيت عجوزا شمطاء خرجت من الأرض.

قال : «تلك بقية الدنيا».

قال : ورأيت نارا خرجت من الأرض ، فحالت بيني وبين ابن لي يقال له : عمرو ، ورأيتها تقول : لظى لظى ، بصير وأعمى ، أطعموني آكلكم آكلكم ، أهلككم وما لكم.

فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «تلك فتنة في آخر الزمان».

قال : وما الفتنة يا رسول الله؟

قال : «يقتل الناس إمامهم ثم يشتجرون اشتجار أطباق الرأس ـ وخالف رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بين أصابعه ـ يحسب المسيء أنه محسن ، ودم المؤمن عند المؤمن أحلى من شرب الماء ، إن مات ابنك أدركت الفتنة ، وإن مت أنت أدركها ابنك».

فقال : يا رسول الله ، ادع الله ألا أدركها.

فقال له رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «اللهم لا يدركها».

١٦١

فمات وبقي ابنه ، وكان ممن خلع عثمان (١).

ونقول :

إن لنا مع النص المتقدم وقفات عديدة ، نذكر منها ما يلي :

فتنة آخر الزمان :

تقول الرواية المتقدمة : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد فسر رؤيا النار التي حالت بين ذلك الرجل وبين ابنه بفتنة في آخر الزمان ، يقتل فيها الناس إمامهم .. ثم طبق تلك الفتنة على قتل عثمان.

ويرد على ذلك :

أن قتل عثمان لم يكن في آخر الزمان ، وقد حاول الزرقاني حل هذا الإشكال فقال : «سماه آخرا مع أنها قتل عثمان ، على معنى أنه لغلظ أمره وفحشه بمنزلة ما يكون في آخر الزمان ، الذي تندرس فيه الأحكام وتزول حتى كأنها لا أثر لها ، أو أن المراد آخر زمان الخلافة الحقيقية التي جروا فيها على سنن المصطفى ، وسماها آخرا مع أنه بقي منها مدة علي وابنه ، لقرب قتل عثمان من آخرها» (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤٢٣ و ٤٢٤ عن ابن شاهين من طريق المدائني ، وابن الكلبي ، والمواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ج ٥ ص ٢٣٥ ـ ٢٣٨ ، والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٥ ص ٥٣٢ ، وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٦ ص ١٤ ، وعيون الأثر ج ٢ ص ٣٢١ ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٧٩.

(٢) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٥ ص ٢٣٧.

١٦٢

غير أننا نقول :

إنها محاولة فاشلة :

أولا : لأن الأحكام لم تندرس بقتل عثمان حتى كأنها لا أثر لها ، بل اندرست في زمن عثمان ، وزمن من سبقه ، وقد أعادها علي «عليه‌السلام» ، وستعود إلى الإندراس في أزمنة لاحقة على زمان علي «عليه‌السلام» ، وقد أشار صلوات الله عليه إلى هذه الأمور الثلاثة حيث قال لأهل العراق : «وركزت فيكم راية الإيمان ، وعرفتكم حدود الحلال والحرام» (١).

وقال «عليه‌السلام» : «إن هذا الدين قد كان أسيرا في أيدي الأشرار ، يعمل فيه بالهوى ، وتطلب به الدنيا» (٢).

وعنه «عليه‌السلام» أنه قال : «يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه من القرآن إلا رسمه ومن الإسلام إلا اسمه» (٣).

وقد ذكرنا في الجزء الأول من هذا الكتاب نصوصا أخرى في هذا السياق ، فلا حاجة لإعادتها. فذلك كله يشير إلى أن الإسلام كان قبل قتل عثمان ، وحينه قد تعرض لأعظم الأضرار نتيجة للسياسات التي انتهجها أسلاف أمير المؤمنين «عليه‌السلام» (٤). ولكن عليا «عليه‌السلام» أعاد إليه رونقه ..

__________________

(١) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج ١ ص ١٥٣ ، والبحار ج ٣٤ ص ٢٠٩ ، وشرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٣٨٠ ، وأعلام الدين في صفات المؤمنين للديلمي ص ١٢٨.

(٢) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج ٣ ص ٩٥ من عهده «عليه‌السلام» للأشتر.

(٣) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج ٤ ص ٨٧ الحكمة رقم ٣٦٩ و ١٩٠.

