تراثنا ـ العدد [ 9 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 9 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٩

وقد جرت بين زيد وبين أمير المؤمنين بعض المساجلات في مجال الفرائض لم يستطع زيد أن يقدم الجواب الكافي في مقابل ما بينه أمير المؤمنين في تلك المسائلة (٣٧) ، ربما أريد : أن يعوض عن فشله ذاك بمنحه أوسمة الجدارة مضادة لعلي عليه‌السلام وتنكرا له.

أبو عمر .. والراية لزيد في تبوك :

قال أبو عمر : «وكانت راية بني مالك بن النجار في تبوك مع عمارة بن حزم ، فأخذها رسول الله ، ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ودفعها إلى زيد بن ثابت ، فقال عمارة : يا رسول الله ، أبلغك عني شي؟!

قال : لا ، ولكن القرآن مقدم ، وزيد أكثر منك أخذا للقرآن ...

وهذا عندي خبر لا يصح ، والله أعلم» (٣٨)

مناقشة حول جمع زيد للقرآن في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وقال ابن قتيبة : وكان أخر عرض رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ القرآن على مصحفة (٣٩) ، أي على مصحف زيد.

وقال أبو عمر : «وأما حديث أنس : أن زيد بن ثابت أحد الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يعني : من الأنصار (٤٠) ، فصحيح وقد عارضه قوم بحديث ابن شهاب ، عن عبيد بن السباق ، عن زيد بن ثابت : إن أبا بكر أمره في حين مقتل القراء باليمامة بجمع القرآن ، قال : فجعلت أجمع القرآن من

__________________

(٣٧) راجع قاموس الرجال ج ٤ ترجمة بن ثابت

(٣٨) الإستيعاب ، بهامش الإصابة ١ : ٥٥٢.

(٣٩) المعارف : ٢٦٠ ، وعنه في المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ٨ : ١٣٤

(٤٠) وعدة فيمن جمع القرآن على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في : البخاري ٣ : ١٤٧ ، وطبقات ابن سعد : قسم ٢ : ١١٢ و ١١٣ عن الشعبي وابن سيرين وقتادة ، وهو عن أنس ..

وراجع أيضا : نور القبس ص ٢٢٥ ، والاتقان ١ : ٧٠ و ٧٢ ، وراجع ٥٧ ، والبرهان للزركشي ١ : ٢٤١.

٨١

العسب ، والرقاع ، وصدور الرجال ، حتى وجدت آخر آية من التوبة مع رجل يقال له حزيمة أو أبو خزيمة. (٤١)

قالوا : فلو كان زيد قد جمع القرآن على عهد رسول الله لأملاه صدره وما احتاج إلى ما ذكر.

قالوا : أما خبر جمع عثمان للمصحف فإنما جمعه من الصحف التي كانت عند حفصة ، من جمع أبي بكر» انتهى كلام أبي عمر (٤٢) ونزيد نحن هنا : أن محمد بن كعب القرظي قد عد الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ولم يذكر زيد بن ثابت فيهم (٤٣) كما أن المعتزلي يقول : «إن عليا عليه‌السلام بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لزم بيته ، وأقبل على القرآن ، ولم يكن غيره يحفظه ، ثم هو أول من جمعه» (٤٤)

وعن ابن المنادي أنه عليه‌السلام : «جلس في بيته ثلاثة أيام حتى جمع القرآن ، فهو أول مصحف جمع فيه القرآن من قلبه» (٤٥) وعن الإمام الباقر عليه‌السلام : «ما ادعى أحد من الناس : أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب ، وما جمعه ، وحفظه كما أنزل ، إلا علي بن أبي طالب والأئمة بعده» (٤٦)

فإن كل ذلك وسواه مما لم نذكره يلقي ظلالا ثقيلة من الشك حول هذه الفضيلة التي تنسب لزيد بن ثابت.

__________________

(٤١) وراجع أيضا : البخاري كتاب التفسير ، باب جمع القرآن ، والاتقان ١ : ٥٧ ، وتاريخ الخلفاء : ٧٧ ، تفسير الطبري ١ : ٢٠ ، وتهذيب تاريخ دمشق ٥ : ١٣٦ ، والبرهان للزركشي ١ : ٢٣٤ ، والمصنف لعبد الرزاق ١٠ : ٢٣٥.

(٤٢) الإستيعاب ـ بهامش الإصابة ١ : ٥٥٢

(٤٣) طبقات ابن سعد ٢ : قسم ٢ : ١١٣ و ١١٤ ، والاتقان ١ : ٧٢ وكنز العمال ٢ : ٣٦٥ و ٣٧٠

(٤٤) شرح نهج البلاغة للمعتزلي الحنفي ١ : ٢٧

(٤٥) الفهرست لابن النديم : ٣٠ وأعيان الشيعة ١ : ٨٩ ، والطبقات لابن سعد ٢ : ٣٣٨ ، وتفسير ابن كثير ٤ : قسم فضائل القرآن ٢٧ ، وأكذوبة تحريف القرآن : ٦٢ عنهم وعن مصنف ابن أبي شيبة ١ : ٥٤٥

(٤٦) الكافي ، كتاب فضل القرآن

٨٢

ولكن حديث جمعة للقرآن في عهد أبي بكر أو عمر من العسب والرقاع ومن صدور الرجال ، فهو أيضا لا يصح ، ولكن البحث حول ذلك له مجال آخر ولا بأس بمراجعة : «أكذوبة تحريف القرآن» للاطلاع على بعض القول في ذلك.

الفضائل ... والسياسية :

وبعد فإننا قد تعودنا من المخالفين لأهل البيت عليهم‌السلام ، ابتداءا من الأمويين ثم العباسيين ، محاولاتهم الدائبة للحط من علي عليه‌السلام ، وأهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم والتستر على فضائله ومزاياه ، وإظهار العيب له .. وقد قال المغيرة بن شعبة لصعصعة : «وإياك أن يبلغني عنك : أنك تظهر شيئا من فضل علي ، فأنا أعلم بذلك منك ، ولكن هذا السلطان قد ظهر وقد أخدنا بإظهار عيبه للناس» (٤٧) والنصوص الدالة على هذه السياسية كثيرة جدا ، بل هي فوق حد الحصاء.

