الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-199-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٤

ولما بويع معاوية أقام المغيرة خطباء يلعنون عليا «عليه‌السلام» (١).

والحديث حول المغيرة وأفاعيله ، وأباطيله يطول ، فلا محيص عن الإكتفاء بما ذكرناه.

ونعود نقول :

إن هذا الرجل ـ فيما يظهر ـ لم يكن يرجع إلى دين ، ولا يهتم لشيء من قضايا الإيمان ، إلا في حدود مصالحه الدنيوية ، وهذه صفة بالغة السوء ، تضع الإنسان على حد الكفر والزندقة كما هو واضح ..

سرية خالد إلى أكيدر :

روى البيهقي ، عن ابن إسحاق قال : حدثني يزيد بن رومان ، وعبد الله بن أبي بكر ، وروى البيهقي عن عروة بن الزبير ، ومحمد بن عمر عن شيوخه قالوا :

لما توجه رسول الله صلى الله قافلا إلى المدينة من تبوك بعث خالد بن الوليد في أربعمائة وعشرين فارسا في رجب سنة تسع إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل. وكان أكيدر من كندة ، وكان نصرانيا.

فقال خالد : كيف لي به وسط بلاد كلب ، وإنما أنا في أناس يسيرين؟

__________________

(١) قاموس الرجال للتستري (مؤسسة النشر الإسلامي) ج ١٠ ص ١٩٩ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٢٣٠ وكتاب السنة لعمرو بن أبي عاصم ص ٦٠٤ وضعفاء العقيلي ج ٢ ص ١٦٨ والعثمانية للجاحظ ص ٢٨٣ وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» في الكتاب والسنة والتاريخ للريشهري ج ١١ ص ٣٨٨.

٢١

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «إنك ستجده [ليلا] يصيد البقر ، فتأخذه ، فيفتح الله لك دومة. فإن ظفرت به فلا تقتله ، وائت به إلي ، فإن أبى فاقتله».

فخرج إليه خالد بن الوليد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين ، في ليلة مقمرة صائفة ، وهو على سطح له ، ومعه امرأته الرباب بنت أنيف الكندية. فصعد أكيدر على ظهر الحصن من الحر ، وقينة تغنّيه ، ثم دعا بشراب.

فأقبلت البقر الوحشية تحك بقرونها باب الحصن ، فأشرفت امرأته فرأت البقر ، فقالت : ما رأيت كالليلة في اللحم.

قال : وما ذاك؟

فأخبرته. فأشرف عليها ، فقالت امرأته : هل رأيت مثل هذا قط؟

قال : لا.

قالت : فمن يترك هذا؟

قال : لا أحد.

قال أكيدر : والله ، ما رأيت بقرا جاءتنا ليلة غير تلك الليلة ، ولقد كنت أضمّر لها الخيل ، إذا أردت أخذها شهرا ، ولكن هذا بقدر.

ثم ركب بالرجال وبالآلة ، فنزل أكيدر وأمر بفرسه فأسرج ، وأمر بخيله فأسرجت ، وركب معه نفر من أهل بيته ، معه أخوه حسان ومملو كان له ، فخرجوا من حصنهم بمطاردهم. فلما فصلوا من الحصن ، وخيل خالد تنظر إليهم لا يصول منها فرس ولا يجول ، فساعة فصل أخذته الخيل ، فاستأسر أكيدر وامتنع حسان ، وقاتل حتى قتل ، وهرب المملوكان ومن

٢٢

كان معه من أهل بيته ، فدخلوا الحصن ، وكان على حسان قباء من ديباج مخوص بالذهب ، فاستلبه خالد.

وقال خالد لأكيدر : هل لك أن أجيرك من القتل حتى آتي بك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على أن تفتح لي دومة؟

فقال أكيدر : نعم.

فانطلق به خالد حتى أدناه من الحصن.

فنادى أكيدر أهله : أن افتحوا باب الحصن ، فأرادوا ذلك ، فأبى عليهم مضاد أخو أكيدر.

فقال أكيدر لخالد : تعلم والله أنهم لا يفتحون لي ما رأوني في وثاقك ، فخل عني فلك الله والأمانة أن أفتح لك الحصن ، إن أنت صالحتني على أهلي.

قال خالد : فإني أصالحك.

فقال أكيدر : ان شئت حكمتك ، وإن شئت حكمتني.

فقال خالد : بل نقبل منك ما أعطيت.

فصالحه على ألفي بعير ، وثمانمائة رأس ، وأربعمائة درع ، وأربعمائة رمح ، على أن ينطلق به وبأخيه إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيحكم فيهما حكمه.

