الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-199-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٤

الخ .. (١).

ثم تذكر الرواية : أن مالكا طلب من خالد أن يرسله إلى أبي بكر ليحكم في أمره ، فرفض وقتله ، فلو كان قد ظهر من مالك ما فيه إساءة للرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يتوسط له ابن عمر ، وأبو قتادة الخ ..

وسواء أكان مالك قد قصد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أو قصد أبا بكر ، فإن جرأة عمر قد كانت بحق النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دون سواه ، فلماذا جرّت باء خالد ولم تجرّ باء غيره؟!

معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنواع التمور :

وقد ذكرت الروايات المتقدمة : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» صار يعد للوفد أنواع التمر ، حتى عد ألوان تمرهم أجمع ، حتى قالوا له : ما نحن بأعلم بأسمائها منك.

وقال بعضهم : لو كنت ولدت بهجر ما كنت بأعلم منك الساعة.

ونستفيد من ذلك :

١ ـ عدم صحة ما تقدم في بعض الوفود ، من نصوص تظهره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كرجل لا يعرف عن التمور ، وأنواعها ما يحسن السكوت عليه ..

٢ ـ إن هذا الأمر قد بهر ذلك الوفد ، إلى حد أن قائل ذلك عقب كلامه بقوله : أشهد أنك رسول الله ..

__________________

(١) وفيات الأعيان ج ٦ ص ١٣ ـ ١٥ ، والنص والإجتهاد للسيد شرف الدين ص ١٣٥ نقلا عن وفيات الأعين.

٣٢١

٣ ـ إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أخبرهم بما هم أعلم الناس به ، ويعرفون صحته ودقة ما يقوله. فإذا أظهر أنه أعلم منهم بما يدّعون لأنفسهم التقدم فيه ، فسوف يكون له أثر عميق على وجدانهم ، وإيمانهم ، بخلاف ما إذا حدّثهم بما لا يعرفون عنه قليلا ولا كثيرا ، فإنه سيكون حديثا غير ظاهر النتائج ، ولا يستطيعون حسم الأمر فيه ، لأنه سيكون خاضعا لجميع الإحتمالات.

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يرى ما في البحرين :

وقد ذكرت الرواية أيضا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعد أن ذكر لهم أنواع التمور حتى كأنه مولود في هجر قال : إن أرضكم رفعت لي منذ قعدتم إلي ، فنظرت من أدناها إلى أقصاها الخ ..

وإنما قال لهم ذلك ، بعد أن بين لهم أنه أعلم منهم بما هم أعرف الناس به. وبذلك يكون قد صدق الخبر الخبر ..

وهذا أدعى لرسوخ الإيمان ، وانقياد النفوس .. ثم إنه يكون بذلك قد نقلهم نقلة نوعية وكبيرة في مجال الإعتقاد ، والوقوف على بعض خصائص النبوة حين يخبرهم : بان الله قد رفع له جميع أرضهم ، من أدناها إلى أقصاها ، وأصبح يراها كأنها حاضرة لديه ، تماما كما جرى حين مات ملك الحبشة ، حيث رفع الله له كل خفض ، وخفض كل رفع. حتى رأى جسد النجاشي وصار أمامه ، وصلى عليه صلاة الميت كما قدمناه ..

خصلتان جبل الأشج عليهما :

وقد ذكرت الرواية : أن الله قد جبل الأشج على خصلتين ، هما : الحلم والأناة ..

٣٢٢

ونقول :

إنه إن كان المقصود بذلك معنى ينتهي إلى ما يعتقد به الجبريون ، فذلك غير صحيح ، كما اثبته علماؤنا الأبرار فراجع (١).

بالإضافة إلى أن هذا يؤدي إلى القول بعدم استحقاق الأشج أية مثوبة على أي فعل تدعوه إليه تانك الخلتان ..

وإن كان المقصود : أن الله تعالى قد أودع في الأشج استعدادا ينتهي به إلى العمل بهاتين الخلتين ، دون أن يكون مسلوب الإختيار ، فهو قصد صحيح ولا ضير فيه ..

