تراثنا ـ العدد [ 6 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 6 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣١

السابقون (٢٩) ـ وهي في جملة ( أكاتب زيد رسالة ) صفة اُسندت إلى الفاعل ، وهذا ما سوّغ للدكتور تمام حسّان ـ ولعلّه كان على حقّ ـ أن يتحدّث عن ( جملة وصفية ) في مقابل الجملتين الإسمية والفعلية. فالصفة التي تسند إلى فاعل تكون ( الجملة الوصفية ) والصفة ـ أو الإسم ـ التي تسند إلى مبتدأ تكون ( الجملة الإسمية ).

وعلى هذا الأساس تكون الجملة الوصفية أصلية ـ أي كبرى ـ مثل : ( أكاتب زيد رسالةً ) كما تكون فرعية ـ أي صغرى ـ مثل ( أنا كاتب رسالةً ) على غرار الجملة الصغرى في مثل ( زيد قام أبوه ... أو أبوه قائم ).

٢ ـ حول التقسيم السباعي :

أمّا محاولة الدكتور تمام حسّان في تقسيمه الكلمة إلى سبعة أقسام أي بإضافة قسمين آخرين إلى ما ارتضيناه هما : الظرف والخالفة فستدور مناقشتي معه حول هذين القسمين :

أ ـ الظرف

والظرف مصطلح نحوي يعني وظيفة نحوية ( المفعول فيه ). وليس هو الكلمة التي تشعر بالزمان والمكان فقط ، وإلّا لكانت الأفعال ظروفاً لأنّها تتضمّن الزمن ـ عند النحاة ـ ولكانت بعض الحروف ظروفاً لأنّها تدلّ على ( نسبة ظرفية ) مثل ( في ) و ( مذ ) و ( منذ ) ، كما أنّ النحاة لايعنون بالظرف الكلمة التي تدلّ بوضعها المعجمي على جزء من الزمان أو حيّز من المكان ، فالكلمات الدالّة على ذلك هي من فصيلة الأسماء فقط ، كاليوم ، والشهر ، والسنة ، والمنزل ، والمطعم وأمثالها من الكلمات التي يفهم منها الزمان أو المكان سواء كانت جزء من جملة أم لم تكن ، ولهذا يصحّ لهذه الكلمات أن تتحمّل وظيفة الظرف ( المفعول فيه ) ، كما تتحمّل وظيفة المبتدأ والخبر ، والفاعل ، والمفعول به.

أمّا ما يصطلح عليه النحاة ( ظرفاً ) فهو المعنى الوظيفي النحوي أي ( المفعول فيه ) فالظرف إذن ( وظيفة ) نحوية كوظيفة ( المفعول به ) و ( المفعول معه ) و ( الحال ) و ( المستثنى ) و ( النعت ) وغيرها من معان وظيفية ، فكما لايصحّ لنا أن نجعل ( النعت )

____________________________

(٢٩) همع الهوامع للسيوطي ١ / ٩٥.

١٢١

قسماً من أقسام الكلمة في مقابل الإسم والكناية والصفة ، لأنّه وظيفة نحوية تقوم بها كلمات من فصيلة ( الصفات ) : كالعالم والأديب ، أو من فصيلة ( الأسماء ) : كالأب والاُمّ والزوجة ، أو من فصيلة ( الكنايات ) : كهذا والذي واللائي ، كذلك لايصحّ لنا اعتبار ( الظرف ) قسماً مستقلّاً لأنّه وظيفة نحوية تقوم بها فصيلة الأسماء الجامدة ، كيوم ، وشهر ، والمشتقّة كمقتل ومطعم وغروب وشروق ، كما تقوم بها كلمات من فصيلة ( الكناية ) مثل ـ هُنا وثَمَّ ـ وهما من الإشارة ، و ( متى وأين ) وهما من كنايات الإستفهام.

والدكتور تمام حسّان يدرك ذلك كلّه ، لذلك لم يجعل ممّا سمّاه ظرفاً أسماء الزمان والمكان ، والمصادر ، ولا أسماء الأعداد ، والأوقات ، وأسماء الجهات وغيرها ممّا يقوم بوظيفة الظرف وحصر هذا القسم في كلمات ثمانية فقط هي : ( إذْ ، وإذا ، ولمّا ، وأيّان ، ومتى ـ وهي للزمان ـ وأين وأنّى وحيث ـ للمكان ـ ).

وهذه الكلمات وإن قامت بوظيفة الظرف الزماني والمكاني ، إلّا أنّها من فصيلة ما سمّيناه بالكناية ، يدلّ على ذلك اعترافه هو بأنّ ( هذه الظروف تؤدّي وظيفة الكناية عن زمان أو مكان ) (٣٠) ولو أنّه عكس ذلك فقال : ( هي كنايات تؤدّي وظيفة الظرف الزماني أو المكاني ) لكان أقرب إلى السلامة. كما يدلّ على ذلك تسليمه بأنّها ( ذات افتقار إلى مدخول لها يعيّن معناها الزماني المبهم ) (٣١) أي أنّها غير مستقّلة ـ كما تقدّم ـ وأهمّ ما يميّز ( الكناية ) عن غيرها خاصّيّتان ؛ الاُولى : أنّها كالحرف من ناحية عدم استقلالها بالمعنى وافتقارها إلى الغير في تحديد معناها ، والثانية : أنّها كالإسم من ناحية تحمّلها وظيفة العنصر المرتبط لاالعنصر الرابط.

ب ـ الخالفة

والخالفة كما قال الدكتور حسّان : مصطلح أطلقه الفرّاء على اسم الفعل ، واعتبره أحمد بن صابر الأندلسي قسماً رابعاً للكلم.

ولكنّ الدكتور تمام وسّع من دائرة ( الخالفة ) فجعلها شاملة لأربعة خوالف :

____________________________

(٣٠) اللغة العربية معناها ومبناها : ١٢٢.

(٣١) نفسه : ١٢١.

