الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-199-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٤

ونقول :

كنا قد تحدثنا عن هذه السرية في موضع سابق من هذا الكتاب فلا حاجة إلى الإعادة.

غير أننا نشير هنا إلى الأمور التالية :

داعيتهم منهم :

قد لاحظنا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعث رفاعة بن زيد إلى قومه ليدعوهم إلى الإسلام ، فإن الدعوة إذا جاءت من القريب والحبيب ، فإنها تكون أوقع في النفس ، وأقرب إلى القبول ، ولا سيما إذا خلت من احتمالات أن يكون ثمة من يريد أن يجر النار إلى قرصه ، ومن احتمال أن يكون له على قومه بذلك أي امتياز سواء في الموقع الإجتماعي ، أو في نفوذ الكلمة ، أو ما إلى ذلك ..

ويتأكد هذا الأمر بجعل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من يقبل دعوة رفاعة ويدخل في الإسلام في حزب الله وحزب رسوله ، ولم يدخل رفاعة في هذا الأمر لا من قريب ولا من بعيد.

والحاصل : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد جعل من يؤمن مرتبطا بالله

__________________

والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢١٨ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ ق ١ ص ٦٥ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٦٠ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٠٢ والبحار ج ٢٠ ص ٣٧٤ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٢٦٠ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٢٠٧ والسيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) ج ٢ ص ١٧٦ والمنتظم ج ٣ ص ٢٥٨.

٢٤١

وبرسوله مباشرة ، فأدخله في فريقهما وحزبهما ، وأعطاه شرف الإنتماء لهما ، ولم يشر إلى سلطة ولا إلى هيمنة أي كان من الناس على هذا المؤمن ، كما أنه لم يتحدث عن تبعية أو طاعة لرفاعة ولا لغيره ..

فله أمان شهرين :

وأما إعطاء الأمان شهرين لمن أبى ، فلأجل أن الشرك يصادم التوحيد ويتناقض معه ، فلا مجال للتعايش فيما بينهما بأي وجه من الوجوه ، لأن المشرك يجد نفسه في موقع المحارب للتوحيد ، والساعي لإبطاله .. ولأجل ذلك جاء الأمر الإلهي الذي يقول : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ).

وأما أهل الكتاب فلهم ارتباط بالله تبارك وتعالى ، وإن كانوا يخطئون في بعض التفاصيل ، كما أن نظرتهم للمسلمين لا تخرج عن هذا السياق .. فلا يرون أنفسهم في موقع المناقض لتوحيد المسلمين ، والمحارب له ، فيمكن التعايش معهم إن لم يعلنوا الحرب ، وهناك قواسم مشتركة أخرى معهم ، يمكن من خلالها العمل على تصحيح الخطأ ، وتسهل الوصول إلى حلول مرضية ، في كثير من الأحيان ..

وهم في جميع الأحوال أقل خطرا من المشركين ، الذين يريدون هدم الإسلام ، وإبطال عقيدة التوحيد من أساسها ، واقتلاعها من جذورها ..

تاريخ هذه السرية :

إن ذكر زيد بن حارثة في هذا المورد يدل على : أن وفود رفاعة وكتابة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الكتاب له قد كان قبل فتح مكة ، وقبل غزوة مؤتة ، التي استشهد فيها زيد بن حارثة ..

٢٤٢

وأما القول : بأن ذلك قد كان في آخر سنة ست أو أول سنة سبع قبل غزوة خيبر أيضا ، استنادا إلى أن إرسال الرسائل إلى الملوك قد كان في تلك الفترة .. فيمكن المناقشة فيه : بأن من الجائز أن يكون النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أرسل دحية إلى قيصر أكثر من مرة .. كما لا يخفى.

جبرئيل في صورة دحية الكلبي :

وتقدم أنهم يزعمون : أن دحية الكلبي كان جميلا ، وأن جبرئيل كان يأتي إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على صورته ، وقد قدمنا : أن ذلك لا مبرر له ، إذ لماذا لم يكن يأتيه على صورة علي «عليه‌السلام» الذي كان أحب الخلق إليه؟! مع أن الله تعالى قد كلم نبيه حين المعراج بصوت علي حسبما قدمناه في هذا الكتاب.