ومن جهة أخرى فإنهم يعملون وعلى إظهار التعظيم الشديد ، لكل من كان على رأيهم ، ويذهب مذهبهم ويصنعون لهم الفضائل ويختلقون لهم الكرامات ، وذلك أمر مشهود ، وواضح وقد أشرنا إليه غير مرة.

والمراجع لحياة زيد بن ثابت ، ولمواقفه السياسية يجد : أنه كان منحرفا عن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

كما ويجد أنه ممن تهتم السلطة برفع شأنهم ، وإثبات الفضائل والكرامات لهم.

الخط السياسي لزيد بن ثابت :

إن الذي يراجع حياة زيد بن ثابت ومواقفه ، يجد : أنه كان عثمانيا ، منحرفا عن أمير المؤمنين علي عليه الصلاة والسلام.

__________________

(٤٧) راجع : الكامل لابن الأثير ٣ : ٤٣٠ ، وتاريخ الطبري ط الاستقامة ٤ : ١٤٤

٨٣

و «كان عثمان يحب زيد بن ثابت» (٤٨) و «كان زيد عثمانيا ، ولم يشهد مع علي شيئا من حروبه» (٤٩).

«والذين نصروا عثمان كانوا أربعة ، كان زيد بن ثابت أحدهم» (٥٠).

وكان على قضاء عثمان (٥١) ، وعلى بيت المال والديوان له (٥٢).

وكان عثمان يستخلفه على المدينة (٥٣).

وكان يذب عن عثمان ، حتى رجع لقوله جماعة من الأنصار (٥٤).

وقد قال للأنصار : إنكم نصرتم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فكنتم أنصار الله ، فانصروا خليفته تكونوا أنصارا لله مرتين ، فقال الحجاج بن غزية : والله إن تدري هذه البقرة الصيحاء ما تقول ، إلى آخره ..

وفي نص آخر : إن سهل بن حنيف أجابه ، فقال : يا زيد ، أشبعك عثمان من عضدان المدينة؟! ـ والعضيدة : نخلة قصيرة ، ينال حملها ـ (٥٥).

وكان بنو عمرو بن عوف قد أجلبوا على عثمان ، وكان زيد يذب عنه ، فقال له قائل منهم :

وما يمنعك؟! ما أقل والله من الخزرج من له من عضدان العجوة مالك!

فقال زيد : اشتريت بمالي وقطع لي إمامي عمر ، وقطع لي إمامي عثمان.

فقال له ذلك الرجل : أعطاك عمر عشرين ألف دينار؟

__________________

(٤٨) الإستيعاب بهامش الإصابة ١ : ٥٥٤

(٤٩) أسد الغابة ٢ : ٢٢٢ وعنه في قاموس الرجال ٤ : ٢٣٩ ، وفي تنقيح المقال ١ : ٤٦٢ ، وراجع : الكامل لابن الأثير ٣ : ١٩١ ، والاستيعاب بهامش الإصابة ١ : ٥٥٤.

(٥٠) الكامل لابن الأثير ٣ : ١٥١ وراجع ص ١٦١ ، وأنساب الأشراف ج ٥ : ص ٦٠ ، والغدير ٩ : ١٥٩ و ١٦٠ عن المصادر التالية : تاريخ الطبري ج ٥ : ص ٩٧ وتاريخ ابن خلدون ٢ : ٣٩١ وتاريخ أبي الفداء ١ : ١٦٨ ،

(٥١) الكامل لابن الأثير ٣ : ١٨٧

(٥٢) راجع : الكامل لابن الأثير ٣ : ١٩١ ، وأسد الغابة ٢ : ٢٢٢ ، وأنساب الأشراف ٥ : ٥٨ ، والاستيعاب بهامش الإصابة ١ : ٥٥٣ و ٥٥٤. والتراتيب الإدارية ١ : ١٢٠

(٥٣) راجع المصادر المتقدمة باستثناء الأول منها ...

(٥٤) تهذيب تاريخ دمشق ٥ : ٤٥١

(٥٥) أنساب الأشراف ٥ : ٩٠ و ٧٨ وراجع الكامل لابن الأثير ٣ : ١٩١

٨٤

قال : لا ، ولكن كان عمر يستخلفني على المدينة ، فوالله ، ما رجع من مغيب قط إلا قطع لي حديقة من نخل (٥٦).

واستخلاف عمر له في أسفاره معروف ومشهور (٥٧).

هذا ... وقد أعطاه عثمان يوما مائة ألف مرة واحدة (٥٨).

وقد بلغ من ثراء زيد أخلف من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار (٥٩).

وكان محل العناية التامة من قبل عمر ، فعدا عن استخلافه له في كل سفر يسافره وإقطاعه الحدائق ، فإنه كان كاتب عمر (٦٠) ، وكان على قضائه وفرض له رزقا (٦١).

ويكفي أن نذكر هنا عبارة ابن سعد ، وابن عساكر ، وهي :

«كان عمر ـ يستخلف زيدا في في كل سفر ، وقل سفر يسافره ولم يستخلفه ، وكان يفرق الناس في البلدان وينهاهم أن يفتوا برأيهم ، ويحبس زيدا عنده ـ إلى أن قال : وكان عمر يقول : أهل البلد ـ يعني المدينة ـ محتاجون إليه ، فيما يجدون إليه ، وفيما يحدث لهم مما لا يجدونه عند غيره (٦٢).

«وما كان عمر وعثمان يقدمان على زيد أحدا ، في القضاء والفتوى ، والفرائض والقراءة» (٦٣).

__________________

(٥٦) تهذيب تاريخ دمشق ٥ : ٤٥١ وراجع ص ٤٥٠.

(٥٧) وراجع ذينه عدا عما تقدم وسيأتي : تذكرة الحفاظ ١ : ٣١ والإصابة ١ : ٥٦٢ ، والاستيعاب بهامش ١ : ٥٥٣ و ٥٥٢.

(٥٨) أنساب الأشراف ٥ : ٣٨ و ٥٢ ، والغدير ٨ : ٢٩٢ و ٢٨٦.

