الآداب الطبّيّة في الإسلام

السيد جعفر مرتضى العاملي

الآداب الطبّيّة في الإسلام

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : الطّب
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧٩

دراسة الطب عند المسلمين

لقد كان الاطباء يلقون محاضراتهم الطبية على طلابهم في المستشفيات (١) بالاضافة الى مرافقتهم لهم في زياراتهم للمرضى ، حين ممارستهم الطب عمليا ...

وقال ابن ابي اصيبعة : كان ابو الفرج ابن الطيب « يقرىء صناعة الطب في البيمارستان العضدي ويعالج المرضى فيه ، ووجدت شرحه لكتاب جالينوس على اغلوتن ، وقد قرىء عليه وعليه الخط بالقراءة في البيمارستان العضدي ، في يوم الخميس الحادي عشر من شهر رمضان سنة ست واربعمئة » (٢).

وكان ابراهيم بن بكس « يدرس صناعة الطب في المستشفى العضدي لما بناه عضد الدولة » (٣).

وكان ابن ابي الحكم يقعد في الايوان الكبير في البيمارستان ، فكان جماعة من الاطباء والمشتغلين يأتون اليه ، ويقعدون بين يديه ، ثم تجرى مباحث طبية ، ويقرىء التلاميذ ، ولا يزال معهم في اشتغال ومباحثة ونظر في الكتب مقدار

__________________

(١) مختصر تاريخ العرب ص ٢٨٣ و ٣٦٩ والتراث اليوناني في الحضارة الاسلامية ص ٩٢ وتاريخ التمدن الاسلامي المجلد الثاني ص ٢٠٧ وراجع ص ٢٠٥.

(٢) عيون الانباء ص ٣٢٣.

(٣) عيون الانباء ص ٣٢٩.

٦١

ثلاث ساعات (١).

ومجلس الرازي لتعليم الطب معروف ومشهور ، فقد كان يجلس في مجلسه ، ودونه التلاميذ ، ودونهم تلاميذهم ، ودونهم تلاميذ آخرون ، وكان يجيء الرجل ، فيصف ما يجد لاول من يلقاه منهم ، فان كان عنده علم ، والا تعداه الى غيره ، فان اصابوا ، والا تكلم الرازي في ذلك (٢).

واول مدرسة طبية منفصلة عن المستشفى كانت ـ فيما اعتقد ـ في سنة ٦٢٢ هجرية قال ابن ابي اصيبعة : « ولما كان في سنة اثنتين وعشرين وست مئة.

وذلك قبل سفر الشيخ مهذب الدين عبد الرحيم بن علي عند الملك الاشرف وخدمته له ، وقف داره وهي بدمشق عند الصاغة العتيقة ، شرقي سوق المناخلين ، وجعلها مدرسة يدرس فيها من بعده الطب ، ووقف لها ضياعا وعدة اماكن ، يستغل ما ينصرف في مصالحها وفي جامكية المدرس ، وجامكية المشتغلين بها » (٣).

امتحان الاطباء :

لقد رأينا : ان المسلمين كانوا يمتحنون الاطباء ، ويعطونهم اجازة لممارسة التطبيب ، وممن كان يمتحن الاطباء في سنة ٣٠٩ هـ ، سنان بن ثابت في بغداد (٤) ومهذب الدين الدخوار في مصر (٥) ، وابن التلميذ ، المتوفى سنة ٥٦٠ ببغداد (٦)

__________________

(١) عيون الانباء ص ٦٢٨.

(٢) تاريخ الحكماء ص ٢٧٣ وعيون الانباء ص ٤١٦ ، وغير ذلك كثير.

(٣) عيون الانباء ص ٧٣٣.

(٤) تاريخ الحكماء ص ١٩١ ، وعيون الانباء ص ٣٠٢ ، وتاريخ طب در ايران ج ٢ ص ٢٨٢ و ٦٨٦ وتاريخ التمدن الاسلامي المجلد الثاني ص ٢٠١. وتاريخ مختصر الدول ص ١٦٢.

(٥) عيون الانباء ص ٧٣١ ، تاريخ التمدن الاسلامي المجلد الثاني ص ٢٠١.

(٦) عيون الانباء ص ٣٥١ و ٣٥٢.

٦٢

ويضيف البعض الى هؤلاء : ابراهيم بن سنان ، وابا سعيد اليماني (١).

