الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-199-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٤

والحديث في أن عبد المطلب يحشر وعليه سيماء الأنبياء وهيبة الملوك (١) ، وأنه كان حجة ، وأنه من أوصياء إبراهيم «عليه‌السلام» (٢) ، والحديث عن أن أبا طالب كان من الأوصياء ، وأن وصايا عيسى «عليه‌السلام» قد تناهت إليه (٣) ، وغير ذلك كثير.

ولا نعرف لبني المنتفق شيئا من ذلك ..

ثالثا : إذا كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقرر أن بني المنتفق من أتقى الناس .. فلا يجوز إيذاؤهم بذكر أمواتهم ، ولا السكوت عن هذا الإيذاء ، فما معنى أن يقول ذلك القرشي : إن المنتفق في النار؟! .. حيث لم يعترض عليه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنه ليس له أن يقول هذا ، لأن ذلك يؤذي الأحياء ، وقد نهى «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن مثله .. حسبما

__________________

(١) راجع : الكافي ج ١ ص ٤٤٧ وشرح أصول الكافي ج ٧ ص ١٧١ والبحار ج ١٥ ص ١٥٧ وج ٣٥ ص ١٥٦ وج ١٠٨ ص ٢٠٥ وموسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم‌السلام» للشيخ هادي النجفي ج ١٢ ص ٩٢ وشرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٤ ص ٦٨ والحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب لفخار بن معد الموسوي ص ٥٦ وموسوعة التاريخ الإسلامي لليوسفي ج ١ ص ٢٤٢ والدر النظيم لابن حاتم العاملي ص ٤٠ و ٧٩٧ عن كتاب مدينة العلم.

(٢) راجع : الإعتقادات في دين الإمامية للصدوق (طبع المطبعة العلمية ، قم سنة ١٤١٢ ه‍) ص ٨٥ و (ط دار المفيد) ص ١١٠ والبحار ج ١٥ ص ١١٧ وج ١٧ ص ١٤٢ وج ٣٥ ص ١٣٨ والخصائص الفاطمية للكجوري ج ٢ ص ٦٢ ومكيال المكارم ج ١ ص ٣٦٩ ، والغدير ج ٧ ص ٣٨٥.

(٣) راجع : المحاسن للبرقي ج ١ ص ٢٣٥ والبحار ج ١٧ ص ١٤٢ والغدير ج ٧ ص ٣٨٥ ونفس الرحمن للطبرسي ص ٥١ وإيمان أبي طالب للأميني ص ٧٦.

٢٠١

قدمناه في الجزء الثاني من هذا الكتاب ..

٢ ـ قدوم الجارود بن المعلى ، وسلمة بن عياض :

قال أبو عبيدة معمر بن المثنى : قدم الجارود العبدي على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ومعه سلمة بن عياض الأسدي ، وكان حليفا له في الجاهلية. وذلك أن الجارود قال لسلمة : إن خارجا خرج بتهامة يزعم أنه نبي ، فهل لك أن نخرج إليه؟ فإن رأينا خيرا دخلنا فيه ، فإنه إن كان نبيا فللسابق إليه فضيلة ، وأنا أرجو أن يكون النبي الذي بشّر به عيسى بن مريم.

وكان الجارود نصرانيا قد قرأ الكتب.

ثم قال لسلمة : «ليضمر كل واحد منا ثلاث مسائل يسأله عنها ، لا يخبر بها صاحبه ، فلعمري لئن أخبر بها إنه لنبي يوحى إليه».

ففعلا. فلما قدما على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال له الجارود : بم بعثك ربك يا محمد؟

قال : «بشهادة ألا إله إلا الله ، وأني عبد الله ورسوله ، والبراءة من كل ند أو وثن يعبد من دون الله تعالى ، وإقام الصلاة لوقتها ، وإيتاء الزكاة بحقها ، وصوم شهر رمضان ، وحج البيت ، (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١).

قال الجارود : إن كنت يا محمد نبيا فأخبرنا عما أضمرنا عليه.

فخفق رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كأنها سنة ثم رفع رأسه ، وتحدر

__________________

(١) الآية ٤٦ من سورة فصلت.