(٥٩) الغدير ج ٨ : ص ٢٨٤ عن مروج الذهب ج ١ : ص ٤٣٤. (٦٠) تهذيب تاريخ دمشق ٥ : ٤٤٨.

(٦١) طبقات ابن سعد ٢ : قسم ٢ : ١١٥ / ١١٦ وتهذيب تاريخ دمشق ج ٥ : ص ٤٥١ ، وتذكرة الحفاظ ج ١ : ص ٣٢.

(٦٢) راجع : تهذيب تاريخ دمشق ٥ : ٤٥٠ ، وطبقات ابن سعد ٢ : قسم ٢ : ١١٦ و ١١٧ ، وكنز العمال ج ١٦ ص ٧ ، وحياة الصحابة ج ٣ : ص ٢١٨.

(٦٣) تهذيب تاريخ دمشق ٥ : ٤٥٠ ، وطبقات ابن سعد ٢ : قسم ٢ : ١١٥ ، وراجع : تذكرة الحفاظ ج ١ : ص ٣٢ ، وكنز العمال ج ١٦ : ص ٦.

٨٥

ثم كان عبد الملك بن مروان من الذين يقولون بقول زيد (٦٤).

أما أبوه مروان فكان قد بلغ من اهتمامه بزيد : أن دعاه ، وأجلس له قوما خلف ستر ، فأخذ يسأله ، وهم يكتبون ، ففطن لهم زيد ، فقال : يا مروان اعذر ، إنما أقول برأيي (٦٥).

وأتاه أناس يسألونه ، وجعلوا يكتبون كل شئ قاله ، فلما أطلعوه على ذلك قال لهم : «لعل كل الذي قلته لكم خطأ إنما قلت لكم بجهد رأي» (٦٦).

ومع أنه يعترف بأنه إنما يفتي لهم برأيه ، فقد بلغ من عمل الناس بفتواه المدعومة من قبل الحكام ، أن سعيد بن المسيب يقول :

«لا أعلم له قولا لا يعمل به ، فهو مجمع عليه في المشرق والمغرب» (٦٧).

فانظر ماذا ترى!؟

وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.

__________________

(٦٤) تهذيب تاريخ دمشق ٥ : ٤٥٢

(٦٥) تهذيب تاريخ دمشق ٥ : ٢ ٤٥ ، وطبقات ابن سعد ٢ : قسم ٢ : ١١٦

(٦٦) تهذيب تاريخ دمشق ٥ : ٤٥٢

(٦٧) تهذيب تاريخ دمشق ٥ : ٤٥١ ، وطبقات ابن سعد ٢ : قسم ٢ : ١١٦

٨٦

التحقيق في نفي التحريف

(٣)

السيد علي الميلاني

لا مجال لإنكار وجود أخبار التحريف في المجاميع الحديثية للشيعة الإمامية ، فقد رواها علماء الحديث في كتبهم ، كغيرها من الأخبار الواصلة إليهم بالأسانيد المعتبرة أو غير المعتبرة ، إنما الكلام في قبول تلك الأخبار سندا ودلالة ، وفي جواز نسبة القول بالتحريف إلى رواتها ومخرجيها.

وقد عرفت من قبل أن الرواية أعم من التصحيح والاذعان بالمضمون ، وأن لا كتاب عند الشيعة التزم مؤلفه فيه بالصحة من أوله إلى آخره وتلقت الطائفة أخباره كلها بالقبول ، كما هو الحال عند أهل السنة بالنسبة إلى الكتب التي سموها بالصحاح وبعض الكتب الأخرى ـ كما سيأتي في الباب الثاني.

وعلى ضوء هذه الأمور ـ التي ستجد أصدق الشواهد عليها وأوضح المصاديق لها ـ قسمنا علماء الشيعة الراوين لأخبار التحريف إلى :

من يروي هذه الأخبار وهو ينفي التحريف وهم الأكثر.

ومن يرويها وهو يقول بالتحريف أو يجوز نسبة القول به إليه وهم قليلون جدا.

وبين الطائفتين طائفة ثالثة ، يروون هذه الأخبار ولكن لا وجه لنسبة القول بالتحريف إليهم ، وعلى رأسهم الشيخ الكليني إن لم يترجح القول بأنه من الطائفة الأولى.

٨٧

(الطائفة الأولى)

١ ـ الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي الملقب بالصدوق ، المتوفى سنة ٣٨١ ه

وقد أجمعت الطائفة على تقدمه وجلالته ، ووصفه الشيخ أبو العباس النجاشي «شيخنا وفقيهنا ، وجه الطائفة بخراسان ، وكان ورد بغداد وسمع منه شيوخ الطائفة وهو حدث السن» (١) وعنونه الشيخ الطوسي قائلا : «كان محمد بن علي بن الحسين حافظا للأحاديث ، بصيرا بالفقه والرجال ، ناقدا للأخبار ، لم ير في القميين مثله في حفظه وكثرة علمه» (٢) وذكره شيخنا الجد المامقاني ، بقوله : «شيخ من مشايخ الشيعة ، وركن من أركان الشريعة ، رئيس المحدثين ، والصدوق فيما يرويه عن الأئمة عليهم‌السلام» (٣).

ولد بدعاء الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه ، كما نص عليه أعلام الطائفة ، «وصدر في حقه من الناحية المقدسة بأنه فقيه خير مبارك ، فعمت بركته ببركة الإمام عليه‌السلام وانتقع به الخاص والعام وبقيت آثاره ومصنفاته مدى الأيام ، وعم الانتفاع بفقهه وحديثه الفقهاء الأعلام» (٤).

رحل في طلب العلم ونشره إلى البلاد القريبة والبعيدة كبلاد خراسان وما وراء النهر والعراق والحجاز ، وألف نحوا من ثلاثمائة كتاب. إحدى هذه المصنفات كتاب الاعتقادات ، الذي قال فيه بكل وضوح وصراحة : «إعتقادنا في القرآن أنه كلام الله ووحيه وتنزيله وقوله وكتابه ، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم عليم. وأنه القصص الحق وأنه لقول فصل وما هو بالهزل ، وأن الله تبارك وتعالى محدثه ومنزله وربه حافظه والمتكلم به.

إعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) رجال النجاشي

(٢) فهرست الطوسي

(٣) تنقيح المقال ٣ : ١٥٤

(٤) تنقيح المقال ٣ : ١٥٤

٨٨

وسلم هو ما بين الدفتين ، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك ومبلغ سوره عند الناس مائة وأربع عشرة سورة ، وعندنا أن «الضحى» و «ألم نشرح» سورة واحدة ، و «لايلاف» و «ألم تر كيف» سورة واحدة «(٥)

يقول رحمه‌الله : إن القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه أي : أن كل ما أوحي إليه بعنوان» القرآن «هو ما بين الدفتين» لا أن هذا الموجود «ما بين الدفتين» بعضه ، وهو ما في أيدي الناس فما ضاع عنهم شئ منه ، فالقرآن عند الشيعة وسائر «الناس» واحد ، غير أن القرآن الموجود عند المهدي عليه‌السلام ـ وهو ما كتبه علي عليه‌السلام ـ يشتمل على علم كثير.

ثم يقول : «ومن نسب إلينا إنا نقول أنه أكثر من ذلك فهو كاذب» (٦) ومنه يظهر أن هذه النسبة «إلينا» أي : إلى الطائفة الشيعية قديمة جدا ، وأن ما تلهج به أفواه بعض المعاصرين من الكتاب المأجورين أو القاصرين ليس بجديد ، فهو «كاذب» وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. إذن ، يحرم نسبة هذا القول إلى «الطائفة» سواء كان الناسب منها أو من غيرها.

ثم قال رحمه‌الله : «وما روي من ثواب قراء كل سورة من القرآن ، وثواب من ختم القرآن كله ، وجواز قراءة سورتين في ركعة نافلة ، والنهي عن القرآن بين السورتين في ركعة فريضة ، تصديق لما قلناه في أمر القرآن ، وأن مبلغه ما في أيدي الناس ، وكذلك ما ورد من النهي عن قراءة كله في ليلة واحدة وأن لا يجوز أن يختم في أقل من ثلاثة أيام ، تصديق لما قلناه أيضا بل نقول إنه قد نزل الوحي الذي ليس بقرآن ، ما لو جمع إلى القرآن ولكان مبلغة مقدار سبع عشرة ألف آية ، ومثل هذا كثير ، وكله وحي وليس بقرآن ولو كان قرآنا لكان مقرونا به وموصولا إليه غير مفصول عنه ، كما كان أمير المؤمنين جمعه فلما جاء به قال : هذا كتاب ربكم كما أنزل على نبيكم لم يزد فيه حرف ولا ينقص منه حرف ، فقالوا : لا حاجة لنا فيه ، عندنا مثل الذي عندك ، فانصرف وهو يقول :» فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به

__________________

(٥) الاعتقادات ـ مخطوط وملحق بكتاب النافع يوم الحشر للمقداد السيوري ـ ٩٢

(٦) الاعتقادات : ٩٣

٨٩

ثمنا قليلا فبئس ما يشترون (٧) (٨).

ومع هذا كله نرى الشيخ الصدوق يروي في بعض كتبه مثل «ثواب الأعمال» ما هو ظاهر في التحريف ، بل يروي في كتابه «من لا يحضره الفقيه» الذي يعد أحد الكتب الحديثية الأربعة التي عليها مدار البحوث في الأوساط العلمية واستنباط الأحكام الشرعية في جمع الأعصار ، وقال في مقدمته :» لم أقصد فيه قصد المصنفين في إيراد جميع ما رووه ، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحته وأعتقد فيه أنه حجة فيما بيني وبين ربي «ـ من ذلك ما لا يقبله ولا يفتي به أحد من الطائفة ، وهو ما رواه عن سليمان بن خالد ، قال :» قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : في القرآن رجم؟ قال : نعم ، قلت : كيف؟ قال الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة (٩)

ورواه الشيخان الكليني والطوسي أيضا عن عبد الله بن سنان بسند صحيح بحسب الاصطلاح ، كما ستعرف.

والخبران يدلان على ثبوت الرجم على الشيخ والشيخة مع عدم الإحصان أيضا ، ولا قائل بذلك منا كما في مباني تكملة المنهاج الذي أجاب عن الخبرين قائلا : «ولا شك في أنهما وردا مورد التقية ، فإن الأصل في هذا الكلام هو عمر بن الخطاب ، فإنه ادعى أن الرجم مذكور في القرآن وقد وردت آية بذلك وقد تعرضنا لذلك في كتابنا (البيان) في البحث حول التحريف وأن القرآن لم يقع فيه تحريف» (١٠)

ولهذا ونظائره أعضل الأمر على العلماء حتى حكي في المستمسك عن بعض المحققين الكبار أنه قال بعدول الصدوق في أثناء الكتاب عما ذكره في أوله ، وأشكل عليه بأنه لو كان كذلك لنوه به من حيث عدل ، وإلا لزم التدليس ولا يليق

__________________

(٧) سورة آل عمران ١٨٧

(٨) الاعتقادات : ٩٣

(٩) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٢٦

(١٠) مباني تكملة المنهاج ١ : ١٩٦ ، سيأتي البحث حول هذه الآية المزعومة في الباب الثاني (السنة والتحريف) بالتفصيل فانتظر.

٩٠

بشأنه ، وللتفصيل في هذا الموضوع مجال آخر.