وذكر في كتاب : تاريخ البيمارستانات في الاسلام اجازتين قد بقيتا من القرن الحادي عشر الهجري، احداهما ترتبط بالفصد ، والاخرى ترتبط بالجراحة (٢).

الاختصاص في الطب :

لقد كان الاختصاص في فروع الطب ظاهرة شائعة بين الاطباء المسلمين ؛ فهناك الطبيب المختص بالجراحة ، وآخر بامراض العين ، وثالث بأمراض النساء ، ورابع بالامراض العقلية ، وخامس في الاسنان ، وهكذا ...

النساء والطب :

ولم يكن الطب مقصورا على الرجال بل لقد كان في النساء ايضا عالمات في الطب ، وقد تقدمت الاشارة الى هنيدة ، وزينب الاودية وغيرهما ... ونزيد هنا : انهم يقولون : ان اخت الحفيد بن زهر الاندلسي وابنتها كانتا عالمتين بصناعة الطب ، ولهما خبرة جيدة بمداواة النساء ، وكانتا تدخلان على نساء المنصور الاندلسي ، ولا يقبل سواهما (٣).

كثرة الاطباء المسلمين :

ان عدد الاطياء طيلة فترة الحكم الاسلامي كثير جدا لا يمكن حصره ،

__________________

(١) تاريخ طب در ايران ج ٢ ص ٦٨٦ وراجع ص ٨١٦ وفيه ان ابراهيم بن سنان قد كلف ابا سعيد بذلك ، فكانت النتيجة : ان اجيز ٨٠٠ طبيب وجراح. ولكن الظاهر هو ان الامر قد اشتبه على هذا البعض فخلط بين سنان بن ثابت ، وابراهيم بن سنان كما يظهر من مراجعة : عيون الانباء ص ٣٠٢ وغيره.

(٢) تاريخ طب در ايران ج ٢ ص ٨٢٠.

(٣) عيون الانباء ص ٥٢٤ ، وتاريخ التمدن الاسلامي المجلد الثاني ص ٢٠١ عنه.

٦٣

ولا استطاع مؤلفوا الموسوعات والتراجم ، حتى ذكر اسماء اقل القليل منهم ...

ويكفى ان نذكر : انهم قد احصوا اطباء بغداد وحدها في زمن المقتدر بالله سنة ٣٠٩ وامتحنوهم ؛ فأجيز منهم (٨٦٠) طبيبا ، فأعطوهم الاذن في التطبيب ، سوى من استغنى عن الامتحان لشهرته ، وسوى من كان في خدمة السلطان (١).

وكان سيف الدولة اذا جلس على المائدة حضر معه اربعة وعشرون طبيبا. وكان فيهم من يأخذ رزقين لاجل تعاطيه علمين (٢). وكان في خدمة المتوكل ٥٦ طبيباً (٣).

وكان يخدم في المستشفى العضدي ٢٤ طبيباً من مختلف الاختصاصات (٤) وحين بنى المعتضد المستشفى ، اراد ان يكون فيه جماعة من افاضل الاطباء واعيانهم ، فأمر ان يحضر له لائحة باسماء الاطباء المشهورين حينئذ ببغداد واعمالها ؛ فكانوا متوافرين على الماءة فاختار منهم نحو خمسين الخ (٥).

الخدمات الطبية عند المسلمين :

وكان للمسلمين ايضا عناية خاصة بالايتام ، والعميان ، والقواعد من النساء فكان لهم رعاية ودواوين خاصة ، تحت اشراف مسؤولين عن امورهم واحوالهم (٦)

« وكان من الاطباء او الصيادلة من هو خاص بالجند ، يرافقه في اسفاره ومنهم من هو خاص بالخلفاء والامراء ، ولهؤلاء رواتب خاصة ، ويعرفون بالمرتزقين ، ومنهم من يطببون العامة ، وهم غير مرتزقين (٧) ».

__________________

(١) عيون الانباء ص ٣٠٢ ، وتاريخ التمدن الاسلامي ، المجلد الثاني ص ٢٠٠ عنه.

(٢) عيون الانباء ص ٦١٠ وتاريخ التمدن الاسلامي المجلد الثاني ص ٢٠٠ عنه.

(٣) تاريخ التمدن الاسلامي ج ٢ ص ٢٠٠ عن عيون الانباء ج ٢ ص ١٤٠ وفيه : انهم كانوا من النصارى!!

(٤) عيون الانباء ص ٤١٥.

(٥) المصدر السابق.

