الآداب الطبّيّة في الإسلام

السيد جعفر مرتضى العاملي

الآداب الطبّيّة في الإسلام

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : الطّب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧٩

حق التشريع ... لمن؟! :

واذا كان الله تعالى هو الخالق والمالك لهذا الكون والانسان ، والخبير به والمطلع على كل ما فيه من علاقات وروابط ، والعارف بما يصلحه مما يفسده ، فانه سيكون هو فقط الذي يملك حق وضع قانون وتشريع يؤمن لهذا الانسان سعادته وكماله ، ويهيمن على كل حالاته وسلوكه.

وكل من يتصدى لهذا الامر سوى المولى سبحانه وتعالى ، ممن لا يعرف عن هذا الكون والانسان شيئا يذكر ، فانه يكون خارجا عن جادة الانصاف ، وعن مقتضيات العقل ، والفطرة ... بل وظالما متعديا ايضا ... ولن يستطيع ان يضع النظام الكامل والشامل ، والمطابق لكل مقتضيات واحوال هذا الانسان ان لمن لم نقل : انه سيضع في كثير من الاحيان ما يؤدي الى شقائه وبلائه ، ان لم يكن الى دماره وهلاكه.

وكمثال على ذلك نقول : لو ان شخصا اخترع آلة في غاية الدقة والتعقيد وتتأثر بما حولها تأثرات مختلفة ، فهل يحق لمن لا يعرف حقيقة تركيبها ، وخصائصها : ان يمنع مخترعها عن التصرف فيها ، وعن ان يضع لها نظاما يحفظ لها سلامتها واستمرارها ، ويحافظ على كل دقائقها وخصائصها؟ ثم يتصدى هو ـ ذلك الجاهل بها وبكل شيء عنها ، او بأكثر ـ لوضع ذلك النظام والقانون؟! وهل يمكن ان يمدحه احد على ذلك؟! وهل ثمة من يتوقف في توجيه اللوم والتقريع له؟! وهل يمكن ان لا يطالب كل عاقل منصف بايقافه عند حده ، ثم بتغريمه لكل النقائص والخسائر التي نجمت عن طغيانه ذاك ، بالاضافة الى العقاب الرادع والجزاء العادل (١) ، ليكون ذلك موعظة له في نفسه ، وعبرة لغيره.

____________

(١) فان من سن سنة حسنة كان له اجرها واجر من عمل بها الى يوم القيامة ، ومن سن سنة سئية كان عليه وزرها ووزر من عمل بها الى يوم القيامة.

٨١

فالمتحصل من كل ذلك اختصاص حق التشريع بالباري سبحانه وتعالى ، العالم بكل شيء ، والمهيمن على جميع المخلوقات.

شمولية قوانين الاسلام :

وبعد ... فلا ريب في ان التشريعات الالهية والتعاليم القرآنية ، انما تهدف الى تحقيق الكمال والسلامة والهناء والسعادة ـ كل السعادة والهناء ـ لهذا الانسان ، بالاضافة الى تكامل الانسان في انسانيته ، وفي قربه من الله تعالى ، والفوز برضاه.

وبديهي : انه كلما كانت النظم ادق واشمل كلما كانت السعادة والسلامة لهذا الانسان اتم واكمل ، ووصوله الى ذلك الهدف الاسمى اسرع وايسر.

ومن هنا ... فقد كانت تعاليم الاسلام وقوانينه دقيقة وشاملة لجميع شؤون الانسان ، ومختلف احواله واوضاعه : سياسية كانت ، او اقتصادية ، او سلوكية ، او نفسية ، او غيرها .. مما يرتبط بالفرد او بالمجتمع ... فكل شيء محكوم لقانون ، ويهيمن عليه نظام ، يوجهه لخير الانسان ، ويجعله في خدمته.

نعم كل شيء ... فبالنسبة لشخص الانسان ، نجده لم يغفل حتى عن اكله وشربه ، وقيامه ، وجلوسه ، ومشيه ، ونبرات صوته ، بل لقد تدخل حتى في اختيار ، ومواصفات البيت الذي يعيش فيه. والثياب التي يلبسها ، وفي كيفية تصرفه بها ... بل وحتى في خلجات الانسان القلبية ، وافعاله الجوانحية.

كما اننا نجد : ان الاسلام لم يشرع اي قانون يضر بمكانة الانسان الاجتماعية ، او بذوقه ، وسجيته ، او بروحه وحالته النفسية ، او بصحته البدنية.