(٤) راجع : الجزء الأول من هذا الكتاب فصل : «الدوافع والأهداف ، والآثار والنتائج».

١٦٣

ثانيا : دعواه : أن خلافة عثمان هي آخر زمان الخلافة الحقيقية التي جروا فيها على سنن المصطفى «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. مردودة عليه ، فإن الأحكام والأمور قد جرت في خلافة علي أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، ثم في خلافة ولده الإمام الحسن «عليهما‌السلام» على سنن المصطفى «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بعد أن خالف من سبقهما سنته وحادا عن طريقته ونهجه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. بل خلافتهما هي التي أعادت الناس إلى ما كان على عهد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأعلن أصحاب الأطماع عليهما الحروب في الجمل وصفين والنهروان. وبعد ذلك حين استولى معاوية على البلاد ، وأذل العباد.

ثالثا : إن الزرقاني يريد تطبيق مفهوم الفتنة على حروب البغاة على علي «عليه‌السلام» ، مع أن الفتنة هي التي لا يعرف وجه الحق فيها ، في حين أن وجه الحق معروف في حروب الجمل وصفين والنهروان ، فإن الحق كان مع علي «عليه‌السلام» ، وكان محاربوه بغاة عليه.

ويزيد الأمر وضوحا كثرة ما روي عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في شأن الناكثين والقاسطين والمارقين ، وفي شأن الخوارج ، وفيما أخبر به «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عائشة والزبير ، من أنهما سيحاربان عليا «عليه‌السلام» ، مع ذكره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى لبعض جزئيات ما يجري ، مثل ركوبها الجمل الأدبب ، ونباح كلاب الحوأب عليها ، وغير ذلك ..

متى قدم زرارة بن عمرو؟! :

تقدم في رواية أسيد : أن زرارة بن عمرو قدم على النبي «صلى الله عليه

١٦٤

وآله» سنة إحدى عشرة ، ولكن آخرين يقولون : إنه قدم في نصف رجب سنة تسع (١). قال الزرقاني : «فيحتمل أنه وفد فيها ، ثم وفد مع قومه سنة إحدى عشرة» (٢).

غير أن النص المتقدم قد صرح : بأن اللواء الذي عقده النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لزرارة بن عمرو على قومه قد كان مع زرارة يوم الفتح ، وهذا معناه : أن وفادته على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قبل فتح مكة في سنة ثمان ، وكان زرارة قبل ذلك نصرانيا.

ويدل هذا أيضا على : أن النخع قد أرسلوا رجلين منهم إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قبل فتح مكة ، ثم قدم عليه منهم مائتا رجل في المحرم سنة إحدى عشرة (٣).

حديث رؤيا زرارة :

وعن رؤيا زرارة نقول :

١ ـ ما المقصود بملك العرب فيها؟! هل هو ملك أبي بكر وعمر وعثمان! أم ملك بني أمية؟! وهل هذا الملك كان حسنا بنظر رسول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

٢ ـ وما معنى أن يحال بين زرارة وبين ولده ، في حين أن ولده كان ممن

__________________

(١) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٥ ص ٢٣٤ عن ابن عبد البر ، والذهبي ، والوافي بالوفيات ج ١٤ ص ١٢٩ ، والإصابة ج ٢ ص ٤٦٣.

(٢) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٥ ص ٢٣٤ وقال : كذا في النور.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤٢٣.

١٦٥

خلع عثمان وبايع عليا «عليه‌السلام» .. فهل من يبايع عليا «عليه‌السلام» يهلك ، وتأكله نار الفتنة؟!

ولماذا وبماذا نجا زرارة؟! هل نجا لأنه شارك في حرب القادسية ، وقتل فيها؟!

٣ ـ أضف إلى ذلك ما قدمناه مما يرتبط بالفتنة ، كما يزعم هؤلاء.

١٦٦

الفصل السابع :

خمسة وفود بلا تاريخ

١٦٧
١٦٨

١ ـ وفد أزد شنوءة :

عن منير بن عبد الله الأزدي قال : قدم على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» صرد بن عبد الله الأزدي في وفد من الأزد ، بضعة عشر رجلا (خمسة عشر) ، فنزلوا على فروة بن عمرو ، فحباهم وأكرمهم. وأقاموا عنده عشرة أيام ، فأسلموا ، وكان صرد أفضلهم ، فأمّره رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على من أسلم من قومه ، وأمره أن يجاهد بهم من يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن (وكان ذلك سنة عشر).