٢٠٢

العرق عنه ، فقال : «أما أنت يا جارود فإنك أضمرت على أن تسألني عن دماء الجاهلية ، وعن حلف الجاهلية ، وعن المنيحة ، ألا وإن دم الجاهلية موضوع ، وحلفها مشدود. ولم يزدها الإسلام إلا شدة ، ولا حلف في الإسلام ، ألا وإن الفضل الصدقة أن تمنح أخاك ظهر دابة أو لبن شاة ، فإنها تغدو برفد ، وتروح بمثله.

وأما أنت يا سلمة ، فإنك أضمرت على أن تسألني عن عبادة الأصنام ، وعن يوم السباسب ، وعن عقل الهجين ، فأما عبادة الأصنام فإن الله تعالى يقول : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (١).

وأما يوم السباسب ، فقد أعقب الله تعالى منه ليلة بلجة سمحة ، لا ريح فيها ، تطلع الشمس في صبيحتها ، لا شعاع لها.

وأما عقل الهجين ، فإن المؤمنين إخوة تتكافأ دماؤهم ، يجير أقصاهم على أدناهم ، أكرمهم عند الله أتقاهم».

فقالا : نشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنك عبد الله ورسوله.

وعند ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن الحسن : أن الجارود لما انتهى إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كلمه ، فعرض عليه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الإسلام ، ورغّبه فيه.

فقال : يا محمد ، إني كنت على دين ، وإني تارك ديني لدينك ، أفتضمن لي ديني؟

فقال له رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «نعم أنا ضامن أن قد هداك

__________________

(١) الآية ٩٨ من سورة الأنبياء.

٢٠٣

الله إلى ما هو خير منه». فأسلم وأسلم أصحابه.

ثم سأل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الحملان ، فقال : «والله ما عندي ما أحملكم عليه».

فقال : يا رسول الله ، فإن بيننا وبين بلادنا ضوال من ضوال الناس ـ وفي لفظ المسلمين ـ أفنتبلغ عليها إلى بلادنا؟

قال : «لا ، إياك وإياها ، فإنما تلك حرق النار» ..

زاد في نص آخر : فقال : «يا رسول الله ، ادع لنا أن يجمع الله قومنا».

فقال : «اللهم اجمع لهم ألفة قومهم ، وبارك لهم في برهم وبحرهم».

فقال الجارود : يا رسول الله ، أي المال أتّخذ ببلادي؟

قال : «وما بلادك»؟

قال : مأواها وعاء ، ونبتها شفا ، وريحها صبا ، ونخلها غواد.

قال : «عليك بالإبل ، فإنها حمولة ، والحمل يكون عددا. والناقة ذودا».

قال سلمة : يا رسول الله ، أي المال أتّخذ ببلادي؟

قال : «وما بلادك»؟

قال : مأواها سباح ، ونخلها صراح ، وتلاعها فياح.

قال : «عليكم بالغنم ، فإن ألبانها سجل ، وأصوافها أثاث ، وأولادها بركة ، ولك الأكيلة والربا».

فانصرفا إلى قومهما مسلمين.

وعند ابن إسحاق : فخرج من عنده الجارود راجعا إلى قومه ، وكان حسن الإسلام ، صليبا على دينه حتى مات ، ولما رجع من قومه من كان أسلم منهم إلى دينه الأول مع الغرور بن المنذر بن النعمان بن المنذر ، قام

٢٠٤

الجارود فشهد شهادة الحق ، ودعا إلى الإسلام ، فقال : أيها الناس ، إني أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأكفّر من لم يشهد.

وقال الجارود :

شهدت بأن الله حق (وإنما)

بنات فؤادي بالشهادة والنهض

فأبلغ رسول الله عني رسالة

بأني حنيف حيث كنت من الأرض

وأنت أمين الله في كل خلقه

على الوحي من بين القضيضة والقض

فإن لم تكن داري بيثرب فيكم

فإني لكم عند الإقامة والخفض

أصالح من صالحت من ذي عداوة

وأبغض من أمس على بغضكم بغضي

وأدني الذي واليته وأحبه

وإن كان في فيه العلاقم من بغض

أذب بسيفي عنكم وأحبكم

إذا ما عدوكم في الرفاق وفي النقض

واجعل نفسي دون كل ملمة

لكم جنّة من دون عرضكم عرضي

وقال سلمة بن عياض الأسدي :