(٦) وفيات الاعيان ج ١ ص ٤٩٥ ط سنة ١٣١٠ هـ والعيون والحدائق.

(٧) تاريخ التمدن الاسلامي المجلد الثاني ص ٢٠١.

٦٤

وكان لدى المسلمين دار للمجانين ، وصيدليات تعطي الدواء مجانا في ايام معينة ، وكان الاطباء يذهبون مع ادويتهم الى الاماكن التي لا يمكن بناء مستشفى فيها (١).

وقد ذكر القفطي وغيره في ترجمة سنان بن ثابت : ان الوزير علي بن عيسى الجراح ـ في سنة كثرت فيها الامراض والاوباء ـ قد وقع الى سنان بن ثابت يأمره : بأن يفرد لمن في الحبوس كلها اطباء يدخلون اليهم في كل يوم ، ويحملون معهم الادوية والاشربة ، وما يحتاجون اليه من المزورات ويعالجوا من فيها من المرضى.

ووقع اليه توقيعا آخر ، يأمره بانفاذ متطببين ، وخزانة من الادوية والاشربة يطوفون في السواد ، ويقيمون في كل صقع منه مدة ما تدعو الحاجة الى مقامهم ويعالجون من فيه ، ثم ينتقلون الى غيره ، ففعل سنان ذلك (٢).

كما ان المسلمين قد أنشأوا ما نسميه اليوم بالعيادات الخارجية (٣).

هذا ... ولم يكن كل هؤلاء الاطباء يتقاضى اجره ، بل كان من بينهم من يعمل مجانا ، فمثلا لقد « كان ابو بكر بن القاضي ابي الحسن الزهري يطبب الناس من دون اجرة ، ويكتب النسخ لهم (٤) ».

ويلاحظ : انهم كانوا في اوائل امرهم يهتمون بفحص البول ، وبالفصد ، والاستفراغ ، ونحو ذلك ... ولكن هذه المعالجات قد بدأت تتطور نحو الافضل باستمرار ، تبعا للتقدم والنبوغ الطبي ، الذي كان يتجلى يوما بعد يوم ، حتى بعث المسلمون في الطب روحا جديدة ، كما هو المعلوم ومعروف لكل احد.

__________________

(١) تمدن اسلام وعرب ص ٦١٥.

(٢) تاريخ الحكماء ١٩٣ / ١٩٤ ، وعيون الانباء ص ٣٠١.

(٣) مختصر تاريخ العرب ص ٢٨٣.

(٤) عيون الانباء ص ٥٣٦.

٦٥

المستشفيات :

الرازي ... وبناء مستشفى :

يقول كوستاف لوبون : لقد بنيت المستشفيات الاسلامية موافقة لاصول حفظ الصحة ، وكانت احسن من المستشفيات الموجودة في هذه الايام. وقضية الرازي حينما اراد ان يختار موقعا للمستشفى معروفة ومشهورة ، فان الطريقة التي استعملها ، يؤيدها اليوم المحققون في الامراض المعدية ، فان الرازي امر بعض الغلمان : ان يعلق في نواح مختلفة من بغداد قطع لحم ، ليرى في ايها لا يتفسخ اللحم وينتن في وقت اقصر ، ليكون الموقع الملائم لبناء المستشفى (١) ويقال : ان هذا المستشفى هو المستشفى العضدي.

ولكن ذكر ابن ابي اصيبعة : ان الرازي كان اقدم من عضد الدولة (٢) ، وعليه فلا بد وان يكون الرازي قد اراد بناء مستشفى غير مستشفى عضد الدولة وذلك لان الرازي توفى سنة ٣٢٠ هـ ، وقال الحسن بن سوار بن بابا ، وكان قريب العهد منه : انه توفي في سنة نيف وتسعين وماءتين ، او ثلاثمائة وكسر (٣) وعضد الدولة انما توفى سنة ٣٧٢ هـ ، كما هو معلوم.

ولكن قد ذكر القفطي ان الرازي قد توفي سنة ٣٦٤ وعاش في زمن المكتفي ، وبعض زمن المقتدر (٤) ، وعليه فلا مانع من ان يكون قد شارك في اختيار موضع المستشفى العضدي ، كما ذكروا.

__________________

(١) راجع تمدن اسلام وعرب ص ٦١٤ وقضية الرازي مذكورة ايضا في عيون الانباء ص ٤١٥ وموجز تاريخ الشرق الادنى ص ١٩٢.