وكيف كان فإن كلام الشيخ الصدوق ـ رحمه‌الله ـ في «الاعتقادات» مع العلم بروايته لأخبار التحريف في كتبه وحتى في «من لا يحضره الفقيه» لخير مانع من التسرع في نسبة قول أو عقيدة إلى شخص أو طائفة مطلقا ، بل لا بد من التثبت والتحقيق حتى حصول الجزم واليقين

كما أن موقفه الحازم من القول بالتحريف ونفيه القاطع له ـ مع العلم بما ذكر ـ لخير دليل على صحة ما ذهبنا إليه فيما مهدناه وقدمناه قبل الورود في البحث حول معرفة آراء الرواة لأخبار تحريف القرآن ، وستظهر قيمة تلك الأمور الممهدة وثمرتها ـ لا سيما بعد تشييدها بما ذكرناها حول رأي الشيخ الصدوق ـ في البحث حول رأي الطائفة الثالثة وعلى رأسهم الشيخ الكليني

٢ ـ الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي ، المتوفى سنة ٤٦٠

قال عنه العلامة الحلي في «الخلاصة» : شيخ الإمامية ووجههم ، ورئيس الطائفة ، جليل القدر ، عظيم المنزلة ثقة ، عين صدوق عارف بالأخبار والرجال والفقه والأصول والكلام ، والأدب ، وجميع الفضائل تنسب إليه ، صنف في كل فنون الإسلام ، وهو المهذب للعقائد في الأصول والفروع ، الجامع لكمالات النفس في العلم والعمل (١١) وقال السيد بحر العلوم في (رجاله) : «شيخ الطائفة المحقة ، ورافع أعلام الشريعة الحقة ، إمام الفرقة بعد الأئمة المعصومين عليهم‌السلام ، وعماد الشيعة الإمامية في كل ما يتعلق بالمذهب والدين ، محقق الأصول والفروع ومهذب فنون المعقول والمسموع ، شيخ الطائفة على الإطلاق ، ورئيسها الذي تلوى إليه الأعناق ، صنف في جميع علوم الإسلام ، وكان القدوة في ذلك والإمام» (١٢)

فإنه رحمه‌الله ـ من أكبر أساطين الإمامية النافين لتحريف القرآن الشريف حيث يقول : «أما الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به ، لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها وأما النقصان منه فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه ، وهو

__________________

(١١) خلاصة الأقوال في معرفة أحول الرجال.

(١٢) الفوائد الرجالية

٩١

الأليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الذي نصره المرتضى ، وهو الظاهر في الروايات غير أنه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصة والعامة بنقصان كثير من آي القرآن ونقل شئ منه من موضع إلى موضع ، طريقها الآحاد التي لا توجب علما ، فالأولى الإعراض عنها وترك التشاغل بها (١٣)

فالكلام في نقصان القرآن مما لا يليق بالقرآن ، فيجب تنزيهه عنه.

والقول بعدم النقصان هو الأليق بالصحيح من مذهبنا

وما روي في نقصانه آحاد لا توجب علما ، فالأولى الإعراض عنها وترك التشاغل بها.

وهذه الكلمات تؤكد ما ذكرناه من أن الرواية شئ والأخذ بها شئ آخر ، لأن الشيخ الطوسي الذي يقول بأن أخبار النقصان لا توجب علما فالأولى الإعراض عنها وترك التشاغل بها ، ويروي بعضها في كتابه «اختيار معرفة الرجال» (١٤) بل يروي في تهذيب الأحكام ـ وهو أحد الكتب الأربعة ـ قضية رجم الشيخ والشيخة بسند صحيح (١٥)

أما في كتابه «فالخلاف» فالظاهر أن استدلاله به من باب الإلزام ، لأنه  ـ بعد أن حكم بوجوب الرجم على الثيب الزانية ـ حكى عن الخوارج أنهم قالوا : لا رجم في شرعنا ، لأنه ليس في ظاهر القرآن ولا في السنة المتواترة ، فأجاب بقوله «دليلنا إجماع الفرقة ، وروي عن عمر أنه قال : لولا أنني أخشى أن يقال زاد عمر في القرآن لكتبت آية الرجم في حاشية المصحف» (١٦) إذن رواية الحديث ونقله لا يعني الاعتماد عليه والقول بمضمونه والالتزام بمدلوله

٣ ـ الشيخ محمد محسن الفيض الكاشاني ، المتوفى سنة ١٠٩١. قال عنه الشيخ الحر العاملي في أمل الآمل : «كان فاضلا عالما ماهرا حكيما متكلما محدثا

__________________

(١٣) التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي

(١٤) أنظر : الفائدة الثامنة من الفوائد المذكورة في خاتمة الجزء الثالث من تنقيح المقال في علم الرجال ، لمعرفة أن الكتاب المعروف برجال الكشي الموجود الآن هو للشيخ الطوسي

(١٥) التهذيب ١٠ : ٣

(١٦) الخلاف ٢ : ٤٣٨

٩٢

فقيها محققا شاعرا أديبا حسن التصنيف «(١٧) ووصفه الأردبيلي في جامع الرواة » العلامة المحقق المدقق ، جليل القدر عظيم الشأن ، رفيع المنزلة ، فاضل كامل أديب متبحر في جميع العلوم (١٨) وقال المحدث البحراني في لؤلؤة البحرين : «كان فاضلا محدثا إخباريا صلبا» (١٩) وترجم له الخونساري في روضات الجنات فقال : «وأمره في الفضل والفهم والنبالة في الفروع والأصول والإحاطة بمراتب المعقول والمنقول وكثرة التأليف والتصنيف مع جودة التعبير والترصيف أشهر من أن يخفي في هذه الطائفة على أحد إلى منتهى الأبد» (٢٠)

وقد روى الفيض الكاشاني أحاديث في نقصان القرآن في كتابيه «الصافي في تفسير القرآن» و «الوافي» عن كتب المحدثين المتقدمين كالعياشي والقمي والكليني ، فقال في «الصافي» بعد أن نقل طرف منها : «المستفاد من جميع هذه الأخبار وغيرها من الروايات من طريق أهل البيت عليهم‌السلام أن القرآن الذي بين أظهرنا ليس بتمامه كما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢١)

لكن هذا المحدث الأخباري الصلب ـ كما عبر الفقيه الأخباري الشيخ يوسف البحراني ـ لم يأخذ بظواهر تلك الأحاديث ولم يسكت عنها ، بل جعل يؤولها في كتابيه ـ كما تقدم نقل بعض كلماته (٢٢) فقال في الوافي في نهاية البحث : «وقد استوفينا الكلام في هذا المعنى وفيما يتعلق بالقرآن في كتابنا الموسوم (علم اليقين) فمن أراده فليرجع إليه» (٢٣)

وفي هذا الكتاب ذكر أن المستفاد من كثير من الروايات أن القرآن بين أظهرنا ليس بتمامه كما أنزل ، ثم ذكر كلام الشيخ علي بن إبراهيم ، وروايتي الكليني عن ابن أبي نصر وسالم بن سلمة ، ثم قال : «أقول : يرد على هذا كله إشكال وهو

__________________

(١٧) أمل الآمل.