سيطلع عليكم ركب :

وثمة سؤال عن قول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : سيطلع عليكم من ها هنا ركب الخ .. هل هو إخبار عن أمر غيبي؟! أم أنه ليس كذلك؟

قد يقال : نعم. فإن هذا هو ظاهر الكلام.

وقد يقال : لا ، لأن ثمة نصا يقول : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان قد أرسل إلى البحرين يطلب قدوم وفد عبد القيس إليه (٢).

ويمكن ان يؤيد ذلك : أنه قد كانت لعبد القيس وفادتان ، فلعل إحداهما كانت بطلب منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهي التي حصلت سنة تسع أو بعدها ، وكان عدد الوفد أربعين رجلا ..

__________________

(١) راجع : دلائل الصدق ، وغيره من كتب الإعتقادات

(٢) راجع : الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٤ ص ٣٦٠ وراجع ج ١ ص ٣١٤ وج ٥ ص ٥٥٧ و (ط ليدن) ج ٤ ق ٢ ص ٧٧ وج ١ ق ٢ ص ٤٤.

٣٢٣

وكانت الأخرى قبل الفتح ، أو سنة خمس ، أو قبلها ، وتكون هي التي أخبر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن طلوع وفدها عليهم.

بل يحتمل : أن يكون قد أخبر بالغيب ، حتى بالنسبة للوفادة التي طلبها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» منهم ، فإن طلب قدوم الوفد لا يعني : المعرفة الدقيقة بوقت حركته ، وبوقت وصوله ، ولحظة طلوعه عليهم ..

إلا أن يقال : بأن من المحتمل أن يكون قد جاء إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أخبره بموعد وصول الوفد .. فلا يكون ما حصل من قبيل الإخبار بالغيب أصلا.

والصحيح هو : أن هذا من الإخبارات الغيبية ، لأن حديث استقدام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لوفدهم يقول : ليأتين ركب من المشرق .. إلى أن قال : بصاحبهم علامة ـ والمقصود بصاحبهم ـ الأشج .. وهذا التعبير يشير إلى أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بصدد إخبارهم بأمر غيبي لم يكن قد علمه بالطرق العادية.

طلب الإيفاد :

وقد ذكرنا آنفا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد طلب من العلاء بن الحضرمي : أن يوفد إليه من عبد القيس. أو أنه طلب من نفس بني عبد القيس إيفاد من يختارونه إليه. وذلك يدل على أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يطلب وفادتهم من أجل أن يسهّل عليهم من أجل الإندماج في المجتمع الجديد ، ثم من أجل أن يسمعوا كلامه ، ويروا بأم أعينهم سلوكه ، وحالاته ، فلعل ذلك يدعوهم إلى تلمس الفرق بين سلوكهم ومواقفهم ، وحالهم ،

٣٢٤

وبين سلوك ومواقف وحالات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمجتمع الإيماني بصورة عامة.

فإن من شأن ذلك : أن يسهل عليهم اتخاذ القرار بالتعاون والتلاقي ، والتفاهم ، والإسلام والإندماج ..

كما أن هذه السياسة لهم من شأنها : أن تطمئنهم إلى أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليس راغبا في إذلالهم ، ولا في التسلط الظالم عليهم ، ولا في الإستيلاء على ثرواتهم ، وبلادهم.

ثم إن هذه الوفود ستجد الفرصة للتأمل فيما يلقيه إليها ، وعليها ، أو يطلبه منها ، ويجدون فرصة تقييمه بصورة صحيحة في أجواء هادئة. بعيدا عن التشنج والإنفعال ، إذ ليست الأجواء أجواء مواجهة ، وتهديدات.

الأشج ليس أصغرهم :

وقد صرحت بعض النصوص المتقدمة : بأن الأشج كان أصغر من في الوفد ، وبأنه تخلف في الركاب حتى أناخها ، وجمع متاع القوم ، وذلك بعين رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

لكن ذلك غير دقيق ، فقد صرحت روايات أخرى : بأن الأشج كان

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٦٧ ، والآحاد والمثاني ج ٣ ص ٣١٤ ، ومسند أبي يعلى ج ١٢ ص ٢٤٦ ، والمعجم الكبير للطبراني ج ٢٠ ص ٣٤٦ ، والرخصة في تقبيل اليد لابن إبراهيم المقرئ ص ٦٦ ، وأسد الغابة ج ٤ ص ٣٥٢ ، وتهذيب الكمال ج ١٣ ص ٣٥٥ ، والبداية والنهاية ج ٥ ص ٥٧ ، وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٥٥.