فلما قاضاه خالد على ذلك خلى سبيله ، ففتح باب الحصن ، فدخله خالد وأوثق مضادا أخا أكيدر ، وأخذ ما صالح عليه من الإبل والرقيق والسلاح.

ولما ظفر خالد بأكيدر وأخيه حسان أرسل خالد عمرو بن أمية

٢٣

الضمري بشيرا ، وأرسل معه قباء حسان.

قال أنس وجابر : رأينا قباء حسان أخي أكيدر حين قدم به إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم ، ويتعجبون منه.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أتعجبون من هذا؟ فو الذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا» (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٢٠ و ٢٢١ وج ٧ ص ٢٩٨ و ٤٠٥ وج ١٢ ص ٦٧ ال في هامشه : أخرجه ابن ماجة (١٥٧) وأحمد في المسند ج ٣ ص ٢٠٩ و ١٢٢ و ٢٠٧ و ٢٣٨ و ٢٧٧ وج ٤ ص ٢٨٩ و ٣٠١ و ٣٠٢ والحديث أخرجه البخاري ج ١٠ ص ٣٠٣ (٥٨٣٦) وص ١٤١ وج ٤ ص ٨٧ ونيل الأوطار ج ٢ ص ٧١ وصحيح مسلم ج ٧ ص ١٥١ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٥٦ وشرح مسلم للنووي ج ١٦ ص ٢٣ ومجمع الزوائد للهيثمي ج ٩ ص ٣١٠ وعمدة القاري ج ٦ ص ١٧٩ وج ١٢ ص ٢٧ وج ١٣ ص ١٧٠ وج ١٥ ص ١٥٧ وج ٢٣ ص ١٧٣ وتحفة الأحوذي للمباركفوري ج ٥ ص ٣١٧ وعون المعبود (ط دار الكتب العلمية ـ بيروت) ج ١١ ص ٦٤ والمصنف للصنعاني ج ١١ ص ٢٣٥ ومسند الحميدي ج ٢ ص ٥٠٦ والمصنف لابن أبي شيبة الكوفي ج ٨ ص ٤٩٧ والسنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ٤٧١ ومسند أبي يعلى ج ٦ ص ٨ وشرح معاني الآثار لأحمد بن محمد بن سلمة ج ٤ ص ٢٤٧ وصحيح ابن حبّان ج ١٥ ص ٥٠٩ و ٥١٠ وكنز العمال وج ١٠ ص ٥٨٧ وج ١١ ص ٦٨٦ و ٦٨٨ وج ١٣ ص ٤١٢ و ٤١٤ والطبقات الكبرى لابن سعد ٣ ص ٤٣٥ و ٤٣٦ والثقات لابن حبان ج ٢ ص ٩٧ وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج ٩ ص ٢٠٣ وج ٥٢ ص ٤٢٧ وأسد الغابة ج ٣ ص ٤١١ وسير أعلام النبلاء للذهبي ج ١ ص ٢٩٢ والإصابة لابن حجر ج ٤ ص ٤١٩ وأخبار القضاة لمحمد بن خلف بن حيان ج ٢ ص ٤٢ ـ

٢٤

ثم إن خالدا لما قبض ما صالحه عليه أكيدر عزل للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» صفيّه له قبل أن يقسم شيئا من الفيء ، ثم خمّس الغنائم بعد.

قال محمد بن عمر : كان صفي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عبدا أو أمة ، أو سيفا أو درعا ، أو نحو ذلك.

ثم خمّس خالد الغنائم بعد ، فقسمها بين أصحابه.

قال أبو سعيد الخدري : أصابني من السلاح درع وبيضة ، وأصابني عشر من الإبل.

وقال واثلة بن الأسقع : أصابني ست فرائض.

وقال عبد الله بن عمرو بن عوف المازني : كنا مع خالد بن الوليد أربعين رجلا من بني مزينة ، وكانت سهماننا خمس فرائض لكل رجل ، مع سلاح يقسم علينا دروع ورماح.

قال محمد بن عمر : إنما أصاب الواحد ستا والآخر عشرا بقيمة الإبل.

