الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-199-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٤

ثانيا : قال أيضا : إن من يكون صبيا يوم الفتح ، لا يبعثه مصدّقا بعد الفتح بقليل (١).

ثالثا : لما هاجرت أم كلثوم بنت عقبة في الهدنة خرج أخواها الوليد وعمارة ليرداها. فمن يكون صبيا يوم الفتح كيف يخرج ليرد أخته قبله؟ (٢).

رابعا : قال الحافظ : ومما يؤيد أنه كان في الفتح رجلا : أنه قدم في فداء ابن عم أبيه الحرث بن أبي وجرة لما أسر يوم بدر ، فافتداه بأربعة آلاف (٣).

خامسا : ورد في منازعة الوليد لعلي «عليه‌السلام» ، قول الوليد لعلي

__________________

ـ آبادي ج ١١ ص ١٥٨ والجوهر النقي ج ٩ ص ٥٦ وتفسير الآلوسي ج ٢١ ص ١٣٦ وتهذيب الكمال ج ٣١ ص ٥٦ والإصابة لابن حجر ج ٦ ص ٤٨٢ والوافي بالوفيات ج ٢٧ ص ٢٧٦ وإمتاع الأسماع ج ١٣ ص ٢١٥ و ٢١٦.

(١) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٤ ص ٣٩ والإصابة ج ٣ ص ٦٣٨ والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ٣ ص ٦٣١ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٣٩ والإستيعاب ج ٤ ص ١٥٥٣ وعون المعبود للعظيم آبادي ج ١١ ص ١٥٨ والجوهر النقي ج ٩ ص ٥٦ وتفسير الآلوسي ج ٢١ ص ١٣٦ وأسد الغابة ج ٥ ص ٩٠ وتهذيب الكمال ج ٣١ ص ٥٦ والإصابة لابن حجر ج ٦ ص ٤٨٢ والوافي بالوفيات ج ٢٧ ص ٢٧٦ وإمتاع الأسماع ج ١٣ ص ٢١٥ و ٢١٦.

(٢) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٤ ص ٣٩ والإصابة ج ٣ ص ٦٣٨ وفي (ط دار الكتب العلمية ـ بيروت) ج ٦ ص ٤٨٢ والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ٣ ص ٦٣١ عن الزبير بن بكار وغيره من علماء السير.

(٣) شرح المواهب للزرقاني ج ٤ ص ٣٩ والإصابة ج ٣ ص ٦٣٨ وفي (ط دار الكتب العلمية ـ بيروت) ج ٦ ص ٤٨٢ وتهذيب التهذيب ج ١١ ص ١٢٧ وتفسير الآلوسي ج ٢١ ص ١٣٦.

٦١

«عليه‌السلام» : اسكت فإنك صبي وأنا شيخ الخ .. (١).

وهذا صريح في أن عمره كان آنئذ يعد بعشرات السنين.

سادسا : قال له الإمام الحسن «عليه‌السلام» : اقسم بالله ، لأنت أكبر في الميلاد وأسن ممن تدعى إليه (٢).

والحقيقة هي : أن هؤلاء المتحذلقين يريدون بدعواهم صغر سن الوليد ، تكذيب أو على الأقل إثارة الشبهة حول نزول آية : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) في حق الوليد بن عقبة ، وذلك حفاظا منهم على البيت الأموي ، ورعاية لحق عثمان ، لأن الوليد أخوه من أمه .. وفرارا من الإعتراف بأن في الصحابة فاسق ، حتى لو نطق القرآن بذلك ..