(٢) عيون الانباء ص ٤١٥.

(٣) عيون الانباء ص ٤٢٠.

(٤) تاريخ الحكماء ص ٢٧٢ وراجع تاريخ الاطباء والحكماء ص ١٥٣ الترجمة الفارسية.

٦٦

بعض احوال المستشفيات :

اما احوال المستشفيات في العهد الاسلامي ، فقد تقدم : ان كوستاف لوبون يقل : انها كانت موافقة لاصول الصحة ، واحسن من المستشفيات الموجودة في هذه الايام ، كما انهم قد شيدوا في كل مدينة مستشفيات عامة ، كما سنرى (١).

وكان لكل مرض قاعة او قاعات خاصة ، يطوفها الطبيب المختص بها ، وبين يديه المشارفون والقوام لخدمة المرضى ، فيتفقد المرضى ، ويصف لهم الادوية ، ويكتب لكل مريض داوءه (٢).

وكانوا يعالجون جميع المواطنين في مستشفياتهم ، سواء اكانوا من المسلمين او من غيرهم ، وكانوا يقومون بعمليات التدفئة للمرضى على اكمل وجه ، ويقدمون لهم المؤمن ، والدثار ، وغير ذلك (٣).

وقال المقريزي عن مستشفى ابن طولون الذي اسسه سنة ٢٥٩ هـ في القاهرة : « وشرط في المارستان ان لا يعالج فيه جندي ، ولا مملوك ، وعمل حمامين للمارستان ، احدهما للرجال ، والاخرى للنساء ، حبسهما على المارستان وغيره ، وشرط : انه اذا جيىء بالعليل تنزع ثيابه ، ونفقته ، وتحفظ عند امين المارستان ، ثم يلبس ثيابا ، ويفرش له ، ويغدى عليه ، ويراح بالادوية والاغذية والاطباء حتى يبرأ ، فاذا اكل فروجا ورغيفا امر بالانصراف ، واعطى ماله وثيابه (٤) ».

__________________

(١) مختصر تاريخ العرب ص ٢٨٣.

(٢) تاريخ التمدن الاسلامي ، المجلد الثاني ص ٢٠٧ ، عن طبقات الاطباء ج ١ ص ١٥٥.

(٣) تاريخ الحكماء ص ١٩٤ ، وعيون الانباء ص ٣٠٢ و ٣٠١.

(٤) الخطط للمقريزي ج ٢ ص ٤٠٥ ، وراجع الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري ج ٢ ص ٢٠٥ / ٢٠٦ والمستشفى لابن طولون ذكر في كتاب الولاة والقضاة للكندي ص ٢١٦ / ٢١٧.

٦٧

وقال عن المستشفى المنصوري ، الذي بنى في القاهرة سنة ٦٨٣ هـ :

« ... ورتب فيه العقاقير والاطباء ، وسائر ما يحتاج اليه من به مرض من الامراض ، وجعل السلطان فيه فراشين من الرجال والنساء لخدمة المرضى وقرر لهم المعاليم ، ونصب الأسرّة للمرضى ، وفرشها بجميع الفرش المحتاج اليها في المرض.

وافرد لكل طائفة من المرضى موضعا ، فجعل اواوين المارستان الاربعة للمرضى بالحميات ونحوها ، وافرد قاعة للرمدي ، وقاعة للجرحى ، وقاعة لمن به اسهال ، وقاعة للنساء ، ومكانا للمبرودين ، وينقسم قسمين : قسم للرجال ، وقسم للنساء ، وجعل الماء يجري في جميع هذه الاماكن.

وافرد مكانا لطبخ الطعام ، والادوية ، والاشربة ، ومكانا لتركيب المعاجين والاكحال ، والشيافات ونحوها ، ومواضع يخرن فيها الحواصل.

وجعل مكانا يفرق فيه الاشربة والادوية ، ومكانا يجلس فيه رئيس الاطباء لالقاء درس طب ... الخ. » وكان وقفه عاماً لكل احد (١).

المستشفيات الميدانية

لقد كان لدى المسلمين مستشفيات تستصحبها الجيوش معها ، فقد قال ابن خلكان ، والقفطي عن ابي الحكم عبيد الله بن المظفر المغربي ، المتوفى سنة ٥٤٩ هـ : « وذكر العماد الاصفهاني في الخريدة : ان ابا الحكم المذكور كان طبيب البيمارستان الذي كان يحمله اربعون جملا ، والمستصحب في معسكر السلطان محمود السلجوقي حيث خيم ». ثم ذكر خدمة ابن المرخم فيه ايضا طبيبا وفصادا (٢).

