تراثنا ـ العدد [ 6 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 6 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣١

بكامله وعرفنا منهم ثلاثة :

١ ـ السيد محسن نواب بن السيد أحمد اللكهنوي ، المولود سنة ١٣٢٩ ، والمهاجر إلى النجف الأشرف لطلب العلم فقام هناك بهذه المهمّة وأتمّ تعريب وتلخيص عدّة مجلّدات منه.

٢ ـ السيد علي بن السيد نورالدين الميلاني حفظه الله ، تصدّى لتعريب الكتاب مع حذف المكررات وأنهى العمل أو كاد ، وطبع من ذلك حتى الآن تسعة أجزاء باسم « خلاصة عبقات الأنوار » وسوف يصدر بقية الكتاب تباعاً في عدّة أجزاء اُخرى إن شاء الله.

٣ ـ السيد هاشم الأمين العاملي نجل المغفور له السيد محسن الأمين العاملي ـ مؤلف « أعيان الشيعة » ـ حفظه الله ، فقد بدأ بتعريب الكتاب بكامله من دون حذف أو تلخيص وقد أنجز تعريب المجلّد بقسميه وهو تحت الطبع أيضاً.

وآخر دعوانا أن الحمدلله ربّ العالمين

٦١

نفس الأمر

الشيخ حسن حسن زاده الآملي

بسم الله الرّحمٰن الرحيم

الحمد لمن له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ، والصلاة والسلام على من اصطفاهم على العالمين سيّما على سيّدهم وآله آل ياسين ، ثم الصلاة والسّلام علينا وعلى جميع عباد الله الصالحين.

وبعد ، فهذه وجيزة عزيزة ، تبحث عن نفس الأمر ، وقد حداني على تصنيفها ما أتقنه المحقّق الطوسي في المسألة السابعة والثلاثين من الفصل الأول من المقصد الأول من تجريد الإعتقاد ، وما أورده العلّامة الحلّي في هذا المقام من كشف المراد.

فالحريّ أن نصدّرها بكلامهما أولاً ، ثم نخوض في نفس الأمر ثانياً ، مستمدّين ممّن له غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كلّه.

قال المحقّق الطوسي ـ قدّس سرّه القدّوسي ـ : « وإذا حكم الذهن على الاُمور الخارجية بمثلها وجب التطابق في صحيحه ، وإلّا فلا ، ويكون صحيحه باعتبار مطابقته لما في نفس الأمر لإمكان تصوّر الكواذب ».

وقال العلّامة الحلّي ـ رضوان الله تعالى عليه ـ : أقول : الأحكام الذهنيّة قد تؤخذ بالقياس إلى ما في الخارج ، وقد تؤخذ لا بهذا الإعتبار. فإذا حكم الذهن على الأشياء الخارجية بأشياء خارجية مثلها ، كقولنا : الإنسان حيوان في الخارج ، وجب أن تكون مطابقة لما في الخارج ، حتى يكون حكم الذهن حقاً ، وإلّا لكان باطلاً.

وإن حكم على أشياء خارجية باُمور معقولة ، كقولنا : الإنسان ممكن ، أو حكم

٦٢

على الاُمور الذهنيّة بأحكام ذهنية كقولنا : الإمكان مقابل للإمتناع ، لم تجب مطابقته لما في الخارج إذ ليس في الخارج إمكان وامتناع متقابلان ، ولا في الخارج إنسان ممكن.

إذا تقرّر هذا فنقول : الحكم الصحيح في هذين القسمين لا يمكن أن يكون باعتبار مطابقته لما في الخارج ، لما تقدّم من أنّ الحكم ليس مأخوذاً بالقياس إلى الخارج ، ولا باعتبار مطابقته لما في الذهن ، لأنّ الذهن قد يتصوّر الكواذب ، فإنّا قد نتصور كون الإنسان واجباً مع أنّه ممكن.

فلو كان صدق الحكم باعتبار مطابقته لما في الذهن ، لكان الحكم بوجوب الإنسان صادقاً ، لأنّ له صورة ذهنية مطابقة لهذا الحكم ، بل يكون باعتبار مطابقته لما في نفس الأمر.

وقد كان في بعض أوقات استفادتي منه ـ رحمه الله ـ جرت هذه النكتة ، وسألته عنه معنى قولهم : إنّ الصادق في الأحكام الذهنية هو باعتبار مطابقته لما في نفس الأمر ، والمعقول من نفس الأمر إمّا الثبوت الذهني أو الخارجي ، وقد منع كل منهما ها هنا.

فقال ـ رحمه الله ـ : « المراد بنفس الأمر هو العقل الفعّال ، فكل صورة أو حكم ثابت في الذهن مطابق للصور المنتقشة في العقل الفعّال ، فهو صادق ، وإلّا فهو كاذب ».

فأوردت عليه ان الحكماء يلزمهم القول بانتقاش الصور الكاذبة في العقل الفعّال ، لأنهم استدلّوا على ثبوته بالفرق بين النسيان والسهو ، فإنّ السهو هو زوال الصورة المعقولة عن الجوهر العاقل ، وارتسامها في الحافظ لها ، والنسيان هو زوالها عنهما معاً ، وهذا يتأتى في الصور المحسوسة ، اما المعقولة فإن سبب النسيان هو زوال الإستعداد بزوال المفيد للعلم في باب التصوّرات والتصديقات ، وهاتان الحالتان قد تعرضان في الأحكام الكاذبة ، فلم يأت فيه بمقنع.

وهذا البحث ليس من هذا المقام ، وإنما انجرّ الكلام إليه ، وهو بحث شريف لا يوجد في الكتب.

فنقول : الأمر في معرفة نفس الأمر مبتنٍ على اُمور :

أحدها : مرادهم من كلمتي النفس والأمر ، وغرضهم من الإضافة ، وتركيب

٦٣

العبارة ، والأقوال التي قيلت في نفس الأمر.

ثانيها : المراد من « الخارج » في قولنا : هذا يطابق الخارج ، وهذا لا يطابقه ، كالقضايا ، الصادقة والكاذبة ، والتحقيق في المطابقة وعدمها.

ثالثها : بيان العقل الفعّال ، ونحو كينونة الحقائق فيه ، واشتماله عليها.

فاعلم أنّ كلمة « النفس » بمعنى الذات ، و « الأمر » بمعنى الشيء ، وإطلاق النفس على الذات ، والأمر على الشيء ذائع نظماً ونثراً ، في منشآت أرباب القلم العربي ، ومحاوراتهم ومقاماتهم ، وقد أغنتنا الشهرة عن الإتيان بالأمثلة والإستشهاد بها. على أنّ المعاجم اللغوية وحدها حجّة على ذلك ، ولا حاجة للنقل. فنفس الأمر بمعنى ذات الشيء وحقيقته ، فالشيء الذي له حقيقة له نفسية بذاته ، وواقعية في حدّ ذاته ، فهو موجود في حدّ ذاته ، مع قطع النظر عن فرض فارض واعتبار معتبر.