رأيتك يا خير البرية كلها

نشرت كتابا جاء بالحق معلما

شرعت لنا فيه الهدى بعد جورنا

عن الحق لما أصبح الامر مظلما

فنورت بالقرآن ظلمات حندس

وأطفأت نار الكفر لما تضر ما

تعالى علو الله فوق سمائه

وكان مكان الله أعلى وأكرما

وعن عبد الله بن عباس : أن الجارود أنشد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين قدم عليه في قومه :

يا نبي الهدى أتتك رجال

قطعت فدفدا وآلا فآلا

٢٠٥

وطوت نحوك الصحاصح طرا

لا تخال الكلال فيه كلالا

كل دهناء يقصر الطرف عنها

أرقلتها قلاصنا إرقالا

وطوتها الجياد تجمح فيها

بكماة كأنجم تتلالا

تبتغي دفع بؤس يوم عبوس

أوجل القلب ذكره ثم هالا (١)

وقع في العيون : الجارود بن بشر بن المعلى. قال في النور : والصواب : حذف [ابن] يبقى الجارود بشر بن المعلى (٢).

إقتراح المعجزة :

والذي نريد لفت النظر إليه في هذه القصة هو : أن المعجزة الخالدة لنبينا الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هي القرآن الكريم.

كما أن من المعلوم : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بتوجيه من الله تعالى ، لم يكن يستجيب لمطالب المشركين التعجيزية. وقد صرح القرآن بذلك ، مستدلا على صحة هذا الموقف بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بشر رسول ..

قال تعالى : (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٠٣ ـ ٣٠٥ وراجع : الإصابة ج ١ ص ٢١٦ و ٢١٧ ، والبحار ج ١٨ ص ٢٩٤ وج ٢٦ ص ٢٩٩.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٠٥.

٢٠٦

عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) (١).

ولكننا نراه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يستجيب هنا لما يطلبه الجارود العبدي ، وسلمة بن عياض من إخبارهما بما نوياه. فلماذا يستجيب هنا ، ويكون لابد من رفض الإستجابة هناك ، وفقا للتوجيه الإلهي؟!

ويمكن أن يجاب : بأن طلبات المشركين التي تحدثت الآيات عنها كانت تهدف إلى الإستفادة من تلبيتها في تضليل الناس ، لأن المشركين سيضعونها في سياق إثبات ما يدّعونه من ضرورة أن يكون الأنبياء من سنخ آخر غير سنخ البشر ، وأن البشرية لا تتلاءم مع النبوة ، أو في سياق اتهامه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالسحر والكهانة.

وهذا يوضح لنا سبب أمر الله تعالى نبيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأن يقول لهم : (.. قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)؟!

ويؤيد ذلك أيضا قوله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٢).

ويلاحظ : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين لا يستجيب لطلبهم هذا يوضح للناس : أن هدفهم هو مجرد التعجيز ، وليس لديهم نية الإنصياع لمقتضاه لو استجيب لهم ، لأن المطلوب إن كان هو رؤية المعجزة ، فإن نفس هذا القرآن متضمن لها ، فقد قال تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ

__________________

(١) الآيات ٩١ ـ ٩٣ من سورة الإسراء.

(٢) الآية ٧ من سورة الأنعام.

٢٠٧

أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١).

أي أنهم لو رجعوا إلى عقولهم لوجدوا في هذا القرآن ما يدفع عنهم أية شبهة ، ويزيل كل ريب ولزالت جميع المبررات لطلباتهم التعجيزية ، لو كانوا يريدون أن يجدوا ما يحتم عليهم الإيمان ، ويدعوهم إلى البخوع للحق .. كما أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أظهر لهم من المعجزات ما لا يقل عما يطلبونه منه ، فلماذا لم يؤمنوا؟

والخلاصة : أنه لا مجال لأن يستجيب لطلبهم حين تسهم استجابته هذه في تكريس مفهوم خاطئ عن طبيعة النبي والنبوة ، أو إذا كان يمكّنهم من التأثير السلبي على بعض السذج أو الغافلين الذين قد لا يتيسر إخراجهم من غفلتهم بسبب عدم إمكان الوصول إليهم ، أو لأي سبب آخر ، فتستحكم الشبهة لديهم ، ويؤدي بهم ذلك إلى الإغراق في الضلال ، أو الخروج عن دائرة الإستقامة على طريق الحق والهدى بالكلية.