١٢٢

( خالفة الإخالة ) وهي عنده اسم الفعل ، و ( خالفة الصوت ) أي أسماء الأصوات و ( خالفة التعجّب ) أي الصيغتان القياسيّتان للتعجّب : ما أحسن زيداً ، وأحسِن بزيد. و ( خالفة المدح والذمّ ) : نعم الرجل زيد ، وبئست المرأة هند.

والذي جعله يوسّع دائرة الخالفة بحيث شملت صيغ التعجّب والمدح والذمّ ، أنّ لها جميعاً ـ كما يقول ـ ( طبيعة الإفصاح الذاتي عمّا تجيش به النفس ، فكلّها يدخل في الاُسلوب الإنشائي ). والذي يؤخذ عليه في ذلك :

١ ـ إنّنا ، في مجال التقسيم ، نكون بصدد التمييز بين الكلمات والصيغ المفردة ، لا الجمل المركّبة ، والإفصاح الذاتي والاُسلوب الإنشائي في التعجّب والمدح والذمّ ، ليس وليد الكلمة المفردة ( أحسِن ) أو ( نِعْم ) أو ( بئس ) وإنّما هو وليد الجملة كاملة ، فقياسيّة التعجّب مثلاً ( قياسية جُمَلِيّة ) وليست إفرادية ، ولذلك لو غيّرنا في هيئة الجملة ( ما أحسن زيداً ) شيئاً يسيراً كأن نقول : ( ما أحسن زيدٌ ) لتغيّر اُسلوب التعجّب ومعناه إلى اُسلوب النفي ، مع أنّ صيغة الفعل كما هي لم تتغيّر فصيغة التعجّب إذن صيغة جملة لامفرد ، ونحن بصدد تقسيم الكلمات المفردة لاالجمل ، وإلّا فكان ينبغي له أن يذكر من الخوالف جملة ( لله درّه فارساً ) لأنّ فيها نفس الإفصاح الذاتي والاُسلوب الإنشائي.

والذي يبدو أنّ الكلمات المفردة في صيغ التعجّب ، والمدح والذم ، باقية على النزاع المتوارث بين البصريّين والكوفيّين في إسميّتها أو فعليّتها ، ولَعَلّي أميل إلى ما ذهب إليه بعضهم من فعليّتها وتخلّفها عن طبيعة أخواتها في المعنى وفي الإشتقاق ، فجمدت على حالة واحدة واستعمال معيّن ، وفي صيغ الأفعال المتخلّفة نظائر لهذه الأفعال مثل ( عسى ) و ( ليس ) و ( آض ) و ( مادام ) وغيرها ممّا لامضارع لها ، ومثل ( يذر ، ويدع ) ممّا لاماضي لها.

والأفعال الناسخة عموماً فقدت ( فعليّتها ) من ناحية المادّة وبقيت الصيغة وحدها لتدلّ على أنّها تحدرت عن أفعال. واختصّت هذه الأفعال باستعمال معيّن يجعلها أشبه بالأدوات هو الدخول على الجمل الإسميّة لإضافة معنى الزمن إليها ، ومع ذلك فأكثر النحاة لايستطيعون تصنيفها في غير فصيلة الأفعال وإن خلت من الدلالة على ( الحدث ).

١٢٣

٢ ـ أمّا ما سمّاه بـ ( خالفة الإخالة ) أي اسم الفعل ، فهو عند النحاة ثلاثة أنواع :

أ ـ نوع قياسي وهو ما جاء على صيغة ( فَعالِ ) كَنَزالِ بمعنى ( إنْزل ) وحَذارِ بمعنى ( إحْذَر ) وهذا النوع أطلق عليه البصريّون فقط اسم الفعل ، وإلّا فهو عند الكوفيّين فعل أمر حقيقي ، يصاغ بصورة قياسية من الثلاثي المجرّد ، وهو رأي لاغبار عليه.

ب ـ المنقول ، وهو ما نقل عن المصدر ، والظرف ، والجار والمجرور ، مثل : ( رويدك ، وأمامَك ، وعليك ) فإنّها لا تزال في تصنيفها مع الأسماء والحروف ولكنّها نابت عن الفعل المحذوف الذي استُغني عنه لظهوره ، كما ينوب المصدر ( ضرباً زيداً ) عن فعل الأمر ويبقى ( مصدراً ) ، وكما ينوب الظرف والجار والمجرور عمّا يتعلّقان به من فعلٍ أو وصف مقدّر.

ج ـ أمّا النوع الثالث وهو : اسم الفعل المرتجل ، مثل : هيهات ، وشتّان ، وصه ومه ، وأمثالها ممّا يسمّيه البصريّون ( اسم فعل ) ويسمّيه الكوفيّون ( أفعالاً شاذّة ) أي أنّها لم تسلك سبيل الأفعال في تصرّفها ولا في صياغتها ولا في اتّصالها باللواحق ، وكل ما للبصريّين من دلالة على إسميّتها أنّ التنوين يدخل بعضها مثل ( صهٍ ، ومهٍ ، واُفٍّ وآهٍ ) والتنوين علامة الإسم ، ويردّ الكوفيّون : أنّ هذا التنوين ليس دليل إسميّتها ، لأنّه ليس تنوين تنكير ، بل تنوين يراد به تكبير حجم الكلمة المؤلفة من حرفين لتكثر أصواتها وتلحق بالثلاثي ، الذي صار الوحدة الكمّية في العربية ، ولذلك لايقع التنوين في هيهات وشتّان ممّا زاد بناؤه على حرفين (٣٢).

ونخلص من ذلك إلى أنّه ليس هناك شيء اسمه ( إسم الفعل ) لنجعله ( خالفة ) إخالة.

٣ ـ أمّا ( خالفة الصوت ) فهي ( أصوات ) فقط يراد منها زجر الحوان أو حكاية صوته ، ولا تدخل في طبيعة مفردات اللغة باعتبارها واسطة نقل الأفكار من ذهن إلى ذهن ، ولا تدخل في الجمل العربية للقيام بوظيفة الرابط أو المرتبط فيها ، إلّا على سبيل الحكاية.