__________________

وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٣٧٣ والكامل في التاريخ لابن الأثير ج ٢ ص ٢٨١ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٣٢٩ والبداية والنهاية لابن كثير ج ٤ ص ١٤٨ وج ٥ ص ٢٢ وإمتاع الأسماع للمقريزي ج ٢ ص ٦٣ وج ١٤ ص ٥٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٩٥٣ وعيون الأثر لابن سيد الناس ج ٢ ص ٢٥٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٤٩ وج ٤ ص ٣١ ومعجم ما استعجم للبكري الأندلسي ج ١ ص ٣٠٤. والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٢٢٥. وراجع : مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٩٨ والبحار ج ١٨ ص ١٣٦ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٣١٢ والثقات لابن حبان ج ٢ ص ٩٧ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٨٣.

٢٥

ثم إن خالدا توجه قافلا إلى المدينة ، ومعه أكيدر ومضاد.

وروى محمد بن عمر عن جابر قال : رأيت أكيدر حين قدم به خالد ، وعليه صليب من ذهب ، وعليه الديباج ظاهرا.

فلما رأى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سجد له ، فأومأ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بيده : لا ، لا ، مرتين.

وأهدى لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هدية فيها كسوة.

قال ابن الأثير : وبغلة ، وصالحه على الجزية.

قال ابن الأثير : وبلغت جزيتهم ثلاثمائة دينار ، وحقن دمه ودم أخيه ، وخلى سبيلهما.

وكتب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كتابا فيه أمانهم وما صالحهم عليه ، ولم يكن في يد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يومئذ خاتم ، فختم الكتاب بظفره.

قال محمد بن عمر ، حدثني شيخ من أهل دومة : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كتب له هذا الكتاب :

«بسم الله الرحمن الرحيم :

هذا كتاب من محمد رسول الله لأكيدر حين أجاب إلى الإسلام ، وخلع الأنداد والأصنام مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها : أن لنا الضاحية من الضحل ، والبور والمعامي ، وأغفال الأرض ، والحلقة [والسلاح] ، والحافر والحصن ، ولكم الضامنة من النخل ، والمعين من المعمور بعد الخمس ، ولا تعدل سارحتكم ، ولا تعد فاردتكم ، ولا يحظر عليكم النبات ، تقيمون الصلاة لوقتها ، وتؤتون الزكاة بحقها ، عليكم

٢٦

بذلك عهد الله والميثاق ، ولكم بذلك الصدق والوفاء ، شهد الله تبارك وتعالى ومن حضر من المسلمين» (١).

وقال بجير بن بجرة الطائي يذكر قول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لخالد بن الوليد : «إنك ستجده يصيد البقر» ، وما صنعت البقر تلك الليلة بباب الحصن ، تصديقا لقول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» :

تبارك سائق البقرات إني

رأيت الله يهدي كل هاد

فمن يك حائدا عن ذي تبوك

فإنّا قد أمرنا بالجهاد

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٢٢ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٣٠٣ عن المصادر التالية : العقد الفريد (ط جديد) باب الوفود ج ٢ ص ٤٧ و ٤٨ ومعجم البلدان ج ٢ ص ٤٨٨ (في كلمة دومة) عن كتاب الفتوح لأحمد بن جابر ، وإعلام السائلين ص ٤١ وفتوح البلدان للبلاذري ص ٧٢ وفي (ط أخرى) ص ٨٢ والطبقات الكبرى ج ١ ص ٢٨٩ وفي (ط أخرى) ج ١ ق ٢ ص ٣٦ والأموال لأبي عبيد ص ١٩٤ وفي (ط أخرى) ص ٢٨٢ ورسالات نبوية ص ٨٣ وصبح الأعشى ج ٦ ص ٣٧٠ وج ٢ ص ٢٦٥ والروض الأنف ج ٣ ص ١٩٦ وغريب الحديث لأبي عبيد ج ٣ ص ٢٠٠ وفي (ط أخرى) ص ٣٦٥ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ١٠٣٠ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٣٣ والأموال لابن زنجويه ج ٢ ص ٤٥٨ وجمهرة رسائل العرب ج ١ ص ٤٩ (عن صبح الأعشى والروض الأنف ج ٢ ص ٣١٩ وشرح الزرقاني للمواهب اللدنية ج ٣ ص ٤١٤) والإصابة ج ١ ص ١٢٧ ونثر الدر للآبي ج ١ ص ٢١٠ و ٢١١ ومدينة البلاغة ج ٢ ص ٢٦٠ ونشأة الدولة الإسلامية ص ٣٣٨ والفائق للزمخشري ج ٣ ص ٤١٦.

وعن المبسوط للسرخسي ج ٣٠ ص ١٦٩ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٦٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٨ ص ٢٣٤.

٢٧

قال البيهقي بعد أن أورد هذين البيتين من طريق ابن إسحاق ، وزاد غيره ، وليس في روايتنا : فقال له النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «لا يفضض الله فاك» (١).