يقول المحقّق الطوسي مثلاً في شرح الفصل الثالث من النمط الثاني من الإشارات في بيان ان المحدد للجهات على ما ذهب إليه المتأخّرون من المشاء ما هذا لفظه :

« الأمر في نفسه هو أن المحدّ الأول لايكون إلّا المحيط المطلق. يعني أنّ حكم المحدّد ، ومسألته النفسية الواقعية أنّه لا يكون إلّا المحيط المطلق. فنفس الأمر بمعنى الأمر في نفسه ، فهما بمعنى واحد ».

فنقول : إنّ تلك الواقعيات في نظام الكون الأحسن الأتم هي صورة علميّة نطلبها ، ونبحث عنها ، ونقيم البرهان عليها ، فإذا حصلت لنا صرنا عالمين بها ، فيتفرّع عليها نتائج حقة ، نستفيد بها في شؤون اُمورنا الدنيوية والاُخروية ، لا تتغيّر عن حقائقها بفرض فارض ، وتصوّر متصوّر ، واعتبار معتبر. مثلاً : الأربعة زوج ، والإنسان ممكن ، والجسم المتناهي متشكّل ، أحكام واقعية نفسية ، لا فرضية اعتبارية ، يترتّب عليها نتائج علمية حقيقية. بخلاف القول بأن الأربعة فرد ـ مثلاً ـ فإنّه لا نفسية له أصلاً ، وهكذا غيره من الكواذب الاُخرى ، فنفس الأمر عبارة عن وجود أصيل قويم لايتطرق إليها بطلان ، بل هي متن من متون الأعيان ، وتخم (١) من تخوم الضرورة والبرهان ، أي حد من

____________________________

(١) تخم : كلمة تستعمل نادراً بمعنى الحدّ ، وتخوم بمعنى حدود ، وما بعدها مفسّر لها.

٦٤

حدودهما ، وأصل من اُصولهما الثابتة أزلاً وأبداً ، سواء كان ذلك الوجود في الخارج أو في الذهن.

والأقوال الاُخرى في نفس الأمر ستعلمها أيضاً ، وسيأتي البحث عن تحقيق الخارج أيضاً.

وبذلك المعنى المحرر ، قال المتألّه السبزواري في الحكمة المنظومة :

بحدّ ذات الشيء

نفس الأمر بحدٌّ

ثم فسره بقوله : « أي حدّ وعرف نفس الأمر بحدّ ذات الشيء. والمراد بحدّ الذات ـ هنا ـ مقابل فرض الفارض ، ويشمل مرتبة الماهيّة والوجودين الخارجي والذهني ، فكون الإنسان حيواناً في المرتبة ، وموجوداً في الخارج ، أو الكلّي موجوداً في الذهن ، كلّها من الاُمور ـ النفس الأمرية ـ إذ ليست بمجرد فرض الفارض كالإنسان جماد. فالمراد بالأمر هو الشيء نفسه ، فإذا قيل : الأربعة في نفس الأمر كذا ، معناه ان الأربعة في حدّ ذاتها كذا ، فلفظ الأمر ـ هنا ـ من باب وضع المظهر موضع المضمر » (٢).

واما العقل الفعّال ، فالكلام الحق ، والقول الصدق ـ فيه ـ هو ما أفاده الشيخ ـ قدّس سره ـ في كتبه الثلاثة الآتي ذكرها من إطلاقات العقل الفعّال على المعلول الأول ، وعلى العقل العاشر ، وعلى كل واحد من العقول المفارقة.

قال في التعليقات : « المعلول الأول ، وهو العقل الأول إمكان وجوده له من ذاته لا من خارج » (٣).

وقال في الفصل الثالث من المقالة التاسعة من إلهيات الشفاء : « وكان عددها ـ يعني عدد المفارقات ـ عشرة بعد الأول تعالى ، أولها العقل المحرّك الذي لايتحرك ـ الى قوله ـ : وكذلك حتى ينتهي الى العقل الفائض على أنفسنا ، وهو عقل العالم الأرضي ، ونحن نسمّيه العقل الفعّال » (٤).

وقال في الفصل الخامس من المقالة الثالثة من كتابه في المبدأ والمعاد :

« ولمّا كان كل ما يخرج من القوة الى الفعل يخرج بسبب مفيد له ذلك

____________________________

(٢) الحكمة المنظومة : ٤٩.

(٣) التعليقات : ١٠٠ ، الطبعة الاُولى.

(٤) الشفاء ٢ : ٢٦٤ ، الطبعة الاُولى.

٦٥

الفعل. وينتقش صورة في شمع ، عمّا ليس له تلك الصورة ، وشيء يفيد كمالاً فوق الذي له ، فيجب أن تخرج هذه القوّة الى الفعل بشيء من العقول المفارقة المذكورة ، اما كلها ، واما الأقرب إليها في المرتبة ، وهو العقل الفعّال.

وكل واحد من العقول المفارقة عقل فعّال ، لكن الأقرب منا عقل فعال بالقياس إلينا. ومعنى كونه فعّالاً انه في نفسه عقل بالفعل ، لا أن فيه شيئاً هو قابل للصورة المعقولة ، كما هو عندنا ، ولا ان فيه شيئاً هو كمال ، بل ذاته صورة عقلية قائمة بنفسها ، وليس فيها شيء ممّا هو بالقوة ، وممّا هو مادة البتة. فهي عقل وتعقل ذاتها ، لأن ذاتها أحد الموجودات ، فهي عقل لذاته ومعقول ، لأنها موجودات من الموجودات المفارقة للمادّة ، فلا يفارق كونها عقلاً كونها معقولاً ، ولا كونها هذا العقل كونها هذا المعقول. فأما عقولنا فيفترق فيها ذلك ، لأن فيها ما بالقوة. فهذا أحد معاني كونه عقلاً فعالاً.

وهو أيضاً عقل فعّال بسبب فعله في أنفسنا وإخراجه إياها عن القوّة الى الفعل.

وقياس العقل الفعّال الى أنفسنا قياس الشمس إلى أبصارنا ، وقياس ما يستفاد منه الضوء المخرج للحس من الحسّ بالقوة الى الحسّ بالفعل ، والمحسوس بالقوة الى المحسوس بالفعل » (٥).

أقول : القول بقبول النفس الصور المحسوسة والمعقولة غير مقبول في الحكمة المتعالية ، لأنه مبني على أن النفس تنفعل عن صور المحسوسات والمعقولات ، واما الحكمة المتعالية فحاكمة بأن النفس تنشیء الصور في مرحلة ، واُخرى على النحو الذي فوق الإنشاء على ما هو مقرر في محلّه ، ومعلوم لأهله ، وقد استوفينا البحث عنه في كتابنا « دروس إتحاد العاقل بالمعقول ».