__________________

(١) راجع : الخطط للمقريزي ج ٢ ص ٤٠٦.

(٢) وفيات الاعيان ج ١ ص ٢٧٤ ط سنة ١٣٠٩ هـ ، وتاريخ الحكماء ص ٤٠٥ وتاريخ التمدن الاسلامي ، المجلد الثاني ص ٢٠٧ عن الاول وعن : تراجم الحكماء.

٦٨

ويقول سيد أمير علي. « ... وكان يرافق الجيش في ابان المعارك فريق من الاطباء ، ومستشفى حسن التجهيز ، الحقت به نقالات لنقل الجرحى بشكل محفات تنقلها الجمال. وقد استلزم مستشفى الميدان الخاص بكل من الرشيد. والمأمون عدداً كبيراً من الجمال والبغال لنقل الخيام ، والمؤن ، والادوية.

وحتى في العهود التالية ايام الملوك الضعفاء امثال السلطان محمود السلجوقي كانت لوازم مستشفى الجيش تنقل على اربعين جملا » (١).

مستشفيات الطواري :

ولم تقتصر الخدمات الطبية عند المسلمين على ما ذكر ، بل لقد تعدت ذلك الى ايجاد مراكز للطوارىء في الاجتماعات العامة .. فقد :

« قال جامع السيرة الطولونية ، وقد ذكر بناء جامع ابن طولون : وعمل في مؤخرة ميضأة : او خزانة شراب ، جعل فيها الشرابات الادوية ، وعليها خدم ، وفيها طبيب جالس يوم الجمعة لحادث يحدث للحاضرين للصلاة (٢) ».

اول مستشفى في الاسلام :

اننا نستطيع ان نقول : ان اول مكان خصص لنزول المرضى ، ومعالجتهم بعد ظهور الاسلام ، كان مسجد الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة منذ عهد الرسول عليه وآله الصلاة والسلام.

يقول الدكتور جواد علي وغيره : « وقد كان في مسجد الرسول موضع يعالج فيه المرضى والجرحى ، وكان الرسول والصحابة يتفقدون المرضى النازلين به. (٣) » وسيأتي ان شاء الله في بحث مداواة المرأة للرجل الاشارة

__________________

(١) مختصر تاريخ العرب ص ٣٦٩.

(٢) الخطط للمقريزي ج ٢ ص ٤٠٥ ، والحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري ج ٢ ص ٢٠٦.

(٣) المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام ج ٨ ص ٤١٢ ، والتراتيب الادارية ج ١ ص ٤٥٣ / ٤٥٤ ، وتاريخ طب در ايران ج ٢ ص ٧٦٣ عن تاريخ البيمارستانات في الاسلام ص ٩.

٦٩

الى خيمة رفيدة ، او كعيبة بنت سعيد : التي كانت في مسجد النبي (ص) تداوى فيها الجرحى.

وما ذكر يدل على ان ما ذكره البعض من ان اول مستشفى في الاسلام هو مستشفى الوليد بن عبد الملك (١).

لا يصح ... وانما هو غفلة عن حقيقة الحال ، ولعل الوليد : اول من اهتم بتوسعته لاتساع الحالة المادية في زمنه.

جريمة اموية نكراء! :

قال ابن قتيبة : « ابو الحسن ، قال : مر سليمان بن عبد الملك بالمجذومين في طريق مكة ، فأمر باحراقهم ، وقال : لو كان الله يريد بهؤلاء خيرا ما ابتلاهم بهذا الإبتلاء (٢). » وانها حقا لجريمة نكراء يندى له جبين الانسان الحر الما وخجلا.

هذا ... ولا بأس بالمقارنة بين افاعيل فراعنة وجبابرة هذه الامة ، والشجرة الملعونة في القرآن ، وبين امر الرسول (ص) والائمة (ع) الناس بأن لا يديموا النظر الى اهل البلاء ، فان ذلك يحزنهم ... وبين ما كتبه علي في عهده للاشتر من الحث على القيام بامور ذوي البؤس والزمني واجراء الارزاق عليهم ، للاقصى وللادنى على حد سواء ، فراجع (٣).