فأتى عليه تسعون سنة فما تحرك له ضرس.

وروى ابن منده ، وابن السكن ، وأبو نعيم ، كلهم عن الصحابة ، عن بجير بن بجرة قال : كنت في جيش خالد بن الوليد حين بعثه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى أكيدر دومة ، فقال له : «إنك تجده يصيد البقر».

فوافقناه في ليلة مقمرة وقد خرج كما نعته رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأخذناه ، فلما أتينا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أنشدته أبياتا ، فذكر ما سبق.

فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «لا يفضض الله فاك».

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٢٢ عن : البيهقي في الدلائل ج ٥ ص ٢٥١ وذكره ابن حجر في المطالب (٤٠٦٥) وابن كثير في البداية والنهاية ج ٥ ص ١٧ و (ط دار احياء التراث ص ٢٢) ومناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج ١ ص ٩٨ والبحار ج ١٨ ص ١٣٧ ودلائل النبوة للأصبهاني ج ٤ ص ١٢٨٤ وكنز العمال ج ١٠ ص ٥٨٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ٩ ص ٢٠٢ وأسد الغابة ج ١ ص ١٦٤ والإصابة لابن حجر ج ١ ص ٤٠٢ وإمتاع الأسماع للمقريزي ج ١٤ ص ٤٨ والسيرة النبوية لابن هشام (ط مكتبة محمد علي صبيح وأولاده ـ مصر) ج ٤ ص ٩٥٣ و (ط دار المعرفة ـ بيروت) والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٣١ ومعجم ما استعجم للبكري الأندلسي ج ١ ص ٣٠٣.

٢٨

فأتت عليه تسعون سنة وما تحرك له سن (١).

تنبيهان :

الأول : أكيدر : هو أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن.

الثاني : وقالوا : بعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أبا بكر على المهاجرين إلى دومة الجندل ، وبعث خالد بن الوليد على الأعراب معه. وقال : «انطلقوا ، فإنكم ستجدون أكيدر دومة يقنص الوحش ، فخذوه أخذا ، وابعثوا به إليّ ، ولا تقتلوه ، وحاصروا أهلها» (٢).

قلت : وذكر أبي بكر في هذه السرية غريب جدا لم يتعرض له أحد من أئمة المغازي التي وقفت عليها (٣).

ونقول :

إن لنا ههنا وقفات عديدة هي التالية :

عرض خالد على أكيدر :

تقدم قول خالد لأكيدر : «هل لك أن أجيرك من القتل ، حتى آتي بك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على أن تفتح دومة؟

فقال : نعم.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٢٢ وراجع : دلائل النبوة للأصبهاني ج ٤ ص ١٢٨٥ وكنز العمال ج ١٠ ص ٥٨٤ وأسد الغابة ج ١ ص ١٦٤ والإصابة ج ١ ص ٤٠٢.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٢٣ عن البيهقي ، وابن مندة ، وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٤ ص ٩٣ عن البيهقي ، وابن مندة ، ويونس في زيادات المغازي.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٢٣ وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٤ ص ٩٣.

٢٩

ونقول :

إن هذا النص لا يعد مخالفا لقول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لخالد عن أكيدر : إن ظفرت به فلا تقتله ، إذ لعله أراد أن يوهم أكيدر بعزمه على قتله لو رفض طلبه ، ليستجيب لطلبه ، ويفتح له الحصن من دون قتال. ولا ضير في ممارسة أسلوب كهذا إذا كان يوفر على المسلمين تعريض أنفسهم لأخطار هم في غنى عنها.

غير أننا نقول :

ماذا لو أن أكيدر رفض الإستجابة لطلب خالد؟! فهل كان سيقتله ، فيكون بذلك مخالفا أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ومنقادا لحميته ، ومؤثرا لإظهار قوة كلمته وشدته؟! أم أنه سيبحث عن مخرج آخر؟!

إننا نترك الإجابة عن ذلك ، وترجيح أي من الإحتمالين المذكورين إلى من درس نفسية خالد ، وعرف تاريخه ، وجرأته على الخلاف. وضعف التزامه بما يفرضه شرع الله ، وطاعة أوامر رسول الله وأوليائه ..

بطولة؟! أم مهمة إحراجية :

وقد صرحت تلك النصوص : بأن خالدا قد تردد في قبول المهمة رغم أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد جعل تحت امرته أربع ماية وعشرين فارسا ، فقال : كيف لي به ، وهو وسط بلاد كلب؟! وإنما أنا في أناس يسيرين ..