والأهم من ذلك هو : أن الطلب الذي رفض ، قد تضمن أمورا كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد فعلها ، وتحدث القرآن عن بعضها ، مثل قضية المعراج إلى السماوات .. كما أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وكذلك الأئمة الطاهرون «عليهم‌السلام» قد فجروا الينابيع ، وشق الله القمر لهم نصفين ، وردّ الشمس لعلي «عليه‌السلام» إلى غير ذلك مما صنعه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وكذلك صنعه للأنبياء «عليهم‌السلام» من قبله ..

ولكن ما صنعه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من معجزات ، منه ما كان بمبادرة

__________________

(١) الآية ١٠ من سورة الأنبياء.

٢٠٨

منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لمصلحة اقتضت ذلك ، ولم يقترحه الناس عليه ، ومنه ما كان استجابة لطلب بعض الناس ، بهدف تحصيل اليقين بالنبوة ..

وربما يكون قد ظهر للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن طالب المعجزة كان غير قادر على إدراك إعجاز المعجزة الكبرى الخالدة ، وهي القرآن لسبب أو لآخر ..

وربما يكون قد ساعد على ذلك طبيعة المطلوب ، وحجمه ومداه ، فإنهم إنما طلبوا منه أن يخبرهم بما أضمروه لا أكثر .. ولو أنهم كانوا بصدد الجحود والكيد له ، لادّعوا أنهم قد أضمروا غير ما أخبرهم به.

حلف الجاهلية مشدود ، ولا حلف في الإسلام :

وقد تقدم : أن حلف الجاهلية مشدود ، وأنه لا حلف في الإسلام ، ولعلنا قد أشرنا في ثنايا هذا الكتاب إلى أن حلف الجاهلية المشدود هو الحلف القائم على دفع الظلم ، وعلى التناصر في الحق ، ومواجهة وصد من يريد التعدي ، ويسعى في الفساد والإفساد ..

ولا يصح أن يتحالف المسلم مع مسلم آخر ضد مسلم ثالث .. لأن الإسلام يمنع من الظلم ، و (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) (١) ، لأن هذه الآية توجب التناصر ضد الظلم ، فيرتفع بذلك موضوع التحالف ، إذا كان المراد به التحالف على ظلم الآخرين ، والعدوان والبغي عليهم.

__________________

(١) الآية ٩٠ من سورة النحل.

٢٠٩

ليلة القدر في الإسلام :

وقد وصفت الرواية المتقدمة ليلة القدر بأنها : «ليلة بلجة سمحة ، لا ريح فيها ، تطلع الشمس في صبيحتها ، لا شعاع لها ..».

غير أن هذا الوصف لا يتتطابق مع المروي عن الأئمة الطاهرين من أهل البيت «عليهم‌السلام» ، فقد روى محمد بن مسلم عن أحدهما ـ الباقر أو الصادق «عليهما‌السلام» ـ قال : «علامتها أن يطيب ريحها ، وإن كانت في برد دفئت ، وإن كانت في حر بردت ، فطابت الخ ..» (١).

فإن مفاد هذه الرواية : أن في ليلة القدر ريحا ، ولكنه طيب.

وأما أنها بلجة أو سمحة أو أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها ، فلم نجده فيما بين أيدينا من روايات عن أهل البيت «عليهم‌السلام» ..

يضاف إلى ذلك : أن المشاهدة المستمرة عبر السنين المتطاولة لليالي شهر رمضان لا تؤيد هذه الأوصاف ، ولا سيما فيما يرتبط بالشمس وشعاعها ،

__________________

(١) الوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٠ ص ٣٥٠ و (ط دار الإسلامية) ج ٧ ص ٢٥٦ ، والكافي ج ٤ ص ١٥٧ ومن لا يحضره الفقيه ج ٢ ص ١٠٢ ، ومنتهى المطلب (ط. ق) للعلامة الحلي ج ٢ ص ٦٢٦ ، ومشارق الشموس (ط. ق) للمحقق الخوانساري ج ٢ ص ٤٤٦ ، والحدائق الناضرة للبحراني ج ١٣ ص ٤٤٠ ، ودعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي ج ١ ص ٢٨١ ، ومن لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج ٢ ص ١٥٩ ، ومستدرك الوسائل ج ٧ ص ٤٦٨ ، وإقبال الأعمال للسيد ابن طاووس ج ١ ص ١٥٢ ، والبحار ج ٩٤ ص ٩ ، والتفسير الصافي للفيض الكاشاني ج ٥ ص ٣٥٢ وج ٧ ص ٥٢١ ، وتفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٦٢٣ ، ومنتقى الجمان لصاحب المعالم ج ٢ ص ٥٧٠.