واعلم ان في المقام وجهاً آخر دقيقاً جداً في معنى العقل الفعّال ـ يرزق بنيله من وفّق له ـ وهو ما أفاده المتألّه السبزواري بقوله :

«في دفع إشكال صيرورة العقل الهيولاني عقلاً بالفعل ، من أن الحقيقة المحمّدية عند أهل الذوق من المتشرعة وصلت في عروجها الى العقل الفعّال وتجاوزت

____________________________

(٥) المبدأ والمعاد : ٩٨ ، الطبعة الاُولى.

٦٦

عنه ، كما قال : بعض الأشعة منها بل من هو هي بوجه ، وروح القدس في جنان الصاقورة ذاق من حدائقنا الباكورة. وقد قرر ان العقول الكلية لا حالة منتظرة لها ، فكيف يتحوّل الروح النبوي الختمي صلّی الله عليه وآله من مقام الى مقام ؟

فالجواب : ان مصحح التحوّلات هو المادة البدنية ، ففرق بين العقل الفعّال الذي لم يصادف الوجود الطبيعي ، وبين العقل الفعّال المصادف له ، فالأول له مقام معلوم ، والثاني يتخطّى الى ماشاء الله ، كما قال صلّی الله عليه وآله : ( لي مع الله ... ) الحديث ، فما دام البدن باقياً كان التحوّل جائزاً» (٦).

قوله : « بعض الأشعة منها » ، هو الإمام العسكري عليه السلام ، كما صرّح به ـ قدّس سره ـ في النبراس (٧). ثم من هذا الوجه ، من معنى العقل الفعّال يعلم وجه ما قالوا في معنى نفس الأمر انها قلب الإنسان الكامل.

ثم ان روايات باب « إنّ الأئمة عليهم السلام يزدادون في ليلة الجمعة » ـ من حجّة الكافي ـ وكذا روايات الباب الذي بعده « لولا انّ الأئمة عليهم السلام يزدادون لنفد ما عندهم » ونظائر ما في هذين البابين من الروايات الاُخرى يعلم مفادها من هذا التحقيق الأنيق في العقل الفعّال وبيان الفرق المذكور.

واعلم انهم أطلقوا العقل الفعّال على ربّ النوع الإنساني أيضاً. وأرباب الأنواع هي العقول الكلية المرسلة أيضاً. والأرباب تسمّى بالمثل الإلهية أيضاً ، وفي الصحف العرفانية تسمّى بالأسماء الإلهية ، كما صرح به العلّامة القيصري في شرح الفصّ الموسوي من شرحه على نصوص الحكم ، حيث قال : « حقائق الأسماء الإلهية هي الأرباب المتكثّرة ».

وكذا في مصباح الانس ، حيث قال العلّامة ابن الفناري : « عبر عن الأسماء بالمثل الإفلاطونية ».

وتعليقتنا في المقام على المصباح هكذا : أرباب الأنواع ـ عند افلاطون وأشياعه ـ مثل نورية ، وهي عند العارفين أسماؤه تعالى ، فإنّ كل نوع تحت إسم ، وهو

____________________________

(٦) التعليقة على الفصل السادس والعشرين من المرحلة العاشرة من الأسفار في العقل والمعقول ٣ : ٦٣٦ و ٤٧٣ ، الطبعة الثانية.

(٧) النبراس : ٤ ، الطبعة الاُولى.

٦٧

عبد ذلك الإسم ، مثلاً انّ الحيوان عبد السميع والبصير ، والفلك عبد الرفيع الدائم ، والإنسان عبدالله.

والإشراقيون قائلون : بأن كل رب من أرباب الأنواع مربوب إسم من أسماء الله ، فمآل الإشراقي والعارف واحد ، لأن الأمر ينتهي بالأخرة الى الأسماء ، فتبصر !

ثم إنّ التسمية بالعبدية بلحاظ غلبة بعض الأسماء على غيره ، كما في المصباح أيضاً (٨) وتفصيل هذه المباحث يطلب في رسالتنا في المُثل الإلهية.

وقد أفاد المتألّه السبزواري في شرح الإسم الشريف « يا من له الخلق والأمر » بقوله : « أي له عالم المقارنات وعالم المفارقات. إنما سمّي المفارق أمراً إذ يكفي في إيجاده مجرّد أمر الله تعالى ، بلا حاجة الى مادة وصورة واستعداد وحركة. أو لأنه حيث لا ماهيّة له ـ على التحقيق ـ فهو عين أمر الله فقط ، يعنی كلمة كن ، فلم يكن هناك يكون ـ إلى قوله ـ ولمّا كان الأمر بهذا الإصطلاح يطلق على المفارق حدّ نفس الأمر بالعقل الفعّال عند بعض الحكماء » (٩).

وقد أفاد هذا المضمون في شرح الحكمة المنظومة (١٠).

وبما حرّرنا في نفس الأمر تعلم ان الأسماء موضوعة للمعاني النفس الأمرية ، ثم يطلق على مراتب تنزلاتها أيضاً ، كما يطلق العالم عليه تعالى وعلى الإنسان.

واعلم أن الشيخ استدّل في الفصل الثالث عشر من النمط الثالث من الإشارات على إثبات العقل الفعّال بأنه مخرج النفوس من النقص الى الكمال ، لأنه يفيض المعقولات عليها ، وبأنه المرتسم بالصورة المعقولة أي الخزانة الحافظة لها ، فانسحب الكلام الى البحث عن الذهول والنسيان.

وقال المحقّق الطوسي في الشرح : « يريد إثبات العقل الفعّال ، وبيان كيفية إفاضة المعقولات على النفوس الإنسانية ـ الى أن قال في نتيجة الكلام ـ فإذن يجب أن يكون شيء غيرها ـ يعني غير الجسم والقوى الجسمية ـ بالذات ترتسم فيه المعقولات ، ويكون هو خزانة حافظة لها ـ الى قوله ـ فإذن ها هنا موجود مرتسم بصور جميع

____________________________

(٨) اُنظر المصباح : ١٤٨.

(٩) شرح الأسماء : ٢٢٧ ، الفصل السابع.

(١٠) اُنظر شرح الحكمة المنظومة : ٥٠.

٦٨

المعقولات بالفعل ، ليس بجسم ولا جسماني ، ولا بنفس ، وهو العقل الفعّال ».

غرضنا من نقل كلامهما هذا هو إطلاق العقل الفعّال على الموجود المفارق الذي هو مخرج النفوس ، بلا وصفه بالعاشر ـ وإن وصفوه في عباراتهم الاُخرى به ـ وذلك الوصف بلحاظ تعلقه بالنفوس ، كما سمّي بعقل العالم الأرضي.