فقال له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إنك تجده ليلا يصيد البقر ، فتأخذه ، فيفتح الله لك دومة الجندل ، فإن ظفرت به ، فلا تقتله الخ ..

٣٠

وهذا معناه : أن خالدا سوف لا يواجه حربا ، ولا طعنا ، ولا ضربا ، وأن هذا العدد الكبير من المقاتلين ، والجم الغفير ، لم تكن له مهمة قتالية ، بل هي مهمة أخذ رجل في البرية من دون قتال ، ثم تسلّم البلد ، وبسط الأمن فيه.

وربما يمكن أن نفهم : أن هذا الوعد النبوي لخالد قد أحرجه ، وفرض عليه قبول المهمة ، لأنه إن رفضها ، فسيفهم الناس : أنه يكذّب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيما يخبر به ، أو أنه يشك في صدقه. وهذا ردّ لكتاب الله سبحانه الذي يقول : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١).

حدّث العاقل بما لا يليق له :

وإذا ألقينا نظرة على ما تضمنته الرواية من وصف للأحداث ، فسنجدها أمورا غير معقولة ، ولا مقبولة .. ولا نرضى أن نتهم في عقولنا ، وفقا لقاعدة : حدّث العاقل بما لا يليق له ، فإن لاق له ، فلا عقل له .. فلاحظ ما يلي :

١ ـ إن الرواية تقول : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أخبر خالدا بأنه سوف يجده ليلا يصيد البقر. فما معنى أن تذكر الرواية : أنه وجده في حصنه على سطح له ، ومعه امرأته ، ثم ركب بالرجال ، وخرجوا من حصنهم ، وخيل خالد تنظر إليه ، فساعة فصل أخذته الخيل .. فالرواية الصحيحة هي رواية بجير بن بجرة الذي قال : «فوافقناه في ليلة مقمرة وقد خرج كما نعته رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأخذناه».

__________________

(١) الآيتان ٣ و ٤ من سورة النجم.

٣١

٢ ـ كيف وصلت خيل خالد إلى حصن أكيدر ، حتى رأوا أكيدر وامرأته على السطح وحركاتهما ، ووقفت تلك الخيل الكثيرة جدا بأصحابها ، ولم تصهل ولم تحمحم ، ولم يسمع أحد صوت وقع حوافرها في ليل يهيمن عليه السكون ، وتكون الأصوات فيه أوضح مما تكون عليه في النهار ..

وقد تنبه الرواة لهذه الملاحظة ، فأدرجوا في كلامهم عبارة : «لا يصول منها فرس ولا يجول»!!

٣ ـ إن البقر الوحشية قد اقتربت من الحصن حتى صارت تحك بابه بقرونها ..

والسؤال هو : إذا كان أكيدر وزوجته ، وربما من كان معه قد رأوا البقر الوحشية تحك باب الحصن بقرونها ، فذلك يعني : أنهم قد راقبوها ، ورصدوا حركتها ، والمفروض : أن الليلة كانت مقمرة ، والرؤية فيها ممكنة حتى إن خيل خالد رصدت أكيدر وزوجته ، وراقبت حركتهم بدقة. فلماذا لم يرهم أكيدر ، أو زوجته ، أو أي من الرجال الذين خرج بهم من الحصن حين كانوا يتابعون حركة البقر الوحشية؟! أم أنهم قد لبسوا طاقية الإخفاء عن كل هؤلاء الناس؟

٤ ـ لماذا لم تنفر البقر الوحشية من جيش خالد؟! وكيف تمكن خالد من الإقتراب منها إلى هذا الحد؟!

إلا أن يقال : إن رؤيتهم البقر الوحشية تحك بقرونها باب الحصن لعله كان قبل قدوم خالد وجيشه ، أو أن البقر الوحشية قدمت من جهة ، وقدم خالد وجيشه من الجهة الأخرى ..

٣٢

ويجاب : بأن ذلك يخالف ظاهر الحديث ، فقد كان باب الحصن بمرأى من جيش خالد ، ففي النصوص المتقدمة : أنهم قد فصلوا من الحصن وخيل خالد تنظر إليهم ، وهذا معناه : أن جيش خالد كان بحيث يرى الحصن. وليس إلى الجهة الأخرى منه ..

وفيه أيضا : أن خالدا خرج إليه ـ أي أكيدر ـ حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين في ليلة مقمرة صائفة ، وهو على سطح له .. ثم تستمر الرواية في وصف ما جرى إلى أن تقول : وخيل خالد تنظر إليهم ، ولا يصول منها فرس ولا يجول ..

