الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-199-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٤

ونقول :

كنا قد ذكرنا في أكثر من موضع : أن الناس كانوا يرون أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا بد أن يكون قادرا على شفائهم من كل عاهة ، وأنه ينزل الغيث ، ويخبر بالغائبات وما إلى ذلك ، ولم يكن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يسجل أي تحفظ على فهمهم هذا ، بل هو يستجيب إلى ما كانوا يطلبونه منه في هذا السياق .. وقد ذكر آنفا بعض ما يرتبط بذلك. ويبقى أن نشير هنا إلى ما يلي :

لا يكمل إسلامه إلا بأكل القلب :

قد يناقش البعض بأنه لا يجد وجها للقول المنسوب إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للجعفيين : «لا يكمل إسلامكما إلا بأكل القلب» ، ثم شوى لهما قلبا وأطعمهما منه ..

ونجيب : بأن المقصود أن تحريم أي شيء مما أحله الله تعالى معناه : أن ثمة نقصا في إسلام من يحرم ذلك ، وتمام الإسلام وكماله إنما هو بالتسليم التام ، والقبول بكل ما جاء به النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. ولا يريد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يقول : إن لأكل القلب خصوصية في الإسلام.

وقد كان لا بد من أن يرفع الحرج الناشئ عن رواسب الجاهلية ، فلأجل ذلك أطعمهما فعلا من قلب شواه لهما .. فإن من السهل على الإنسان أن يعلن قبوله بالشيء ، ولكنه حين يواجه به ، ويريد أن يصدق قوله بفعله تجده يصد عن ذلك ، وتأبى نفسه الإنصياع ..

ولذلك أرعدت يد سلمة بن يزيد حين ناوله النبي «صلى الله عليه

١٨١

وآله» القلب المشوي ليأكله .. ولو أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يواجهه بهذا الأمر ، فلربما يؤدي التزامه بأمر الجاهلية إلى أن يستقر هذا الأمر الخاطئ في داخل نفسه من جديد ، ولربما يضاف إليه أمور جاهلية أخرى ، إلى أن ينتهي به الحال إلى العودة إلى ما كان عليه قبل إسلامه ..

ادع إلى سبيل ربك بالحكمة :

وقد زعمت الرواية المتقدمة : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أخبر ذينك الرجلين بأن أمهما في النار ، بعد أن أطعمهما القلب ، فلما غضبا أضاف أمه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى أمهما ، فحكم عليها أنها في النار أيضا استرضاء لهما ، ولكنهما لم يقبلا منه وذهبا ..

ولسنا بحاجة إلى القول : بأن أساس الرواية مشكوك ، فإن هذه الطريقة التي نسب إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أنه عامل بها ذينك الرجلين ، ليست من مصاديق الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، بل هي قد أدت إلى تنفير هذين الرجلين من الإسلام ، وصدودهما عنه ، رغم زعمهم أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد واساهما بنفسه بإضافة أمه إلى أمهما ، فلاحظ الفقرة التالية :

الموؤودة في النار ، وأمي مع أمكما :

قد ذكر النص المتقدم : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «الوائدة والموؤودة في النار ، فقام قيس بن سلمة ، وقيس بن يزيد وهما مغضبان ، فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : وأمي وأمكما في النار».

١٨٢

ونقول :

إننا لا نرتاب في كذب هذه المزعمة ، وذلك لما يلي :

أولا : قد تقدم في الجزء الثاني من هذا الكتاب في فل : «بحوث تسبق السيرة» إثبات إيمان آباء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقد ألف السيوطي كتبا ورسائل في إثبات ذلك ، مثل كتاب : التعظيم والمنة في أن أبوي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في الجنة. ونشر العلميين المنيفين ، وغير ذلك. فراجع ما ذكرناه هناك ..

ثانيا : إنه لا ريب في أن العقل يقبح عقوبة البريء ، البالغ العاقل ، فهل يمكن أن يرضى بتعذيب الأبرياء من الأطفال؟ فكيف إذا كانوا صغارا لا يملكون من الإدراك ما يصحح مؤاخذتهم بشيء؟!

ثالثا : إن الآيات قد صرحت : بأنه لا عذاب على الولدان ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً ، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) (١).

رابعا : روي عن ابن عباس في الموؤودة قوله : «فمن زعم أنهم في النار فقد كذب» (٢).

__________________

(١) الآيتان ٩٧ و ٩٨ من سورة النساء.

(٢) الدر المنثور ج ٦ ص ٣١٩ عن عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وتفسير ابن أبي حاتم ج ١٠ ص ٣٤٠٤ و ٣٤٠٦ ، وتفسير إبن كثير ج ٤ ص ٥٠٩.