٨٢

وكمثال على ذلك : نشير الى تعاليم الاسلام المتعلقة بتقليم اظفاره ، وترجيل شعره ، واوامره له بالتنظيف والتطهر ، حتى لقد ورد : ان الله يبغض الرجل القاذورة (١) ، وورد : ان النظافة من الايمان (٢) ، وعنه (ص) : بئس العبد القاذورة (٣) ... بل لقد حرم عليه بعض الالبسة التي تضر بمكانته الاجتماعية وتوجب استهانة الناس به.

الى غير ذلك من الشؤون والاحوال التي يمر بها الانسان او تمر به ، والتي غفل عنها اي تشريع آخر سوى التشريع الالهي الحق ، لانه صادر عن ساحة الحق سبحانه وتعالى ... حتى ليقول الامام الصادق عليه‌السلام : « ان عندنا الجامعة ، قلت : ( اي الراوي ) وما الجامعة؟ قال : صحيفة فيها كل حلال وحرام ، وكل شيء يحتاج اليه الناس حتى الارش في الخدش ، وضرب بيده الي فقال : اتأذن يا ابا محمد؟ قلت : جعلت فداك ، انما انا لك ، فاصنع ما شئت ، فغمزني بيده ، وقال : حتى ارش هذا (٤). »

طبيعية قوانين الاسلام :

ونحن لا نريد ان ندعي هنا : ان شمولية الاسلام هذه قائمة على اساس النص الصريح على كل كلية وجزئية ، فان ذلك امر متعسر بل متعذر ... وانما تكمن شموليته في كونه قد نظر الى الانسان ، واحواله ، واوضاعه نظرة واعية تتسم بالشمول والدقة ، فقد لاحظ :

__________________

(١) البحار ج ٧٦ ص ٨٤ وج ٨٠ ص ١٠٦ عن كنز الفوائد للكراجكي وج ٩٩ ص ٣٠٣ فقه الرضا ٤٨ وج ٩٩ ص ٨٤ ، والخصال ج ٢ ص ٦٢٠ ، وتحف العقول حديث الاربعمائة ص ٧٣.

(٢) البحار ج ٦٢ ص ٢٩١ عن طب النبي للمستغفري.

(٣) الفصول المهمة ص ٤٤١ ، وطب الصادق ص ١٥ عن الدعائم.

(٤) الوسائل ج ١٩ ص ٢٧٢ حديث ١.

٨٣

اولا : شؤونه الثابتة التي لايطرأ عليها تغيير ولا تبديل في اي من الظروف والاحوال ، فوضع لها قوانين ثابتة ، وانظمة محددة ... وذلك من قبيل قوانين الارث ، والزواج ، والطلاق ، ونحوها ... ويمكن ان يدخل في ذلك جميع الاحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الاولية ، حسب الاصطلاح الاصولي.

ثم لاحظ :

ثانياً : الشؤون التي يطرأ عليها التغيير والتبديل ، ولا يمكن ان تكون في اطار ضابطة معينة وثابتة ، فجعل اصولا وقواعد عامة ، يجري التغيير والتبديل في نطاقها.

فهذه القوانين والضوابط ثابتة ، والمتغير هو ما تنطبق عليه تلك القواعد والاصول.

ويمكن ان يدخل في هذا الاطار ايضا سائر الموضوعات التي تعرض لها العناوين الثانوية ، حسب الاصطلاح الاصولي.

ومن هنا ... فقد كان للاسلام مرونة خاصة بالنسبة لموقفه من الثقافات ، والعلوم التي تفيد المجتمع الاسلامي ، وبالنسبة لشؤون الادارة الداخلية ، وشؤون الامن في البلاد الاسلامية ، تبعا للضرورات التي تفرضها الظروف والاحوال الطارئة والمتغيرة.

وقد اعطى ذلك للاسلام قدرة خاصة على استيعاب كل جديد ، وعلى ان يساير التطورات الحضارية المختلفة على مر العصور ، وعلى اتخاذ الموقف المناسب في الظروف والاحوال والمتغيرات باستمرار ، ولسوف يبقى محتفظا بهذه القدرة مستقبليا ايضا ... فهو القانون الوحيد ، الذي يستطيع ان يكون انسانيا ، وحضاريا ، وعالميا ، وابديا.

٨٤

الفقيه ... وغير الفقيه :

١ ـ اما وظيفة الفقيه فليست الا الكشف عن الاحكام الالهية الثابتة لموضوعاتها ، وتطبيق القواعد والكليات الثابتة على مصاديقها المتحولة المتغيرة فالفقيه لا يجعل الاحكام الشرعية ، وانما هو يكشف عنها ، او يطبق القاعدة على موردها.