____________________________

(٣٢) في النحو العربي قواعد وتطبيق : ١٤١.

١٢٤

وإذا كان لابدّ من اعتبار ( كخ ) للطفل و ( هج ) للغنم وأمثالها مفردات لغوية للتعبير عن الزجر أو الحثّ ، فهي لاتخرج في معناها عن ( صه ومه ) وأمثالها ممّا اعتبرناها أفعالاً متخلّفة أو أفعالاً شاذّة.

١٢٥

مصادر البحث

١ ـ أسرار العربية

لكمال الدين الأنباري

المجمع العلمي بدمشق

٢ ـ الأشباه والنظائر النحوية

لجلال الدين السيوطي

حيدر آباد ١٢٥٩

٣ ـ الإيضاح ( تحقيق مازن المبارك )

أبوالقاسم الزجّاجي

مطبعة المدني ١٩٥٩

٤ ـ الإحكام في اُصول الأحكام

لابن حزم الأندلسي

مطبعة العاصمة بالقاهرة

٥ ـ البحث النحوي عند الاُصوليّين

د. مصطفى جمال الدين

دار الرشيد للنشر ١٩٨٠

٦ ـ شرح الرضي على الكافية

محمد بن الحسن الاسترابادي

طبع تركيا ١٢١٠

٧ ـ شرح المفصّل

موفق الدين بن يعيش

المطبعة المنيرية

٨ ـ شرح الاشموني

علي بن محمد الاشموني

المطبعة الشرقية ١٢١٩

٩ ـ حاشية الصبّان على الاشموني

محمد بن علي الصبّان

المطبعة الشرقية ١٢١٩

١٠ ـ شرح شذور الذهب

لابن هشام الأنصاري

دار الكتب العربية

١١ ـ اللغة لفندريس

ترجمة الدواخلي والقصّاص

مطبعة دار البيان

١٢ ـ اللغة العربية معناها ومبناها

د. تمام حسّان

مطابق الهيئة المصرية

١٣ ـ في النحو العربي ـ قواعد وتطبيق

د. مهدي المخزومي

مطبعة مصطفى الحلبي بالقاهرة

١٤ ـ من أسرار اللغة ( الطبعة الرابعة)

د. إبراهيم أنيس

مكتبة الأنجلو المصرية

١٥ ـ همع الهوامع

للسيوطي

اُوفسيت دار المعرفة بلبنان

١٦ ـ المنطق

الشيخ محمدرضا المظفر

مطبعة النعمان في النجف الأشرف

١٢٦

التحقيق في نفي التحريف (١)

السيد علي الميلاني

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيّبين الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين ، من الأولين والآخرين.

أمّا بعد ،

فإنّ الله عزّوجلّ أرسل نبيّه العظيم صلّی الله عليه وآله وسلّم « بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ » (١) وأنزل عليه القرآن « حجّة الله على خلقه ، أخذ عليه ميثاقهم ، وارتهن عليهم أنفسهم ، أتمّ نوره ، وأكمل به دينه » (٢).

وكما كتب سبحانه لدينه الخلود ، لكونه خير الأديان وأتمّها وقال : « وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ » (٣) كذلك تعهّد بحفظ القرآن الذي وصفه أميرالمؤمنين عليه السلام بأنّه « أثافي الإسلام وبنيانه » (٤) حيث قال « إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ » (٥).

وكان النبي صلّی الله عليه وآله يعلّم الناس القرآن ، وينظّم اُمور المجتمع على

____________________________

(١) سورة التوبة ٩ : ٣٣.

(٢) نهج البلاغة ـ فهرسة صبحي الصالح ـ : ٢٦٥ / ١٨٣.

(٣) سورة آل عمران ٣ : ٨٥.

(٤) نهج البلاغة : ٣١٥ / ١٩٨.

(٥) سورة الحجر ٩ : ١٥.

١٢٧

ضوء تعاليمه ، فكان كلّما نزل عليه الوحي حفظ الآية الكريمة أو السورة المباركة ، وأمر الكتبه بكتابتها ثمّ أبلغها الناس ، وأقرأها القرّاء واستحفظهم إيّاها ، وهم يقومون بدورهم بنشر ماحفظوه ووعوه ، وتعليمه لسائر المسلمين حتى النساء والصبيان.

وهكذا كانت الآيات تحفظ بألفاظها ومعانيها ، وكانت أحكام الإسلام وتعاليمه تنشر وتطبّق في المجتمع الإسلامي.

غير أنّه صلّی الله عليه وآله كان يُلقي إلى سيّدنا أميرالمؤمنين عليه السلام ـ إبتداءً أو كلّما سأله ـ تفسير الآيات وحقائقها ، والنسب الموجودة فيما بينها ، من المحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، والمطلق والمقيّد ، والمجمل والمبيّن ، إلى غير ذلك ... يقول عليه السلام :

« وقد علمتم موضعي من رسول الله صلّی الله عليه وآله بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا ولد ، يضمّني إلى صدره ويكنفني في فراشه ، ويمسّني جسده ، ويشمّني عرفه ، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه ، وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل ، ولقد قرن الله به صلّی الله عليه وآله من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره ، ولقد كنت أتبعه اتّباع الفصيل أثر اُمّه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالإقتداء به.

ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء ، فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلّی الله عليه وآله وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشم ريح النبوة ، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلّی الله عليه وآله ، فقلت : يا رسول الله ما هذه الرنّة ؟ فقال : هذا الشيطان قد أيس من عبادته ، إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى ، إلّا أنّك لست بنبيّ ، ولكنّك لوزير ، وإنّك لعلى خير ... » (٦).

وبذلك توفّرت في شخصه ـ دون غيره ـ الأعلمية بالكتاب والسنّة ، التي هي من اُولى الصفات المؤهّلة للإمامة وقيادة الاُمّة بعد النبي صلّی الله عليه وآله.