إجراءات إحترازية :

وقد ذكرت بعض النصوص : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعث خالد بن الوليد خفية في عسكر لاستكشاف الخبر في بني المصطلق ، وأمره أن يخفي عنهم قدومه ، فلما دنا منهم بعث عيونا ليلا ، فإذا هم ينادون بالصلاة ويصلون. فأتاهم خالد ، فلم ير منهم إلا طاعة وخيرا ، فرجع إليه

__________________

(١) الأغاني ج ٥ ص ١٥٣ وتفسير الخازن ج ٣ ص ٤٧٠ والغدير ج ٢ ص ٤٦ ومصادر أخرى ستأتي عن قريب إن شاء الله.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٢٩٣ عن الزبير بن بكار وراجع : مقتل الحسين للخوارزمي ج ١ ص ١١٩ والغدير ج ٨ ص ٢٧٥ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٥٧٥ وغاية المرام ج ٤ ص ١٣٢.

٦٢

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأخبره فنزلت الآية (١).

ونقول :

١ ـ الذي يبدو لنا من ملاحظة النصوص : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد تصرف باتجاهين بصورة متوازنة ، فهو في نفس الوقت الذي أظهر فيه أنه يريد التصدي لتمرد بني المصطلق ، فضرب على الناس البعث إليهم ، فإنه من جهة أخرى أرسل خالدا إليهم سرا ، ليستعلم خبرهم مباشرة.

فانسجم الموقف الحازم المتمثل بالتصرف الأول مع الدقة في متابعة الأمور ، والإحتياط لدماء الناس ، وحفظ كراماتهم ومصالحهم ، المتمثل بالتصرف الثاني ..

٢ ـ إن الآية الكريمة (آية النبأ) إنما نزلت بعد أن ظهر للناس كذب ما جاءهم به الوليد ، وأنه قد افترى على بني المصطلق ، واختلق أمورا لا أساس لها ؛ فجاء توصيفه في الآية بالفاسق ليصدق هذه الوقائع التي رآها الناس بأعينهم ..

__________________

(١) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٤ ص ٣٩ عن عبد الرزاق وغيره ، عن قتادة ، وعكرمة ، ومجاهد. والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ٣ ص ٦٣٢ والإصابة ج ٣ ص ٦٣٧ وراجع : تفسير الثعلبي ج ٩ ص ٧٧ وتفسير البغوي ج ٤ ص ٢١٢ وتفسير القرآن للصنعاني ج ٣ ص ٢٣١ وأحكام القرآن للجصاص ج ٣ ص ٥٢٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٣ ص ٢٣٢ والإصابة ج ٦ ص ٤٨١ وإمتاع الأسماع ج ١٣ ص ٢١٧.

٦٣

الوليد ليس بفاسق حتى لو نزلت الآية فيه!! :

قال الزرقاني : «ولا يشكل تسميته فاسقا بإخباره عنهم بذلك على ظنه للعداوة ورؤية السيوف. وذلك لا يقتضي الفسق ، لأن المراد الفسق اللغوي ، وهو الخروج عن الطاعة .. وسماه فاسقا لإخباره بخلاف الواقع على المبعوث إليهم ، لا الشرعي الذي هو من ارتكب كبيرة ، أو أصر على صغيرة ، لعدالة الصحابة.

وقد صرح بعضهم : بأن كون ذلك مدلول الفسق ، لا يعرف لغة إنما هو مدلول شرعي (١).

ونقول :

أولا : هناك آيتان في القرآن الكريم نزلتا في الوليد بن عقبة ، توضح أحدهما الأخرى ، إن لم نقل : إنها ناظرة إليها ..

أحديهما : قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (٢) ، فقد كان بين علي «عليه‌السلام» وبين الوليد بن عقبة تنازع وكلام ، فقال له علي «عليه‌السلام» : اسكت فإنك فاسق. فأنزل الله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ).

وحكى المعتزلي عن شيخه : أن هذا من المعلوم الذي لا ريب فيه لاشتهار الخبر به ، وإطباق الناس عليه (٣).

__________________

(١) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٤ ص ٣٩.

(٢) الآية ١٨ من سورة السجدة.

(٣) راجع : الأغاني ج ٥ ص ١٥٣ وجامع البيان للطبري ج ٢١ في تفسير الآية ، وتفسير

٦٤

وأما نزول الآية الثانية في الوليد : فيكفي أن نذكر قول ابن عبد البر : إنه «لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله عزوجل : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (١) نزلت في الوليد» (٢).