وفد دوس :

وقدم على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أربعمائة من دوس ، فقال رسول الله : «مرحبا ، أحسن الناس وجوها ، وأطيبهم أفواها ، وأعظمهم أمانة» (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٦٢ وص ٣٣٦ عن الطبراني بسند ضعيف ، في هامشه قال : أخرجه الطبراني ج ١٢ ص ٢٢٢ وذكره الهيثمي في المجمع ج ١٠ ص ٥٠. وراجع : شرح المواهب اللدنية ج ٥ ص ١٨٥ ، والمعجم الأوسط للطبراني ج ٧ ص ٤٧ ، والمعجم الكبير للطبراني ج ١٢ ص ١٧٢ ، وكنز العمال ج ١٢ ص ٥٨ ، والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٣٣٨ ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٦٢.

٢٤٣

قال في زاد المعاد : قال ابن إسحاق : كان الطفيل بن عمرو الدوسي يحدّث أنه قدم مكة ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بها. فمشى إليه رجال من قريش ، وكان الطفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا ، فقالوا له : يا طفيل ، إنك قدمت بلادنا ، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا فرق جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وإنما قوله كالسحر يفرق بين المرء وابنه ، وبين المرء وأخيه ، وبين الرجل وزوجه ، وإنّا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا ، فلا تكلمه ، ولا تسمع منه.

قال : فو الله ما زالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئا ولا أكلمه ، حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا ، فرقا من أن يبلغني شيء من قوله.

قال : فغدوت إلى المسجد ، فإذا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قائم يصلي عند الكعبة ، فقمت قريبا منه ، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله ، فسمعت كلاما حسنا ، فقلت في نفسي : واثكل أمياه ، والله إني لرجل لبيب شاعر ، ما يخفى علي الحسن من القبيح ، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان ما يقول حسنا قبلت ، وإن كان قبيحا تركت.

قال : فمكثت حتى انصرف رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى بيته ، فتبعته حتى إذا دخل بيته ، دخلت عليه فقلت : يا محمد ، إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا ، فو الله ما برحوا يخوفوني أمرك حتى سددت أذنيّ بكرسف لئلا أسمع قولك ، ثم أبى الله إلا أن يسمعنيه ، فسمعت قولا حسنا ، فاعرض عليّ أمرك.

فعرض عليّ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الإسلام ، وتلا علي

٢٤٤

القرآن ، فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه ، ولا أمرا أعدل منه ، فأسلمت وشهدت شهادة الحق وقلت : يا نبي الله ، إني امرؤ مطاع في قومي ، وإني راجع إليهم فداعيهم إلى الإسلام ، فادع الله لي أن يجعل لي آية تكون عونا لي عليهم ، فيما أدعوهم إليه.

فقال : «اللهم اجعل له آية».

قال : فخرجت إلى قومي ، حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر وقع نور بين عينيّ مثل المصباح ، قلت : اللهم في غير وجهي ، إني أخشى أن يظنوا أنها مثلة وقعت في وجهي لفراقي دينهم.

قال : فتحول ، فوقع في رأس سوطي كالقنديل المعلق ، وأنا أنهبط إليهم من الثنية حتى جئتهم ، وأصبحت فيهم. فلما نزلت أتاني أبي وكان شيخا كبيرا. فقلت : إليك عني يا أبت ، فلست منك ولست مني.

قال : ولم يا بني ، بأبي أنت وأمي؟!

قلت : فرق الإسلام بيني وبينك ، فقد أسلمت وتابعت دين محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

قال : يا بني فديني دينك.

قال : فقلت : اذهب فاغتسل ، وطهر ثيابك ، ثم تعال حتى أعلمك ما علمت.

قال : فذهب ، فاغتسل ، وطهر ثيابه. ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم.

ثم أتتني صاحبتي فقلت لها : إليك عني فلست منك ولست مني.

قالت : لم بأبي أنت وأمي؟

٢٤٥

قلت : فرق الإسلام بيني وبينك. أسلمت وتابعت دين محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

قالت : فديني دينك.

فقلت : اذهبي ، فاغتسلي ، ففعلت ، ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت.

ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطأوا عليّ ، (وعند آخرين : أجابه أبو هريرة وحده (١)) ، فأتيت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (في مكة قبل الهجرة أيضا) ، فقلت : يا نبي الله ، إنه قد غلبني على دوس الزنا ، فادع الله عليهم.