وقد سلكوا لإثباته مناهج ، وذكرها صدر المتألّهين بهذا العنوان :

« تبصرة تفصيلية ، المناهج لإثبات هذا الموجود المفارق القدسي المتوسط في الشرف والعلوّ بينه تعالى وبين عالم الخلق الواسط لإفاضة الخير والجود على الدوام كثيرة ... » (١١).

وقد نقل ثلاثة عشر منهجاً والحادي عشر منها وهو كلام المحقّق الطوسي المنقول من رسالته المعمولة في ذلك ، ونسختان منها موجودة عندنا ، وقد طبعت في مجموعة رسائله (١٢) ، والثالث عشر منها هو المنهج الذي سلكه هو.

والأول من تلك المناهج هو طريق النبوّة والإلهام ، كقوله صلّی الله عليه وآله وسلم : « أول ما خلق الله العقل » ، وقوله : « أول ما خلق الله القلم » ، ونحوهما.

والثاني منها : منهج امتناع الكثير عن الواحد ، فيجب أن يكون أقرب الأشياء منه تعالى ذاتاً واحدة بسيطة بالضرورة.

والثالث منها : سبيل الإمكان الأشرف.

والرابع منها : المناسبة الذاتية بين العلّة التامّة ومعلولها.

والخامس منها : منهج إخراج ما بالقوة الى ما بالفعل للنفوس.

والسادس منها : طريق ازدواج الهيولى بالصورة ، فلا بدّ من عاقد لهما وهو الأصل المفارق.

والسابع منها : طريق الحركة الجوهرية ، فلا بدّ من جامع وحافظ لوحدتها وهو الجوهر العقلي.

والثامن منها : منهج الأشواق ، والأغراض ، والشهوات ، وميول الأشياء الى كمالاتها ، فلابد أن يكون لها غاية كمالية عقلية ، فهي عقول البتة.

____________________________

(١١) ذكرها في الفصل الثامن من الموقف التاسع من إلهيات الأسفار ٣ : ١٦٨ ـ ١٧٢ ، الطبعة الأولى.

(١٢) اُنظر : ص ٧٩ منها.

٦٩

والتاسع منها : منهج كفاية الإمكان الذاتي للأنواع المحصلة التي لايفتقر فيضانها نوعاً ولا شخصاً عن المبدأ الواهب الى إمكان استعدادي غير إمكانها الذاتي.

والعاشر منها : سبيل الحركات الفلكية ، فإن حركاتها الدورية توجب لها نفوساً ، وللنفوس عقولاً.

والحادي عشر منها : منهج مطابقة الأحكام الصادقة الحاصلة في هذه الأذهان لما في نفس الأمر.

والثاني عشر منها : مسلك التمام ومقابله ، فإن الأشياء بحسب الإحتمال العقلي إما تامّ أو ناقص ، والتامّ إما فوق التمام ـ وهو الواجب سبحانه ـ أو لا كالعقل.

والناقص إما مستكفٍ بذاته ـ وهي النفوس المستكفية كالنفوس الفلكية ، والوسائط البشرية الكاملة ـ ، أو مستكفٍ بما لايخرج عن قوام ذاته ، كنفوس البشرية غير الكاملة ، أي النفوس الناقصة ، أو ليس بمستكفٍ كالعنصريات ، فإنها ناقصة محضة ، فلابد إذن من موجود تامّ ، ليكون متوسطاً في إيصال الفيض بين ما هو فوق التمام ، وبين ما هو ناقصٍ أو مستكفٍ ، وهو العقل.

والثالث عشر منها ، من جهة اثبات الخزانة للمعقولات كما قال سبحانه : « وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ » (١٣) ، وكقوله تعالى : « وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... » (١٤).

وأقول : إن لنا منهجاً آخر ، وهو منهج تجدد الأمثال ، فانه يعطي إثبات مفارق مفيض الصور على ما حررنا في رسائلنا الاُخرى.

والمقام يناسب نقل المنهج الحادي عشر ، وهو رسالة المحقّق نصير الدين الطوسي ـ في إثبات نفس الأمر ـ أي ذلك العقل الفعّال كما قال صدر المتألّهين في الموضع المذكور من الأسفار : الحادي عشر من منهج الأحكام الصادقة الحاصلة في هذه الأذهان ، لما في نفس الأمر ، وقد تصدّى المحقّق الطوسي ـ رحمه الله ـ لسلوك هذا المنهج ، وعمل في بيانه رسالة.

أقول : الرسالة في الحقيقة تحرير ما أفاده الشيخ الرئيس في الفصل الثالث عشر من النمط الثالث من الإشارات وهي مايلي :

____________________________

(١٣) الحجر : ٢١.

(١٤) المنافقون : ٧.

٧٠

بسم الله الرّحمن الرحيم

« إعلم انّا لا نشك في كون الأحكام اليقينية التي تحكم بها أذهاننا ـ مثلاً ـ كالحكم بأن الواحد نصف الإثنين ، أو بأن قطر المربع لا يشارك ضلعه ، أو يحكم به مما لم يسبقه إليه ذهن أصلاً ـ بعد أن يكون يقينيّاً ـ مطابقة لما في نفس الأمر.

ولا نشك في أنّ الأحكام التي يعتقدها الجهال بخلاف ذلك ـ كما لو اعتقد معتقد ان القطر يشارك الضلع أو غير ذلك ـ غير مطابقة لما في نفس الأمر.

ونعلم يقينا انّ المطابقة لا يمكن أن تتصور إلّا بين شيئين متغايرين بالتشخص ، ومتّحدين فيما تقع به المطابقة ، ولا شكّ في أنّ الصنفين المذكورين من الأحكام مشتركان في الثبوت الذهني ، فإذاً يجب أن يكون للصنف الأول منهما دون الثاني ثبوت خارج عن أذهاننا ، تعتبر المطابقة بين ما في أذهاننا وبينه ، وهو الذي يعبّر عنه بما في نفس الأمر.

فنقول : ذلك الثابت الخارج إما أن يكون قائماً بنفسه أو متمثّلاً في غيره ، والقائم بنفسه يكون إما ذا وضع أو غير ذي وضع ، والأول محال.

اما أولاً ـ فلأن تلك الأحكام غير متعلّقة بجهة معيّنة من جهات العالم والأشخاص ، ولا بزمان معين من الأزمنة ، وكل ذي وضع متعلّق بها فلا شيء من تلك الأحكام بذي وضع.