٣٢٥

رئيس الوفد (١) ، فلا يعقل أن يتأخر عنه ، بل لابد أن يكون في مقدمته ، ويتولى هو الكلام في حضرته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

إلا أن يقال : ربما يكون تخلفه في الركاب ، وجمعه متاع القوم ، وكان أصغر الوافدين ، إنما كان في وفادتهم الأولى ، ثم نتج عن اهتمام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» به ، وظهور حصافة رأيه وعقله أن أصبح رئيسا مقدما ، فجاء في وفادتهم الثانية ، وله صفة الرئيس.

وفي الروايات الآتية تحت عنوان : متى قدم وفد عبد القيس : دلائل ظاهرة على تقدم الأشج في السن ، وقد أضربنا عن ذكرها هنا استغناء بما ذكرناه هناك.

المرء بأصغريه :

وقد جاءت النصوص التي ذكروها عن وفد عبد القيس مضطربة ، ومشوشة ، فتارة يقول بعضها : فلما نظر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى دمامته قال : إنه لا يستقى في مسوك (٢) الرجال ، إنما يحتاج من الرجل إلى أصغريه ، لسانه ، وقلبه (٣).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٦٨ عن الطبقات الكبرى (ط ليدن) ج ١ ق ٢ ص ٥٤.

(٢) المسوك : الجلود.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٦٧ عن أبي يعلى ، والطبراني ، والبيهقي ، وقال في هامشه : أخرجه البيهقي في الدلائل ج ٥ ص ٣٢٧ وانظر البداية والنهاية ج ٥ ص ٤٧ والمواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ج ٥ ص ١٣٩ و ١٤٠ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٥ ص ٥٥٨.

٣٢٦

فيظهر من هذا النص : أن قائل هذه الكلمات هو الأشج نفسه.

لكنّ نصا آخر يقول : فنظر إليه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : «إنه لا يستقى في مسوك الرجال ، إنما يحتاج من الرجل إلى أصغريه : لسانه وقلبه» (١). حيث إنه صريح في : أن قائل ذلك هو رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. وهذا هو الموافق لما هو معروف من نسبة عبارة : «المرء بأصغريه : قلبه ولسانه» إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

والظاهر : أن ثمة غلطا في ذلك منشؤه رواية الطبقات .. رغم أن الطبقات نفسه قد روى الرواية الصحيحة أيضا.

أتوني لا يسألوني مالا :

وقد نستفيد من قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن وفد عبد القيس : «أتوني لا يسألوني مالا» : أن الكثيرين ممن كانوا يأتونه كانوا طامعين بالحصول على الأموال ، على سبيل الجشع والطمع ، لا لمجرد رفع الحاجة ، التي لا سبيل لهم إلى رفعها بغير مساعدته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يداوي مريضا :

تقدم : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد عالج خال الزارع بن عامر ، وأخرج منه (الجنّي) اللعين الذي كان سبب بلائه .. وإن كنا لم نستطع أن نفهم السبب في أنه قد شج وجه ذلك المصاب ، رغم أن أمارات الشفاء قد

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٦٨ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٥ ص ٥٥٨ وعن البيان والتعريف لحمزة الدمشقي ج ١ ص ٢٤٠.

٣٢٧

ظهرت عليه ، وجعل ينظر نظر الصحيح ، ليس بنظره الأول ..

وقد ذكرنا أكثر من مرة : أن الناس كانوا يتوقعون من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يكون عارفا بكل ما يحتاجون إلى علمه ، وأنه قادر على إيصالهم إلى كل ما يريدون ، من خلال صلته بالله تعالى ..