__________________

(١) الخطط للمقريزي ج ٢ ص ٤٠٥ ، وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٢٩٠ ، والتراتيب الادارية ج ١ ص ٤٥٤ و ٤٥٥ ، وتاريخ التمدن الاسلامي المجلد الثاني ص ٢٠٥ ، والحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري ج ٢ ص ٢٠٥ ، وتاريخ طب در ايران ج ٢ ص ١٤٨.

(٢) عيون الاخبار لابن قتيبة ج ٤ ص ٦٩.

(٣) نهج البلاغة قسم الكتب ، والبحار ج ٧٧ ص ٢٥٩ و ٢٦٠ عن تحف العقول ص ١٢٦.

٧٠

المستشفيات في القرنين الاولين للهجرة :

١ ـ ثم انشأ الوليد بن عبد الملك في سنة ٨٨ هـ مستشفى في دمشق ، وجعل فيه الاطباء ، واجرى لهم الارزاق ، وامر بحبس المجذومين لئلا يخرجوا ، واجرى عليهم وعلى العميان الارزاق (١).

٢ ـ وكان في زمن الرشيد دار للمجانين (٢). ولا ندري! ان كانت قد اوجدت قبله ، او انه هو الذي اوجدها ، فما جزم به جرجي زيدان ، من ان المنصور هو الذي بناها ، او الذي خلفه (٣) في غير محله.

٣ ـ ثم انشأ الرشيد مستشفى في بغداد ، وعندما اراد البدء به احضر له بختيشوع ( دهشتك ) من جنديشابور ، الذي كان رئيس المستشفى هناك ، وعرض عليه ان يتولى هذه المهمة ، لكن دهشتك رفض العرض ، واشار عليه : ان يقلد هذا الامر لماسويه ، ففعل (٤).

ويميل البعض الى اعتباره اول مستشفى ، ان لم نعد ما صنعه عبد الملك هو المستشفى الاول (٥).

__________________

(١) المصادر التي تقدمت قبل الحاشيتين الاخيرتين ، بالاضافة الى : تاريخ الطبري ج ٥ ص ٢٢٤ ، ونقله في تاريخ طب در ايران ج ٢ ص ٧٦٣ و ٧٦٤ عن صبح الاعشى ج ١ ص ٤٣١ ، وتاريخ البيمارستانات في الاسلام ص ١٠ ، وغرر النقائص الفاضحة ، وغرر الخصائص الواضحة ص ٢٤٨.

(٢) الكشكول للشيخ البهائي ص ٢١٣ ، وتاريخ التمدن الاسلامي المجلد الثاني ص ٢٠٦ عنه.

(٣) تاريخ التمدن الاسلامي ، المجلد الثاني ص ٢٠٦.

(٤) تاريخ الحكماء ص ٣٨٣ / ٣٨٤ ، وعيون الانباء ص ٢٤٥ ، وموجز تاريخ الشرق الادنى ص ١٩١ / ١٩٢ ، والتراث اليوناني في الحضارة الاسلامية ص ٩١ ، وتاريخ طب در ايران ج ٢ ص ٩٤ ، ومجلة الهادي سنة ٢ عدد ٢ ص ٥٢ عن الاول.

(٥) تاريخ طب در ايران ج ٢ ص ١٥٨.

٧١

٤ ـ وأنشأ البرامكة مستشفى باسمهم ، كان يتولى امره ابن دهن الهندي (١).

٥ ـ وكتب طاهر بن الحسين لابنه عبد الله : « وانصب لمرضى المسلمين دوراً توقيهم ، وقواما يرفقون بهم ، واطباء يعالجون اسقامهم (٢). »

٦ ـ وكان في بغداد مستشفى للمجانين هو دير هرقل القديم (٣).

المستشفيات في القرن الثالث فما بعده :

ويقول البعض : « ثم مضى قرن بأكمله قبل ان يسمع المرء بانشاء مثل هذه المؤسسة في العاصمة بغداد من جديد ... وهو القرن الذي دعى فيه اطباء البيمارستانات المشهورين في جنديشابور الى قصر الخليفة.

ولعل السبب في ذلك راجع الى سر من رأى ، التي اصبحت المقام الثاني للخلفاء (٤). »

وعلى كل حال .. فاننا نجد المسلمين قد اهتموا في القرن الثالث بانشاء المستشفيات الكثيرة في مختلف الاقطار ، وكمثال على ذلك نذكر :

١ ـ المستشفى الذي انشأه احمد بن طولون في مصر سنة ٢٥٩ او ٢٦١ حسبما تقدم.