٢١٠

فإنها لا تكون ذات شعاع في مختلف الأيام التي تكون ليلتها في محتملات ليلة القدر ..

فضلا عن يوم السابع والعشرين من شهر رمضان ، فإنه أيضا لا يختلف عن سائر الأيام في ذلك ..

كفاه ضمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وإنه لمن الأمور الهامة جدا أن نقرأ عن الجارود العبدي : أنه يرضى بترك دينه ، والدخول في دين آخر اعتمادا على ضمان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه ..

والأهم من ذلك : أنه انتقل إلى دين يدعو إليه نفس الشخص الضامن ، ويقدم نفسه للناس على أنه النبي له مع العلم بأن الجارود العبدي لم يكن إنسانا مغفلا ، ولا طائشا ، فإنه كان سيد قبيلة عبد القيس (١) ، وسادة القبائل يكونون عادة أكثر وعيا ونباهة من غيرهم ..

وهذه القضية إن دلت على شيء فهي تدل على مدى قبول الناس لشخص رسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من خلال ما عرفوه عنه ، وما لمسوه فيه من ميزات إنسانية ، ومن صدق والتزام واستقامة على طريق الحق والخير.

وتبقى استفادات أخرى من النص المتقدم نصرف النظر عن ذكرها ، فقد تقدم منا بعض ما يشير إليها. ومن ذلك ما نلاحظه من أن الجارود يسأل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن أي مال يتخذه ببلاده ، أي أنه يرى أن

__________________

(١) الإصابة ج ١ ص ٢١٦ ، وإكمال الكمال لابن ماكولا ج ٦ ص ١٣٤ ، وتهذيب التهذيب ج ٢ ص ٤٧ ، وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٣ ص ٢٣٨.

٢١١

المفروض بالنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يكون عالما بمثل هذه الأمور أيضا ، ويستجيب «صلى‌الله‌عليه‌وآله» له على النحو المذكور ، ولم يقل له : إن ذلك ليس من اختصاصي .. فراجع.

٣ ـ وفادة الحارث بن حسان :

عن الحارث بن حسان البكري قال : خرجت أشكو العلاء الحضرمي إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فمررت بالربذة ، فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها ، فقالت : يا عبد الله ، إن لي إلى رسول الله حاجة ، فهل أنت مبلغي إليه؟

قال : فحملتها ، فأتيت المدينة ، فإذا المسجد غاص بأهله ، وإذا راية سوداء تخفق ، وبلال متقلد السيف بين يدي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقلت : ما شأن الناس؟

قالوا : يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها.

قال : فجلست ، فدخل منزله ، فاستأذنت عليه ، فأذن لي. فدخلت فسلمت ، فقال : «هل كان بينكم وبين تميم شيء»؟

قلت : نعم ، وكانت الدائرة عليهم ، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها ، فسألتني أن أحملها إليك ، وها هي بالباب.

فأذن لها فدخلت.

فقلت : يا رسول الله ، إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزا ، فاجعل الدهناء.

فحميت العجوز واستوفزت ، وقالت : يا رسول الله ، أين يضطر مضرك؟

٢١٢

قال الحارث : قلت : إن مثلي ما قال الأول : معزى حملت حتفها ، حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما ، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد.

قالت هي : وما وافد عاد؟ وهي أعلم بالحديث منه ، ولكن تستطعمه.

قلت : إن عادا قحطوا فبعثوا وافدا لهم. فمر بمعاوية بن بكر. فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر ، وتغنيه جاريتان يقال لهما : الجرادتان.

فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مهرة فقال : اللهم إنك تعلم (أني) لم أجئ إلى مريض فأداويه ، ولا إلى أسير فأفاديه ، اللهم اسق ما كنت تسقيه. فمرت به سحابات سود ، فنودي منها : اختر ، فأومأ إلى سحابة منها سوداء ، فنودي منها : خذها رمادا رمددا ، لا تبق من عاد أحدا.