وقلنا أيضا : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن يظهر أي اعتراض على طلباتهم هذه ، بل كان يبادر إلى تلبيتها ، وبذلك يكون قد كرس لديهم هذا الفهم لمقام النبوة. وقد جاءت النتائج لترسخ لديهم اليقين بصحة فهمهم هذا ، وضرورة الإستقامة ، والإستمرار على الالتزام بمقتضياته.

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يؤخر الركعتين بعد الظهر :

وأما تأخير النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الركعتين بعد الظهر بسبب انشغاله بوفد عبد القيس ، فليس فيه ما يوجب الإشكال ، فإنه ـ لو فرض صحة الرواية بذلك ـ فإنما أخر صلاة مستحبة ، ولعلها نافلة العصر ، التي قد يكون من عادة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الإتيان بها فور الإنتهاء من صلاة الظهر ، فأخرها عن الوقت الذي جرت عادته على الإتيان بها فيه ، من دون أن يتجاوز في ذلك وقت فضيلة العصر .. فأخرها لأمر رأى أن ثوابه أعظم ، كما أنه لم يؤخرها عن وقتها ، بل أخرها عما اعتاده من الإتيان بها في وقت بعينه ..

لماذا اقتصر على بعض الأوامر؟! :

وقد ذكرت الرواية المتقدمة : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمرهم بأربع ، ونهاهم عن أربع ، فلماذا اقتصر على هذه الأربع.

٣٢٨

ويجاب : بأنه إنما أخبرهم ببعض الأوامر ، لكونهم سألوه أن يخبرهم بما يدخلون بفعله الجنة ، فاقتصر لهم على ما يمكنهم فعله في الحال ، ولم يقصد إعلامهم بجميع الأحكام التي تجب عليهم فعلا وتركا.

ويدل على ذلك : إقتصاره في المناهي على الإنتباذ في الأوعية ، مع أن في المناهي ما هو أشد في التحريم من الإنتباذ ، لكن اقتصر منها على هذه الأمور لكثرة تعاطيهم لها (١).

ونقول :

إنه لا ريب في أنهم يعرفون حكم ما هو من قبيل : الصدق ، والكذب ، وقتل النفس المحترمة ، وقطيعة الرحم ، أو صلتها ، وغير ذلك كثير ، ولكنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أراد أن يؤكد عليهم في الأمور التي يعرف أنهم لا ينشطون إليها ، بل لديهم الصوارف الكثيرة عنها.

تعظيم مضر لشهر رجب :

وأما بالنسبة لقولهم : إنه لا يصلون إليه إلا في شهر حرام.

فالظاهر : أن المراد به : شهر رجب.

ولذا أضيف إليهم في حديث أبي بكرة ، حيث قال : رجب مضر.

والظاهر : أنهم كانوا يخصونه بمزيد التعظيم ، مع تحريمهم القتال في الأشهر الثلاثة الأخر ، إلا أنهم ربما أنسأوها ، ولذا ورد في بعض الروايات :

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٧١ و ٣٧٢ وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٥ ص ١٣٨.

٣٢٩

الأشهر الحرم ، وفي بعضها : إلا في كل شهر حرام (١).

نبايعك على أنفسنا :

ثم إن من دلائل عقل الأشج : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال له :

تبايعون على أنفسكم وقومكم؟!

فقالوا : نعم.

فقال الأشج : يا رسول الله ، إنك لن تزاول الرجل على شيء أشد عليه من ديته ، نبايعك على أنفسنا ، ونرسل من يدعوهم ، فمن اتبعنا كان منا ، ومن أبي قتلناه.

قال : صدقت .. إن فيك خصلتين : الحلم والأناة (٢).

متى قدم الوفد؟! :

وعن تاريخ قدوم وفد عبد القيس إلى المدينة نقول :

ذكر العلامة الأحمدي «رحمة الله» : وجوه الإختلاف في تاريخ قدوم وفد عبد القيس ، فقيل : سنة خمس.

وقيل : تسع.

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٧١ وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٥ ص ١٣٥.