__________________

الخازن ج ٤ ص ٤٧٠ وأسباب النزول للواحدي ص ٢٣٥ والرياض النضرة ج ٣ ص ١٥٦ وذخائر العقبى ص ٨٨ والمناقب للخوارزمي ص ١٨٨ وكفاية الطالب ص ٥٥ وغرائب القرآن للنيسابوري ج ٢١ ص ٧٢ وتفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ٤٦٢ ونظم درر السمطين ص ٩٢ وشرح النهج للمعتزلي ج ٤ ص ٨٠ وج ٦ ص ٢٩٢ وج ١ ص ٣٩٤ وج ٢ ص ١٠٣ والدر المنثور ج ٤ ص ١٧٨ عن بعض من تقدم ، وعن الأغاني ، وابن عدي ، وابن مردويه ، والخطيب ، وابن عساكر ، وابن إسحاق ، وابن أبي حاتم ، وعن السيرة الحلبية ج ٢ ص ٨٥ والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ٣ ص ٦٣٣ وموسوعة الإمام علي للريشهري ج ١١ ص ٣١٦ وغاية المرام للبحراني ج ٤ ص ١٣٠.

(١) الآية ٦ من سورة الحجرات.

(٢) الإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ٣ ص ٦٣٢ وراجع : أسد الغابة ج ٥ ص ٩٠ والإصابة ج ٣ ص ٦٣٧ وتفسير البغوي ج ٤ ص ٢١٢ وتفسير النسفي ج ٤ ص ١٦٣ وزاد المسير لابن الجوزي ج ٧ ص ١٨٠ وتفسير القرطبي ج ١٦ ص ٣١١ وتفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٢٣ وتفسير الواحدي ج ٢ ص ١٠١٦ وأسباب نزول الآيات للنيسابوري ص ٢٦١ وتفسير الثعلبي ج ٩ ص ٧٧ وتفسير السمرقندي ج ٣ ص ٣٠٨ وجامع البيان للطبري ج ٢٦ ص ١٦١ و ١٦٠ وتفسير الميزان ج ١٨ ص ٣١٩ والتفسير الأصفى للكاشاني ج ٢ ص ١١٩٢ وفقه القرآن للراوندي ج ١ ص ٣٧١ والإستيعاب ج ٤ ص ١٥٥٤ و ١٥٥٣ ومستدرك سفينة البحار للشاهرودي ج ٨ ص ٢٠١ والغدير ج ٨ ص ١٢٤ وخلاصة

٦٥

فلو قبلنا بمقولة : أن المراد بالفسق ليس هو معناه الشرعي ، فإننا نقول :

لقد بين لنا القرآن معنى الفسق المقصود بالآيات ، وهو أعظم وأخطر مما أراد الزرقاني وأضرابه الهروب منه ، لأن القرآن جعل الفسق مقابل الإيمان ، فوصف الوليد بالفاسق يخرجه عن صفة الإيمان بالكلية كما أظهرته آية : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) النازلة في حق الوليد بالذات.

وقال تعالى : (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) (١).

وآيات كثيرة أخرى تشير إلى هذا المعنى ، وتجعل الفاسق بحكم الكافر.

ثانيا : قال الإمام الحسن المجتبى «عليه‌السلام» طاعنا على الوليد في مجلس معاوية : «وأنت الذي سماه الله الفاسق ، وسمى عليا المؤمن».

ثم ذكر قصة مفاخرته مع علي «عليه‌السلام» ، ونزول الآية الشريفة موافقة لعلي «عليه‌السلام».