فهذا السياق ظاهر في : أن خيل خالد قد وصلت إلى الحصن حين كان أكيدر على سطح له. ثم وصفت صعوده إلى سطح الحصن نفسه وسائر ما جرى .. وإنما جاءت البقر الوحشية في هذه الأثناء.

كما أن ذلك قد حصل من دون أن تبدر من خيل خالد أية بادرة ، تشي بوجودها على مقربة منهم ..

دومة الجندل فتحت صلحا :

وقد جاء في سياق الحديث عن هذه السرية : أن خالدا قد أخذ أكيدر ، وهو في الصيد ، ثم صالحه على أن يفتح له الحصن ، فصالحه على ألفي بعير ، وثمان مائة رأس الخ ..

وانتهى الأمر عند هذا الحد ..

ومن الواضح : أن الأرض المفتوحة صلحا ، من دون أن يوجف عليها بخيل ولا ركاب تكون للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خالصة له ..

٣٣

وهذا معناه : أن ما صالحهم عليه أكيدر أيضا ليس من قبيل الغنائم التي يقتسمها المقاتلون ، بل تكون لله ولرسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

فما معنى : أن يقسمها خالد بين المقاتلين بعد إخراج الصفي منها والخمس؟!

ولعلك تقول : إن قتالا قد حصل وسقط فيه حسان وأخذ خالد سلبه ، وذلك يدخل دومة الجندل فيما أخذ عنوة.

والجواب : أن هذا القتال لم يأذن به رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. بل أمر بأخذ أكيدر وحسب ، وليس ثمة ما يثبت وجود مقاومة من حسان أو غيره من أصحاب أكيدر.

بل إن مقاومتهم غير معقولة ، بعد أن كانوا بضعة أفراد هرب أكثرهم بمجرد رؤية هذا الجيش الكبير جدا ، وهم لم يلبسوا لامة الحرب. بل أخذوا معهم ما يفيدهم في صيد البقر ، فلعل خالدا قد طمع ببزة حسان ، فقتله ، وأخذ سلبه.

والذي يهون الخطب : أن خالدا لم يكن من أهل المعرفة بأحكام الله ، وأن الأمر سوف ينتهي إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيعالجه بما يستحقه ، وأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن يأبى أن ينال المسلمون من هذه الأموال ، حتى لو كان ذلك نتيجة خطأ في فهم الأمور ..

وقد تقدم عن قريب : كيف أنهم كانوا يتجاوزون حدود ما هو مسموح به فيما يرتبط بالغنائم والخمس .. فلا نعيد.

ولو أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أراد أن يسترجع هذه الأموال منهم ، فقد يجد بعض الناس في أنفسهم حرجا أو ألما ، وقد يتّهم بعضهم النبي

٣٤

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» بما يوجب كفر ذلك المتهم ..

وأما وضوح الحكم الشرعي لهذه الأموال ، فهو حاصل من خلال البيانات النبوية ، والتأكيد على الضوابط والمعايير. فلا خوف على الحكم الشرعي من هذه الجهة.

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ينهى خالدا عن قتل أكيدر :

وقد تقدم : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد نهى خالدا عن قتل أكيدر ، وأمره أن يبعث به إليه .. ولعل السبب في ذلك ، أمور نذكر منها :

١ ـ إنه أراد أن لا يطلق العنان لخالد ، فيظن أنه له أن يتصرف كما يحلو له .. فإن المطلوب هو إبقاؤه السيطرة ، وأن لا يفقد الشعور بأنه مطالب ومحاسب ، وأن يبقى ملتزما جانب الإنضباط والطاعة ..

٢ ـ إنه أراد أن يستكمل إقامة الحجة على أكيدر ، فإن الأحداث المختلفة قد أظهرت : أن بعض الناس يتخذون مواقف عدائية لبعض الدعوات ، أو الفئات قبل أن يقفوا على كنه الحقيقة ، ويعرفوا التفاصيل ، وذلك لشعورهم بالخوف مما تحمله لهم من أمور مجهولة ، وتغييرات لا يعرفون متى تنتهي ، وعند أي حدّ تقف ..

٣ ـ إنه إذا أسلم ملك دومة الجندل فسوف يسهّل ذلك دخول جل ـ إن لم يكن كل ـ أهل منطقته في الإسلام ، لأنه بالنسبة إليهم هو واسطة العقد ، ورأس الهرم ، فإذا اختار شيئا لنفسه ، فإنهم يرون انه لا يختار إلا الأفضل والأسمى ، والأمثل والأعلى ، فلماذا لا يقتدون به ، ويرضون لأنفسهم ما رضيه لنفسه؟!