(٢) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٥ ص ١٣٩ عن عياض ، وصحيح مسلم ج ١ ص ٣٦ ، وشرح مسلم للنووي ج ١ ص ١٨٩ ، وتحفة الأحوذي للمباركفوري ج ٦ ص ١٢٩.

٣٣٠

وقيل : قبل فتح مكة.

وقيل : بعده.

وقيل : سنة عشر (١).

وقال أيضا : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كتب إلى العلاء ابن الحضرمي في البحرين : أن يقدم عليه عشرون رجلا ، فقدموا عليه ورأسهم عبد الله بن عوف الأشج (ثم ذكر أسماءهم). فشكى الوفد العلاء بن الحضرمي ، فعزله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وولى أبان بن سعيد ، وأوصى بعبد القيس خيرا (٢).

وهذا يدل على : أن وفودهم كان في سنة تسع ، لأن بعث العلاء إلى البحرين كان بعد فتح مكة.

غير أننا نقول :

إن ذلك لا يمنع من أن يكونوا قد وفدوا قبل ذلك ، فقد قيل : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعث ابن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى في البحرين في السنة الثامنة.

وقيل : في السابعة.

وقيل : قبل فتح مكة.

وقيل : في العاشرة كما في الطبري (٣).

وهذه الأقوال تفسح المجال أمام احتمالات الأقوال في وقت مجيء الوفد إلى المدينة.

__________________

(١) مكاتيب الرسول ج ٣ ص ١٩٦.

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٤ ص ٣٦٠ وراجع ج ١ ص ٣١٤ وج ٥ ص ٥٥٧ و (ط ليدن) ج ٤ ق ٢ ص ٧٧ وج ١ ق ٢ ص ٥٤ ، ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٢٠٢.

(٣) راجع : مكاتيب الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ج ٣ ص ٢٠٢.

٣٣١

ولكنّ نصا آخر يصرح : بأن راهبا أخبر صديقه المنذر بن عائذ ، بأن نبيا يخرج بمكة يأكل الهدية ، ولا يأكل الصدقة ، بين كتفيه علامة ، فأخبر المنذر الأشج بذلك ، ثم مات الراهب.

فبعث الأشج ابن أخته وصهره ، اسمه عمرو بن عبد القيس إلى مكة ، ومعه تمر ليبيعه ، وملاحف. وكان ذلك عام الهجرة ، فلقي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ورأى صحة العلامات ، وأسلم ، وعلمه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سورة الحمد وسورة إقرأ. وقال له : ادع خالك إلى الإسلام ، فرجع وأسلم المنذر ، ثم خرج في ستة عشر رجلا من أهل هجر ، وافدا إلى المدينة. وذلك عام الفتح ، ثم شخص «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى مكة ، ففتحها (١).

وقيل : إنه أتى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في مكة (٢).

وربما يكون قد اتاه في مكة يوم فتحها ، لا قبل الهجرة.

وقد رجح الزرقاني : أنه كانت لعبد القيس وفادتان : إحداهما : قبل الفتح ، بدليل : أنهم قالوا لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إن كفار مضر قد حالوا بينهم وبين رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإن حيلولتهم هذه إنما كانت سنة خمس أو قبلها.

ويوضح ذلك نص آخر ، فيقول : إن منقذ بن حيان كان متجره إلى المدينة في الجاهلية ، فشخص إلى المدينة بملاحف ، وتمر من هجر بعد هجرة

__________________

(١) راجع : الإصابة ج ٢ ص ١٧٧ (ترجمة صحار العبدي) وفي (ط دار الكتب العلمية) ج ٣ ص ٣٣٠ و ، وراجع الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٥ ص ٤١١.

(٢) الإصابة ج ٣ ص ٥٧٧.

٣٣٢

النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليها ، فبينما منقذ قاعد إذ مرّ به «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فنهض إليه منقذ ، فقال له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : كيف قومك؟ ثم سأله عن أشرافهم ، رجل رجل يسميهم بأسمائهم ، فأسلم منقذ ، وتعلم سورة الفاتحة ، وسورة إقرأ ، ثم رحل قبل هجر ، وكتب «صلى‌الله‌عليه‌وآله» معه لجماعة عبد القيس كتابا ، فلما وصل إليهم كتمه أياما ، وكان يصلي ويقرأ ، فذكرت ذلك زوجته لأبيها المنذر بن عائذ ، (وهو الأشج) (١) ، وقالت له : أنكرت بعلي منذ قدم يثرب ، إنه يغسل أطرافه ، ويستقبل الجهة ـ تعني القبلة ـ فيحني ظهره مرة ، ويضع جبينه مرة.