*         *        *

____________________________

(٦) نهج البلاغة : ٣٠٠ / ١٩٢

١٢٨

وتوفّي النبي صلّی الله عليه وآله ، وتقمّص الّذين كان يلهيهم الصفق بالأسواق عن تعلّم القرآن وأحكام الدين ـ حتى أبسط مسائله اليومية ـ الخلافة ، وآل أمرها إلى ما آل إليه ... فقام سيّدنا أميرالمؤمنين عليه السلام مقام النبي صلّى الله عليه وآله في حفظ الكتاب والسنّة وتعليمهما الناس ، والترغيب فيهما ، والحثّ عليهما ... فهو من جهة يبادر إلى جمع القرآن مضيفاً إليه ما سمعه من النبي صلّی الله عليه وآله حول آياته من التفسير والتأويل وغير ذلك ، ويدرّس جماعة من أهل بيته وأصحابه ومشاهير الصحابة ممّا وعاه عن النبي صلّی الله عليه وآله من علوم الكتاب والسنّة ، حتى كان من أعلامهم الحسن والحسين عليهما السلام ، وعبدالله بن العبّاس ، وعبدالله بن مسعود ، وأمثالهم.

ومن جهة اُخرى يراقب ما يصدر عن الحكّام وغيرهم عن كثب ، كي ينفي عن الدين تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين.

فكان عليه السلام المرجع الأعلى لعموم المسلمين في جميع اُمورهم الدينية حتى اضطرّ بعض أعلام الحفّاظ إلى الإعتراف بذلك وقال : « وسؤال كبار الصحابة له ، ورجوعهم إلى فتاواه وأقواله ، في المواطن الكثيرة ، والمسائل المعضلات ، مشهور » (٧).

وهكذا ... كان سعي أميرالمؤمنين عليه السلام في حفظ القرآن بجميع معاني الكلمة ، وهكذا كان غيره من أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

وكان الإهتمام بالقرآن العظيم من أهمّ أسباب تقدّم الإسلام ورقيّ المسلمين ، كما كان التلاعب بالعهدين من أهم الاُمور التي أدّت إلى انحطاط اليهود والنصارى ، فأصبح الهجوم على القرآن نقطة التلاقي بين اليهود والنصارى والمناوئين للإسلام والمسلمين ، لأنّهم إن نجحوا في ذلك فقد طعنوا الإسلام في الصميم.

لكن الله سبحانه قد تعهّد بحفظ القرآن وأن « لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ » (٨) فاندحروا في جميع الميادين صاغرين ، والحمدلله ربّ العالمين.

لكنّ « اُسطورة تحريف القرآن » مازالوا يردّدونها بين حين وآخر ، وعلى لسان بعض الكتّاب المتظاهرين باسم الإسلام وياللأسف ، يستأجرونهم لتوجيه الضربة إلى

____________________________

(٧) تهذيب الأسماء واللغات ، للحافظ النووي ١ : ٣٤٦.

(٨) سورة فصّلت ٤١ : ٤٢.

١٢٩

القرآن والإسلام من الداخل ، ولإلقاء الفتنة فيما بينهم ، ولذا تراهم ـ في الأغلب ـ اُناساً حاقدين على آل البيت ومذهبهم وأتباعهم.

ونحن في هذا البحث تعرضنا لهذه « الاُسطورة » وكأنّها « مسألة » جديرة بالبحث والتعقيب والتحقيق ، ودرسنا كل ما قيل أو يمكن أن يقال في هذا الباب دراسة موضوعية ، فوجدنا الأدلة على نفي التحريف من الكتاب والسنة ـ وغيرهما ـ كثيرة وقويمة ، وليس في المقابل إلّا روايات غير صالحة لمعارضة تلك الأدلة ، إن لم تكن ضعيفة أو قابلة للحمل على بعض الوجوه

إنّ القول بعدم تحريف القرآن هو مذهب المسلمين عامة ، لكن المشكلة هي أنّ أكثر هذه الروايات مخرّجة في الكتب الموصوفة بـ « الصحة » عن أهل السنّة ، مسندة إلى جماعة من الصحابة ، وعلى رأسهم من اعترف منهم بأنّ « كل الناس أفقه منه حتى ربّات الحِجال » ... لكن الحقّ عدم صحّة تلك الأحاديث أيضاً ، وأنّ تلك الكتب ـ كغيرها ـ تشتمل على أباطيل وأكاذيب ، وسندلّل على ذلك في موضعه إن شاء الله.

فإلى القرّاء الكرام الحلقة الاُولى من هذا البحث الذي كتبته قبل خمسة عشر عاماً تقريباً ، ووضعته في بابين ، عنوان أحدهما : الشيعة والتحريف ، وعنوان الآخر : أهل السنّة والتحريف ، وفي كل باب فصول ...

وأسأل الله أن يوفّقنا جميعاً لما فيه رضاه ، إنّه سميع مجيب.

١٣٠

الباب الأول الشيعة والتحريف

الفصل الأول كلمات أعلام الشيعة في نفي التحريف

من الواضح أنّه لايجوز إسناد عقيدة أو قول إلى طائفة من الطوائف إلّا على ضوء كلمات أكابر علماء تلك الطائفة ، وبالإعتماد على مصادرها المعتبرة.

ولقد تعرّض علماء الشيعة منذ القرن الثالث إلى يومنا الحاضر لهذا الموضوع في كتبهم في عدّة من العلوم ، ففي كتب الإعتقادات يتطرّقون إليه حيثما يذكرون الإعتقاد في القرآن الكريم ، وفي كتب الحديث حيث يعالجون الأحاديث الموهمة للتحريف بالنظر في أسانيدها ومداليلها ، وفي بحوث الصلاة من كتب الفقه باعتبار وجوب قراءة سورة كاملة من القرآن في الصلاة بعد قراءة سورة الحمد ، وفي كتب اُصول الفقه حيث يبحثون عن حجّيّة ظواهر ألفاظ الكتاب.