(١٨) جامع الرواة ٢.

(١٩) لؤلؤة البحرين.

(٢٠) روضات الجنات ٥.

(٢١) الصافي في تفسير القرآن.

(٢٢) راجع القسم الأول من البحث في نشرة «تراثنا» العدد ٦ ص ١٣٥.

(٢٣) الوافي.

٩٣

أنه على ذلك التقدير لم يبق لنا اعتماد على شئ من القرآن ، إذ على هذا يحتمل كل آية منه أن تكون محرفة ومغيرة ، ويكون على خلاف ما أنزله الله فلم يبق في القرآن لنا حجة أصلا فتنتفي فائدته وفائدة الأمر باتباعه والوصية به ، وأيضا قال الله عزوجل : وإنه لكتاب عزيز ، وأيضا قال الله عزوجل : إنا نحن نزلنا الذكر وأيضا فقد استفاض عن النبي والأئمة حديث عرض الجزء المروي عنهم على كتاب الله ثم قال : «ويخطر بالبال في دفع هذا الإشكال ـ والعلم عند الله ـ أن مرادهم بالتحريف والتغيير والحذف إنما هو من حيث المعنى دون اللفظ أي : حرفوه وغيروه في تفسيره وتأويله ، أي حملوه على خلاف ما هو عليه في نفس الأمر ، بمعني قولهم : كذا أنزلت ، أن المراد به ذلك لا ما يفهمه الناس من ظاهره ، وليس مرادهم أنها نزلت كذلك في اللفظ ، فحذف ذلك إخفاء للحق ، وإطفاء لنور الله.

ومما يدل على هذا ما رواه في الكافي بإسناده عن أبي جعفر أنه كتب في رسالته إلى سعد الخير : وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده « ثم أجاب عن الروايتين وقال :» ويزيد ما قلناه تأكيدا ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره بإسناده عن مولانا الصادق قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعلي : القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس ، فخذوه واجمعوه ولا تضيعوه كما ضيعت اليهود التوراة» ثم ذكر كلام الشيخ الصدوق في «الاعتقادات» بطوله ثم قال : «وأما تأويل أهل البيت أكثر الآيات القرآنية بفضائلهم ومثالب أعدائهم فلا إشكال فيه ، إذ التأويل لا ينافي التفسير ، وإرادة معنى لا تنافي إرادة معنى آخر ، وسبب النزول لا يخصص» (٢٤) ثم استشهد لذلك بخبر في الكافي عن الصادق عليه‌السلام ، وسنورد محل الحاجة من عبارته كاملة فيما بعد

٤ ـ الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي ، المتوفى في سنة ١١٠٤

قال الشيخ يوسف البحراني عنه : «كان عالما فاضلا محدثا إخباريا» (٢٥) قال الخونساري «شيخنا الحر العاملي الأخباري ، هو صاحب كتاب وسائل

__________________

(٢٤) علم اليقين ١ : ٥٦٢ ـ ٥٦٩

(٢٥) لؤلؤة البحرين.

٩٤

الشيعة ، وأحد المحمدين الثلاثة المتأخرين الجامعين لأحاديث هذه الشريعة «(٢٦) وقال المامقاني :» هو من أجلة المحدثين ومتقي الأخباريين (٢٧)

روى بعض أخبار تحريف القرآن في كتابيه «إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات» و «وسائل الشيعة» وسائل عن الكتب الأربعة وغيرها لكنه ـ رحمه‌الله ـ من المحدثين النافين للتحريف بصراحة كما تقدم في الفصل الأول (٢٨)

٥ ـ الشيخ محمد باقر المجلسي ، المتوفى سنة ١١١١

قال الحر العاملي عنه «مولانا الجليل محمد باقر بن مولانا محمد تقي المجلسي ، عالم فاضل ماهر ، محقق ، مدقق ، علامة ، فهامة ، فقيه ، متكلم ، محدث ، ثقة ثقة ، جامع للمحاسن والفضائل ، جليل القدر ، عظيم الشأن» (٢٩) وقال البحراني : «العلامة الفهامة ، غواص بحار الأنوار ، ومستخرج لآلئ الأخبار وكنوز الآثار ، الذي لم يوجد له في عصره ولا قبله ولا بعده قرين في ترويج الدين وإحياء شريعة سيد المرسلين ، بالتصنيف والتأليف والأمر والنهي وقمع المعتدين والمخالفين ... وكان إماما في وقته في عالم الحديث وسائر العلوم وشيخ الإسلام بدار السلطنة أصفهان» (٣٠)

روى المجلسي في كتابه «بحار الأنوار» أحاديث نقصان القرآن الكريم عن الكافي للكليني وغيره ، بل لعله استقصى كافة أحاديث التحريف بمختلف معانيه.

لكنا نعلم بأن كتابه «بحار الأنوار» على جلالة وعظمته موسوعة قصد منها جمع الأخبار المروية عن أهل البيت عليهم‌السلام وحصرها في كتاب واحد ، صونا لها من التشتت والضياع والتبعثر ، ولذا نرى أنه لم يصنع فيه ما صنع في كتابه «مرآة العقول» في شرح كتاب الكافي للكليني ، حيث نظر في الأسانيد والمتون نظرة علمية

__________________

(٢٦) روضات الجنات ٦.

(٢٧) تنقيح المقال ٣.

(٢٨) راجع القسم الأول من البحث في نشرة «تراثنا» العدد ٦ ص ١٣٦.

(٢٩) أمل الآمل

(٣٠) لؤلؤة البحرين.