قال : فما بلغني أنه أرسل عليهم من ريح إلا بقدر ما يجري في خاتمي هذا حتى هلكوا.

قال أبو وائل : وكانت المرأة أو الرجل إذا بعثوا وافدا لهم قالوا : لا يكن كوافد عاد (١).

ونقول :

الشكوى من العمال :

قد أظهر هذا النص : كيف أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد فتح أمام الناس أبواب الشكوى من عماله. وهذا أمر هام وحساس للغاية ، لأنه مما تقتضيه سنة الإنصاف والعدل ، وتوجبه مسؤولية حفظ وصيانة الشأن

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣١٨ و ٣١٩ عن أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، والبداية والنهاية لابن كثير ج ٥ ص ٩٩.

٢١٣

العام من أي تعد وإفساد ، لأن الفساد آفة الدول ، ومن موجبات وهنها وسقوطها ..

وأما استياء العمال من الشاكين ، فهو لا يضر ما دام أنه بلا مبرر ، وغاية ما يحدثه من أثر هو إفساد علاقتهم ببعض الأفراد ، ويقابل ذلك منافع عظمى تبدأ بحفظ أولئك العمال أنفسهم من الإساءة والخطأ ، وتنتهي بحفظ الدولة والرعية من الظلم والفساد ..

الراية السوداء :

إن الراية التي رآها الحارث بن حسان كانت سوداء ، وقد ذكرنا : أن الراية السوداء كانت ترفع حين تكون الحرب مع الكافرين والمشركين ..

الإهتمام بأخبار الفئات :

إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يمهل الحارث حتى يفصح له عن حاجته ، بل هو قد بادره بالسؤال عن حالهم مع بني تميم ، إن كان قد حصل شيء بين الفريقين ، وهذا يفصح عن شدة اهتمام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بمتابعة ما يجري بين الفئات المختلفة ، وهو يعرّف الناس : أنه معنيّ جدا بما جرى ..

حياد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

ويلاحظ : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يتدخل بين تلك التميمية وبين الحارث بن حسان .. بل اكتفى بالسماع .. ربما لأنه رأى أن ثمة تكافؤا في الحوار فيما بينهما .. وأن العجوز لم تظلم الحارث حين اعترضت عليه ،

٢١٤

لأنها رأت أن جعل الدهناء هي الحاجز بين الفريقين مضر بحال قومها ، ربما لأنه يمنعهم من الوصول إلى مواضع يحتاجون إلى الوصول إليها ..

ولعلها قد لاحظت أيضا : أنه بصدد التشفي بقومها حين أضاف بلا مبرر ظاهر قوله : «وكانت الدائرة عليهم» ، حيث لم يسأله النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن نتيجة ما جرى ، بل سأله عن أصل حدوث شيء ..

كما أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يلاحظ : أن لدى الحارث نوايا سيئة وراء طلبه هذا ، فهو إنما أراد أن يحجز بين الفريقين ليحقن الدماء ، ولم يكن يقصد الإضرار بتميم فيما يرتبط بمعاشها ، أو في حريتها بالتنقل والتقلب في البلاد المختلفة للتجارة أو لسواها ..

٤ ـ وفود جهينة :

عن أبي عبد الرحمن المدنيّ قال : لما قدم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المدينة وفد إليه عبد العزّى بن بدر الجهنيّ ، من بني الرّبعة بن زيدان بن قيس بن جهينة ، ومعه أخوه لأمه أبو روعة ، وهو ابن عمّ له. فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعبد العزّى : «أنت عبد الله».

ولأبي روعة : «أنت رعت العدو إن شاء الله».

وقال : «من أنتم»؟.

قالوا : «بنو غيّان».

قال : «أنتم بنو رشدان». وكان اسم واديهم غوى ، فسمّاه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ رشدا ـ وقال لجبلي جهينة : «الأشعر والأجرد : هما من جبال الجنة ، لا تطؤهما فتنة». وأعطى اللواء يوم الفتح عبد الله بن بدر ،

٢١٥

وخط لهم مسجدهم ، وهو أول مسجد خط بالمدينة (١).