٣٥

على أن من الطبيعي : أن هذا الرجل لو قتل ، لأقاموا شخصا آخر مقامه ، ولعل ذلك الشخص من أجل أن يثبت مصداقيته ، ويؤكد نفوذه فيهم ، يبادر إلى مغامرة تنتهي إلى إلحاق أذى كبير في المسلمين ، وربما يحتاج الأمر للسيطرة على الأمور إلى إزهاق كثير من الأرواح ، ونشوء الكثير من المشكلات الإجتماعية ، أو الإقتصادية لجماعات من الناس ..

ولربما تنشأ عن هذه الحروب أحقاد وتعقيدات يصعب التخلص منها حتى تمضي عقود من الزمن ..

فذلك كله يعرفنا بعض الأسباب التي دعت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى نهي خالد عن قتل أكيدر ، بل المطلوب هو أخذه ، وإرساله إليه ..

مناديل سعد بن معاذ في الجنة :

والناس إنما يقيسون ويتخيلون ، ما هو محجوب عنهم في الغيب ، انطلاقا مما يتوفر لهم من مشاهدات ، أو ما عاشوه من حالات .. وقد تقصر حركة خيالهم حتى عن بلوغ أدنى مرتبة مقبولة أو معقولة منه .. وأكثر ما يتجلى هذا القصور في الأمور التي ترتبط بيوم القيامة وحالاته ، وأحداثه ، وأهواله ، وفي نعيمه وجحيمه ..

وقد حاولت الآيات والروايات : أن ترسم للبشر صورا ، وتضع لهم إشارات وإثارات تقربهم إليها ، وتقربها إليهم ، رغم كل الحجب المادية ، التي قد لا يوفق الكثيرون إلى التخلص منها في الحياة الدنيا. أو أنهم لا يريدون ذلك بصورة جدية ..

وقد وجد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في إعجاب الناس بقباء حسان

٣٦

أخي أكيدر مناسبة لإطلاق توجيه جديد ، يفيد في تربية وإعداد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأصحابه ، ودفعهم نحو مراتب أعلى ، ومقامات أسمى يكونون فيها أكثر وعيا ، وأصفى روحا ، وأكثر رهافة في الإحساس ، ونبلا في الشعور ..

فاستفاد من توافر درجة من الشعور بميزات هذا القباء ، ليجعلها وسيلة لنقلهم إلى آفاق أخرى أرحب ، هم بأمس الحاجة للانتقال إليها من أجل بناء أرواحهم ، ورسم وإنشاء ارتباطاتهم العاطفية والقلبيّة بقضايا الإيمان ، ورفع مستوى استعدادهم لبذل الجهد ، والتضحية والفداء من أجلها. والتسابق ، لحفظها ، وتقويتها ، وترسيخ دعائمها ، في كل ساح وناح ..

فقايس لهم ما أدركوه في قباء حسان بمنديل أحد إخوانهم ممن عاشوا معه دهرا ، ومارسوا معه شؤون الحياة ، وذاقوا معا حلوها ومرها .. حتى فاز هو بمقام الشهادة دونهم ، ألا وهو سعد بن معاذ .. فنقلهم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى الجنة ليروا مناديل سعد مباشرة ، وبيّن لهم : أنهم حين يقارنونها بهذا القباء ، فسيجدون مناديل سعد أفضل منها ..

أكيدر يسجد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وقد تقدم : أنه لما رأى أكيدر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سجد له ، فأومأ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليه بيده : لا ، لا مرتين ..

وواضح : أن هذا الرجل يعامل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بما كان يفرضه هو على غيره ، ويفرضه سائر الملوك على الناس. أما رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقد رفض تصرفه هذا لفهمه أنه حتى لو لم يكن على دينه ، ولم

٣٧

يعترف بنبوته ، وحتى حين يكون أسيرا في يده ، ويعلم أنه يضمر العداء له ، ويود لو يقطعه إربا إربا ، فإن ذلك كله لا يفقده سائر حقوقه التي أعطاه الله إياها من حيث هو بشر .. ومن أولى برعاية هذه الحقوق من أنبياء الله ، وأوليائه وأصفيائه «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

أبو بكر ، أم خالد؟! :

وحول ما زعمته بعض الروايات المتقدمة : من أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ولّى في تلك الغزوة خالدا على الأعراب ، وولّى أبا بكر على المهاجرين ، نقول :

١ ـ قد تقدم قول الصالحي الشامي : إن ذكر أبي بكر في هذه السرية غريب جدا ، ولم يتعرض إليه أحد فيما وقفت عليه من أئمة المغازي.