٩٥

تدل على طول باعه وسعة اطلاعه وعظمة شأنه في الفقه والحديث والرجال وغيرها من العلوم

هذا مضافا إلى أنه ـ رحمه‌الله ـ نص بعد نقل الأخبار على ما تقدم نقله من الاعتقاد بأن القرآن المنزل من عند الله هو مجموع ما بين الدفتين من دون زيادة أو نقصان

(الطائفة الثانية)

١ ـ واشهر هذه الطائفة هو الشيخ علي بن إبراهيم القمي ، صاحب التفسير المعروف باسمه ، في الحديث والثبت المعتمد في الرواية عند علماء الرجال (٣١) ومن أعلام القرن الرابع.

فقد جاء في مقدمة التفسير ما هذا لفظه : «وأما ما هو محرف منه فهو قوله : لكن الله يشهد بما أنزل إليك ـ في علي أنزله بعلمه والملائكة يشهدون. وقوله : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ـ في علي ـ فإن لم تفعل فما بلغت رسالته وقوله : إن الذين كفروا ـ وظلموا آل محمد حقهم ـ لم يكن الله ليغفر لهم. وقوله : وسيعلم الذين ظلموا ـ آل محمد حقهم ـ أي منقلب ينقلبون. وقوله : ولو ترى ـ الذين ظلموا ـ آل محمد حقهم ـ في غمرات الموت ، ومثله كثير نذكره في مواضعه» (٣٢)

وذكر الشيخ الفيض الكاشاني عبارته في «علم اليقين» ، وعلى هذا الأساس نسب إليه الاعتقاد بالتحريف في «الصافي» في تفسير القرآن «لكن هذا يبتنى على أن يكون مراد القمي من» ما هو محرف منه «هو الحذف والاسقاط للفظ ... وأما إذا كان مراده ذكره الفيض نفسه من» أن مرادهم بالتحريف التغيير والحذف إنما هو من حيث المعنى دون اللفظ أي حرفوه وغيروه في تفسيره وتأويله أي حملوه على خلاف ما هو عليه في نفس الأمر «فلا وجه لنسبة القول بالتحريف ـ بمعنى النقصان ـ إلى القمي ، بعد عدم وجود تصريح منه بالاعتقاد

__________________

(٣١) ترجمته في تنقيح المقال ٢ : ٢٦٠

(٣٢) تفسير القمي ١ : ١٠

٩٦

بمضامين الأخبار الواردة في تفسيره ، والقول بما دلت عليه ظواهرها ، بل يحتمل إرادته هذا المعنى كما يدل عليه ما جاء في رسالة الإمام إلى سعد الخير فيما رواه الكليني.

مضافا إلى أن القمي نفسه روى في تفسيره بإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام قال : «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعلي عليه‌السلام : القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس ، فخذوه واجمعوه ولا تضيعوه كما ضيعت اليهود التوراة» (٣٣)

ويؤكد هذا الاحتمال كلام الشيخ الصدوق ، ودعوى الإجماع من بعض الأكابر على القول بعدم التحريف

ثم إن الأخبار الواردة في تفسير القمي ليست كلها للقمي ـ رحمه‌الله ـ بل جلها لغيره ، فقد ذكر الشيخ آغا بزرك الطهراني ، إن القمي اعتمد في تفسيره على خصوص ما رواه عن الصادق عليه‌السلام ، وكان جله مما رواه عن والده إبراهيم ابن هاشم عن مشايخه البالغين الستين رجلا ...

قال : «ولخلو تفسيره هذا عن روايات سائر الأئمة عليهم‌السلام عهد تلميذه الآتي ذكره والراوي لهذا التفسير ، عنه على إدخال بعض روايات الإمام الباقر عليه‌السلام التي أملاها على أبي الجارود في أثناء التفسير ، وذلك التصرف وقع منه من أوائل سورة آل عمران إلى آخر القرآن» (٣٤)

وهذه جهة أخرى تستوجب النظر في أسانيد الأخبار الواردة فيه لا سيما ما يتعلق منها بالمسائل الاعتقادية المهمة كمسألتنا.

٢ ـ السيد نعمة الله التستري الشهير بالمحدث الجزائري ، الترجم له في كتب التراجم والرجال مع الاطراء والثناء

قال الحر العاملي : «فاضل عالم محقق علامة ، جليل القدر ، مدرس» (٣٥) وقال المحدث البحراني : «كان هذا السيد فاضلا محدثا مدققا واسع الدائرة في

__________________

(٣٣) تفسير القمي ٢

(٣٤) الذريعة ٤ : ٣٠٣

(٣٥) أمل الآمل ٢ : ٣٣٦.

٩٧

الاطلاع على أخبار الإمامية وتتبع الآثار المعصومية (٣٦) وكذا قال غيرهما

وقد ذهب هذا المحدث إلى القول بنقصان القرآن عملا بالأخبار الظاهرة فيه ، مدعيا تواترها بين العلماء ، وقد تقدم نص كلامه والجواب عنه في فصل (الشهاب) (٣٧)

ولا يخفي أن الأساس في هذا الاعتقاد كون الرجل من العلماء الإخباريين ، ولذا استغرب منه المحدث النوري اعتماده على تقسيم الأخبار وتنويعها في شرحه لتهذيب الأحكام ، وإذا تمت المناقشة في الأساس انهدام كل ما بني عليه

٣ ـ الشيخ أحمد بن محمد مهدي النراقي ، المتوفى سنة ١٢٤٤ ، وهو من كبار الفقهاء الأصوليين ، وله مصنفات ومؤلفات كثيرة ، من أشهرها : مناهج الأحكام  ـ في الأصول ـ ، ومستند الشيعة ـ في الفقه ـ ، ومعراج السعادة ـ في الأخلاق –

قال الشيخ النراقي بعد أن ذكر أدلة المثبتين والنافين : «والتحقيق : إن النقص واقع في القرآن ، بمعنى أنه قد أسقط منه شئ وإن لم يعلم موضعه بخصوصه ، لدلالة الأخبار الكثيرة ، والقرائن المذكورة عليه من غير معارض ، وأما النقص في خصوص المواضع وإن ورد في بعض الأخبار إلا أنه لا يحصل منها سوى الظن ، فهو مظنون ، وأما غير المواضع المنصوصة فلا علم بالنقص فيها ولا ظن ، وأما الاحتمال فلا دافع له ولا مانع ، وإن كان مرجوحا في بعض المواضع