وهم في جميع هذه المواضع ينصّون على عدم نقصان القرآن الكريم ، وفيهم من يصرح بأنّ من نسب إلى الشيعة أنّهم يقولون بأنّ القرآن أكثر من هذا الموجود بين الدفّتين فهو كاذب ، وفيهم من يقول بأنّ عليه إجماع علماء الشيعة بل المسلمين ، وفيهم من يستدلّ على النفي بوجوه من الكتاب والسنّة وغيرهما ، بل لقد أفرد بعضهم هذا الموضوع بتأليف خاص.

وعلى الجملة ، فإنّ الشيعة الإمامية تعتقد بعدم تحريف القرآن ، وأنّ الكتاب الموجود بين أيدينا هو جميع ما أنزله الله عزّوجلّ على نبيّنا محمد صلّی الله عليه وآله وسلّم من دون أيّ زيادة أو نقصان.

هذه عقيدة الشيعة في ماضيهم وحاضرهم ، كما جاء التصريح به في كلمات كبار علمائها ومشاهير مؤلفيها ، منذ أكثر من ألف عام حتى العصر الأخير.

يقول الشيخ محمد بن علي بن بابويه القمي ، الملقّب بالصدوق ـ المتوفّى سنة ٣٨١ ـ : « إعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله الله على نبيّه صلّی الله عليه وآله هو ما

١٣١

بين الدفّتين ، وهو ما في أيدي الناس ، ليس بأكثر من ذلك ... ومن نسب إلينا أنّا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب » (٩).

ويقول الشيخ محمد بن محمد بن النعمان ، الملقّب بالمفيد ، البغدادي ـ المتوفّى سنة ٤١٣ ـ : « وقد قال جماعة من أهل الإمامة : إنّه لم ينقص من كلمة ، ولا من آية ، ولا من سورة ، ولكن حذف ماكان مثبتاً في مصحف أميرالمؤمنين عليه السلام من تأويله ، وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله ، وذلك كان ثابتاً منزلاً وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز.

وعندي أنّ هذا القول أشبه من مقال من ادّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل ، وإليه أميل والله أسأل توفيقه للصواب » (١٠).

ويقول الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي ، الملقّب بعلم الهدى ـ المتوفّى سنة ٤٣٦ ـ : « إنّ العلم بصحّة نقل القرآن كالعلم بالبلدان ، والحوادث الكبار والوقائع العظام ، والكتب المشهورة ، وأشعار العرب المسطورة ، فإنّ العناية اشتدّت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته ، وبلغت إلى حدٍّ لم يبلغه في ماذكرناه ، لأنّ القرآن معجزة النبوّة ، ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية ، حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته ، فكيف يجوز أن يكون مغيَّراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد ؟! ».

وقال : « إنّ العلم بتفصيل القرآن وأبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته ، وجرى ذلك مجرى ماعلم ضرورةً من الكتب المصنّفة ككتابي سيبويه والمزني ، فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلها ما يعلمونه من جملتها ، حتى لو أنّ مُدخلاً أدخل في كتاب سيبويه باباً في النحو ليس من الكتاب لعُرِف ومُيّز ، وعلم أنّه ملحق وليس في أصل الكتاب ، وكذلك القول في كتاب المزني ، ومعلوم أنّ العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء ».

وقال : « إنّ القرآن كان على عهد رسول الله صلّی الله عليه وآله مجموعاً مؤلّفاً على ماهو عليه الآن ... ».

____________________________

(٩) الإعتقادات للشيخ الصدوق ـ مطبوع مع « النافع يوم الحشر » للمقداد السيوري ـ : ٩٣ ـ مخطوط ـ.

(١٠) أوائل المقالات في المذاهب المختارات : ٥٥ ـ ٥٦.

١٣٢

« واستدلّ على ذلك بأن القرآن كان يُدرّس ويُحفظ جميعه في ذلك الزمان ، حتى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له ، وأنّه كان يعرض على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويتلى عليه ، وأنّ جماعة من الصحابة مثل عبدالله بن مسعود واُبيّ بن كعب وغيرهما حتموا القرآن على النبي صلّی الله عليه وآله وسلّم عدّة ختمات.

كل ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتّباً غير مبتورٍ ولا مبثوث ».

« وذكر أنّ من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لايعتدّ بخلافهم ، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث ، نقلوا أخباراً ضعيفة ظنّوا بصحّتها ، لايرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته » (١١).

ولقد عرف واشتهر هذا الرأي عن الشريف المرتضى حتى ذكر ذلك عنه كبار علماء أهل السُنّة ، وأضافوا أنّه كان يُكَفِّر من قال بتحريف القرآن ، فقد نقل ابن حجر العسقلاني عن ابن حزم قوله فيه : « كان من كبار المعتزلة الدعاة ، وكان إمامياً ، لكنّه يكفّر من زعم أنّ القرآن بُدّل أو زيد فيه ، أو نقص منه ، وكذا كان صاحباه أبوالقاسم الرازي وأبويعلى الطوسي » (١٢).

ويقول الشيخ محمد بن الحسن أبو جعفر الطوسي ، الملقّب بشيخ الطائفة ـ المتوفّى سنة ٤٦٠ ـ في مقدّمة تفسيره : « والمقصود من هذا الكتاب علم معانيه وفنون أغراضه ، وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه فممّا لايليق به أيضاً ، لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها ، والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الأليق بالصحيح عن مذهبنا ، وهو الذي نصره المرتضى ـ رحمه الله تعالى ـ وهو الظاهر من الروايات.

غير أنّه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصة والعامة بنقصان كثير من آي القرآن ، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع ، طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملاً ، والأوْلى الإعراض عنها وترك التشاغل بها لأنّه يمكن تأويلها ، ولو صحّت لما كان ذلك طعناً على ما هو موجود بين الدفّتين ، فإنّ ذلك معلوم صحّته لايعترضه أحد من

____________________________

(١١) نقل هذا في مجمع البيان ١ : ١٥ ، عن المسائل الطرابلسيات للسيد المرتضى.