٢ ـ هذا ... ولا شك في ان الفطرة والعقل والعقلاء يحكمون على من ليس له قدرة الكشف والتطبيق هذه ـ حيث لا يمكن الاحتياط (١) ولا يمكن العمل به ـ بالرجوع الى الذي يملك هذه القدرة ، ويمارسها فعلا ... لانه هو المتخصص في هذه الجهة ، وله خبرات تؤهله لان يكون مرجعا لمن يفقد هذه الخبرات تماما ... كذلك الذي يراجع الطبيب او المهندس في ما يرتبط بهما من امور الطب والهندسة ، لانه هو لا يملك خبرات في هذين المجالين.

٣ ـ كما ان الانسان يفضل بحسب فطرته وسجيته وعقله : الامهر من الاطباء واصحاب الاختصاصات ؛ ولا يراجع غيره الا اذا لم يقدر على الاستفادة منه.

وقد امر الله تعالى ارشادا الى ذلك ، فقال : فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون (٢) ... وقال تعالى ايضا مشيرا الى ان ذلك مرتكز في فطرة الانسان وسجيته : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون (٣).

٤ ـ ومن الجهة الثالثة : فان فطرة الانسان وسجيته ، تدفعه الى ان يهتم بمراجعة من يثق بصدقه واخلاصه من اهل الاختصاصات ... وكلما كان الامر اهم ،

__________________

(١) كما في كثير من الموارد العامة : سياسية ، واجتماعية ، وادارية ... وغيرها.

(٢) النحل ٤ : ٣.

(٣) الزمر ٩.

٨٥

كلما زاد اهتمام الشخص في ان يجد من يجمع اقصى الشروط الملائمة لانجاح وسلامة العمل الذي يرمى اليه على النحو الاكمل والافضل ..

٥ ـ واذا كان الشرع والدين هو اعظم قضية يمكن ان تواجه هذا الانسان ؛ لانها تمس كل شؤون حياته الفردية والاجتماعية ، ويتوقف عليها مصيره ومستقبله ، ان دنيا ، وان آخرة. وكل خلل يطرأ ، او تجاوز يحصل ، فسيؤثر مباشرة على حياة الانسان ومصيره ..

ـ اذا كان كذلك ـ فانه لابد وان يسعى هذا الانسان الى ان يوفر كل الشروط والضمانات التي تجعله يحصل على اعلى درجات الاطمينان والثقة في من يفترض فيه ان يكون قائداً ومعلما ومرشدا له في هذا السبيل ... سواء من الناحية العلمية ، اوالسلوكية ، او غيرها من النواحي ، التي لها مساس بالمهمة التي يريده لاجلها ...

وليس ذلك الا الرجل المجتهد العادل ، الذي بنى نفسه من الداخل قبل الظاهر ، والذي يكون ظاهره انعاكسا لباطنه .. الرجل الذي يملك اعظم المهارات والكفاءات العلمية في هذا المجال ... الى غير ذلك من مواصفات نص عليها الفقهاء في كتبهم المعدة لذلك ..

الطب ... والفقيه :

وهكذا .. واذا كان الطب هو احدى تلك المجالات الواسعة التي تخضع للاحكام والتشريعات الاسلامية بشكل مباشر احيانا ، او غير مباشر احيانا اخرى .. فان من الطبيعي ان يرجع الطبيب والمريض ، وغيرهما ممن له علاقة في هذا المجال ـ الى الكتب التي الفها الرجل الاعلم في التشريع الاسلامي للتعرف على

٨٦

لاحكام الشرعية باستمرار ، لان ذلك يؤثر في احيان كثيرة على مواقفهم وتصرفاتهم بشكل عام ...

الطب في الاعتبار الشرعي :

لاشك في ان الطب يعتبر وظيفة شرعية ، وواجبا كفائيا ، يعاقب الكل على تركه ، ويسقط عنهم بقيام بعضهم به ، ويمكن ان يؤيد ذلك بـ :

١ ـ ما روى عن الصادق عليه‌السلام. قال : لا يستغنى اهل كل بلد عن ثلاثة يفزع اليه في امر دنياهم ، وآخرتهم؟ فان عدموا ذلك كانوا همجا : فقيه عالم ورع ، وامير خير مطاع ، وطبيب بصير ثقة (١).

٢ ـ وما روى عن ابي عبد الله عليه‌السلام ، قال : كان المسيح عليه‌السلام يقول : ان التارك شفاء المجروح من جرحه شريك جارحه لا محالة ، وذلك ان الجارح اراد فساد المجروح ، والتارك لاشفائه لم يشأ صلاحه ؛ فاذا لم يشأ صلاحه ؛ فقد شاء فساده اضطرارا الخ (٢).