فخرج صرد يسير بأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حتى نزل بجرش (مخلاف من مخاليف اليمن) ، وهي يومئذ مدينة حصينة مغلقة ، وبها قبائل من اليمن قد تحصنوا بها ، وقد ضوت إليهم خثعم ، فدخلوها معهم حين سمعوا بمسير المسلمين إليهم. فدعاهم إلى الإسلام ، فأبوا ، فحاصرهم شهرا أو قريبا منه ، وكان يغير على مواشيهم فيأخذها.

ثم تنحى عنهم إلى جبل يقال له : شكر ، فظنوا أنه قد انهزم ، فخرجوا في طلبه حتى أدركوه.

فصف صفوفه ، فحمل عليهم هو والمسلمون ، فوضعوا سيوفهم فيهم حيث شاءوا ، وأخذوا من خيلهم عشرين فرسا ، فقاتلوهم عليها نهارا طويلا.

١٦٩

وقد كان أهل جرش بعثوا إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رجلين منهم يرتادان وينظران (أي يطلبان الأخبار).

فبينما هما عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عشية بعد العصر ، إذ قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «بأي بلاد الله شكر»؟

فقال الجرشيان : يا رسول الله ، ببلادنا جبل يقال له : كشر بذلم يسميه أهل جرش.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ليس بكشر ، ولكنه شكر».

قالا : فما شأنه يا رسول الله؟

قال : «إن بدن الله لتنحر عنده الآن».

وأخبرهما رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بملتقاهم ، وظفر صرد بهم.

فجلس الرجلان إلى أبي بكر وعثمان ، فقالا لهما : ويحكما ، إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لينعي لكما قومكما ، فقوما إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فسلاه أن يدعو الله أن يرفع عن قومكما.

فقاما إليه ، فسألاه أن يدعو الله أن يرفع عنهم.

فقال : «اللهم ارفع عنهم».

فخرجا من عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» راجعين إلى قومهما ، فوجدا قومهما قد أصيبوا يوم أصابهم صرد بن عبد الله في اليوم الذي قال فيه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما قال ، وفي الساعة التي ذكر فيها ما ذكر.

قال ابن سعد : فقصّا على قومهما [القصة] ، فخرج وفد جرش حتى قدموا على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأسلموا.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «مرحبا بكم ، أحسن الناس وجوها ،

١٧٠

وأصدقه لقاء ، وأطيبه كلاما ، وأعظمه أمانة ، أنتم مني وأنا منكم». وجعل شعارهم مبرورا ، وأحمى لهم حمى حول قريتهم ، على أعلام معلومة ، للفرس والراحلة ، [وللمثيرة] بقرة الحرث ، فمن رعاه من الناس فماله سحت (١).

وقد سميت الأزد : أزد شنوءة لشنآن كان بينهم.

ونقول :

إن لنا مع هذه النصوص وقفات عديدة هي التالية :

بذن الله تنحر عند شكر :

إننا لم نعرف سبب وصف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأولئك المشركين الذين يقتلون بأيدي المسلمين بأنهم «بدن الله» تبارك وتعالى!! مع أن البدن لا يبغضها الله تبارك وتعالى ، بل هي محبوبة له ، وهي من شعائر الله عزوجل ، قال تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ٦ ص ٢٦٢ عن ابن سعد ، وقال في هامشه : أخرجه البيهقي في الدلائل ج ٥ ص ٣٧٢ و ٣٧٣ ، وابن هشام في سيرته ج ٤ ص ٢٣٤.

وراجع : المواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ج ٥ ص ١٦٩ ـ ١٧١ وتاريخ الأمم والموك ج ٣ ص ١٣٠ و ١٣١ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٧٤ وصحبة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ص ١٢٠ والروض الأنف ج ٤ ص ٢٢٤ والإصابة ج ٢ ص ١٨٢ وأسد الغابة ج ٣ ص ١١٧ والدرر لابن عبد البر ص ١٩٥ والطبقات الكبرى لابن سعد (ط دار صادر) ج ١ ص ٣٣٧ و ٣٣٨ و (ط ليدن) ج ١ ق ٢ ص ٧١ و ٦٣ عن السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٥٧ و (ط دار المعرفة) ص ٢٦٢ وعن السيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) ج ٣ ص ٢٩ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٢٩٥.