ثم قال : «ثم أنزل فيك موافقة قوله : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) ويحك يا وليد مهما نسيت ، فلا تنس قول الشاعر فيك وفيه :

__________________

ـ عبقات الأنوار للنقوي ج ٣ ص ٢٧١ والبحار ج ٣١ ص ١٥٤ وعين العبرة في غبن العترة للسيد أحمد آل طاووس ص ٦٣ وفتح القدير للشوكاني ج ٥ ص ٦٠ وأصول السرخسي ج ١ ص ٣٧١ وتهذيب الكمال ج ٣١ ص ٥٦ وسير أعلام النبلاء ج ٣ ص ٤١٤ وتهذيب التهذيب ج ١١ ص ١٢٦ والوافي بالوفيات ج ٢٧ ص ٢٧٦ وإمتاع الأسماع ج ١٣ ص ٢١٧ والجمل للمفيد ص ١١٥ وتنبيه الغافلين عن فضائل الطالبين لابن كرامة ص ١٣٢ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٥٩٢.

(١) الآية ١١٠ من سورة آل عمران.

٦٦

أنزل الله والكتاب عزيز

في علي وفي الوليد قرآنا

فتبوى الوليد إذ ذاك فسقا

وعلي مبوأ إيمانا

ليس من كان مؤمنا عمرك الل

ه كمن كان فاسقا خوانا (١)

فإن طعن الإمام الحسن «عليه‌السلام» على الوليد بذلك يشير إلى أن الآية قد تضمنت أعظم الذم للوليد.

ولو أردنا أن نأخذ بما يقوله الزرقاني لوجب أن يكون نزول الآية في حقه خطأ وظلما ، لأنها أو همت ذمه ، وجعلته في موضع الخزي إلى يوم القيامة ..

على أنه لو أمكن التشكيك في مفاد آية النبأ ، وقبلنا منهم هذه التمحلات ، فإنه لا نجاة له من مفاد الآية الأخرى حسبما أوضحناه ، فإنها لا تريد أن تثني على الوليد ، بل هي بصدد ذمه الشديد والأكيد ، وإثبات صفة الفسق بمعنى عدم الإيمان عليه ..

ثالثا : أما قوله : إن المراد بالفسق ليس معناه الشرعي ، لثبوت عدالة الصحابة ، فهو أول الكلام ، لأن هذه الآيات وسواها مما نزل في حق الكثيرين منهم تنفي عموم عدالتهم.

نعم ، لا ريب في ثبوت العدالة لطائفة من الصحابة.

رابعا : إن الأمر لم يقتصر على مجرد ظن الوليد بشيء ، ثم ظهر مخالفة هذا الظن للواقع ، بل تجاوز ذلك إلى اختلاقه أخبارا ، ومبادرته إلى افتراءات

__________________

(١) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٤ ص ٣٨ والغدير ج ٨ ص ٢٧٥ وشرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٢٩٣ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٥٧٥ وغاية المرام للبحراني ج ٤ ص ١٣٢.

٦٧

لا واقع لها ، حيث نسب إليهم أنهم ارتدوا ، وأنهم أرادوا قتله ، وما إلى ذلك مما تشير إليه النصوص ..

ومن المعلوم : أن الإفتراء على المؤمنين ، والتحريض عليهم ، والتسبب بإرسال الجيوش لحربهم وقتلهم ، بل مجرد تعمد الكذب ـ إن ذلك ـ من موجبات الفسق الشرعي والعرفي ، والأخلاقي وما إلى ذلك.

فما معنى أن يقال : إنه لم يصدر منه سوى أنه قد ظن أمرا ، بسبب خوف اعتراه ، ثم ظهر عدم صحة ظنه؟!

سرية خالد إلى قوم من خثعم :

عن خالد بن الوليد : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعثه إلى أناس من خثعم ، فاعتصموا بالسجود ، فقتلهم ، فوداهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نصف الدية ، ثم قال : أنا بريء من كل مسلم أقام مع المشركين لا تراءى ناراهما (١).

ونقول :

١ ـ ماذا كان يضير خالد بن الوليد لو أنه تثبّت من إسلام هؤلاء الذين يعتصمون بالسجود؟! .. فإنه سوف لا يخسر شيئا ، ولا يفوته قتلهم لو كانوا مستحقين للقتل ..