(١٢) لسان الميزان ٤ : ٢٢٤ ، ولا يخفى ما فيه من الخلط والغلط.

١٣٣

الاُمّة ولا يدفعه » (١٣).

ويقول الشيخ الفضل بن الحسن أبو علي الطبرسي ، الملقّب بأمين الإسلام ـ المتوفّى سنة ٥٤٨ ـ مانصّه : « ... ومن ذلك الكلام في زيادة القرآن ونقصانه ، فإنّه لايليق بالتفسير ، فأمّا الزيادة فمجمع على بطلانها ، وأمّا النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة : إنّ في القرآن تغييراً ونقصاناً ...

والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه ، وهو الذي نصره المرتضى ـ قدّس الله روحه ـ واستوفى الكلام فيه غاية الإستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات » (١٤).

والقول بعدم التحريف لازم كلام الشيخ الحسن بن يوسف ، الشهير بالعلّامة الحلّي ـ المتوفّى سنة ٧٢٦ ـ في كتابه « نهاية الاُصول » كما سيأتي الإشارة إليه.

ويقول الشيخ زين الدين البياضي العاملي ـ المتوفّى سنة ٨٧٧ ـ في قوله تعالى « وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ » : « أي إنّا لحافظون له من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان » (١٥).

وألّف الشيخ علي بن عبد العالي الكركي العاملي ، الملّقب بالمحقّق الثاني ـ المتوفّى سنة ٩٤٠ ـ رسالة في نفي النقيصة في القرآن الكريم ، حكاها عنه السيد محسن الأعرجي البغدادي في كتابه « شرح الوافية في علم الاُصول ».

واعترض في الرسالة على نفسه بما يدلّ على النقيصة من الأخبار ، فأجاب : « بأنّ الحديث إذا جاء على خلاف الدليل والسُنّة المتواترة أو الإجماع ، ولم يمكن تأويله ولا حمله على بعض الوجوه. وجب طرحه » (١٦).

وبه صرّح الشيخ فتح الله الكاشاني ـ المتوفّى سنة ٩٨٨ ـ في مقدمة تفسيره « منهج الصادقين » ، وبتفسير الآية « وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ».

وهو صريح السيد نورالله التستري ، المعروف بالقاضي الشهيد ـ المستشهَد سنة ١٠١٩ ـ في كتابه « إحقاق الحقّ » في الإمامة والكلام.

____________________________

(١٣) التبيان في تفسير القرآن ١ : ٣.

(١٤) مجمع البيان ١ : ١٥.

(١٥) مباحث في علوم القرآن للعلّامة الاُردوبادي ـ مخطوط ـ.

(١٦) المصدر نفسه.

١٣٤

ويقول الشيخ محمد بن الحسين ، الشهير ببهاء الدين العاملي ـ المتوفّى سنة ١٠٣٠ ـ : « الصحيح أنّ القرآن العظيم محفوظ عن ذلك ، زيادة كان أو نقصاناً ، ويدلّ عليه قوله تعالى : « وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ». وما اشتهر بين الناس من إسقاط إسم أميرالمؤمنين عليه السلام منه في بعض المواضع مثل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ـ في علي ـ ، وغير ذلك فهو غير معتبر عند العلماء » (١٧).

ويقول العلّامة التوني ـ المتوفّي سنة ١٠٧١ ـ صاحب كتاب « الوافية في الاُصول » : « والمشهور أنّه محفوظ ومضبوط كما اُنزل ، لم يتبدّل ولم يتغيّر ، حفظه الحكيم الخبير ، قال الله تعالى : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ».

ويقول الشيخ محمد محسن الشهير بالفيض الكاشاني ـ المتوفّى سنة ١٠١٩ ـ بعد الحديث عن البزنطي ، قال : دفع إليّ أبوالحسن عليه السلام مصحفاً وقال : لا تنظر فيه ، ففتحته وقرأت فيه : لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ... فوجدت فيها اسم سبعين رجلاً ...

قال : « لعلّ المراد أنّه وجد تلك الأسماء مكتوبة في ذلك المصحف تفسيراً للّذين كفروا والمشركين مأخوذة من الوحي ، لا أنّها كانت من أجزاء القرآن وعليه يحمل ما في الخبرين السابقين ...

وكذلك كلّ ماورد من هذا القبيل عنهم عليهم السلام ، فإنّه كلّه محمول على ما قلناه ، لأنّه لو كان تطرّق التحريف والتغيير في ألفاظ القرآن لم يبق لنا اعتماد على شيء منه ، إذ على هذا يحتمل كل آية منه أن تكون محرّفة ومغيّرة ، وتكون على خلاف ماأنزله الله ، فلايكون القرآن حجّة لنا ، وتنتفي فائدته وفائدة الأمر باتّباعه والوصية به ، وعرض الأخبار المتعارضة عليه ».

ثم استشهد ـ رحمه الله تعالى ـ بكلام الشيخ الصدوق المتقدّم ، وبعض الأخبار (١٨).

وقال في « الأصفى » بتفسير قوله تعالى « وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ » : « من التحريف والتغيير والزيادة والنقصان » (١٩).

____________________________

(١٧) الاء الرحمن : ٢٦.

(١٨) الوافي ٢ : ٢٧٣ ـ ٢٧٤.

(١٩) الأصفى في تفسير القرآن : ٣٤٨.

١٣٥

ويقول الشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي ـ المتوفّى سنة ١١٠٤ ـ ما تعريبه : « إنّ من تتبّع الأخبار وتفحّص التواريخ والآثار علم ـ علماً قطعياً ـ بأنّ القرآن قد بلغ أعلى درجات التواتر ، وأنّ آلاف الصحابة كانوا يحفظونه ويتلونه ، وأنّه كان على عهد رسول الله صلّی الله عليه وآله وسلّم مجموعاً مؤلّفاً » (٢٠).