(٢) الآية ٣٦ من سورة الحج.

١٧١

وهؤلاء كفرة أرجاس محاربون لأهل الإسلام ، مبغضون له تبارك وتعالى ..

على أنه لو كان المقصود مجرد تشبيهم بالبدن في عدم الوعي ، وفقد الإدراك ، فلما ذا أضاف البدن إليه تبارك وتعالى؟! فإن إضافتهم إليه تفيد التشريف والتكريم لهم!! ..

وبذلك يظهر : عدم صحة ما زعمه الزرقاني : من أن «إطلاق البدن عليهم استعارة ، أو تشبيه بليغ ، وأصله : أن قومكم الذين هم كالبدن في عدم الإدراك ، حيث لم يؤمنوا ، وحاربوا المسلمين ، وإضافتهم إلى الله إشارة إلى تحقيق الإستعارة ، حيث جعلوا كالبدن التي تنحر تقرّبا ، أو إشارة إلى أنهم مخلوقون لله ، مغمورون بأنعامه ، فأضافهم إليه توبيخا لهم على عدم الإيمان ..» (١).

فإن هذه الأقوال لا تعدو كونها تمحلات سمجة ، وممجوجة ؛ فإن ما زعمه من الإضافة التي تفيد تحقيق الإستعارة!! إذا كانت موجبة لتشويش المعنى ، وإيهام خلاف المقصود تصبح معيبة ، ولا يمكن أن تصدر عن أحكم الحكماء ، وأعقل العقلاء ، وأبلغ البلغاء. أعني رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

وأما ادّعاء : أن إضافتهم إليه تعالى لتوبيخهم على عدم الإيمان ، فلا نجد له مبررا أيضا سوى التحكم ، والإقتراح ، وفرض التوجيهات والتأويلات السخيفة ، من دون دلالة عليها ، أو إشارة إليها ..

__________________

(١) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٥ ص ١٧٠.

١٧٢

تفويض حرب المشركين لصرد الأزدي :

وتحدثت الرواية المتقدمة أيضا عن : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد فوض لصرد الأزدي حرب من يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن ..

مع أن هذا الرجل قد أسلم لتوه ، ولم يتفقه بعد في الدين ، ولا تأدب بآداب الإسلام ، ولا عرف أحكامه ؛ فما معنى تفويضه بحرب المشركين من قبائل اليمن؟ وللحرب حدودها وأحكامها في الإسلام ..

كما أن من المفروض هو أن يدعوهم إلى الإسلام أولا ، وأن يقدم لهم الأدلة والبراهين عليه ، وأن ينشر لهم أعلامه ، ويعلمهم أحكامه ، في حين أنه هو نفسه كان جاهلا بها ، والحال أن فاقد الشيء لا يعطيه ، بل هو غير قادر على أن يطبقه على نفسه ويراعيه .. فكيف يدعو الناس إليه ، ويحملهم عليه؟! ..

هل فتحت جرش عنوة أو صلحا؟! :

ويبقى أمامنا سؤال محير ، يحتاج إلى جواب ، وهو :

كيف فتحت مدينة جرش؟! هل فتحت عنوة ، بعد حصارها ، ثم بعد معركة هائلة تعرض فيها الجرشيون للقتل الذريع؟! حيث وضع المسلمون فيهم سيوفهم حيث شاؤوا؟ أم أنها فتحت صلحا؟

إن الرواية التي نحن بصدد معالجتها لعلها تشير إلى أنها فتحت عنوة ، وبعد حصار وقتال وأعداد كبيرة من القتلى ..

مع أنهم يقولون : إنها فتحت سنة عشر في حياة النبي «صلى الله عليه

١٧٣

وآله» صلحا على الفيء ، وأن يتقاسموا العشر ، ونصف العشر (١).

وعن الزهري : «أسلم أهل بتالة وجرش من غير قتال ، فأقرهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على ما أسلموا عليه ، وجعل على كل حالم ممن بهما من أهل الكتاب دينارا ، واشترط عليهم ضيافة المسلمين ، وولى أبا سفيان بن حرب على جرش (٢).

أو بعث عليهم عبد الله بن ثور ، أحد بني الغوث (٣).

وروى الواقدي : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» توفي وعامله على جرش صرد بن عبد الله الأزدي (٤).