لايقال : إنها تطابق ذوات الأوضاع ، لا من حيث هي ذوات أوضاع ، بل من حيث هي معقولات ، ثم إنها تفارق الأوضاع من حيثية اُخرى ، كما يقال في الصور المرتسمة في الأذهان الجزئية انها كلّية باعتبار ، وجزئية باعتبار آخر.

لأنا نقول : الصور الخارجية المطابق بها إذا كانت كذلك قائمة بغيرها ، وفي هذا الفرض كانت قائمة بنفسها ، هذا خلف.

واما ثانياً ـ فلأن العلم بالمطابقة لا يحصل إلّا بعد الشعور بالمطابقين ، ونحن لا نشكّ في المطابقة مع الجهل بذلك الشيء من حيث كونه ذا وضع.

واما ثالثاً ـ فلأن الذي في أذهاننا من تلك الأحكام إنّما ندركه بعقولنا ، واما ذوات الأوضاع فلا ندركها إلّا بالحواسّ أو ما يجري مجرى الحواس ، والمطابقة بين

٧١

المعقولات والمحسوسات من جهة ماهي محسوسات محال.

والثاني هو أن يكون ذلك القائم بنفسه غير ذي وضع ، وهو أيضاً محال ، لأنه قول بالمثل الإلٰهية.

واما إن كان ذلك الخارج المطابق به متمثّلاً في غيره فينقسم أيضاً الى قسمين ، وذلك لأن ذلك الغير إما أن يكون ذا وضع أو غير ذي وضع ، فإن كان ذا وضع كان المتمثّل فيه مثله ، وعاد المحال المذكور فيبقى القسم الآخر ، وهو أن يكون متمثّلاً في شيء غير ذي وضع.

ثم نقول : ذلك المتمثّل فيه لا يمكن أن يكون بالقوة ، وإن كان بعض ما في الأذهان بالقوة ، وذلك لامتناع المطابقة بين ما هو بالفعل أو يمكن أن يصير وقتاً ما بالفعل ، وبين ما هو بالقوة. وأيضا لا يمكن أن يزول أو يتغيّر أو يخرج الى الفعل بعد ما كان بالقوة ، ولا في وقت من الأوقات ، لأن الأحكام المذكورة واجبة الثبوت أزلاً وأبداً ، من غير تغيير ، واستحالة ، ومن غير تقييد بوقت ومكان ، فواجب أن يكون محلها كذلك ، وإلّا فأمكن ثبوت الحال بدون المحل.

فإذاً ثبت وجود موجود قائم بنفسه في الخارج غير ذي وضع ، مشتمل بالفعل على جميع المعقولات التي لا يمكن أن يخرج الى الفعل ، بحيث يستحيل عليه وعليها التغيير والإستحالة والتجدّد والزوال ، ويكون هو وهي بهذه الصفات أزلاً وأبداً.

وإذا ثبت ذلك فنقول : لا يجوز أن يكون ذلك الموجود هو أول الأوائل ، أعني واجب الوجود لذاته عزّت أسماؤه.

وذلك لوجوب اشتمال ذلك الموجود على الكثرة التي لانهاية لها بالفعل ، وأول الأوائل يمتنع أن يكون فيه كثرة ، وأن يكون مبدأ أولاً للكثرة ، وان يكون محلاً قابلاً لكثرة تتمثّل فيه.

فإذاً ثبت وجود موجود غير الواجب الأول تعالى وتقدّس بهذه الصفة ونسمّيه بعقل الكل ، وهو الذي عبّر عنه في القرآن المجيد ، تارة باللوح المحفوظ ، وتارة بالكتاب المبين ، المشتمل على كل رطب ويابس ، وذلك ما أردنا بيانه. والله الموفق والمعين ».

أقول : قوله : « إنا لا نشكّ في كون الأحكام اليقينية ... » فلها نفسية ، وما هي إلّا العلوم والأنوار الوجودية في كلّ موطن ونشأة على سبيل الحقيقة والرقيقة ،

٧٢

فالحقيقة هي النشأة العالية ، والرقيقة هي النشأة الظلّية.

قوله : « بين شيئين متغايرين بالتشخص » ، والتحقيق إنّ التغاير إنما بحسب الحقيقة والرقيقة ، وقد دريت ان الأسماء موضوعة للمعاني ( النفس الأمرية ) ثم يطلق على مراتب تنزّلاتها. فتبصر !

قوله : « وهو أيضاً محال لأنّه قول بالمثل الإلٰهية » ، القول بالمثل الإلهية حقّ على ما حقّقنا البحث عنها في رسالتنا فيها ، وإن هي إلّا الأسماء الكلّية المسمّاة بالخزائن الإلٰهية ونحوها من الأسماء الحسنى لا كما توهموها وتفوّهوا ببطلانها.

قوله « باللوح المحفوظ » ، بل الحق ان كل مرتبة عالية من الوجود الصمدي ـ الذي هو الأول والآخر والظاهر والباطن ـ قلم ، ومرتبته الظلّية لوح. والكتاب المبين له مراتب ومظاهر ، ولا ننكر ان الحقائق النورية العلمية لها نفسية في كل واحد منها بحسبها. والمطابقة ، والصدق والحق على أصالتها باقية أيضاً بحسبها ، فإنّها سنّة الله « فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا » (١٥).

واما قول العلّامة الحلِّي : « وقد كان في بعض أوقات استفادتي منه ـ الى قوله ـ فلم يأت فيه بمقنع ، ( وفي بعض النسخ : بمشبع ) » ، فقد قال المتألّه السبزواري عند نقل صاحب الأسفار هذا المطلب من هذا الكتاب ، أعني كلام العلّامة في شرح التجريد ، ما هذا لفظه :

« قوله : ( فلم يأت بمشبع ) ، لعلّ الوقت لم يكن مقتضياً للإشباع في إفشاء بعض الأسرار كما ستسمعه من المصنف في محلّه ، وإلّا فالمحقّق الطوسي أجلّ شأناً من أن يعجز ذلك » (١٦).

وأقول : ما أفاده المتألّه السبزواري حري بالمحقّق الطوسي ، ولا ينبغي أن يعتري جلالة شأنه في حلّ دقائق الحقائق الحكمية وغيرها من غوامض الفنون الاُخرى دغدغة ومجمجة.

ثم إنّا نأتي بطائفة مما حررناه في تعاليقنا على تمهيد القواعد في شرح قواعد التوحيد ـ للمحقّقين التركة وابن التركة ـ ثم نتبعها بما حقّقه العارف القيصري في

____________________________

(١٥) فاطر : ٤٣.

(١٦) التعليقة على آخر الموقف التاسع من إلهيّات الأسفار ٣ : ١٧٢ ، الطبعة الاُولى.