٢ ـ وقبل انقضاء القرن الثالث بنيت المستشفيات في مكة والمدينة (٥).

__________________

(١) الفهرست لابن النديم ص ٣٥٦ ، والحضارة الاسلامية في القرن الرابع ص ٢٠٥ عنه ، وتاريخ طب در ايران ج ٢ ص ٧٧٠ ، وتاريخ التمدن الاسلامي ، المجلد الثاني ص ٢٠٦.

(٢) الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري ج ٢ ص ٢٠٥ عن كتاب بغداد لطيفور ص ٥٠.

(٣) راجع : معجم البلدان للحموي ج ٢ ص ٥٤٠ ، والاغاني ج ١٨ ص ٣٩ و ٣٠ والحضارة الاسلامية في القرن الرابع ج ٢ ص ٢٠٦ عنه.

(٤) التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية ص ٩١.

(٥) عيون الانباء ص ٣١٦.

٧٢

٣ ـ ثم انشأ بدر ، مولى المعتضد مستشفى في بغداد (١).

٤ ـ وفي سنة ٣٠٢ هـ انشأ الوزير علي بن عيسى مستشفى آخر ، وقلده سعيد ابن يعقوب الدمشقي ، مع غيره من مستشفيات بغداد ، ومكة ، والمدينة (٢).

٥ ـ وفي ٣٠٦ هـ انشأ سنان بن ثابت مستشفى السيدة ، وانشأ المقتدر بيمارستانا آخر باسمه (٣) .. ويقال : ان سنان هذا قد تقلد خمس مستشفيات في سنة ٣٠٤ هـ (٤).

٦ ـ وفي سنة ٣١٣ هـ. انشأ ابن الفرات ، خصم علي بن عيسى السياسي مستشفى اسندت رئاسته الى ثابت بن سنان (٥).

٧ ـ ثم اسس امير الامراء التركي ابو الحسين قبل موته في سنة ٣٢٩ هـ. مستشفى ، اسندت رئاسته الى سنان بن ثابت (٦).

٨ ـ وفي سنة ٣٥٥ اسس معز الدولة مستشفى في بغداد ايضا (٧).

٩ ـ وفي سنة ٣٦٨ اسس عضد الدولة المستشفى المشهور في بغداد. وكان يخدم فيه ٢٤ طبيباً ، من مختلف الاختصاصات ، وقد اسندت رئاسته الى اكثر من ٢٤

__________________

(١) تاريخ البيمارستانات في الاسلام ص ١٨٠ والتراث اليوناني في الحضارة الاسلامية ص ٩١.

(٢) عيون الانباء ص ٣١٦ وتاريخ طب در ايران ج ٢ ص ٢٨٨ والتراث اليوناني في الحضارة الاسلامية ص ٩١ وتاريخ التمدن الاسلامي ، المجلد الثاني ص ٢٠٦.

(٣) المصادر المتقدمة مع : الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري ج ٢ ص ٢٠٧ ، والمنتظم ج ٦ ص ١٤٦ وعيون الانباء ص ٣٠٢ وتاريخ الحكماء ص ١٩٤ / ١٩٥.

(٤) الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري ج ٢ ص ٢٠٦ عن المنتظم ١١٤.

(٥) عيون الانباء ص ٣٠٥ ، والحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري ج ٢ ص ٢٠٧ عن المنتظم ص ٢٣ والتراث اليوناني في الحضارة الاسلامية ص ٩٢ ، وتاريخ التمدن الاسلامي ، المجلد الثاني ص ٢٠٦.

(٦) التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية ص ٩٢ ، والحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري ج ٢ ص ٢٠٧.

(٧) تاريخ طب در ايران ج ٢ ص ٧٧٥ والحضارة الاسلامية في القرن الرابع ج ٢ ص ٢٠٧ والمنتظم ج ٧ ص ٣٣.

٧٣

طبيباً على التوالي (١).

وقد زار الرحالة الاندلسي ابن جبير هذا المستشفى في بغداد سنة ٥٨٠ هـ. وكان لا يزال يعمل بنشاط ويظهر : انه لم يتعرض للخراب حين غزا المغول بغداد في سنة ٦٥٦ هجرية (٢).