وقال الشيخ محمد باقر المجلسي ـ المتوفّى سنة ١١١١ ـ بعد أن أخرج الأحاديث الدالّة على نقصان القرآن ـ ما نصّه : « فإنْ قال قائل : كيف يصحّ القول بأنّ الذي بين الدفّتين هو كلام الله تعالى على الحقيقة من غير زيادة ولا نقصان وأنتم تروون عن الأئمة عليهم السلام أنّهم قرأوا : كنتم خير أئمّة اُخرجت للناس ، وكذلك : جعلناكم أئمّة وسطاً ، وقرأوا : ويسئلونك الأنفال ، وهذا بخلاف ما في المصحف الذي في أيدي الناس ؟.

قيل له : قد مضى الجواب عن هذا ، وهو : إنّ الأخبار التي جاءت بذلك أخبار آحاد لا يقطع على الله تعالى بصحّتها ، فلذلك وقفنا فيها ولم نعدل عما في المصحف الظاهر على ما اُمرنا به حسب ما بيّناه.

مع أنّه لاينكر أن تأتي القراءة على وجهين منزلتين ، أحدهما ، ما تضمّنه المصحف ، والثاني : ما جاء به الخبر ، كما يعترف مخالفونا به من نزول القرآن على وجوه شتى ... » (٢١).

وهو ظاهر كلام السيد علي بن معصوم المدني الشيرازي ـ المتوفّى سنة ١١١٨ ـ في « شرح الصحيفة السجادية » فليراجع (٢٢).

وإليه ذهب السيد أبوالقاسم جعفر الموسوي الخونساري ـ المتوفّى سنة ١١٥٧ ـ في كتابه « مناهج المعارف » فليراجع.

وقال السيد محمد مهدي الطباطبائي ، الملقّب ببحر العلوم ـ المتوفّى سنة ١٢١٢ ـ مانصّه : « الكتاب هو القرآن الكريم والفرقان العظيم والضياء والنور والمعجز الباقي على مرّ الدهور ، وهو الحقّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من لدن

____________________________

(٢٠) انظر : الفصول المهمة في تأليف الاُمّة : ١٦٦.

(٢١) بحار الأنوار ٩٢ : ٧٥.

(٢٢) رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد العابدين ، الروضة ٤٢.

١٣٦

حكيم حميد ، أنزله بلسان عربيّ مبين هدى للمتقين وبياناً للعالمين ... ـ ثم ذكر روايتي : القرآن أربعة أرباع ، و : القرآن ثلاثة أثلاث ، الآتيتين ، وقال ـ والوجه حمل الأثلاث والأرباع على مطلق الأقسام والأنواع وإن اختلف في المقدار ... » (٢٣).

وقال الشيخ الأكبر الشيخ جعفر ، المعروف بكاشف الغطاء ـ المتوفّى سنة ١٢٢٨ ـ ما نصّه : « لا ريب في أنّ القرآن محفوظ من النقصان بحفظ الملك الدّيان ، كما دلّ عليه صريح الفرقان وإجماع العلماء في جميع الأزمان ، ولا عبرة بالنادر وما ورد من أخبار النقيصة تمنع البديهة من العمل بظاهرها » (٢٤).

وقال السيد محسن الأعرجي الكاظمي ـ المتوفّى سنة ١٢٢٨ ـ ما ملخّصه :

« وإنّما الكلام في النقيصة ، وبالجملة فالخلاف إنّما يعرف صريحاً من علي بن إبراهيم في تفسيره ، وتبعه على ذلك بعض المتأخرين تمسّكاً بأخبار آحاد رواها المحدّثون على غرّها ، كما رووا أخبار الجبر والتفويض والسهو والبقاء على الجنابة ونحو ذلك ».

ثمّ ذكر أنّ القوم إنّما ردّوا مصحف علي عليه السلام « لما اشتمل عليه من التأويل والتفسير ، وقد كان عادة منهم أن يكتبوا التأويل مع التنزيل ، والذي يدلّ على ذلك قوله عليه السلام في جواب الثاني : ولقد جئت بالكتاب كملاً مشتملاً على التأويل والتنزيل ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ. فإنّه صريح في أنّ الذي جاءهم به ليس تنزيلاً كلّه » (٢٥).

وقال السيد محمد الطباطبائي ـ المتوفّى سنة ١٢٤٢ ـ ما ملخصه : « لا خلاف أنّ كل ما هو من القرآن يجب أن يكون متواتراً في أصله وأجزائه ، وأمّا في محلّه ووضعه وترتيبه ، فكذلك عند محقّقي أهل السنّة للقطع بأنّ العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله ، لأنّ هذا المعجز العظيم الذي هو أصل الدين القويم والصراط المستقيم ممّا توفِّر الدواعي على نقل جمله وتفاصيله ، فما نقل آحاداً ولم يتواتر يُقطع بأنّه ليس من القرآن

____________________________

(٢٣) الفوائد في علم الاُصول ـ مخطوط ـ.

(٢٤) كشف الغطاء في الفقه ، ونقله عنه شرف الدين في أجوبة المسائل : ٣٣.

(٢٥) شرح الوافية في علم الاُصول ، وانظر له : المحصول في علم الاُصول.

١٣٧

قطعاً » (٢٦).

وقال الشيخ إبراهيم الكلباسي الأصبهاني ـ المتوفّى سنة ١٢٦٢ ـ : « ... إنّ النقصان في الكتاب ممّا لا أصل له » (٢٧).

وصرّح السيد محمد الشهشهاني ـ المتوفّى سنة ١٢٨٩ ـ بعدم تحريف القرآن الكريم في بحث القرآن من كتابه « العروة الوثقى » ، ونسب ذلك إلى جمهور المجتهدين (٢٨).

وصرّح السيد حسين الكوه كمري ـ المتوفّى سنة ١٢٩٩ ـ بعدم تحريف القرآن ، واستدلّ على ذلك باُمور نلخّصها فيما يلي :

١ ـ الأصل ، لكون التحريف حادثاً مشكوكاً فيه.

٢ ـ الإجماع.