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٤٧ عن الطبراني في الكبير ج ٤ ص ١٣٤ وقالوا : إن رجال الرواية ثقات وعمدة القاري ج ١٣ ص ٢٧٧ وتخريج الأحاديث والآثار للزيلعي ج ١ ص ٤٠٢ و ٤٠٣ والفتح السماوي للمناوي ج ٢ ص ٥٦٦ و ٥٦٨.

٦٨

٢ ـ لماذا لا يكون مصب اهتمام خالد على أخذهم أسرى ، ليرى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيهم رأيه ، فلعله يرجح استرقاقهم لينتفع بهم المسلمون ، أو يمهلهم ليسمعوا كلام الله ، أو يوفر لهم الفرصة ليعيشوا الإسلام في مفاهيمه وقيمه ، وفي عقائده وشرائعه ، ويقارنوا بينه وبين الشرك الذي هم عليه ، ليروا البون الشاسع فيما بينهما ، ويكون اختيارهم له مستندا إلى الحس والمشاهدة القريبة ..

٣ ـ على أن من المعلوم : أن المهمة التي كلفه بها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليست هي قتل كل من لم يسلم بل كلفه بالدعوة إلى الله تعالى ، وكفّ شر من يريد بالإسلام وبالمسلمين شرا ، حين يعلن الحرب على الإسلام وأهله.

٤ ـ أما قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أنا بريء من كل مسلم أقام مع المشركين ، لا تراءى ناراهما ، فهو ليس تبرئة لخالد بقدر ما هو إدانة له ، فإن نفس اعتصام أولئك القوم بالسجود إظهار للإسلام ، وإعلان له ، ودلالة واضحة على أنهم أهله ، لأن المقصود بترائي ناري المسلمين والمشركين هو : إظهار ما يمكن به التمييز بين الفريقين. والإعتصام بالسجود هو من هذه العلائم التي تحقق هذا التمييز.

وحتى لو كان هناك شك في ذلك ، فإن التبيّن والتأكد من الحقيقة ليس بالأمر الصعب ، ولا هو بالأمر الرديء والمستهجن والمعيب ..

٦٩
٧٠

الباب السابع

الوفادات على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

الفصل الأول : وفادات غير معتادة

الفصل الثاني : أشخاص علم تاريخ وفادتهم

الفصل الثالث : وفادات أشخاص قليلة التفاصيل

الفصل الرابع : ست وفادات شخصية

٧١
٧٢

الفصل الأول :

وفادات غير معتادة

٧٣
٧٤

وفود تحدثنا عنها :

سبق وتحدثنا في كتابنا هذا عن عدد من الوفود على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لاقتضاء المناسبة ذلك .. فنحن سوف لا نعيد الحديث عن هذه الوفود اكتفاء بما ذكرناه عنها سابقا .. ومن هذه الوفود التي تحدثنا عنها :

١ ـ وفد بني عبس.

٢ ـ وفد بني تميم.

٣ ـ وفد هوازن.

٤ ـ وفد صداء.

٥ ـ وفد بلال بن الحارث في أربعة عشر رجلا من مزينة.

٦ ـ وفادة عدي بن حاتم.

٧ ـ وفادة كعب بن زهير.

إجتماع الخضر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

عن عمرو بن عوف : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان في المسجد ، فسمع كلاما من ورائه ، فإذا هو بقائل يقول : اللهم أعنّي على ما تنجيني مما خوفتني.

٧٥

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين سمع ذلك : «ألا يضم إليها أختها».

فقال الرجل : اللهم ارزقني شوق الصالحين إلى ما شوقتهم إليه.

فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأنس : «اذهب إليه فقل له : يقول لك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تستغفر له».

فجاءه أنس فبلغه.

فقال الرجل : يا أنس ، أنت رسول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلي؟

قال : نعم.