هذا كله ... عدا عن ان الاسلام يعتبر المؤمنين اخوة ، يجب الاهتمام بأمورهم ، وقضاء حاجاتهم ، ومعونتهم ، وان يعضد بعضهم بعضا ، في مواقع الابتلاء ، وان يفيد المؤمن اخاه ، وان ينفس كربته الى غير ذلك مما لا يمكن حصره ... ولا يمكن ان تكون الناحية الطبية مستثناة من ذلك في اي من الظروف والاحوال ، ان لم تكن من اجلى مصاديق الكثير من تلك الاوامر المتضافرة والمتواترة ..

اهمية الطب اسلاميا :

وعدا عن كون الطب مسؤولية دينية تصل الى حد الوجوب الكفائي ...

__________________

(١) تحف العقول ص ٢٣٨ ، والبحار ج ٧٨ ص ٢٣٥ ، وسفينة البحار ج ٢ ص ٧٨.

(٢) روضة الكافي ص ٣٤٥ ، والفصول المهمة ص ٤٠٤ ، والوسائل ج ٢ ص ٦٢٩ وج ١١ ص ٤٠١.

٨٧

فانه يكفى للتدليل على الاهمية الخاصة لهذا العلم بنظر الاسلام ، انه قد اعتبره هو وعلم الاديان ـ ومعهما غيرهما ، كما في بعض النصوص ـ هما العلمان اللذان ينبغي التوجه اليهما ، والعمل في سبيل الحصول عليهما ؛ فعن امير المؤمنين عليه‌السلام :

العلم علمان : علم الاديان ، وعلم الابدان (١).

وعنه (ع) : العلم ثلاثة : الفقه للاديان ، والطب للابدان ، والنحو للسان (٢) ..

وبلفظ الكراجكي في جواهره : العلوم اربعة : الفقه للاديان : والطب للابدان ، والنحو للسان ، والنجوم لمعرفة الازمان (٣) ...

رسالية الطب :

وعدا عن كون الطب مسؤولية دينية ؛ فانه ايضا ضرورة اجتماعية انسانية ، ورسالة اخلاقية ، ومسؤولية عقلية .. فـ :

١ ـ هو ضرورة انسانية اجتماعية ؛ حيث يفترض في الانسان ان يساهم في دفع المسيرة الانسانية نحو تحقيق اهدافها وتطلعاتها ، وآمالها بالسعادة والهناء ، وبالوصول الى اعلى مراتب الكمال الانساني المنشود ، حيث تختفى كل عوامل ومظاهر الشقاء ، والتعب والعناء ...

__________________

(١) طب الامام الصادق عليه‌السلام ص ١٧ وقضاء امير المؤمنين (ع) للتستري ص ١٤٤.

(٢) تحف العقول ص ١٤٤ ، وطب الامام الصادق عليه‌السلام ص ١٧ والبحار ج ٧٨ ص ٤٥.

(٣) طب الامام الصادق ص ١٧ وكنز الفوائد للكراجكي ص ٢٤٠ والبحار ٢ ج ص ٢١٨.

٨٨

٢ ـ وهو مسؤولية عقلية ؛ حيث لابد منه لاجل بقاء النوع الانساني ، وللتخفيف من شقاء وبلاء وآلام هذا الانسان ...

٣ ـ وهو بالتالي رسالة اخلاقية .. لامجال للمراء او التشكيك فيها ، حيث تعبر عن سمو وكمال نفسي يرضى النفوس ويطمئنها ويريحها .. ولاجل ذلك لا نجد احدا يعذر الطبيب الذي يمتنع عن معالجة مريضه ـ اذا كان يقدر على ذلك اذا تعلل بعدم او بقلة ما يبذل له من مال ، ونجد الناس كلهم يعتبرون ذلك الطبيب فاقدا للاخلاق النبيلة والفاضلة ...

الطب والتجارة

وهكذا يتضح : ان الطب بنظر الاسلام ليس حرفة يهدف منها الى جمع المال ، والحصول على حطام الدنيا وانما هو رسالة انسانية ومسؤولية شرعية بالدرجة الاولى ...

لان الحرفة التي يهدف صاحبها الى ان يستخدمها في الحصول على المال ... تجعل لصاحبها الخيار في ان يتعامل مع هذا او مع ذاك ، اذا وجد ان تعامله هذا يدر عليه نفعا يرضيه ... وان لا يتعامل معه اذا شاء ، حينما لا يجد في تعامله ذلك ما يرضى جشعه ، ويشبع جوعه ونهمه ...