وذكرت : أنه قد صبأ.

فاجتمعا ، وتجاريا ذلك ، فأسلم المنذر ، ثم أخذ الكتاب وذهب إلى قومه ، فقرأه عليهم ، فأسلموا ، واجمعوا المسير إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢).

تغير الوجوه دليل تعدد الوفادة!! :

استدلوا على تعدد وفادة عبد القيس بقوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهم : «ما لي أرى ألوانكم تغيرت» ، ففيه إشعار بأنه رآهم قبل التغير (٣).

ولكنه استدلال غير كاف ، فإن من الممكن أن تكون الآثار قد ظهرت

__________________

(١) لاحظ الإختلاف بين الروايات في من هو الأشج.

(٢) راجع : مكاتيب الرسول ج ٣ ص ١٩٦ عن الكرماني ، وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٧٢ وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٥ ص ١٣٨.

(٣) المواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ج ٥ ص ١٤١ عن ابن حبان ، وفتح الباري.

٣٣٣

على وجوههم ، فإن كل إنسان يستطيع أن يدرك أن ثمة تغيرا طرأ على الوجوه ، التي يفترض أن تكون على صفة معينة ، تشابه فيها ما يعرفه الناس من ألوان وجوه الذين يعيشون معهم في نفس المحيط.

دليل سبق عبد القيس إلى الإسلام :

ولعل مما يدل على تعدد وفادتهم ، قولهم : «الله ورسوله أعلم. وقولهم : يا رسول الله ، دليل على أنهم كانوا حين المقالة مسلمين» (١).

ونقول :

إننا وإن كنا نرى : أنهم كانوا مسلمين حقا في ذلك الوقت غير أن من الجائز أن يكون قولهم هذا قد جاء بعد إسلامهم في نفس هذه الوفادة ، ولعل الرواة اختصروا ما جرى ، أو غفلوا عن ذكر بعض فصوله.

عبد قيس سبقت إلى الإسلام :

ويدل على سبقهم إلى الإسلام : ما رواه العقدي عن ابن عباس : أن أول جمعة أقيمت بعد جمعة في مسجد رسول الله ، هي تلك التي أقيمت في مسجد عبد القيس بقرية «جواثى» في البحرين. وإنما جمعوا بعد رجوع وفدهم إليهم. قال العسقلاني : فدل على أنهم سبقوا جميع القرى إلى الإسلام (٢).

وجواثى : بضم الجيم ، وبعد الألف مثلثة مفتوحة.

__________________

(١) المواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ج ٥ ص ١٤١ و ١٤٢ عن فتح الباري.

(٢) المواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ج ٥ ص ١٤٢ عن فتح الباري ، وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٧٠ ، وفتح الباري ج ١ ص ١٢٢ ، وعمدة القاري ج ١ ص ٣١٠.

٣٣٤

غير أننا نقول :

إن ذلك يدل على تمكنهم من إظهار دينهم ، وممارسة شعائرهم ، ولعل غيرهم كان أسبق منهم إلى الإسلام ، لكن لا يستطيع إقامة الجمعة ، بسبب ما يخشاه من أذى يناله من المحيط الذي يعيشون فيه.

غير أننا بالنسبة لتقدم إسلام عبد القيس على مضر نقول :

إن قولهم : وبيننا وبينك هذا الحي من مضر ، ولا نصل إليك إلا في شهر حرام. يدل على : تقدم إسلام عبد القيس على إسلام قبائل مضر الذين كانوا بينهم وبين المدينة ، وكانت مساكن عبد القيس بالبحرين وما والاها من أطراف العراق (١).