١٨٣

خامسا : عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «رفع القلم عن ثلاثة : الصبي ، والمجنون ، والنائم» ونحوه غيره (١).

__________________

(١) راجع : الإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ٣ ص ٧٣ وكنز العمال ج ٣ ص ٥٩ وتذكرة الخواص ص ١٥٧ والمناقب للخوارزمي ص ٤٨ وسنن أبي داود ج ٤ ص ١١٤ و ١٤٠ وفرائد السمطين ج ١ ص ٦٦ وذخائر العقبى ص ٨١ والغدير ج ٦ ص ١٠٢ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٦٥٩ والمستدرك للحاكم ج ٢ ص ٥٩ وج ٤ ص ٣٨٩ وجامع الأصول ج ٤ ص ٢٧١ وتيسير الوصول ج ٢ ص ٨ والرياض النضرة ج ٣ ص ١٤٤ وحاشية الحفنى على الجامع الصغير ج ٢ ص ٢٥٨ ومصباح الظلام ج ٢ ص ١٣٦ وفتح الباري ج ١٢ ص ١٢١ وعمدة القاري ج ٢٣ ص ٢٩٢ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٨ ص ٢٦٤ وإرشاد الساري ج ٤ ص ١٤ وج ١٠ ص ٩ عن البغوي ، وأبي داود ، والنسائي ، وابن حبان ، وفيض القدير للمناوي ج ٤ ص ٣٥٧ وصحيح البخاري (كتاب المحاربين : باب لا يرجم المجنون ولا المجنونة).

١٨٤

الفصل الرابع :

ست وفادات شخصية

١٨٥
١٨٦

١ ـ وفادة أبي رزين لقيط بن عامر :

عن لقيط بن عامر قال : خرجت أنا وصاحبي نهيك بن عاصم [بن مالك بن المنتفق] (لانسلاخ رجب) (١) حتى قدمنا على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فوافيناه حين انصرف من صلاة الغداة ، فقام في الناس خطيبا ، فقال : «يا أيها الناس ، ألا إني قد خبأت لكم صوتي منذ أربعة أيام لتسمعوا الآن ، ألا فهل من امرئ قد بعثه قومه فقالوا : اعلم لنا ما يقول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟ ألا ثمّ رجل لعلّه أن يلهيه حديث نفسه ، أو حديث صاحبه ، أو يلهيه ضال؟! ألا وإني مسؤول هل بلغت؟ ألا اسمعوا تعيشوا ، ألا اجلسوا».

فجلس الناس ، وقمت أنا وصاحبي ، حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصره قلت : يا رسول الله ، ما عندك من علم الغيب؟

__________________

(١) الإصابة ج ٣ ص ٥٧٩ و ٣٣٠ ، ومسند أحمد ج ٤ ص ١٣ ، والمستدرك للنيسابوري ج ٤ ص ٥٦٠ ، ومجمع الزوائد ج ١٠ ص ٣٣٨ ، وما روي في الحوض والكوثر للقرطبي ص ١٥٣ ، وكتاب السنة لابن أبي عاصم ص ٢٨٦ ، والمعجم الكبير للطبراني ج ١٩ ص ٢١١ ، وجزء بقي بن مخلد لابن بشكوال ص ١٥٣ ، وأسد الغابة ج ٥ ص ٤٤ ، والإصابة ج ٦ ص ٣٧٦.

١٨٧

فضحك ، فقال : «لعمر الله» وهز رأسه ، وعلم أني أبتغي سقطه ، فقال : «ضنّ ربك عزوجل بمفاتيح خمسة من الغيب لا يعلمها إلا الله». وأشار بيده.

فقلت : وما هي يا رسول الله؟

فقال : «علم المنية ، قد علم متى منية أحدكم ولا تعلمونه ، وعلم ما في غد وما أنت طاعم غدا ولا تعلمه ، وعلم المني حين يكون في الرحم قد علمه ولا تعلمونه ، وعلم الغيث يشرف عليكم آزلين مسنتين ، فيظل يضحك قد علم أن غوثكم قريب».

قال لقيط : قلت : لن نعدم من رب يضحك خيرا يا رسول الله.

قال : «وعلم يوم الساعة».

قلت : يا رسول الله ، إني سائلك عن حاجتي فلا تعجلني.

قال : «سل عما شئت».

قال : قلت يا رسول الله : علّمنا مما لا يعلم الناس ، ومما تعلم ، فإنّا من قبيل لا يصدقون تصديقنا أحدا ، من مذحج التي تدنو إلينا ، وخثعم التي توالينا ، وعشيرتنا التي نحن منها.

قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ثم تلبثون ما لبثتم ، يتوفى نبيكم ثم تبعث الصائحة ، فلعمرو إلهك ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات ، والملائكة الذين مع ربك ، فيصبح ربك عزوجل يطوف في الأرض قد خلت عليه البلاد ، فيرسل ربك السماء تهضب من عند العرش ، فلعمرو إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ، ولا مدفن ميت إلا شقت القبر عنه حتى تخلفه من قبل رأسه ، فيستوي جالسا.

١٨٨

فيقول ربك : مهيم ـ لما كان فيه.

فيقول : يا رب ، أمس اليوم ، ولعهده بالحياة يحسبه حديث عهد بأهله».

فقلت : يا رسول الله ، فكيف يجمعنا بعد ما تمزقنا الرياح ، والبلى ، والسباع؟

فقال : «أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله ، أشرقت على الأرض وهي مدرة بالية.

فقلت : لا تحيا هذه أبدا ، ثم أرسل ربك عليها ، فلم تلبث إلا أياما حتى أشرفت عليها وهي شربة واحدة ، ولعمرو إلهك لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض ، فتخرجون من الأصواء ، ومن مصارعكم ، فتنظرون إليه وينظر إليكم».

قال : قلت : يا رسول الله ، كيف ونحن ملء الأرض ، وهو عزوجل شخص واحد ينظر إلينا وننظر إليه؟

قال : «أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله عزوجل : الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما ويريانكم ساعة واحدة ، [ولعمرو إلهك أقدر على أن يراكم وترونه من أن ترونهما ويريانكم] لا تضارون ـ وفي لفظ : لا تضامون ـ في رؤيتهما».

قلت : يا رسول الله ، فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه؟

قال : «تعرضون عليه بادية له صفحاتكم ، لا تخفى عليه منكم خافية ، فيأخذ ربك عزوجل بيده غرفة من الماء فينضح بها قبلكم ، فلعمرو إلهك ما تخطئ وجه أحد منكم قطرة ، فأما المسلم فتدع وجهه مثل الريطة البيضاء.

وأما الكافر فتنضحه ، أو قال : فتحطمه بمثل الحمم الأسود.

١٨٩

ثم ينصرف نبيكم ، ويتفرق على أثره الصالحون ، فتسلكون جسرا من النار ، فيطأ أحدكم الجمر ، فيقول : حس.

فيقول ربك عزوجل : أو إنه! ألا فتطلعون على حوض نبيكم ، لا يظمأ والله ناهله قط ، فلعمر إلهك ما يبسط أحد منكم يده الا وقع عليها قدح يطهره من الطوف والبول والأذى ، وتحبس الشمس والقمر فلا ترون منهما واحدا».

قال : قلت يا رسول الله ، فبم نبصر يومئذ؟

قال : «بمثل بصرك ساعتك هذه ، وذلك مع طلوع الشمس في يوم أشرقته الأرض ، وواجهته الجبال».

قال : قلت : يا رسول الله ، فبم نجزى من سيئاتنا وحسناتنا؟

قال : «الحسنة بعشر أمثالها ، والسيئة بمثلها إلا أن يعفو».

قال : قلت : يا رسول الله ، فما الجنة وما النار؟

قال : «لعمرو إلهك إن النار لها سبعة أبواب ، ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما ، وإن للجنة ثمانية أبواب ، ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما».

قال : قلت : يا رسول الله ، فعلام نطلع من الجنة؟

قال : «على أنهار من عسل مصفى ، وأنهار من خمر ما بها من صداع ولا ندامة ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وماء غير آسن ، وفاكهة ، ولعمرو إلهك ما تعلمون ، وخير من مثله معه أزواج مطهرة».

قال : قلت : يا رسول الله ، أولنا فيها أزواج؟! أومنهنّ صالحات؟

قال : «المصلحات للصالحين».

وفي لفظ : «الصالحات للصالحين ، تلذّون بهن مثل لذاتكم في الدنيا ،

١٩٠

ويلذذن بكم غير أن لا توالد».

قال لقيط : قلت : يا رسول الله ، أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه؟

فلم يجبه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

قال : قلت : يا رسول الله ، علام أبايعك؟

قال : فبسط رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يده وقال : «على إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وزيال الشرك ، فلا تشرك بالله إلها غيره».

قال : فقلت : يا رسول الله ، وإن لنا ما بين المشرق والمغرب؟

فقبض النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يده وظن أني أشترط عليه شيئا لا يعطينيه.

قال : قلت : نحل منها حيث شئنا ، ولا يجني على امرئ إلا نفسه؟

فبسط إليّ يده وقال : «ذلك لك ، تحل حيث شئت ولا يجزي عنك إلا نفسك».

قال : فانصرفنا عنه. فقال : «ها إنّ ذين ، ها إنّ ذين ، من أتقى الناس في الأولى والآخرة».