٧٣

شرحه على فصوص الحكم ، وصدر المتألّهين في الموضع المذكور من الأسفار وغيرهما في نفس الأمر ، ونحقّق الحق بحول من بيده الخلق والأمر فنقول :

إنّ ما يتصوره العقل من الماهيات : قسم منها مالا يكون لها تحقق إلّا بحسب الفرض العقلي ، وهذا القسم في نفسه قابلاً لأن يلحقه الوجود ولا تتفرّع عليه مسائل علمية أبداً ، ولا يستنبط منها أحكام وأحوال واقعية ، ولا وجود لها إلّا في القوى المدركة فقط ، كالنسب والإضافات الإعتبارية المحضة مثلاً ، والصور المختلقة التي من مخترعات الوهم ، ودعابات الخيال ، وتلفيقات المتصرفة كأنياب الأغوال ، والإنسان ذي القرون والأذناب ، وهذا القسم يسمّى عند المحقّقين من أهل التوحيد بالوجود الفرضي ، والاُمور الإعتبارية معروضاتها ، فالفرض بمعنى الفرضيات المحضة والإعتباريات الصرفة التي أبت عناية الفاعل الحكيم أن تكسوها خلعة الوجود ، لعدم قابليتها ، لالنقص الفاعل ، فإنّه على كل شيء قدير.

وبذلك يعلم أنّ ما ذهب إليه الشيخ الإشراقي السهروردي في آخر المقالة الرابعة من حكمة الإشراق ، وكذا القطب الشيرازي في شرحه (١٧) ، من إثبات العالم المثال المنفصل بطريق الصور الخياليّة ، خال عن التحقيق ، وإلّا يلزم القول بإسناد اللغو والعبث الى فعله سبحانه ، وإن كنا نعقد بذلك العالم ، أعني المثال المطلق المنفصل ، نزولاً وصعوداً بطرق اُخرى مبرهنة في رسالتنا في المثال.

ولنعد الى ما كنا فيه فنقول :

هذا القسم ، أي الوجود الفرضي ، ممّا لا يبحث عنه في العلوم الحقيقية لأنها ناظرة الى معرفة الموجود الحقيقي ، وباحثة عنه وهذا لا حقيقة له.

وقسم منها ما يكون لها تحقق خارج الفرض والإعتبار ، أي لا يكون من الوجود الفرضي بمعنی القسم الأول ، بل هو متحقّق مع قطع النظر عن ذلك الفرض الإعتباري ، وهذا القسم يسمّى عندهم بالوجود الحقيقي ، والموجود الحقيقي ، والوجود في نفس الأمر ، والموجود في نفس الأمر. وهو إما متحقّق في الخارج عن المشاعر ، أي الخارج عن القوی المدركة ، كالأعيان الموجودة في الخارج ، وإمّا متحقّق في المشاعر ، والقوى

____________________________

(١٧) لاحظ : ص ٧٠ من الطبعة الاُولى.

٧٤

المدركة كالوجودات الذهنية الحقيقية من النسب ، والإضافات الحقيقية ، والمعقولات الاُولى ، وسائر ما يقع في الدرجة الثانية من التعقّل ، أي ليس من المعقولات الاُولى ، فهي من المعقولات الثانية المنطقية. والقيد بالحقيقية لإخراج القسم الأول ، أي الوجود الفرضي الإعتباري ، فهذا القسم أعني الوجود الحقيقي على قسمين خارجي وذهني.

ثم لمّا كان وعاء حصول القسم الأول مما يتصوّره العقل ـ أي الوجود الفرضي ـ هو المشاعر ، وكذلك وعاء حصول القسم الثاني من الوجود الحقيقي ، أي الذهني أيضاً هو المشاعر ، يورد سؤال عن الفرق بينهما ، ويقال : فحينئذ يكون هذا القسم الثاني من الوجود الحقيقي هو أيضاً من أقسام الوجود الفرضي ، ضرورة أنّ حصوله إنّما هو في القوى المدركة.

والجواب : أنّ القسمين كليهما ـ وإن كان ظرف حصولهما ـ هو المشاعر ، ولكنّ الأوّل منهما اعتباري محض لا يكون قابلاً للحوق الوجود إيّاه ، ولا تترتّب عليه فائدة علمية ، ولا يحكم عليه بشيء إلّا أنّه من ملفّقات المتصرفة ، ومختلقات المتخيّلة بخلاف الثاني ، فإنّه نسب ، وإضافات ، وصور حقيقية ، هي مرايا الأعيان الخارجية ، وروازنها ، وعناوينها ، وألسنتها ، وأظلالها ، وموضوعات لمسائل شتّى ، علمية حقة تستنتج منها.

وهذا القسم هو الموجود الذهني ، وهو من أقسام الموجود الحقيقي ، والموجود في نفس الأمر.

فنفس الأمر أعمّ من الخارج لأنه كلّما تحقق أمر في الخارج تحقق في نفس الأمر ، وكذلك كلّما تحقق أمر في الذهن تحقق أيضاً نفس الأمر ، ولكن يمكن أن يتحقق الموجود الذهني فقط ، ولا يتحقق الموجود الخارجي ، فحينئذ يتحقق أمر في نفس الأمر فقط ، ولا يتحقق أمر في الخارج كإنسانية زيد المعدوم في الخارج ، فحيث أن زيداً معدوم في الخارج لاتتحقق إنسانيته المقيّدة فيه ، وإن كانت متحققة في الذهن.

ثم ان ها هنا سؤالاً آخر ، وهو ان ما قررتم في معنى نفس الأمر فما الفرق بين القضايا الصادقة والكاذبة ، لأن الصادق هو الذي له مطابق في الخارج ، دون الكاذب ، فإذا لم تكن لإنسانية زيد المعدوم في الخارج مطابق ـ بالفتح ـ في الخارج أصلاً فكما ان إنسانيته معدومة ، فكذلك حماريته معدومة في الخارج ، فليس لهما مطابق في الخارج ،

٧٥

فكيف يحكم بصدق إنسانية زيد المعدوم في الخارج ، وكذب حماريته ، فإن كانت الاُولى صادقة فلتكن الثانية أيضاً كذلك ، وإن كانت الثانية كاذبة فلتكن الاُولى أيضاً كذلك ؟

والجواب عنه : إنّ قولهم : الصادق هو الذي له مطابق في الخارج دون الكاذب ، لا يعنون بذلك الخارج ، الموجود العيني الخارجي ، المقابل للذهني ، أي الخارج عن وعاء الذهن ، بل مرادهم من ذلك الخارج : هو الخارج عن اعتبار العقل ، أي الخارج عن الفرض العقلي الذي هو الوجود الفرضي المذكور.

فكل قضية لها مطابق بأحد قسمي الوجود الحقيقي ، فلها خارج ، فهي صادقة سواء كان ذلك الخارج عن الفرض العقلي المختلق خارج الذهن أو كان موجوداً ذهنياً. فالخارج على هذا المعنى أعمّ من الخارج المقابل للوجود الذهني ، فلا يلزم من عدم مطابقٍ للخبر في الخارج بالمعنى الأخص أن لا يكون له مطابق فيه بالمعنى الأعمّ.