قال : اذهب فقل له : إن الله عزوجل فضلك على الأنبياء بمثل ما فضل رمضان على سائر الشهور ، وفضل أمتك على سائر الأمم بمثل ما فضل يوم الجمعة على سائر الأيام ، فذهب ينظر إليه فإذا هو الخضر «عليه‌السلام» (١).

وعن أنس ، قال : خرجت ليلة مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أحمل الطهور فسمع [مناديا ينادي ، فقال لي : «يا أنس صه» فسكت ، فاستمع فإذا هو] يقول : اللهم أعنّي على ما ينجيني مما خوفتني منه.

قال : فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «لو قال أختها معها».

فكأن الرجل لقن ما أراد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقال : وارزقني شوق الصالحين إلى ما شوقتهم إليه».

فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «يا أنس ، دع عنك الطهور ، وائت

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤٣٦ عن ابن عدي ، والبيهقي ، وقال في هامشه : ذكره السيوطي في اللآلئ ج ١ ص ١٦٤ ووضعه والإصابة لابن حجر ج ٢ ص ٢٥٨.

٧٦

هذا فقل له : أدع لرسول الله أن يعينه على ما ابتعثه الله به ، وادع لأمته أن يأخذوا ما أتاهم به نبيهم من الحق».

قال : فأتيته [فقلت : رحمك الله ، ادع الله لرسول الله أن يعينه (على ما ابتعثه) به ، وادع لأمته أن يأخذوا ما أتاهم به نبيهم من الحق.

فقال لي : ومن أرسلك؟

فكرهت أن أخبره ولم أستأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله». فقلت له : رحمك الله ما يضرك من أرسلني؟ ادع بما قلت لك.

قال : لا ، أو تخبرني من أرسلك.

قال : فرجعت إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقلت له : يا رسول الله ، أبى أن يدعو لك بما قلت له حتى أخبره بمن أرسلني.

فقال : «ارجع إليه فقل له : أنا رسول رسول الله».

فرجعت إليه فقلت له.

فقال لي : «مرحبا برسول [رسول] الله ، أنا كنت أحق أن آتيه ، اقرأ على رسول الله مني السلام وقل له : الخضر يقرأ عليك السلام ويقول لك : إن الله تعالى فضلك على النبيين كما فضل شهر رمضان على سائر الشهور ، وفضل أمتك على الأمم كما فضل يوم الجمعة على سائر الأيام».

قال : فلما وليت سمعته يقول : «اللهم اجعلني من هذه الأمة المرشدة المرحومة ، المتاب عليها» (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤٣٦ عن الدار قطني في الإفراد ، والطبراني في الأوسط ، وابن عساكر ، وذكره السيوطي في اللآلئ ج ١ ص ٨٥ وابن الجوزي في الموضوعات ج ١ ص ١٩٤ والإصابة لابن حجر ج ٢ ص ٢٥٩.

٧٧

ونقول :

إن هذه الرواية موضع شك كبير ، فلاحظ ما يلي :

ألف : قد ذكرت الرواية الأولى : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أرسل أنس بن مالك إلى الخضر ليطلب منه أن يستغفر له .. فنظر إليه أنس ، فإذا هو الخضر «عليه‌السلام» ..

ونحن لا نشك في عدم صحة هذه الرواية :

أولا : إذا كان الخضر «عليه‌السلام» قد سمع صوت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وضم لتلك الكلمة أختها ، فلماذا لم يكلمه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مباشرة ، بل أرسل إليه أنس بن مالك يطلب منه أن يستغفر له ..

ودعوى : أنه أراد أن لا يعرّف الناس أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يطلب الإستغفار .. لا تنفع ، فإنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يجاهر في مثل هذا الأمر ..

ثانيا : من أين عرف أنس بن مالك أن الذي يكلمه هو الخضر «عليه‌السلام» ، فإن أحدا لم يخبره بذلك ، فهل كان قد رآه من قبل؟! ومتى؟ وأين؟!

ثالثا : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» معصوم عن الزلل ، لا يحتاج إلى استغفار أحد ..