ثم تتابعت المستشفيات في مختلف البلاد والاصقاع ، بشكل مكثف ، كما يعلم من المراجعة الى المؤلفات والموسوعات ، فراجع على سبيل المثال : تاريخ البيمارستانات في الاسلام ، وتاريخ طب در ايران ج ٢ ، والخطط للمقريزي والحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري ، وغير ذلك ...

كما ان صاحب كتاب تاريخ طب در ايران ج ٢ ص ٧٨٧ فصاعدا قد اجمل وصف المستشفيات في البلاد الاسلامية ، فمن اراد فليراجعه ..

__________________

(١) تاريخ طب در ايران ج ٢ ص ٧٧٥ ، وتاريخ التمدن الاسلامي ، المجلد الثاني ص ٢٠٧ والتراث اليوناني في الحضارة الاسلامية ص ٩٢ ، وكثير من المصادر الاخرى.

(٢) التراث اليوناني في الحضارة الاسلامية ص ٩٣.

٧٤

القسم الثاني

من :

الاخلاق الطبية ... في الاسلام

٧٥
٧٦

الفصل الاول :

الطب ... كمسؤلية

٧٧
٧٨

احكام الاسلام

انه لا شك في ان الله الذي هو خالق كل شيء .. كما انه عليم وبصير بكل ما في هذا الكون ... وعليم بعباده ، وبصير بهم .. كما قال تعالى : « له ملك السماوات والارض ، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. هو الاول والاخر ، والظاهر والباطن ، وهو بكل شيء عليم. هو الذي خلق السماوات والارض في ستة ايام ، ثم استوى على العرش ، يعلم ما يلج في الارض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، وهو معكم اينما كنتم ، والله عليم بصير ». (١) والايات في ذلك كثيرة ..

كذلك .. فانه تعالى رحيم بعباده رؤوف بهم ، لا يريد لهم الا الخير والسعادة ، والصلاح ، كما قال تعالى : « هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ؛ ليخرجكم من الظلمات الى النور ، وان الله بكم لرؤوف رحيم » (٢).

وقال تعالى : « بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. الرحمان الرحيم. » (١)

__________________

(١) الحديد ١ ـ ٤.

(٢) الحديد ٩.

٧٩

والايات في ذلك كثيرة ..

وهكذا .. فانه تعالى اذا شرع لهم احكاما تنظم امور معاشهم ومعادهم ـ بما في ذلك احكام القصاص ـ فانما يهدف من ذلك الى تحقيق السعادة والكمال لهم ، وحفظهم من الانزلاق في مهاوي الشقاء والضلال والضياع ، كما اشارت اليه الاية المتقدمة من سورة الحديد ...

وحينما سئل الامام الباقر عليه عن سبب تحريم الميتة ، والخمر ، ولحم الخنزير ، والدم ، قال : « ان الله تعالى لم يحرم ذلك على عباده ، واحل لهم ما وراء ذلك من رغبة فيما احل لهم ، ولا زهد فيما حرمه عليهم ، ولكنه خلق الخلق ، فعلم ما تقوم به ابدانهم وما يصلحهم ، فأحله لهم ، واباحه لهم : وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه ، ثم احله للمضطر في الوقت الذي لا يقوم بدنه الا به » (١).

وروى بأسانيد عن الرضا عليه‌السلام ، انه قال : « وجدنا : ان ما احل الله ففيه صلاح العباد ، وبقاءهم ، ولهم اليه حاجة ، ووجدنا المحرم من الاشياء ولا حاجة (٢) ولا حاجة بالعباد اليه ، ووجدناه مفيدا ».

قال الحر العاملي : والاحاديث في ذلك كثيرة (٣).

ويكفي ان نذكر : ان الله تعالى قد اعتبر الاسلام نعمة انعم الله بها على العباد ، وقد اتم نعمته هذه بتنصيب علي عليه‌السلام اماما وقائدا في يوم الغدير ، قال تعالى :« اليوم اكملت لكم دينكم ، واتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الاسلام دينا » (٤).

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٢٤٢ ، والمحاسن ص ٣٣٤ والتهذيب ج ٩ ص ١٢٨ ومن لا يحضره الفقيه ج ٣ ص ٢١٨ والوسائل ج ١٧ ص ٢.

(٢) لعل الواو في قوله « ولا » زائدة.

(٣) الفصول المهمة ص ٥٤١ عن علل الشرايع ، والبحار ج ٦ ص ٩٣. وراجع علل الشرايع ج ١ ص ٢٥٠ و ٢٥٢.

(٤) المائدة ٣.

٨٠