فقال : «اللهم اهد دوسا» (٢). ثم قال : «ارجع إلى قومك فادعهم إلى الله ،

__________________

(١) شرح المواهب اللدنية ج ٥ ص ١٨٣ و ١٨٤ عن الطبراني وعن الأغاني من طريق الكلبي ، والإصابة ج ٢ ص ٢٢٦.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٣٦ و ٣٣٧ وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٥ ص ١٨٤ و ١٨٥ والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ٢ ص ٢٣٢ و ٢٣٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٥ ص ١١ ـ ١٥ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٤ ص ٢٣٧ فما بعدها ، ودلائل النبوة للبيهقي ج ٥ ص ٣٦٠ فما بعدها ، وكتاب الأم ج ١ ص ١٨٩ ، وحلية الأبرار للبحراني ج ١ ص ٣٠٩ ، وكتاب المسند للإمام الشافعي ص ٢٨٠ ، ومسند احمد ج ٢ ص ٢٤٣ ، وصحيح البخاري ج ٣ ص ٢٣٥ وج ٥ ص ١٢٣ وج ٧ ص ١٦٥ ، وصحيح مسلم ج ٧ ص ١٨٠ ، وفتح الباري ج ٦ ص ٧٧ وج ١١ ص ١٢٠ ، وعمدة القاري ج ١٤ ص ٢٠٧ وج ١٨ ص ٣٤ وج ٢٣ ص ١٩ ، وتحفة الأحوذي ج ٢ ص ١٧٢ ، ومسند الحميدي ج ٢ ص ٤٥٣ ، ومسند ابن راهويه ج ١ ص ١٩ ، والأدب المفرد للبخاري ص ١٣٤ ، وصحيح ـ

٢٤٦

وارفق بهم».

فرجعت إليهم ، فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الله.

ثم قدمت على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بخيبر ، فنزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس. ثم لحقنا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بخيبر ، فأسهم لنا مع المسلمين (١).

وعند الطبراني بسند ضعيف : أنهم أربع مائة (٢).

نماذج من تناقضات الروايات :

ونشير هنا إلى نموذج من التناقضات التي تسهل ملاحظتها في روايات هذا الحدث المزعوم ، فبعضها يقول : «جئنا خيبر ، فنجده قد فتح النطاة ، وهو محاصر الكتيبة ، فأقمنا حتى فتح الله علينا ، فأسهم لنا مع المسلمين» (٣).

__________________

ابن حبان ج ٣ ص ٢٥٩ ، والمعجم الكبير للطبراني ج ٨ ص ٣٢٦ ، وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٥ ص ١٢ ، وأسد الغابة ج ٣ ص ٥٥ ، وسير أعلام النبلاء ج ١ ص ٣٤٤ ، والإصابة ج ٣ ص ٤٢٣ ، والبداية والنهاية لابن كثير ج ٣ ص ١٢٤.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٢ ص ٤١٨ وج ٦ ص ٣٣٧ وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٥ ص ١٨٥ و ١٨٦ ، والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٤ ص ٢٣٩ ، وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٥ ص ١٢ ، وأسد الغابة ج ٣ ص ٥٥ ، والبداية والنهاية لابن كثير ج ٣ ص ١٢٤ ، والسيرة النبوية للحميري ج ١ ص ٢٥٨ ، وعيون الأثر ج ١ ص ١٨٥ ، والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٧٥ ، والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٧٠.

(٢) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٥ ص ١٨٥.

(٣) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٥ ص ١٨٥ عن البخاري في التاريخ ، وابن خزيمة ، والطحاوي ، والبيهقي ، وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٣٧.

٢٤٧

وفي بعضها : «قدمنا على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وقد فتح خيبر ، فكلم المسلمين ، فأشركنا في سهمانهم» (١).

وتارة تقول : «إن قريشا حذرت الطفيل من الإتصال بالنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والإستماع منه ، فحشا أذنه بالكرسف حتى لا يسمع شيئا».

وأخرى تقول : «إن قريشا قد طلبت منه ان يتصل بالنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويخبر حاله» (٢).

وتقدم الإختلاف في عدد الوفد من دوس ، هل هم ثمانون ، أو سبعون ، أو خمسة وسبعون ، أو اربع مائة.