رابعا : لقد أجابه الخضر «عليه‌السلام» بأن الله فضل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وفضّل أمته ، ليقنعه بأنه لا يحتاج إلى الإستغفار ، ولا شك في أن هذا كان معلوما لدى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كما كان معلوما لدى الخضر «عليه‌السلام» ، فلماذا لم يكتف به عن هذا الطلب الذي تعقبه ذلك الرد؟!

خامسا : لماذا بقي الخضر «عليه‌السلام» بعيدا عن النبي «صلى الله عليه

٧٨

وآله» ، ولم يقترب إليه ، ولم يلتق به ، بل اكتفى بلقاء أنس؟! .. أليس تذكر الروايات أنه كان يلتقي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في أكثر من مورد ومناسبة؟!

سادسا : قال الصالحي الشامي : «قال الشيخ في النكت البديعات : «أورده البيهقي من طريق عمرو بن عوف المزني ، وقال : فيه بشير بن جبلة عن أبيه ، عن جده ، نسخة موضوعة ، وعبد الله بن نافع متروك الخ ..» (١).

٢ ـ أما الرواية الثانية فيرد عليها مع ضعف سندها جميع ما قدمناه آنفا باستثناء الإيراد الثاني والثالث.

يضاف إلى ما تقدم :

أولا : ما معنى قوله : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سمع مناديا ينادي :

«اللهم أعنّي على ما ينجيني الخ ..»؟!

فهل كان الخضر «عليه‌السلام» يصرخ بدعائه ، وينادي به؟!.

وإذا كان ينادي بدعائه ، فلماذا سمعه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وحده ، ولم يسمعه أنس ، حتى اضطر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى إسكات أنس ليستكمل سماع ذلك النداء؟!

وهل سمع هذا النداء أحد من المسلمين من أهل المدينة غير أنس ، وغير رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟! ..

وإذا كانوا قد سمعوا ذلك ، هل خرجوا لرؤية ذلك المنادي؟ أم أن موقفهم كان هو الإهمال وعدم المبالاة أم غير ذلك؟! ..

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤٣٧.

٧٩

ثانيا : ما معنى قول أنس : فكأن الرجل لقن ما أراد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

ولماذا لا تكون هذه الكلمات مما يعرف العالمون بها ارتباطها ببعضها ، فلا يفصلون بين فقراتها؟!

على أنه ليس في كلام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما يشير لأنس ، ولا لغيره أنه يقصد خصوص الفقرة التي قالها الخضر «عليه‌السلام» ، فلعله قصد بكلمة أختها فقرة أخرى غيرها.

إلا أن يقال : إن هذا هو مقتضى المقابلة مع ما خوّف به في الفقرة الأولى ، تقابل ما يحوّف به مع ما يشوّق إليه ويرغّب فيه. على نسق قوله : خوفا وطمعا .. فلاحظ.

ثالثا : ما نسبته الرواية إلى الخضر «عليه‌السلام» من أنه قال : أنا كنت أحق أن آتيه ليس له مبرر ، إذ لماذا ترك الخضر «عليه‌السلام» العمل بهذا الأولى والأحق .. ولم يعتذر بشيء عن هذا الترك؟!

ولماذا لم يتلاف هذا التقصير الذي أحس به حتى بعد أن قال هذا القول؟! وقد كان بإمكانه أن يذهب إليه ، ويتشرف بلقائه ، ويتلافى ما فرط منه.

رابعا : إن رواية أنس تريد أن تروي لنا نفس ما تضمنته رواية عمرو بن عوف .. مع أن المقارنة بين الروايتين تعطي : أنهما متناقضتان في كثير من فقراتهما ..

فإن كان لهذه القضية أصل ، فلا شك في أن الأيدي الأثيمة قد نالت منها ، وشوّهتها وأفسدتها ، حتى بدت عليها معالم التزوير والتحوير ، حسبما أوضحناه ..

٨٠