فأي ذلك هو الصحيح؟!

أسئلة أخرى تحتاج إلى جواب :

وهناك أسئلة عديدة ، ترتبط بنصوص الرواية التي نحن بصددها ، لا نجد لها جوابا مقنعا ومقبولا ، فلاحظ ما يلي :

١ ـ إذا كان صرد بن عبد الله قد حاصر بمن معه مدينة جرش ، فمعنى ذلك : أن لا يخرج أحد منهم من المدينة ، وأن لا يدعوا ماشيتهم تخرج إلى خارج المدينة أيضا ، لأن ذلك سيعرضها ويعرضهم للخطر الأكيد.

فما معنى قولهم : «وكان يغير على مواشيهم فيأخذها»؟!

__________________

(١) معجم البلدان ج ٢ ص ١٢٦ والمفصل ج ١ ص ١٧١.

(٢) فتوح البلدان ص ٧١ ومعجم البلدان لياقوت ج ٢ ص ٩.

(٣) تاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٤٢٧ والكامل ج ٢ ص ٤٢١.

(٤) الإصابة ج ٢ ص ١٨٢.

١٧٤

فهل كانت مواشيهم ظاهرة لهم ، وفي متناول أيديهم؟!

٢ ـ والمحاصر هو : المهزوم ، في واقع الأمر ، فإنه لعجزه عن مواجهة عدوه ، أخفى نفسه عنه وراء الأحجار ، والأسوار ، والذين يحاصرونه ، هم المنتصرون الذين يلاحقونه ، ويجهدون للوصول إليه بمزيد من التصميم والإصرار ، فإذا انصرف هذا المنتصر عن حصار عدوه ، فذلك لا يجعله منهزما ، بل يكون منكفئا عنه.

فما معنى قول الرواية السابقة : «فظنوا أنه قد انهزم»؟! إلا إذا أريد بالهزيمة هنا معنى آخر ، يختلف عما يعطيه ظاهر هذه الكلمة.

٣ ـ ومع غض النظر عن هذا وذاك ، فإنه إذا كان الجرشيون قادرين على مواجهة عدوهم ، ولديهم الجرأة على الوقوف في وجهه ، فلما ذا اختبأوا منه داخل حصونهم طيلة شهر كامل؟!

ولماذا لم يبرزوا لقتاله من أول يوم حل فيه بساحتهم؟!

٤ ـ وبعد قتالهم يوما كاملا ، وبعد أن وضع المسلمون سيوفهم فيهم حيث شاؤوا ، وبعد أن أخذوا من خيلهم عشرين فرسا .. وأوقعوا فيهم تلك الضربة القاصمة والهائلة ، نعم .. بعد ذلك كله ، ما ذا كانت النتيجة؟! وما ذا صنع المسلمون تجاه أعدائهم؟ هل تركوهم يرجعون إلى حصنهم بصورة طبيعية؟ أم أنهم طاردوهم إلى باب الحصن؟! وحين بلغوا إلى الباب هل زاحموهم على الدخول فيه؟ أم انكفأوا عنهم؟! وهل تمكنوا من عرقلة دخولهم ، أو دخول بعضهم إليه؟! ..

وإذا كان ذلك قد حصل فعلا ، أو حتى لو كان ذلك لم يحصل أيضا ، فالسؤال هو : كم من الناس أسر المسلمون في تلك الوقعة؟! وهل عادوا إلى

١٧٥

حصار جرش ، بعد أن حققوا هذا الإنتصار الكبير عليهم؟! أم أنهم تركوها غارقة في مصائبها التي حلت بها؟! ..

٥ ـ وعن الرجلين الذين كانا يتجسسان على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لصالح أهل جرش ، نسأل : هل كان المسلمون يعرفون شيئا عن هذين الرجلين الغريبين؟! وإذا كان الجواب بالإيجاب فلما ذا تركوهما يسرحان ويمرحان بلا حسيب ولا رقيب ..

وإن كان الجواب بالنفي ، فهل حاولوا أن يتعرفوا عليهما؟! وهل سألهما أحد عن بلدهما ، وعن سبب قدومهما ، وعن دينهما ، وما إلى ذلك؟ وبماذا أجابا؟! وهل كان جوابهما مقنعا؟! وهل؟ وهل؟

إن الحقيقة هي : أن سياق ما جرى لهما في محضر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يدل على أنهما كانا يتجاهران بالانتساب إلى بلدهما ، ويتحدثان عنه ويشفعان لأهله لدى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأمام جماعة المسلمين ، ويتصرفان بصورة عادية وطبيعية!!