٣ ـ منافاة التحريف لكون القرآن معجزة.

٤ ـ قوله تعالى : « لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ».

٥ ـ أخبار الثقلين.

٦ ـ الأخبار الناطقة بالأمر بالأخذ بهذا القرآن (٢٩).

وإليه ذهب الشيخ موسى التبريزي ـ المتوفّى سنة ١٣٠٧ ـ في « شرح الرسائل في علم الاُصول ».

وأثبت عدم التحريف بالأدلّة الوافية السيد محمد حسين الشهرستاني الحائري ـ المتوفّى سنة ١٣١٥ ـ في رسالة له اسمها « رسالة في حفظ الكتاب الشريف عن شبهة القول بالتحريف » (٣٠).

وقال الشيخ محمد حسن الآشتياني ـ المتوفّى سنة ١٣١٩ ـ : « المشهور بين المجتهدين والاُصوليّين ، بل أكثر المحدّثين عدم وقوع التغيير مطلقاً ، بل ادّعى غير واحد

____________________________

(٢٦) مفاتيح الاُصول.

(٢٧) إشارات الاُصول.

(٢٨) اُنظر : البيان في تفسير القرآن : ٢٠٠.

(٢٩) اُنظر : بشرى الوصول إلى أسماء علم الاُصول.

(٣٠) المعارف الجلية ١ : ٢١.

١٣٨

الإجماع على ذلك » (٣١).

وإليه ذهب الشيخ محمد حسن بن عبدالله المامقاني النجفي ـ المتوفّى سنة ١٣٢٣ ـ في كتابه « بشرى الوصول إلى أسرار علم الاُصول ».

وبه صرّح السيد محمد باقر ، الشهير بالحُجّة الطباطبائي ـ المتوفّى سنة ١٣٣١ ـ في منظومته الشهيرة في علم الكلام ، المسمّاة بـ « مصباح الظلام في علم الكلام ».

وقال الشيخ عبدالله ابن الشيخ محمد حسن المامقاني ـ المتوفّى سنة ١٣٥١ ـ بترجمة ( الربيع بن خثيم ) بعد كلام له : « فتحصّل من ذلك كلّه أنّ ما صدر من المحدّث النوري ـ رحمه الله ـ من رمي الرجل بضعف الإيمان ونقص العقل جرأة عظيمة كجرأته على الإصرار على تحريف كتاب الله المجيد ... » (٣٢).

وقال الشيخ محمد جواد البلاغي ـ المتوفّى سنة ١٣٥٢ ـ ما نصّه : « ولئن سمعت من الروايات الشاذّة شيئاً في تحريف القرآن وضياع بعضه ، فلا تقم لتلك الروايات وزناً ، وقل ما يشاء العلم في اضطرابها ووهنها وضعف رواتها ومخالفتها للمسلمين ، وفيما جاءت به في رواياتها الواهية من الوهن وما ألصقته بكرامة القرآن مما ليس له شبه به ... » (٣٣).

فهذه طائفة من كلمات أعلام الإمامية في القرون المختلفة الصريحة في نفي التحريف عن القرآن الشريف ... وهذا هو رأي آخرين منهم :

كالشريف الرضي ، المتوفّى سنة ٤٠٦ هـ.

والشيخ ابن إدريس ـ صاحب « السرائر في الفقه » ـ ، المتوفّى سنة ... .

والفاضل الجواد ، من علماء القرن الحادي عشر ، في « شرح الزبدة في الاُصول ».

والشيخ أبي الحسن الخنيزي ، صاحب الدعوة الإسلامية ، المتوفّى سنة ١٣٦٣ هـ.

والشيخ محمد النهاوندي ، صاحب التفسير ، المتوفّى سنة ١٣٧١ هـ.

____________________________

(٣١) بحر الفوائد في حاشية الفرائد في الاُصول.

(٣٢) تنقيح المقال.

(٣٣) آلاء الرحمن في تفسير القرآن : ١٨.

١٣٩

والسيد محسن الأمين العاملي ، المتوفى سنة ١٣٧١ ، في كتابه « الشيعة والمنار ».

والشيخ عبدالحسين الرشتي النجفي ، المتوفّى سنة ... ، في « كشف الإشتباه في مسائل جار الله ».

والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ، المتوفى سنة ١٣٧٣ هـ ، في « أصل الشيعة واُصولها ».

والسيد عبد الحسين شرف الدين العاملي ، المتوفّى سنة ١٣٨١ هـ ، في « أجوبة مسائل جارالله ».

والشيخ آغا بزرك الطهراني ، المتوفّى سنة ١٣٨٩ هـ ، في رسالته في « نفي التحريف عن القرآن الشريف ».

والسيد محمد هادي الميلاني ، المتوفّى سنة ١٣٩٥ ، في فتوى له.

والسيد محمد حسين الطباطبائي ، المتوفّى سنة ١٤٠٢ هـ ، في تفسيره الشهير « الميزان في تفسير القرآن ».

وقد تعرّض لهذا الموضوع : السيد أبوالقاسم الخوئي دام ظلّه في كتابه « البيان في تفسير القرآن ».

ولو أردنا أن ننقل كلمات هؤلاء الأعاظم من علماء الشيعة في هذا المضمار لطال بنا المقام ، فمثلاً يقول الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء :

« وإنّ الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه للإعجاز والتحدّي ولتعليم الأحكام وتمييز الحلال من الحرام ، وإنّه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة ، وعلى هذا إجماعهم.

ومن ذهب منهم أو من غيرهم من فرق المسلمين إلى وجود نقص فيه أو تحريف فهو مخطئ يردّه نصّ الكتاب العظيم ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ).

والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم الظاهرة في نقصه أو تحريفه ضعيفة شاذّة ، وأخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً ، فأمّا أن تؤوّل بنحو من الأعتبار أو يضرب بها الجدار » (٣٤).

____________________________

(٣٤) أصل الشيعة واُصولها ١٠١ ـ ١٠٢ ، ط ١٥.

١٤٠