وليس ذلك للطبيب قطعا ؛ فان التارك لشفاء المجروح من جرحه شريك جارحه لامحالة كما تقدم ..

ولا يملك ان يتساهل او ان يتعلل ، انتظارا للاجرة او لزيادتها ، او لاي سبب آخر .. كما انه لايجوز له ان يتساهل او ان يتوانى في معالجته له .. كما سنرى ان شاء الله تعالى ...

٨٩

الاجرة للطبيب :

ولكن ما قدمناه لا يعنى : ان لايأخذ الطبيب اجرا اصلا ، فان ذلك معناه ان يكون كثير من الاطباء عالة على الاخرين ، كما ان ذلك يستدعى عدم اقبال الناس على تعلم هذا العلم ، واتقانه ، فضلا عن النبوغ والابداع فيه ، وهو بالتالي يحرم الانسانية من عنصر هام ، بل هو من اهم عناصر راحتها وسعادتها ، بل وتقدمها في مختلف مدارج الكمال ، والعظمة والمجد.

ولاجل ذلك نجد : ان الامام العسكري عليه‌السلام يعطى الطبيب الذي فصده تخت ثياب ، وخمسين دينارا (١).

واعطاه ايضا في مرة اخرى ـ على الظاهر ـ ثلاثة دنانير ، وكان الطبيب نصرانيا (٢).

وفي رواية عن علي عليه‌السلام : ما دون السمحاق (٣) اجر الطبيب (٤).

وعن ابن عباس : ان النبي (ص) احتجم واعطى الحجام اجره (٥). والروايات الدالة على جواز اخذ الحجام للاجرة كثيرة جدا ، وهي موجودة في كثير من المصادر.

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ص ٧٥ عن الخرائج والجرائح.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٧٤ وفي هامشه عن الخرائج والجرائح ص ٢١٣ وعن اصول الكافي ص ٢٨٥.

(٣) السمحاق : قشرة رقيقة فوق عظم الرأس.

(٤) التهذيب للطوسي ج ١٠ ص ٢٩٣ ح ١٨ والوسائل ج ١٩ ص ٢٩٤ و ٣٠٤.

(٥) الموطأ مع تنوير الحوالك ج ٣ ص ١٤١ والطب النبوي لابن القيم ص ٤١ وفي هامشه عن الترمذي ، وابي داود ، وابن ماجة ، والمصنف لعبد الرزاق ج ١١ ص ٣٠ وفي هامشه عن البخاري كتاب الاجارة ٤ / ٣٠٨ وعن مسلم ايضا.

٩٠

الا ان ثمة رواية عن سماعة تخالف ذلك ، وقد حملها الشيخ على الكراهة (١).

وقال العلامة قدس‌سره في المنتهى : « .. يجوز الاستيجار للختان ، وخفض الجواري ، والمداواة ، وقطع السلع ، واخذ الاجرة عليه. لانعلم فيه خلافا ؛ لانه فعل مأذون فيه شرعا ، يحتاج اليه ، ويضطر الى فعله ؛ فجاز الاستيجار عليه كسائر الافعال المباحة. وكذا عقد الاستيجار للكحل ، سواء كان الكحل من العليل او الطبيب. وقال بعض الجمهور : ان شرط على الطبيب لم يجز » (٢).

واما بالنسبة للدواء ، فقد روى محمد بن مسلم ، عن ابي جعفر عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يعالج الدواء للناس ؛ فيأخذ عليه جعلا؟ فقال : لا بأس به (٣).

التجارة : .. السطحية :

وواضح : انه اذا اصبح الهدف من تعلم الطب هو الحصول على المال والنوال ، وخلا من الاحساس الانساني ، والدفع العاطفي ، ومن المسؤولية الشرعية والاخلاقية ... فانه عدا عن ان ذلك يمكن ان يجعل من هذا العلم ـ كما جعل من كثير غيره ـ وبالا على الانسان وعلى الانسانية ... لابد وان تقل فيه نسبة الابداع والعمق ، بحيث لاينسجم ذلك مع حجم العمل والعاملين فيه ... ولايبقى ثمة ما يؤهله لان يقدم للامة وللاجيال المزيد من المعارف الدقيقة والهامة ، ويفتح امامها آفاقا جديدة

__________________

(١) راجع : قرب الاسناد ص ٥٢ و ٥٣ ، والاستبصار ج ٣ ص ٥٨ ـ ٦٠ و ٦٤ والوسائل ج ١٢ ص ٧١ ـ ٧٤ وفي هوامشه عن : التهذيب ج ٢ ص ١٠٧ و ١٠٩ وعن فروع الكافي ج ١ ص ٣٦٠ وعن الفقيه ج ٢ ص ٥٢ و ٥٦ وعن البحار ج ١٠ ص ٢٦٧ وعن العلل ، وغير ذلك كثير ...