علاقة الجاسوسين بأبي بكر وعثمان :

وأغرب شيء سمعناه وقرأناه في هذه الرواية ، هو تصريحها بوجود علاقة مميزة فيما بين هذين الجاسوسين وبين أبي بكر وعثمان.

فقد أظهر ذلك النص ، الأمور التالية :

١ ـ ما معنى : أن يختلي جاسوسان جاء الرصد حركة المسلمين برجلين هما بنظر الكثيرين ، من الكبار والأعيان ، ويعيشان الطموح ويخططان للحصول على أعظم مقام بعد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

١٧٦

٢ ـ لماذا اجتمع هذان الجاسوسان بأبي بكر وعثمان فقط؟! وأين كان عمر بن الخطاب عن هذا الإجتماع؟ ونحن نجد الإقتران الدائم بين أبي بكر وعمر في مختلف الحالات والوقائع ..

ثم أين كان أبو عبيدة ، وابن عوف .. وسالم وغير هؤلاء ممن يعدون فريقا واحدا؟!

٣ ـ لما ذا يحرض أبو بكر وعثمان ذينك الجاسوسين على الطلب من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يدعو الله لرفع البلاء عن قوم مشركين ، محاربين لله ولرسوله؟! ولماذا يسعى أبو بكر وعثمان لرفع القتل عنهم ، ومنع المسلمين من الظفر بهم؟! ..

وما معنى هذا العطف منهما على أولئك المشركين؟!.

٤ ـ وفي محاولة للتخفيف من سماجة هذا الواقع الهجين ، قال الزرقاني :

إن قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : اللهم ارفع عنهم ، إنما أجيب في الذين في القرية ، دون من في الجبل ، لوقوعها بعد قتلهم (١).

والهدف من هذا التوجيه هو : تجنب القول : بأن مطلوب أبي بكر وعثمان والجاسوسين هو رفع البلاء عن الذين أخذتهم سيوف المسلمين ، ليسلم منهم من لم تحصده تلك السيوف ، بل يكون المطلوب هو : مجرد رفع البلاء عن الذين بقوا في الحصن ، ولم يخرجوا منه ، فإنهم هم الذين حين علموا بما جرى للجاسوسين مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أرسلوا وفدهم إليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بإسلامهم ..

__________________

(١) شرح المواهب للزرقاني ج ٥ ص ١٧١.

١٧٧

غير أن هذا التوجيه غير مقبول ولا معقول ، لأنه يتنافى ، بل يتناقض مع صريح الرواية .. كما لا يخفى على من لاحظ كلماتها ، وعباراتها ..

فإن أبا بكر وعثمان قد طلبا من الجاسوسين أن يطلبا من النبي الدعاء برفع البلاء عن الذين أخبر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عنهم ، بأنهم ينحرون كالبدن ، ويتعرضون للقتل والفناء ، بسيوف المسلمين ..

على أن قول الزرقاني : إن دعاء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» برفع البلاء عنهم ، إنما حصل بعد قتل من قتل ، لا يحل الإشكال ، فإن المفروض : أن بعضهم قد قتل ، ولكن المعظم قد بقي ، فجاءت الدعوة لكي تحفظ وتنجي من بقي وكان في معرض القتل ، وأما الذين بقوا في الحصن فلا داعي للدعاء لهم ، فقد كانوا في مأمن من كل سوء ..

٦ ـ ألا يعد هذا الموقف من أبي بكر وعثمان من مفردات تولي الكافرين ، الذي حذر الله تعالى المؤمنين والمسلمين منه ، وبين لهم آثاره السيئة؟! ..

٧ ـ لماذا يريد أبو بكر وعثمان منع المسلمين من ممارسة حريتهم في قمع عدوهم ، إلى حد أنهما يطلبان من الله أن يتدخل لمنعهم من ذلك بصورة جبرية قاهرة؟! ..

٨ ـ وهل صحيح : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد استجاب لطلب ذينك الجاسوسين وطلب من الله رفع البلاء عن المشركين ، الساعين إلى إطفاء نور الله وقتل المؤمنين؟!