٢ ـ إن الرواية لم تصرح لنا باسم من كان أميرا على السرية كلها ، إذ لم نعهد منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن جعل أكثر من أمير على سرية واحدة.

بل وجدنا كما تقدم : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان إذا بعث سرايا منفصلة ، يقرر لهم في صورة الإجتماع أميرا واحدا ويسميه لهم. وقد ظهر ذلك ، حين أرسل عليا «عليه‌السلام» في سرية ، وخالدا في أخرى ، فإذا اجتمعا فالأمير على الجميع هو علي «عليه‌السلام».

٣ ـ كما أن المناسب ـ لو صح قولهم هذا ـ هو : أن تنسب السرية إلى أبي بكر ، لا إلى خالد ، وهو ما يقتضيه إرادة تكريم المهاجرين ، وإظهار امتيازهم على غيرهم ، كما هو ظاهر.

فلماذا نسبت إلى خالد؟

بل لماذا نسي أئمة المغازي اسم أبي بكر ، فلم يذكروه أصلا؟!

٣٨

كما أن أحدا لم يذكر لنا أي دور لأبي بكر في الإدارة وفي القتال ، أو في التفاوض والمصالحة التي جرت ، وغيرها ..

بل إن أحدا لم يخص المهاجرين بشيء من الذكر في هذه السرية على الخصوص ..

مع أن هذه الرواية العجيبة الغريبة تقول : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أرسل أبا بكر ، وبعث معه خالدا ، وكأن خالدا كان تابعا لأبي بكر ..

فكيف لا نسمع للمتبوع أي ذكر بعد ذلك؟! بل تمحورت القضايا كلها حول التابع ، وأصبح هو المدبر والمقرر!!

خالد سيف الله!! :

وقد ورد في الكتاب الذي قالوا : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كتبه لأكيدر ، وأهل دومة الجندل ـ ورد فيه ـ وصف خالد : بأنه سيف الله.

ونقول :

أولا : تقدم في هذا الكتاب : أن هذا التوصيف مكذوب على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأن أبا بكر هو الذي خلعه على خالد بعد وفاة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فراجع فصل : «حصار وانهيار» وفصل : «خالد يضيع النصر».

ثانيا : إن الظاهر هو : أن عبارة «مع خالد سيف الله» مقحمة في الكتاب ، بل هي قد تكون مفسدة للسبك والمعنى ، ومن موجبات ركاكته ، إذ لا مبرر للقول : بأن فلانا قد خلع الأنداد والأصنام مع فلان ، أو أن فلانا أجاب إلى الإسلام مع فلان.

٣٩

بل يكفي أن يقال : فلان خلع الأنداد وأجاب إلى الإسلام .. بل إن هذه الإضافة تغير المعنى ، وتوقع في الإشتباه ، إذ يصبح المعنى : أن أكيدر وكذلك خالد كلاهما قد خلع الأنداد مع أن هذا ليس هو المراد ..

ويؤيد إقحامها في الكتاب : أنها لم تذكر في نص معجم البلدان لياقوت ، وفتوح البلدان للبلاذري ، فراجع ..

هل صالحهم على الجزية؟! :

إن النصوص المتقدمة تقول : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» صالح أكيدر وقومه على الجزية ..

ولكن ذلك لا يصح ..

أولا : ورد في نص كتاب الصلح ، ما يدل على إسلام أكيدر وقومه ، فقد قال عن أكيدر : هذا كتاب محمد رسول الله لأكيدر حين أجاب إلى الإسلام ، وخلع الأنداد ، والأصنام.

وقال عن قومه : يقيمون الصلاة لوقتها ، ويؤتون الزكاة بحقها ..

وذلك يدل على إسلام أكيدر ، وإسلام قومه ، فإذا كانوا قد أسلموا ، فكيف تؤخذ الجزية منهم؟! والجزية إنما توضع على غير المسلم ..

ثانيا : قوله : لا تعدل سارحتكم ، ولا تعد فاردتكم. معناه أن ماشيتهم لا تمنع عن مرعاها ، ولا تحشر في الصدقة إلى المصدق لكي تعدّ مع غيرها ليكتمل بها النصاب ، إذا كانت فاردة ، أي مما لا تجب فيه صدقة لفقد شروطها ..

وقد أضاف في طبقات ابن سعد قوله : ولا يؤخذ منكم إلا عشر الثبات ..

٤٠