فنقول إيضاحاً : إنّ كل واحد من الصدق والكذب من أوصاف القضايا ومحمول عليها ، فالقضية إن كانت لفظية أو كتبية ، ولها مطابق في وعاء الخارج ، المقابل للذهني فصادقة وإلّا فكاذبة ، وإن كانت ذهنية فإن كانت لها مطابق في وعاء الذهن من المعاني الوجودية الحقيقية الذهنية التي هي خارجة عن الفرض العقلي المختلق ، فهي صادقة ، وإلّا فكاذبة.

فإن قلت : إنّ الضرورة قاضية بأن الموجود الحقيقي إما خارجي وإما ذهني. والخارجي شامل لجميع صور الحقائق الوجودية : من الواجب والممكن ، والذهني أيضاً شامل لجميع المعاني والصور الذهنية ، وليس وراء الوجودين أي الخارجي والذهني أمر آخر يسمّى بنفس الأمر حتى يحتاج إثباته الى برهان.

قلنا : قد أجاب عنه بعضهم في إثباته بما حاصله : إنّه قد ثبت بالقوانين العقلية وجود العقل المفارق ، المشتمل على جميع المعقولات ، المسمّى بالعقل الكل ، واللوح المحفوظ ، أما كونه كلاً ، فلذلك الإشتمال ، وأما كونه لوحاً ، فلأن كل صغير وكبير فيه مستطر ، وأما كونه محفوظاً ، فلكونه محفوظاً بالإسم الحافظ ، الحفيظ عن التغيّر ، والزوال ، والتبدّل ، والبوار ، كما هو شأن جميع المجردات النورية ، وهذا العقل هو نفس الأمر للموجودات الحقيقية العينية والذهنية مطلقاً.

٧٦

فأورد على هذا الجواب بعض المتأخرين ـ نقضاً ـ بالواجب تعالى ، والعقول ، وذلك لأن نفس الأمر لو كان بذلك المعنى ، لكان نفس الأمر للموجودات الحقيقية التي دونه ، فيلزم أن لا يكون للواجب ـ وسائر العقول التي غير اللوح المحفوظ ـ وجود في نفس الأمر.

ثم هذا البعض من المتأخرين حاول التحقيق في معنى نفس الأمر ، وحاصله أنه عبارة عن حقيقة الأشياء بحسب ذواتها مع قطع النظر عن الاُمور الخارجة عنها.

وشارح قواعد التوحيد ، صائن الدين علي بن التركة ، اعترض عليه بأنّ هذا التحقيق إنّما أفاد زيادة إجمال في معنى نفس الأمر ، إلّا ان يحمل كلام هذا البعض على مذهب المحققين من أهل التوحيد ، أعني بهم أهل العرفان ، بأن أعيان الأشياء بحسب ذواتها ثابتة في ذاته الأحديّة سبحانه بلا شوب كثرة ، ولذلك يسمّونها بالأعيان الثابتة ، والفيلسوف يعبّر عنها بالماهيات.

والأعيان الثابتة في اصطلاح العارف من الممتنعات ، أي ممتنع تقرّرها وتمثّلها ـ في خارج ذات العالم بها ـ وإن كانت مظاهرها في خارج الذات موجودة بحسب اقتضائها ذلك ، فالأعيان الثابتة ما شمّت رائحة الوجود قط ، أي وجودها الخارجي ، ولا تشمّها أبداً. فالأعيان في ذاته الأحدية بوجوداتها الأحدية كالصور العلمية في أصقاع نفوسنا الناطقة.

واعلم انّ التمثّل معناه لا يختص بالحقائق التي في قوالب الأمثال والأشباح ، حتى يستلزم الكثرة والتمايز في ذاته الأحدية سبحانه وتعالى ، بل معناه يتناول الحقائق النورية ، المستكنة في ذات العاقل ، المجتمعة فيها جمعاً أحدياً ، والصور المثالية القائمة بغيرها في بعض مراتبه ، كالأشباح المجرّدة ، بالتجرّد البرزخي ، القائمة بالنفس الناطقة في مرتبة خيالها ، والخيال مظهر للإسم المصوّر ، ولذا جبلت على المحاكاة ، يقال : تمثّل كذا عند كذا ، إذا حضر منتصباً عنده بنفسه ، أو بمثاله (١٨).

وللانتصاب في التعريف شأن لأنّ العلم الحقيقي هو انتصاب المعلوم لدى العالم ، ليس فيه اعوجاج ، ولذلك فسّر الشيخ الإدراك في الموضع المذكور من

____________________________

(١٨) كما أفاده المحقّق الطوسي في شرحه على سابع الثالث من الإشارات : ٧٦ ، الطبعة الاُولى.

٧٧

الإشارات بقوله : « أن تكون حقيقته متمثلة عند المدرك » ، وفسّر العناية بقوله : « تمثل النظام الكلي في العلم السابق ... » (١٩).

فلنرجع الى ما كنّا فيه فنقول :

إنّ ذلك البعض المعترض إن أراد من قوله : إنّ نفس الأمر عبارة عن حقيقة الأشياء بحسب ذواتها ، مع قطع النظر عن الاُمور الخارجة عنها ، ان قاطبة الأشياء لها وجود في نفس الأمر ، بمعنى ان حقائقها العلمية ، أي أعيانها الثابتة بحسب ذواتها ، مع قطع النظر عن الاُمور الخارجة عنها ، كائنة في صقع الذات الأحدية ، فله وجه وجيه ، وإلّا فلا يخلو من دغدغة.

ثم أفاد صائن الدين في تمهيد القواعد في بيان نفس الأمر على طريقة المحققين من أهل التوحيد والعرفان بقوله : نفس الأمر عبارة عمّا ثبت فيه الصور والمعاني الحقّة أعني العالم الأعلى ـ الذي هو عالم المجرّدات ، ويؤيّده إطلاق عالم الأمر على هذا العالم ،

وذلك لأن كل ما هو حق وصدق من المعاني والصور لابد وأن يكون له مطابَق ـ بالفتح ـ في ذلك ، كما يلوح تحقيقه من كلام معلم المشّائين أرسطو ، في ( الميمر الثاني ) من كتابه في العلم الإلهي ، المسمّى ( باثولوجيا ) بعد فراغه عن أن العالم الأعلى هو الحيّ التامّ الذي فيه جميع الأشياء ، وأن هذا العالم الحسّي كالصنم ، والاُنموذج لذلك العالم ، من أنّ فعل الحق هو العقل الأول ، فلذلك صار له من القوة ما ليس لغيره ، وأنّه ليس جوهر من الجواهر التي بعد العقل الأول إلّا وهو من فعل العقل الأول.