والروايات المتقدمة تقول : إن الطفيل هو الذي قدم بالوفد إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، رواية أخرى تقول : إن جندب بن عمرو بن حممة الدوسي لما سمع بأمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جاء بالوفد إليه ، وهم خمسة وسبعون رجلا من قومه ، فأسلم وأسلموا. قال أبو هريرة : فكان جندب يقدمهم رجلا رجلا (٣).

سرقة فضيلة ، أم استعارتها؟! :

ثم إننا قد قرأنا فيما سبق من أجزاء هذا الكتاب : أن إسلام أهل المدينة قد بدأ بإسلام أسعد بن زرارة ، وأنه قد جرى لأسعد مع قريش والنبي

__________________

(١) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٥ ص ١٨٥ ، ومسند أبي داود الطيالسي ص ٣٣٨.

(٢) الإصابة ج ٢ ص ٢٢٦.

(٣) الإصابة ج ٢ ص ٢٢٦.

٢٤٨

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفس تلك الأحداث التي قرأناها آنفا منسوبة لأبي الطفيل (١) ، لكن قد حاول محبو أبي الطفيل أن يلحقوا بها بعض اللمسات الطفيفة والخفيفة التي اقتضاها وفرضها تبديل الشخصية الحقيقية بشخصية أخرى لا ربط لها بحقيقة ما جرى ..

مدائح دوس مشكوكة :

تقول الرواية المتقدمة : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لوفد دوس : «مرحبا أحسن الناس وجوها ، وأطيبهم أفواها ، وأعظمهم أمانة».

غير أننا قد ذكرنا حين الحديث عن وفد الأزد أنهم يقولون : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قال ما يشبه ذلك لوفد الأزد أيضا.

وقد يقال : إن قبيلة دوس كانت من الأزد أيضا. فلعلهم قصدوا خصوص الدوسيين من الأزد ، وقد يطلق العام ويراد به الخاص.

ولكنه احتمال موهون ، فإن التسامح في أحاديث الفضائل غير متوقع ، بل المتوقع هو الحرص على التحديد ، والتصدي لأي احتمال يوجب الإيهام مهما كان قريبا ، فكيف إذا كان غريبا.

ولو سلمنا أن المقصود هو دوس في كلتا الحالتين ، فكيف نوفق بين ذلك ، وبين ما ذكروه في موضع آخر : من أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قال ذلك لوفد جرش ، فأي ذلك هو الصحيح؟!

__________________

(١) راجع : البحار ج ١٩ ص ٩ وإعلام الورى ص ٥٧ عن علي بن إبراهيم.

٢٤٩

راوي حديث الطفيل :

وقد يلاحظ على الحديث المتقدم : أنه مروي عن الطفيل نفسه ، فيحتمل أنه من حرصه يريد أن يجر النار إلى قرصه ، ليكون هو الرابح الأكبر لو صدّق الناس روايته ..

أبو الطفيل يطرد أباه :

ثم إننا لم نجد تفسيرا لطرد الطفيل أباه ، بقوله : إليك عني يا أبت الخ .. إلا إذا كان عذره هو الجهل الذريع ، وسوء الفهم ، والخطأ الفاضح في التقدير ، وسوء الأدب ، فإن أبا الطفيل كان قد أظهر الإسلام قبل مدة وجيزة ، ولم يعرف من آدابه وأخلاقياته ، ومفاهيمه وشرائعه ، وعقائده إلا القليل ..

ولكنه عذر موهون ، فإن محاسن الأخلاق ، وقواعد الأدب لم تكن أمورا يجهلها الإنسان العربي حتى الجاهلي ، ولا سيما الأدب مع الأبوين ..

ثم إنه إذا كان قد أسلم ، فالمفروض فيه هو : أن يقبل على أبيه ، ويعامله برفق ، ويظهر له التغير الأخلاقي إلى الأصلح ، ويبين له محاسن الإسلام ، وموافقته لما تقضي به الفطرة ، وما تحكم به العقول ، ويصر عليه بقبول الإسلام والإيمان.

أما أن يطرد أباه ، الذي يشعر بدالة الأبوة على ولده ، ويجرح كبرياءه ، فإن ذلك سوء أدب غير مقبول ، إذا كان مع شخص غريب ، فكيف إذا كان من ولد تجاه والده.