(٢) البحار ج ٦٢ ص ٦٥.

(٣) من لا يحضره الفقيه ج ٣ ص ١٠٧ والبحار ج ٦٢ ص ٧٢ والوسائل ج ١.

٩١

في مجالاته المختلفة ... كما .. وتصبح المؤسسات الطبية مجرد حرف جافة لاتهتم باسعاد هذا الانسان بقدر ما تهتم بسلبه ونهب ثرواته ، ومن ثم بزيادة شقائه وبلائه ..

نعم .. وحينئذ تبدأ عملية العد العكسي لازدهار العلوم ، ويتجه المتعلمون ـ في الاكثر ـ الى السطحية ، ثم الى الجهل الذي يستتبع الكثير من التدليس والتزيف ... ثم ان يفقد الانسان اخلاقياته وانسانيته ، وليتحول الى موجود خسيس ورذل ، ويكون كالبهيمة المربوطة ، همها علفها ، على حد تعبير امير المؤمنين عليه‌السلام.

حبس الجهال من الاطباء :

ولاجل ما تقدم ... نجد ان الاسلام قد وقف في وجه هذه الظاهرة بقوة وحزم ، حتى لقد روى عن امير المؤمنين عليه‌السلام قوله :

« يجب على الامام ان يحبس الفساق من العلماء ، والجهال من الاطباء الخ ... » (١).

نعم ... يجب ذلك ؛ لان ممارسة الجاهل لاعمال الطب ، كثيرا ما تزيد من آلام ومتاعب المريض ، وتعرض راحته ، ومستقبله ـ ان لم نقل تعرض حياة الكثيرين ـ للاخطار الجسام ... وكما ان فساق العلماء يفسدون الدين ، فان جهال الاطباء يفسدون الابدان ، ويسلبون الانسان الراحة والسعادة في الدنيا ، فيجب ردعهم ، والوقوف في وجههم ، بكل قوة وشدة ...

ضمان الجاهل لما يفسده :

وانطلاقا مما تقدم ... فان الجهال اذا مارسوا الطب ، وافسدوا ما يفترض

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ج ٣ ص ٢٠ والتهذيب للشيخ ج ٦ ص ٣١٩ والنهاية للشيخ ايضا ص ٦٢ ، والوسائل ج ١٨ ص ٢٢١ ، وقصار الجمل ج ١ ص ٢٩٩.

٩٢

فيهم ان يصلحوه ؛ فانهم يكونون مسؤولين عن افسادهم ذاك عقلا ، وعرفا ، وشرعا ، لقاعدة : الضمان على كل متلف ... فاذا ادى ذلك الى الموت : فانه يضمن دية الخطاء كما هو معلوم.

وذلك امر مفروغ عنه بين الفقهاء « بلا خلاف في ذلك » بل في التنقيح : « الطبيب القاصر المعرفة ضامن لما يتلفه بعلاجه اجماعا » (١).

كما ان هذا الامر مجمع عليه لدى اهل العلم من غير شيعة اهل البيت عليهم‌السلام (٢).

كما انهم قد رووا عنه (ص) قوله : « من تطبب ولم يعلم منه الطب ( قبل ذلك ) فهو ضامن ». وبمعناه غيره (٣).

وفي نص آخر : « من تطبب ولم يكن بالطب معروفا ، فاذا اصاب نفسا فما دونها ؛ فهو ضامن » (٤) ... والتعبير بتطبب ظاهر بأنه يريد : انه قد دخل فيما فيه عسر وكلفة ، من قبيل تشجع ، وتصبر ، ونحو ذلك ...

__________________

(١) راجع : الجواهر ج ٤٣ ص ٤٤ و ٤٥ والمسالك كتاب الديات ، موجبات الضمان ، والرياض ج ٢ ص ٥٣٧ ومباني تكلمة المنهاج ج ٢ ص ٢٢٢ ، وعن مجمع البرهان كتاب الديات ص ١. فان هؤلاء جميعا قد نصوا على عدم الخلاف في ذلك ، او نقلوا الاجماع عن التنقيح.

(٢) الطب النبوي لابن القيم ص ١٠٩.

(٣) كنز العمال ج ١٠ ص ١٦ ، ورمز الى : مستدرك الحاكم ، وسنن ابي داود ، وابن ماجة ، والبيهقي ، والنسائي ، والطب النبوي لابن القيم ص ١٠٧ عن بعض من ذكر ، والتراتيب الادارية ج ١ ص ٤٦٦ عن الدار قطني وغيره.