وقال عمرو بن مرة الجهني : كان لنا صنم وكنا نعظمه وكنت سادنه ، فلما سمعت برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كسرته وخرجت حتى أقدم المدينة على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأسلمت وشهدت شهادة الحق ، وآمنت بما جاء به من حلال وحرام ، فذلك حين أقول :

شهدت بأن الله حق وأنني

لآلهة الأحجار أول تارك

وشمرت عن ساق الأزار مهاجرا

إليك أجوب الوعث بعد الدكادك

لأصحب خير الناس نفسا ووالدا

رسول مليك الناس فوق الحبائك

قال : ثم بعثه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام ، فأجابوه إلا رجلا واحدا ، رد عليه قوله ، فدعا عليه عمرو بن مرة فسقط فوه فما كان يقدر على الكلام ، وعمي ، واحتاج (٢).

وعن عمران بن حصين قال : سمعت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقول : «جهينة مني وأنا منهم ، غضبوا لغضبي ورضوا لرضائي ، أغضب لغضبهم. من أغضبهم فقد أغضبني ، ومن أغضبني فقد أغضب الله» (٣).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣١٦ عن ابن سعد ، والطبقات الكبرى ج ١ ص ٣٣٣.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣١٦ عن ابن سعد ، والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٣٣٣ و ٣٣٤ ، وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٦ ص ٣٤٣ ، والبداية والنهاية ج ٢ في حاشية ص ٣٩٢.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣١٦ وفي هامشه عن : المعجم الكبير للطبراني ج ١٨ ص ١٠٨ وج ١٩ ص ٣١٧ ، ومجمع الزوائد ج ٨ ص ٤٨ ، ومجمع الزوائد ج ١٠ ص ٤٨ ، والآحاد والمثاني للضحاك ج ٥ ص ٣٠ ، وكنز العمال ج ١٢ ص ٦٣.

٢١٦

ونقول :

قد تكلمنا في أكثر من مرة عن موضوع تغيير الأسماء ، وأشرنا إلى تأثيراتها على الروح والنفس ، فلا حاجة إلى الإعادة ، غير أننا نشير هنا إلى الأمور التالية :

الأشعر والأجرد من جبال الجنة :

إذا صح أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قال عن جبلي جهينة الأشعر والأجرد : «إنهما من جبال الجنة» ، فالمفروض أن يصبحا مزارا للناس للتبرك بهما ، أو رؤيتهما ، والتقرب إلى الله بالصلاة والدعاء عليهما ، تماما كما كانوا يقصدون ما بين قبره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ومنبره لأجل ذلك ، لأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ، ومنبري على ترعة من ترع الجنة» (١). مع أن هذين الجبلين لا يعرفان ،

__________________

(١) معاني الأخبار ص ٢٦٧ ومن لا يحضره الفقيه ج ٢ ص ٥٦٨ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٤ ص ٣٤٥ و ٣٦٩ و (ط دار الإسلامية) ج ١٠ ص ٢٧٠ و ٢٨٨ و ٢٨٩ والمزار لابن المشهدي ص ٧٦ والبحار ج ٩٧ ص ١٩٢ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٢ ص ٢٤٣ و ٢٥٥ و ٢٦١ وقاموس الرجال للتستري ج ١٢ ص ٣٣٣ وشفاء السقام للسبكي ص ٢٨٨ وتطهير الفؤاد لمحمد بخيت المطيعي ص ٣ و ١٣٢ وفي عمدة القاري ج ٧ ص ٢٦٢ و ٢٦٣ نزعة من نزع الجنة ، وراجع : مسند أحمد ج ٢ ص ٤١٢ و ٥٣٤ ومجمع الزوائد ج ٤ ص ٩ وتأويل مختلف الحديث ص ١١٣ ومسند أبي يعلى ج ١ ص ١٠٩ وج ٣ ص ٣٢٠ و ٤٦٢ التمهيد لابن عبد البر ج ١٧ ص ١٧٩ وكنز العمال ج ١٢ ص ٢٦٠ و ٢٦١ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ٦١٩.

٢١٧

ويضطرب الناس في تحديد موقعهما ..

مسجد جهينة :

أما دعوى : أن وفادة جهينة على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كانت في أول الهجرة ، وأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد خط لهم مسجدهم ، فكان أول مسجد خط في المدينة (١). فلا نكاد نطمئن لها ، لأننا نستبعد وفادة أي من القبائل في هذا الوقت المبكر جدا.