وذلك هو ما فرضه الإسلام على كل مسلم تجاه أي إنسان آخر ، حتى لو لم يكن أبا ولا زوجة ولا ولدا ، وذلك هو ما تفرضه عليه أحكام الأمر

٢٥٠

بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن المفروض هو : أن يسعى لإقناع ذلك الغير بالحق ، وأن يفتح معه باب الحوار الإيجابي الهادئ والرصين على قاعدة : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ..

التفريق بين المسلم وزوجته الكافرة :

وقد رأينا : أن الرواية المتقدمة تقول : إن الطفيل أمر زوجته بالإبتعاد عنه أيضا ، قائلا لها : إن الإسلام قد فرّق بينه وبينها ، مع أنهم يروون أن آية : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) (١) ، قد نزلت في المدينة بعد الحديبية بعد الهجرة ، فطلّق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك (٢). أما قضية الطفيل وزوجته فكانت قبل هجرة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من مكة.

ونحن وإن كنا نعتقد أن الحكم بعدم جواز نكاح المسلم للمشركة كان ثابتا على لسان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قبل ذلك ، إلا أننا نقول :

__________________

(١) الآية ١٠ من سورة الممتحنة.

(٢) الدر المنثور ج ٦ ص ٢٠٥ و ٢٠٧ عن البخاري ، وعن ابن مردويه ، ونيل الأوطار ج ٨ ص ١٨٧ ، ومسند احمد ج ٤ ص ٣٣١ ، وصحيح البخاري ج ٣ ص ١٨٢ ، والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٢٢٠ ، وعمدة القاري ج ١٤ ص ٥ ، والمصنف للصنعاني ج ٥ ص ٣٤٠ ، والمعجم الكبير للطبراني ج ٢٠ ص ١٤ ، وجامع البيان لابن جرير الطبري ج ٢٦ ص ١٣٠ وج ٢٨ ص ٩١ ، والدر المنثور ج ٦ ص ٢٠٥ ، وفتح القدير للشوكاني ج ٥ ص ٢١٧ ، وتاريخ مدينة دمشق ج ٥٧ ص ٢٣٠ ، وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٣٧٢ ، والبداية والنهاية لابن كثير ج ٤ ص ٢٠١ ، وإمتاع الأسماع ج ٩ ص ١٣ ، والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٣٥.

٢٥١

أولا : إننا نلزمهم بما ألزموا به أنفسهم.

ثانيا : لعله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن مكلفا بإبلاغ هذا الحكم لجميع الناس .. أو لعل الكثيرين كانوا لا يحتاجون إلى هذا الحكم إما لأن نساءهم كنّ يسلمن حين يسلم أزواجهن ، وإما لأنهن كنّ يخترن الإنفصال ، والإلتحاق بأهلهن من المشركين ..

المطاع في قومه لا يطيعه قومه :

وقد زعم الطفيل لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنه مطاع في قومه ، ويريد أن يدعوهم إلى الإسلام ، ثم طلب منه أن يدعو الله أن يجعل له آية تعينه عليهم ، فجعل له النور في طرف سوطه ..

ونقول :

أولا : اللافت هنا : أن هذا المطاع في قومه ، لم يطعه أحد من قومه سوى أبي هريرة كما تقدم!!

رغم أنه كان يحمل إليهم معجزة كانت ماثلة أمامهم ويشاهدونها كلما يحلو لهم!!

فعدم إطاعتهم له مع كل هذه الخصوصيات أمر يثير العجب حقا ..

ثانيا : ما معنى أن يعود الطفيل إلى مكة طالبا من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يدعو على قومه؟! (١). فهل دعا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على غيرهم من أجل ذلك ، أم أنه كان يدعو لهم بالهداية ولا يدعو عليهم؟!

__________________

(١) تهذيب تاريخ دمشق ج ٢٥ ص ١٢ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٤ ص ٢٣٧.

٢٥٢

ثالثا : إذا كان مطاعا في قومه ، فلماذا يطلب الآية لهم من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

رابعا : هل كان من عادة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يزود دعاته بآيات من هذا القبيل؟!!

خامسا : ما معنى أن يرفض الطفيل النور الذي حل في جبهته؟! ألم يكن من الأفضل له أن يرضى بما رضيه الله تعالى؟!

أم أنه أدرك أمرا كان خافيا على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

وكيف يخشى أن يظن قومه أن ذلك مثلة فيه؟! وهل يمكن أن نصدق أن قومه كانوا لا يستطيعون التأكد من كون هذا الذي في جبهته ليس مثلة ، وإنما هو نور وضعه الله فيها؟!