(٤) التراتيب الادارية ج ١ ص ٢٦٦ ، وكنز العمال ج ١٠ ص ١٧ عن ابن عدي في الكامل ، وابن السني ، والبيهقي ، وابي نعيم في الطب ، وراجع المصنف لعبد الرزاق ج ٩ ص ٤٧٠.

٩٣

ضمان العارف بالطب :

هذا .. ولاريب في ضمان العارف بالطب ، اذا قصر في اداء مهمته ، سواء اخذ البراءة من المريض ، او من وليه ، ام لا ، وسواء عالجه باذن منه ، ام لا. والظاهر عدم الخلاف في ذلك. هذا ... عدا عما يترتب على ذلك من مسؤولية شرعية.

والظاهر : ان ما ورد : من ان عليا عليه‌السلام قد ضمن ختاناً قطع حشفة غلام (١). قد كان من اجل تقصيره في اداء وظيفته ...

قال ابن ادريس ، « والرواية هذه صحيحة لا خلاف فيها » (٢) ، وقد حمل الرواية على صورة التفريط ؛ فراجع.

واما اذا لم يقصر في اداء مهمته ، وكان حاذقا ماهرا ، وتلف المريض ، او تعطل بعض اعضائه بسببه ، فان كان المريض صغيرا ، او مجنونا ، وكان الطبيب قد اخذ البراءة من وليه ، او كان المريض بالغا عاقلا وقد اخذ البراءة منه .. فانه لا يضمن.

وقد روى عن ابي عبد الله عليه‌السلام ، انه قال : قال امير المؤمنين عليه‌السلام : « من تطبب او تبيطر ، فليأخذ البراءة من وليه ، والا فهو له ضامن » (٣).

وضعف سندها منجبر بعمل المشهور. بل ادعى عليه الاجماع (٤). وليس هذا

__________________

(١) التهذيب للشيخ ج ١٠ ص ٢٣٤ ، والسرائر ص ٤٢٩ ، والكافي ج ٧ ص ٣٦٤ ، والوسائل ج ١٩ ص ١٩٥ ، والمسالك ، كتاب الديات ، بحث موجبات الضمان ، والرياض ج ٢ ص ٥٣٩ ، وقصار الجمل ج ١ ص ٤٠٤ ، ومباني تكملة المنهاج ج ٢ ص ٢٣٣.

(٢) السرائر ص ٤٢٩.

(٣) الكافي ج ٨ ص ٣٦٤ ، التهذيب ج ١٠ ص ٢٣٤ ، والوسائل ج ١٩ ص ١٩٥ ؛ والنهاية للشيخ ص ٧٦٢ ، وقصار الجمل ج ١ ص ٤٠٤ ، والمسالك ، كتاب الديات ، في موجبات الضمان. والشرايع نفس البحث ج ٤ ص ٢٤٩ والرياض ج ٢ ص ٥٣٧ ، ومباني تكملة المنهاج ج ٢ ص ٢٢٢ وبمعناه عن علي عليه‌السلام في المصنف لعبد الرزاق ج ٩ ص ٤٧١.

(٤) راجع : المسالك ج ٢ كتاب الديات باب موجبات الضمان والجواهر ج ٤٣ ص ٤٦ / ٤٧.

٩٤

من الابراء قبل ثبوت الحق ، وانما هو من قبيل الاذن في الشيء ، المقتضى لعدم ثبوت الحق ، مضافا الى انه لو لم يجز التبري لم يقدم طبيب على علاج (١).

وهل يكفي اذن المريض او وليه للطبيب بالعلاج من دون ابراء في عدم ضمانه؟ ربما يقال : انه لا يضمن حينئذ ، وذلك « لان الضمان يسقط بالاذن ، ولأنه فعل سائغ شرعا » فلا يستعقب ضمانا (٢).

ولكن هذه الحجة غير كافية ، فان كونه سائغا شرعا لايوجب سقوط الضمان (٣) ، والسائغ هو المعالجة لا الاتلاف ، وهو لم يؤذن به .. ، واما قوله : ان الضمان يسقط بالاذن ... فيمكن ان يكون له وجه ، اذا قلنا : انه من قبيل اقدام المريض ، او وليه على تحمل نتائج عمل الطبيب ، ورضاهم بها ، لو اتفق وقوعها ... فهو من قبيل الابراء ... ولكن الظاهر : هو ان اذنهم لا يدل على عدم مطالبتهم بالدية والضمان في صورة التلف ، فهم يأذنون بالعلاج استنادا الى ان الشارع قد ضمن لهم حقهم في صورة اتلاف الطبيب لمريضه ، او لعضو منه ، فتبقى قاعدة : الضمان على من اتلف على حالها .. ولاجل كون ذلك مرتكزاً لدى العرف نجد : انه لو اخذ البعض ولده الى الطبيب ، فعالجه ، فمات بسبب ذلك العلاج ؛ فانه يشتكي عليه ، ويعتبر مسؤولا عن اتلاف ولده (٤).