متى فرض الحج؟! :

وقالوا : إن خلو الرواية من ذكر الحج يدل على : أن هذا الوفد كان قبل تشريعه ، لأن ابن القيم يقول : إن الحج قد فرض في السنة العاشرة (٢).

ورد عليه القسطلاني : بان فرض الحج كان سنة ست على الأصح (٣).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٧٠ عن البداية والنهاية ، والمواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ج ٥ ص ١٤١ ، وفتح الباري ج ١ ص ١٢٢ ، وعمدة القاري ج ١ ص ٣٠٩ ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٥٢.

(٢) المواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ج ٥ ص ١٤٣ وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٧١.

(٣) المواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ج ٥ ص ١٤٢ و ١٤٣ ، وفتح الباري ج ١ ص ١٢٤ ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٠٧.

٣٣٥

وقالوا : إن رواية أحمد قد صرحت : بأن إحدى الوفادتين كانت قبل فرض الحج ، والأخرى كانت بعد ذلك ، أي بعد السنة السادسة.

فرد العلامة الأحمدي «رحمه‌الله» : بأن الحديث صدر عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مرة واحدة ، ولكن الراوي لم يذكر الحج في بعض النصوص ، كما لم يذكر الصيام في بعضها الآخر (١).

وقد ورد في رواية البيهقي قوله : «وتحجوا البيت الحرام».

واعتبرها الزرقاني رواية شاذة ، لأنها لم ترد في البخاري ، ومسلم ، وابن خزيمة ، وابن حبان.

إلا أن هذا إنما هو بالنسبة لرواية أبي حمزة عن ابن عباس ، لكن روى أحمد من طريق ابن المسيب وعكرمة عن ابن عباس ذكر الحج في قصة وفد عبد القيس (٢).

عدد الوفد :

قال العلامة الأحمدي «رحمه‌الله» ما ملخصه : «اختلفوا في عدد الوافدين ، فقيل : ثلاثة عشر راكبا.

وقيل : أربعة عشر.

وقيل : ستة عشر.

__________________

(١) مكاتيب الرسول ج ٣ ص ٢٠١.

(٢) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٥ ص ١٣٨ ، والآحاد والمثاني ج ٣ ص ٢٦٠ ، والسنن الكبرى للنسائي ج ٤ ص ١٨٨ ، وصحيح ابن حبان ج ١ ص ٣٧٣ ، والمعجم الكبير للطبراني ج ١٠ ص ٢٨٩.

٣٣٦

وقيل : ثمانية عشر.

وقيل : عشرون.

وقيل : أربعون».

وقال الزرقاني : كان هناك وفدتان :

إحداهما : قبل الفتح ، حيث كفار مضر يحولون بينهم وبين النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وكان ذلك إما في سنة خمس من الهجرة أو قبلها. وعدد الوفد ثلاثة عشر كما رواه البيهقي. وقيل : أربعة عشر كما جزم به القرطبي والنووي.

والأخرى : سنة الوفود. وكان عدد الوفد الثاني أربعين رجلا.

وقد عدّ العلامة الأحمدي «رحمه‌الله» في هامش كتابه أسماء ثمانية وثلاثين رجلا من الوافدين ، مشيرا إلى المصادر التي صرحت باسم كل منهم (١).

فلا يلتفت إلى قول النووي : «إنهم كانوا أربعة عشر راكبا ـ ثم ذكر أسماءهم ـ ولم نعثر بعد طول التتبع على أكثر من أسماء هؤلاء» (٢).

__________________

(١) راجع : مكاتيب الرسول ج ٣ ص ١٩٧ و ١٩٨ و ١٩٩ وكلام الزرقاني ورد في شرحه على المواهب اللدنية ج ٥ ص ١٣٨ و ١٣٩ و ١٤٠ وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٧٠ و ٣٧١.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٧٠ و ٣٧١ ، وشرح مسلم للنووي ج ١ ص ١٨١ ، وفتح الباري ج ١ ص ١٢١.

٣٣٧
٣٣٨

الفهارس

١ ـ الفهرس الإجمالي

٢ ـ الفهرس التفصيلي

٣٣٩
٣٤٠