سادسا : ألا يحق لنا أن نظن بأنه لو صح شيء من هذه القصة ، فإن السبب في عدم قبول أحد أن يسلم على يد الطفيل ، هو معاملته السيئة لهم ، حسبما أشار إليه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين أمره بأن يعود إليهم ويرفق بهم ، وإذا كان أسلوبه مع أبيه وزوجته بتلك الحدة والشراسة فما بالك بالأسلوب الذي كان يعامل به غيرهما ..

وفد بني عبد بن عدي :

عن ابن عباس ، وغيره قال : قدم وفد بني عبد بن عدي ، فيهم الحارث بن وهبان ، وعويمر بن الأخرم ، وحبيب وربيعة ابنا ملة ، ومعهم رهط من قومهم ، فقالوا : يا محمد ، نحن أهل الحرم وساكنيه ، وأعز من به ، ونحن لا نريد قتالك ، ولو قاتلك غير قريش قاتلنا معك ، ولكنا لا نقاتل قريشا ، وإنّا

٢٥٣

لنحبك ومن أنت منه ، وقد أتيناك ، فإن أصبت منا أحدا خطأ فعليك ديته ، وان أصبنا أحدا من أصحابك فعلينا ديته ، إلا رجلا منا قد هرب ، فإن أصبته أو أصابه أحد من أصحابك فليس علينا ولا عليك.

فقال عويمر بن الأخرم : دعوني آخذ عليه.

قالوا : لا ، محمد لا يغدر ، ولا يريد أن يغدر به.

فقال حبيب وربيعة : يا رسول الله ، إن أسيد بن أبي أناس (إياس) هو الذي هرب ، وتبرأنا إليك منه ، وقد نال منك.

فأباح رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دمه.

تاريخ هذا الوفد :

لقد كان هذا الوفد قبل الفتح ، إذ قد صرّحت الرواية : بأنه لما بلغ أسيدا أقوال الوفد أتى الطائف فأقام بها ، وبقي فيها إلى أن تم فتح مكة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأخبره سارية بما جرى ..

نحن أهل الحرم :

ثم إن من غرائب الأحوال أن يفتخر هؤلاء الناس على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنهم أهل الحرم ، وأعز من فيه ، مع معرفتهم التامة بالنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وبحسبه ونسبه ، وحتى بصفاته الشخصية ، وبسيرته الذاتية ، كما دلت عليه كلماتهم ، فقد قالوا لعويمر : «محمد لا يغدر ، ولا يريد أن يغدر به» ، فاكتفوا بمعرفتهم هذه عن أخذ العهود والمواثيق عليه.

وكيف لا يعرفونه ، وهم يدّعون أنهم أهل الحرم ، وأعز ساكنيه ، والنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وسائر آبائه هم سادات هذا الحرم الذين لا يجهلهم أحد ..

٢٥٤

فكيف استجازوا لأنفسهم أن يقولوا لسادة الحرم ، وحفظته ولنبي هو أعظم وأقدس رجل على وجه الأرض ، وأعز من في الحرم : إنهم أهل الحرم ، وأعز من فيه؟!

وفود مزينة :

عن النعمان بن مقرن قال : قدمت على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في أربعمائة من مزينة وجهينة ، فأمرنا بأمره ، فقال القوم : يا رسول الله ، ما لنا من طعام نتزوده.

فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعمر : «زود القوم».

فقال : يا رسول الله ، ما عندي إلا فضلة من تمر ، وما أراها تغني عنهم شيئا.

قال : «انطلق فزودهم».

فانطلق بنا إلى علّيّة ، فإذا تمر مثل البكر الأورق.

فقال : خذوا.

فأخذ القوم حاجتهم. قال : وكنت في آخر القوم ، فالتفت وما أفقد موضع تمرة ، وقد احتمل منه أربعمائة وكأنا لم نرزأه تمرة (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤١١ عن أحمد ، والطبراني ، والبيهقي ، وأبي نعيم ، وفي هامشه عن مسند أحمد ج ٥ ص ٤٥٥ ، وراجع : الآحاد والمثاني للضحاك ج ٢ ص ٣٤٢ ، وصحيح ابن حبان ج ١٤ ص ٤٦٢ ، وموارد الظمآن للهيثمي ج ٧ ص ٥٢.