ولأننا لا ندري إن كانت جهينة تسكن في داخل المدينة ، لتحتاج إلى مسجد ، يخطه لها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أم أنها كانت بالقرب منها هي ومزينة ، وأسلم وغفار.

أما إن كان المقصود : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» اختط لهم مسجدا في منطقتهم خارج المدينة ، فلا يكون مسجدهم أول مسجد اختطه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لأن مسجد قباء كان هو الأسبق في ذلك.

يرضى الله لرضا جهينة ، ويغضب لغضبها :

تقدم ثناء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على جهينة بقوله : «جهينة مني وأنا منهم ، غضبوا لغضبي ورضوا لرضائي ، أغضب لغضبهم. من أغضبهم فقد أغضبني ، ومن أغضبني فقد أغضب الله».

وتقدم أيضا : ثناؤه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على جبلي جهينة : الأشعر

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣١٦ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٣٣٣ ومحاضرة الأوائل ص ٩٤ عن أوائل السيوطي.

٢١٨

والأجرد ، وأنهما من جبال الجنة ، لا تطؤهما فتنة ..

ونقول :

إننا لا نرتاب في أن ذلك مكذوب على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وذلك لما يلي :

أولا : إن جهينة ـ كما صرح به عكرمة ـ كانت من قبائل النفاق التي تسكن بالقرب من المدينة ، كما قال عكرمة في تفسير قوله تعالى : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) (١). قال : هم جهينة ومزينة ، وأسلم وغفار (٢).

ثانيا : إن هذا الحديث يدل على عصمة جهينة ، لأن من يغضب الله ورسوله لغضبهم ، يجب أن يكونوا معصومين في جميع أحوالهم ، لأن من يفعل المنكر ويترك المعروف ، لا بد أن ينهاه الآخرون عن المنكر ، وأن يأمروه بالمعروف ، حتى لو غضب من ذلك ، ومن يكون كذلك فلا يغضب الله لغضبه ، إلا أن يكون الله سبحانه يرضى بفعل المنكر وترك المعروف ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ..

ثالثا : إن ظاهر قوله : «غضبوا لغضبي» : أن جهينة قد غضبت لغضب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ورضوا لرضاه ، وهذا خبر عن أمر حصل ، فالسؤال هو : متى غضبت جهينة لغضبه ، ورضيت لرضاه «صلى الله عليه

__________________

(١) الآية ١٠١ من سورة التوبة.

(٢) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٧١ عن ابن المنذر.

٢١٩

وآله»؟ وفي أية قضية كان ذلك؟! وما هي وقائع تلك القضية؟! فإنها لابد أن تكون على درجة كبيرة من الخطورة.

وهل لم يغضب أحد من المسلمين فيها لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سوى جهينة؟! فان كان الجواب بالإيجاب ، فلماذا لم يذكر في هذا السياق سوى جهينة؟! وإن كان الجواب بالسلب ، فلماذا أحجموا عن نصرة نبيهم؟!

جهينة مني ، وأنا منهم :

والذي أراه هو : أن هذا المفتري على الله وعلى رسوله ، إما أنه كان على درجة من الغباء ، أو أن الله سبحانه قد أعمى قلبه ، وطمس على بصيرته ، على قاعدة (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١).

فإن من يريد أن يفتري ويختلق ، لابد أن لا يكون ما يختلقه ظاهر الخطل والبطلان .. فلا يصح أن يدعي مثلا : أن المسك سيء الرائحة ، ولا أن يقول : إن الذهب خشب ، والتفاحة دجاجة ، وما إلى ذلك .. فإن فعل ذلك ، فقد سعى إلى حتفه بظلفه ، وفضح نفسه بنفسه ، وإنما على نفسها جنت براقش (٢).

والأمر في هذا الحديث المفترى قد جاء على نفس السياق ، إذ لا يمكن

__________________

(١) الآية ٧ من سورة البقرة.

(٢) فإن قوما غزاهم عدوهم ليلا ، فلم يجدهم ، فعزم على الرجوع ، وإذ بكلبة لهم اسمها براقش تنبح ، فعرف مكانهم ، فأوقع بهم ، وقتلت تلك الكلبة أيضا ، فقيلت هذه الكلمة في ذلك.

٢٢٠