واما الاستدلال على الضمان هنا بالاجماع ، فهو في غير محله ، لان الظاهر ، او على الاقل يحتمل : انه اجماع على القاعدة ، التي هي : الضمان على من اتلف ؛ فلا يكون حجة ..

وكذا لايصح الاستدلال باطلاق رواية تضمين علي عليه‌السلام للختان ... على الضمان هنا ، لانها قضية في واقعة لا اطلاق فيها ، فيحتمل قويا ان يكون تضمينه

__________________

(١) راجع : الجواهر ج ٤٣ ص ٤٨ ،٤٧ وهامش الوسائل ج ١٩ ص ١٩٥ والشرايع ج ٤ ص ٢٤٩.

(٢) الشرايع ج ٤ ص ٢٤٩ والجواهر ج ٤٣ ص ٤٥.

(٣) الجواهر ج ٤٣ ص ٤٦ ومثل له بالضرب للتأديب.

(٤) راجع : الجواهر ج ٤٣ ص ٤٦.

٩٥

له بسبب تفريطه وتقصيره في اداء مهمته ، كما اشرنا اليه سابقا. وقد اشار الى ما ذكرناه ايضا في الجواهر ، فراجع.

ولو اقدم الطبيب الحاذق على العلاج من دون اذن احد ، استناداً الى وجوب ذلك عليه ، لرواية : التارك شفاء المجروح من جرحه شريك جارحه لا محالة ، وذلك مقدمة لحفظ النفس المحترمة ، فتلف المريض بسببه ، فانه يضمن ايضا ، لان التلف سبب للضمان ، فهو من قبيل تأديب الصبي ، ونحوه (١).

روايتان لا ربط لهما بالضمان :

وفي رواية « قلت ( اي للامام الصادق عليه‌السلام ) : انا نبط الجرح ، ونكوى بالنار؟ قال : لابأس ، قلت : نسقى هذه السموم : الاسمحيقون ، والغاريقون؟ قال : لا بأس : قلت : انه ربما مات ، قال : وان مات (٢) ».

وعن حمدان بن اسحاق ، قال : كان لي ابن ، وكانت تصيبه الحصاة ، فقيل لي : ليس له علاج الا ان تبطه ، فبططته ، فمات ، فقالت الشيعة : شركت في دم ابنك قال : فكتبت الى ابي الحسن ، صاحب العسكر ، فوقع ـ صلوات الله عليه ـ يا احمد ليس عليك فيما فعلت شيء ، انما التمست الدواء ، وكان اجله فيما فعلت (٣).

فالرواية الاولى ليست ناظرة للضمان ولا لعدمه ... وانما هي ناظرة الى جواز الاقدام على ذلك وعدمه ... وان ادى الى موت المريض.

وفي الثانية كان الممارس لبط الجرح هو الولي نفسه ، وتعليله عليه‌السلام بقوله : انما التمست الدواء وكان اجله فيما فعلت ، ليس تعليلا لعدم الضمان ، ليؤخذ بعموم التعليل ، بل هو ناظر لنفي العقاب الاخروي ، حيث اعتبر الشيعة :

__________________

(١) راجع : المسالك والجواهر ج ٤٣ ص ٤٥.

(٢) روضة الكافي ص ١٩٣ والفصول المهمة ص ٤٠٢ والبحار ج ٦٢ ص ٦٧ والوسائل ج ١٧ ص ١٧٧ وطب الامام الصادق ص ٥٩.

(٣) الكافي ج ٦ ص ٥٣ والبحار ج ٦٢ ص ٦٨.

٩٦

أنه قد شرك في دم ابنه ... هذا بالاضافة الى عدم وضوح سند الرواية.

والخلاصة : انه لابأس بأن يأخذ الطبيب الحاذق البراءة من ولي المريض ، اذا كان المريض صبيا او مجنونا ، او من المريض نفسه ، اذا اراد ان يقدم على العلاج الذي يحتمل فيه الخطر على المريض ، حتى لا يتعرض للضمان الذي ينشأ عن التلف المحتمل.

٩٧
٩٨

الفصل الثاني :

التلميذ ...

قبل ان يصير طبيباً ...

٩٩
١٠٠