٢٥٥

وروى ابن سعد (١) عن كثير بن عبد الله المزني ، عن أبيه ، عن جده قال : كان أول من وفد على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من مضر أربعمائة من مزينة ، وذلك في رجب سنة خمس ، فجعل لهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الهجرة في دارهم وقال : «أنتم مهاجرون حيث كنتم ، فارجعوا إلى أموالكم» ، فرجعوا إلى بلادهم.

وعن أبي مسكين ، وأبي عبد الرحمن العجلاني قالا : قدم على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفر من مزينة ، منهم خزاعي بن عبد نهم ، فبايعه على قومه مزينة ، وقدم معه عشرة منهم ، فيهم بلال بن الحارث ، والنعمان بن مقرن ، وأبو أسماء ، وأسامة ، وعبد الله بن بردة ، وعبد الله بن درة ، وبشر بن المحتفز ، وكان منهم دكين بن سعيد ، وعمرو بن عوف (٢).

قال : وقال هشام في حديثه : ثم إن خزاعيا خرج إلى قومه ، فلم يجدهم كما ظن ، فأقام ، فدعا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حسان بن ثابت ، فقال : «اذكر خزاعيا ولا تهجه».

فقال حسان بن ثابت :

ألا أبلغ خزاعيا رسولا

بأن الذم يغسله الوفاء

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤١١ وفي هامشه عن : الطبقات الكبرى لابن سعد (ط ليدن) ج ١ ق ٢ ص ٣٨ وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٥ ص ١٧٨ و ١٧٩ ومسند أحمد ج ٤ ص ٥٥.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤١١ والطبقات الكبرى لابن سعد (ط ليدن) ج ١ ق ٢ ص ٣٨.

٢٥٦

وأنك خير عثمان بن عمرو

وأسناها إذا ذكر السناء

وبايعت الرسول وكان خيرا

إلى خير وأداك الثراء

فما يعجزك أو ما لا تطقه

من الأشياء لا تعجز عداء

قال : وعداء بطنه الذي هو منه.

قال : فقام خزاعي ، فقال : يا قوم ، قد خصكم شاعر الرجل ، فأنشدكم الله.

قالوا : فإنّا لا ننبوا عليك.

قال : وأسلموا ووفدوا على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فدفع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لواء مزينة يوم الفتح إلى خزاعي ، وكانوا يومئذ ألف رجل. وهو أخو المغفل أبي عبد الله بن المغفل ، وأخو عبد الله ذي البجادين (١).

ونقول :

قد تحدثنا عن وفادة بلال بن الحارث في أربعة عشر رجلا من مزينة على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في سنة خمس ، في نفس كتابنا هذا في الباب الخامس ، في الفصل السادس بعنوان : «متفرقات الأحداث» ..

ولذلك فنحن نشير هنا إلى ما لم نشر إليه هناك ، فنقول :

١ ـ إن الناس كما أشرنا إليه أكثر من مرة كانوا يرون : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مسؤول عن شفاء مرضاهم ، وعن حل مشاكلهم ، وحتى عن تزويدهم بالطعام.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤١١ و ٤١٢ ، والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٢٩٢ ، والإصابة ج ٢ ص ٢٣٨ ، وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٤٠.

٢٥٧

والنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يحاول أن يعفي نفسه من هذه المسؤولية ، رغم أنه لم يكن يملك ما يزودهم به فعلا ، فما كان منه إلا أن بادر إلى التصرف الغيبي ، دون أن يستفيد ـ بحسب ظاهر الأمر ـ من الدعاء والابتهال ، بل هو قد فعل ذلك على سبيل المبادرة بالأمر الحاسم والجازم.

٢ ـ إن خزاعي بن عبد نهم كان قادرا على إقناع قومه بالإسلام ، ولكنه تقاعس عن ذلك لا لعناد ، ولا استخفاف ، وإنما لظنه أن رفضهم الذي واجهوه به في المرة الأولى يكفي عذرا له ، ويجعله في حل من الوفاء بما التزم به ..

فأراد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إثارة الحافز لديه ، وإفهامه أن ينتظر وفاءه ، فأشار إلى حسان ليذكره في شعره ، دون أن يهجوه ، لأنه لا يستحق الهجاء من جهة ، ولأن المطلوب من جهة أخرى هو التحريك والإثارة ، لمعاودة المحاولة ..