وأما الزيادة فلا علم بوقوعها بل ولا ظن ، بل يمكن دعوى العلم على عدم زيادة مثل آية أو آيتين فصاعدا ، وأما التغيير والتحريف في بعض الكلمات عمدا أو سهوا فلا يمكن نفيه وإن لم يمكن إثباته علما كالاختلاف في الترتيب» (٣٨)

وكأن هذا الذي ذكره وجعله هو التحقيق ، جمع بين مقتضى القواعد الأصولية وبين الأخبار الواردة في المسألة ، لكن ما ورد من الأخبار دالا على وقوع النقص في القرآن من غير تعيين لموضعه بخصوصه قليل جدا وما دل على وقوعه في

__________________

(٣٦) لؤلؤة البحرين : ١١١

(٣٧) راجع القسم الثاني من البحث في نشرة «تراثنا» العدد ٧ ـ ٨

(٣٨) مناهج الأحكام.

٩٨

خصوص المواضع بعد تماميته سندا وجوازا الأخذ بظاهره لا يحصل منه سوى الظن كما قال وهو لا يغني من الحق شيئا في مثل مسألتنا وحينئذ لا يبقى إلا الاحتمال وهو مندفع بالأدلة المذكورة على نفي التحريف ومع التنزل عنها يدفعه أصالة العدم

٤ ـ السيد عبد الله بن السيد محمد رضا الشبر الحسيني الكاظمي ، المتوفى سنة ١٢٤٢ ، الترجم له في كتب الرجال بالثناء والاطراء ، قال الشيخ القمي : «الفاضل النبيل والمحدث الجليل ، والفقيه المتبحر الخبير ، العالم الرباني والمشتهر في عصره بالمجلسي الثاني ، صاحب شرح المفاتيح في مجلدات ، وكتاب جامع المعارف والأحكام ـ في الأخبار شبه بحار الأنوار ـ وكتب كثيرة في التفسير والحديث والفقه وأصول الدين وغيرها» (٣٩)

وقد ذكرنا هذا السيد في الطائفة الثانية لكلام له جاء في كتاب «مصابيح الأنوار» ثم لاحظنا أنه في تفسيره يفسر الآيات المستدل بها على نفي التحريف بمعنى آخر ، ولم يشر إلى عدم التحريف في بحثه حول القرآن ووجوه إعجازه في كتابه «حق اليقين في معرفة أصول الدين»

وأما نص عبارته في كتاب «مصابيح الأنوار» فهي «الحديث ١٥٣ : ما رويناه عن ثقة الإسلام في (الكافي) والعياشي في تفسيره بإسنادهما عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : نزل القرآن على أربعة أرباع : ربع فينا ، وربع في عدونا وربع سنن وأمثال ، وربع فرائض وأحكام. وزاد العياشي : ولنا كرائم القرآن.

بيان : هذا الحديث الشريف فيه مخالفة لما اشتهر بين الأصحاب وصرحوا به : من أن الآيات التي يستنبط منها الأحكام الشرعية خمسمائة آية تقريبا

ولما ذهب إليه أكثر القراء (٤٠) من أن سور القرآن بأسرها مائة وأربعة عشر سورة ، إلى أن ستة آلاف وستمائة وستة وستون آية ، وإلى أن كلماته سبع وسبعون ألف وأربعمائة وثلاثون كلمة ، وإلى أن حروفه ثلاثمائة ألف واثنان

__________________

(٣٩) الكنى والألقاب ٢ : ٣٢٣

(٤٠) وكذا جاء أيضا في «الوافي» و «مرآة العقول» نقلاه عن «المحيط الأعظم في تفسير القرآن» للسيد حيدر الآملي ، من علماء القرن الثامن ، عن أكثر القراء

٩٩

وعشرون ألف وستمائة وسبعون حرفا ، وإلى أن فتحاته ثلاث وتسعون ألف ومائتان وثلاث وأربعون فتحة ، وإلى أن ضماته أربعون ألف وثمانمائة وأربع ضمات ، وإلى أن كسراته تسع وثلاثون ألفا وخمسمائة وستة وثمانون كسرة ، وإلى أن تشديداته تسعة عشر ألف ومائتان وثلاث وخمسون تشديدة ، وإلى أن مداته ألف وسبعمائة وإحدى وسبعون مدة

وأيضا يخالف ما روياه بإسنادهما عن الأصبغ بن نباتة قال : سمعت أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : نزل القرآن أثلاثا : ثلث فينا وفي عدونا ، وثلث سنن وأمثال ، وثلث فرائض وأحكام

وما رواه العياشي بإسناده عن خيثمة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : القرآن نزل أثلاثا : ثلث فينا وفي أحبائنا وثلث في أعدائنا وعدو من كان قبلنا ، ثلث سنن ومثل ، ولو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شئ ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السماوات والأرض ، ولكل قوم آية يتلونها من خير أو شر».

ثم قال رحمه‌الله : «ويمكن رفع التنافي بالنسبة إلى الأول : بأن القرآن الذي أنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أكثر مما في أيدينا اليوم وقد أسقط منه شئ كثير ، كما دلت عليه الأخبار المتضافرة التي كادت أن تكون متواترة ، وقد أوضحنا ذلك في كتابنا : منية المحصلين في حقية طريقة المجتهدين

وبالنسبة إلى الثاني : بأن بناء التقسيم ليس على التسوية الحقيقية ولا على التفريق من جمع الوجوه ، فلا بأس باختلافه بالتثليث والتربيع ولا بزيادة بعض الأقسام على الثلث والربع أو نقص عنهما ، ولا دخول بعضها في بعض ، والله العالم» (٤١)

٥ ـ الشيخ محمد صالح بن أحمد المازندراني

قال الحر العاملي : «فاضل عالم محقق ، له كتب منها شرح الكافي ، كبير

__________________

(٤١) مصابيح الأنوار في حل مشكلات الأخبار ٢ : ٢٩٤ ـ ٢٩٥

١٠٠