وإذا كان هذا كذا قلنا : إنّ الأشياء كلّها هي العقل ، والعقل هو الأشياء ، وإنما صار العقل هو جميع الأشياء ، لأنّ فيه جميع كلّيات الأشياء ، وصفاتها ، وصورها وجميع الأشياء التي كانت وتكون مطابقة لما في العقل الأوّل ، كما ان معارفنا التي في نفوسنا مطابقة للأعيان التي في الوجود ، ولا يمكن غير ذلك ، ولو جوّزنا ذلك ـ أعني أن يكون بين تلك الصور التي في نفوسنا وبين الصور التي في الوجود تباين أو اختلاف ـ ما عرفنا تلك الصور ولا أدركنا حقائقها ، لأن حقيقة الشيء ما هو به هو ، وإذا لم يكن ، فلا محالة غيره ، وغير الشيء نقيضه ، فإذن جميع ما تدركه النفوس وتتصوره من أعيان

____________________________

(١٩) تاسع سادس الإشارات : ١٤٨.

٧٨

الوجودات هو تلك الموجودات ، إلّا أنه بنوع ونوع.

وإنّما أوردت هذا الكلام كلّه ، لأنّه مع انطوائه بما نحن بصدده ، مشتمل أيضاً على تحقيق معنى الحقيقة ، ومعنى الصدق والحق وسبب تسمية هذا الوجود بالوجود الحقيقي وغيره من اللطائف فليتأمل (٢٠).

أقول : في هذه العبارات المنيفة السامية لطائف عديدة ، ونكات سديدة ، حريّ بباغي المعارف الإلهية أن يعتني بها ويهتمّ بنيلها :

منها : إنّ العالم الأعلى هو متن ما دونها وقضائها ، ولا يوجد رقيقة في الداني ، إلّا وهي مستكنة فيه على نحو وجود أحديّ ، فالرقائق صنم ، واُنموذج لذلك العالم الأعلى ، فالحقيقة لا تنزل الى العالم الأدنى الحسّي إلّا وهي نازلة من جميع العوالم ، قال عزّ من قائل : « وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ » (٢١) ، وقال سبحانه : « يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّو » (٢٢).

فكل ما هو حق وصدق من المعاني والصور ، فهو مطابق ـ بالكسر ـ لما هو متحقّق في العالم الأعلى ، أي فله مطابَق ـ بالفتح ـ وخزائن ، واما ما ليس بحق وصدق كالصور المختلقة التي هي مخترعات الوهم ودعابات الخيال ، والإعتباريات المحضة من النسب والإضافات غير الحقيقية ، فليس لها مطابَق ـ بالفتح ـ أصلاً ، لأنّ الباطل لا يتطرق في صنع الحق ، مثلاً ، لو فرض الوهم غلطاً أنّ الثلاثة نصف العشرة أو الهواء أثقل من الأرض وأصلب منها ونحوهما من الأكاذيب ، فهي عارية عن أن يكون لها نفس الأمر ، وبمعزل عنه. فنفس الأمر هو حقيقة الأمر ، أي حقيقة الشيء في النظام العنائي الحقيقي ، وتصور أنّ الثلاثة نصف العشرة ليس أمراً حقاً ، فلايصحّ أن يقال : إنّ الثلاثة في نفس الأمر أي في نفسها وذاتها نصف العشرة ، فلا يصحّ أن يقال : إنّ للكواذب مطابَق ـ بالفتح ـ فما هو باطل في موطن ، وليس فرض تحقّقه في ذلك الموطن بحق ، فهو عارٍ عن تلبّس خلعة الوجود الحقيقي في جميع المواطن ، فالكواذب مطلقاً ليس لها

____________________________

(٢٠) إنتهى كلام صاحب التمهيد : ١٦ الطبعة الاُولى.

(٢١) الحجر : ٢١.

(٢٢) السجدة : ٥.

٧٩

مطابق اصلاً.

على أنّ المطابقة واللامطابقة ، كالإنقسام الى التصوّر والتصديق من خواصّ العلم الحصولي دون الحضوري ، ومن كلام صاحب أثولوجيا إنّ علم المبادیء أجلّ من أن يوصف بالصدق ، وإنما هو الحقّ بمعنى أنه الواقع لا المطابق للواقع.

ومنها قوله : ويؤيّده إطلاق عالم الأمر على هذا العالم : إنّ المحقّقين من أهل التوحيد ، أي العارفين بالله يعبّرون عنه بعالم الأمر ، والحكماء الإلهيين بالعقل. وديدن أهل التوحيد في اصطلاحاتهم هو الأخذ من كلمات الوحي ، وأهل بيت الوحي ، وقال عزّ من قائل : « أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ » (٢٣) والتعبير عن هذا العالم بعالم الأمر ـ كما في الحكمة المنظومة ـ لوجهين :

أحدهما : من جهة اندكاك إنّيته واستهلاكه في نور الأحدية ، إذ العقول مطلقاً من صقع الربوبية ، بل الأنوار الاسفهبدية لا ماهيّة لها على التحقيق ، فمناط البينونة الذي هو المادة سواء كانت خارجية أو عقلية مفقود فيها ، فهي مجرّد الوجود الذي هو أمر الله وكلمة « كن » الوجودية النورية.

وثانيهما : إنّه وإن كان ذا ماهية يوجد بمجرّد أمر الله ، وتوجّه كلمة « كن » إليه من دون مؤنة زائدة من مادّة ، وتخصص استعداد ، فيكفيه مجرّد إمكانه الذاتي (٢٤).

ومنها قوله : إنّ هذا العالم الحسّي كالصنم والاُنموذج لذلك العالم. ويدلّك على هذا المطلب الأرفع كلمة الآية والآيتين والآيات في القرآن الكريم ، فتلك الكلمة المباركة ناطقة بأن ما سواه سبحانه على ضرب من التعبير بالسواء مظاهره ، ومراياه ، ومجاليه ، فأحدس من هذا ان الوجود واحد شخصي أحدي صمدي مطلق عن الإطلاق والتقييد ، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن. وان جميع أسمائه سبحانه ـ إلّا ما استأثره لنفسه ـ متحقّق في كل كلمة وآية ، وإن كانت تسمّى بالصفة الغالبة على غيرها ، والإسم القاهر على غيره ، ولذا اشتمل كلّ شيء على كل شيء. وذلك الإشتمال كما في مصباح الانس على ثلاثة أنواع ، لأنّ الظاهر من الآثار ، اما آثار بعض

____________________________

(٢٣) الأعراف : ٥٤.

(٢٤) اُنظر : ص ٥٠ ، الطبعة الاُولى.

٨٠