٣ ـ ولسنا نشك في أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان عارفا بمدى تأثير خزاعي في قومه ، وما له من المكانة فيهم ، وأنه سيكون قادرا على الوفاء بما أخذه على نفسه ، وهكذا كان ..

٤ ـ وأما أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد جعل لمزينة الهجرة في دارهم فقد تحدثنا عن موضوع الهجرة في جزء سابق من هذا الكتاب ، فراجع ما ذكرناه حين الكلام عن هجرة العباس ..

مع ملاحظة : أن مزينة كانت إحدى قبائل النفاق التي كانت حول المدينة ، حيث يقال : إنها مقصودة في قوله تعالى : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ) (١).

__________________

(١) الآية ١٠١ من سورة التوبة.

٢٥٨

وفد أشجع :

قدمت أشجع على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عام الخندق ، وهم مائة ، ورأسهم مسعود بن رخيلة ، فنزلوا شعب سلع.

فخرج إليهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأمر لهم بأحمال التمر.

فقالوا : «يا محمد ، لا نعلم أحدا من قومنا أقرب دارا منك منّا ، ولا أقل عددا ، وقد ضقنا بحربك وبحرب قومك ، فجئنا نوادعك». فوادعهم.

ويقال : بل قدمت أشجع بعد ما فرغ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من بني قريظة ، وهم سبعمائة ، فوادعهم ، ثم أسلموا بعد ذلك (١).

دلالة في موادعة أشجع :

إن وفد أشجع إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» له اهمية ، ودلالات ذات قيمة ، فقد جاء هذا الوفد بعد انتصار ثمين جدا ، حققه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمون على يد علي أمير المؤمنين «عليه‌السلام» في كل من الخندق وقريظة على قوى كبيرة وأساسية جدا ، وذات فعالية في المنطقة ، وهي قريش في مكة ، وقريظة في المدينة ، وذلك بعد حربي بدر وأحد ، وهما من أهم وأخطر الحروب بالنسبة للمسلمين ..

ومن الطبيعي : أن يكون لدى المسلمين حساسية بالغة في هذا الظرف بالذات ، فوجود المشركين في المحيط الذي يعيش فيه المسلمون يشكل مصدر تهديد بالغ الخطورة لأمن المسلمين وحتى لمستقبلهم ووجودهم ، إذا

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٧٣ عن ابن سعد ، والطبقات الكبرى ج ١ ص ٣٠٦.

٢٥٩

استطاع اليهود في خيبر ، أو المشركون بزعامة قريش أن يستفيدوا من تلك القبائل المنتشرة حول المدينة ، وفي سائر المناطق في الجهد الحربي بمختلف أنواعه ومستوياته.

وهذه القبيلة ، وإن كانت قد تذرعت بضعفها وبقرب مساكنها لتبرير طلب الموادعة ، ولكن ذلك لا يمنع من أن تمارس دورا خطيرا ـ ولو تجسسيا ـ في ظل هذه الموادعة بالذات ، التي تؤمن لها غطاء كافيا لصرف الأنظار عن وجهة نشاطها وطبيعتها.

من أجل ذلك نقول :

إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد عامل هؤلاء الناس بأخلاق النبوة ، حيث ابقاهم بالقرب منه ، ولم يتخذ أي إجراء ضدهم ، يقوم على اساس استغلال ضعفهم ، وخوفهم ، لأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يريد ان يعطيهم فرصة ليعيشوا التأمل في حركة الأحداث ، وفي الرعاية الإلهية لمسيرة أهل الإيمان ، مع إبقاء الوضع القائم مع هذه القبيلة تحت السيطرة ، في الوقت الذي يكون قد حسم أمر عدم مشاركتها العلنية في أي نشاط عسكري ضد المسلمين. خصوصا وأن هذه الموادعة تفتح الطريق ، وتعطيه الحق بإنزال ضربات حاسمة بحقها ، لو أرادت ذلك لأنها تكون قد نقضت عهدا ، ومارست خيانة لعهد هي التي طلبته ، وصنعته بملء اختيارها ، ومن دون أي إكراه ، أو إلجاء.

وفود بني عامر بن صعصعة :

عن ابن عباس ، وسلمة بن الأكوع ، وابن إسحاق قالوا : قدم على

٢٦٠