٩ ـ وإذا كان البلاء قد ارتفع فعلا ، فهل ارتفع عنهم بطريق الجبر الإلهي ، ومنع الأيدي من التحرك ، أو التصرف بحركتها لكي تصبح ضرباتهم خائبة؟! ..

١٧٨

وإذا كانت أيدي المسلمين قد يبست ، ومنعت من الحركة ، أو أصبحت ضرباتهم خائبة ، فكيف واجه المشركون ذلك؟! هل اغتنموا الفرصة ، وأوقعوا بالمسلمين ، وقتلوهم وطردوهم من ديارهم؟! أم أنهم تركوهم وهربوا إلى الحصن؟! ولماذا هربوا إذا كان عدوهم قد قيّد عن الحركة؟! أو أن ضرباته قد أصبحت خائبة؟!

مدائح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأهل جرش :

وقد ذكرت الرواية المتقدمة : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين قدم عليه وفد جرش ، وصفهم بما لم نعهد أنه وصف به أحدا من الناس ، حيث قال : «أحسن الناس وجوها ، وأصدقه لقاء ، وأطيبه كلاما ، وأعظمه أمانة ، أنتم مني وأنا منكم».

ونقول :

قد روي : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أطلق هذه الأوصاف بالذات ، أو بعضها على قبائل وفئات أخرى أيضا ، فقد روي أنه قال في حق قبيلة دوس : «أحسن وجوها ، وأطيب الناس أفواها ، وأعظمهم أمانة» (١).

وروي أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال في حق المهاجرين والأنصار من بني عمه : «أحسن الناس وجوها ، وأعظم الناس أحلاما» (٢).

__________________

(١) مجمع الزوائد ج ١٠ ص ٥٠ والمعجم الكبير ج ١٢ ص ١٧٢ والمعجم الأوسط ج ٧ ص ٤٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٣٦ ، وميزان الاعتدال للذهبي ج ٣ ص ٢٠٦ ، ولسان الميزان لابن حجر ج ٤ ص ٣١٣.

(٢) تفسير الثعلبي ج ٩ ص ٧٤ وأسد الغابة ج ١ ص ١٠٨ والسيرة الحلبية (ط دار ـ

١٧٩

وروي أيضا أنه قال لوفد الأزد : «مرحبا بالأزد ، أحسن الناس وجوها ، وأشجعهم قلوبا ، وأطيبهم أفواها ، وأعظمهم أمانة ، وشعاركم يا مبرور» (١).

فأي ذلك هو الصحيح؟!

فإن الأحسنية ، والأعظمية ، والأطيبية و.. و.. منحصرة في واحد ، ولا يمكن إثباتها لاثنين ، فضلا عن إثباتها لثلاثة ، أو أربعة!! فإذا كان فلان أحسن الناس فلا يمكن أن يكون فلان الآخر أحسن الناس أيضا.

في وفد أزد عمان :

وقالوا : أسلم أهل عمان ، فبعث إليهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» العلاء بن الحضرمي يعلّمهم شرائع الإسلام ، ويصدّق أموالهم.

فخرج وفدهم إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فيهم : أسد بن بيرح الطاحي. فلقوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فسألوه أن يبعث معهم

__________________

المعرفة) ج ٣ ص ٢١٧ وأسباب النزول للواحدي ص ٢٥٩ وكنز العمال ج ١٠ ص ٦١٣ وفيه (من بني نمر) وهو تصحيف ، والبحر المحيط (تفسير) ج ٨ ص ٢٠٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٩ ص ١٨٨.

(١) تاريخ مدينة دمشق ج ٤٥ ص ٨١ وأسد الغابة ج ٣ ص ٣٠٦ والإصابة ج ٤ ص ٣١٠ وميزان الإعتدال ج ٣ ص ٢٠٦ ولسان الميزان ج ٤ ص ٣١٣ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٤٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٦٤ والمستدرك على الصحيحين ج ٢ ص ١٠٦ والآحاد والمثاني ج ٤ ص ٢٦٩ والمعجم الأوسط ج ٣ ص ١٦٦ وكنز العمال ج ١٢ ص ٥٦ و ٥٨ وج ١٤ ص ٨٩ والضعفاء للعقيلي ج ٣ ص ١٧٤ والكامل لابن عدي ج ٥ ص ٣٠ وعلل الحديث لابن أبي حاتم ج ٢ ص ٣٥٨.

١٨٠