فقال له كعب بن الخدارية ، أحد بني بكر بن كلاب : من هم يا رسول الله؟

قال : «بنو المنتفق أهل ذلك منهم».

قال : فانصرفنا وأقبلت عليه ، فقلت : يا رسول الله ، هل لأحد ممن مضى من خير في جاهليتهم؟

فقال رجل من عرض قريش : والله إن أباك المنتفق لفي النار.

قال : فلكأنّه وقع حرّ بين جلدة وجهي ولحمي مما قال لأبي ، على

١٩١

رؤوس الناس ، فهممت أن أقول : وأبوك يا رسول الله؟ ثم إذا الأخرى أجمل ، فقلت : يا رسول الله ، وأهلك؟

قال : «وأهلي لعمرو الله ، حيث ما أتيت على قبر عامري أو قرشي أو دوسي قل أرسلني إليك محمد ، فأبشر بما يسوؤك تجر على وجهك وبطنك في النار».

قال : قلت : يا رسول الله ، وما فعل بهم ذلك؟ وقد كانوا على عمل لا يحسنون إلا أياه ، وكانوا يحسبون أنهم مصلحون.

قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ذلك بأن الله تعالى بعث في آخر كل سبع أمم نبيا ، فمن عصى نبيه كان من الضالين ومن أطاع نبيه كان من المهتدين».

مديح وتصحيح :

قال الصالحي الشامي :

رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد المسند ، والطبراني.

وقال الحافظ أبو الحسن الهيثمي : أسنادها متصلة ورجالها ثقات. وإسناد الطبراني مرسل ، عن عاصم بن لقيط.

وقال في زاد المعاد : «هذا حديث كبير جليل ، تنادي جلالته وفخامته وعظمته على أنه خرج من مشكاة النبوة ، رواه أئمة السنة في كتبهم ، وتلقوه بالقبول ، وقابلوه بالتسليم والإنقياد ، ولم يطعن أحد منهم فيه ولا في أحد من رواته».

وسرد «ابن القيم» من رواه من الأئمة ، منهم البيهقي في كتاب البعث (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤٠٤ و ٤٠٦ والمواهب اللدنية وشرحه للزرقاني ج ٥ ص ٢٣٠ ـ ٢٣٣ عن أحمد ، وابن معين ، وخلق ، والنسائي ، وابن صاعد ،

١٩٢

ونقول :

قد تضمن الحديث المتقدم مواضع مكذوبة على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ونحن نكتفي هنا بالإشارة إلى بعضها ، وهي التالية :

تأكيد عقيدة التجسيم :

قد زعمت الرواية المتقدمة : أن الله عزوجل : «يظل يضحك قد علم أن غوثكم قريب.

قال لقيط : قلت : لن نعدم من رب يضحك خيرا».

وقالت : «فيصبح ربك عزوجل يطوف في الأرض قد خلت عليه البلاد».

وقالت : «.. فتخرجون من الأصواء ، ومن مصارعكم ، فتنظرون إليه ، وينظر إليكم».

قال : قلت : «يا رسول الله ، كيف ونحن ملء الأرض ، وهو عزوجل شخص واحد ، ينظر إلينا ، وننظر إليه؟!

قال أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله عزوجل : الشمس والقمر آية منه صغيرة ، ترونهما ويريانكم ساعة واحدة ، ولعمرو إلهك أقدر على أن يراكم وترونه من أن ترونهما ويريانكم»

وقالت الرواية أيضا : «فيأخذ ربكم عزوجل بيده غرفة من الماء ، فينضح قبلكم».

__________________

وأبي عوانة ، والطبراني ، وآخرين. وراجع : الإصابة ج ٣ ص ٣٣٠ وأشار إليه في ص ٥٧٩ عن زوائد المسند ، وابن شاهين ، والطبراني.

١٩٣

تمحلات وتأويلات باردة :

وقد حاول هؤلاء : أن يبعدوا هذا النوع من الروايات عن دائرة التجسيم ، فزعموا ـ كما قال في زاد المعاد في قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «فيظل يضحك» ، هذا من صفات أفعاله سبحانه وتعالى التي لا يشبهه فيها شيء من مخلوقاته كصفات ذاته ، وقد وردت هذه القصة في أحاديث كثيرة لا سبيل إلى ردها ، كما لا سبيل إلى تشبيهها وتحريفها ، وكذلك قوله : «فأصبح ربك يطوف في الأرض» ، هو من صفات أفعاله ، كقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (١) ، وقوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) (٢). وينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا [ويدنو عشية عرفة ، فيباهي بأهل الموقف الملائكة] ، والكلام في الجميع صراط واحد مستقيم ، إثبات بلا تمثيل ، وتشبيه وتنزيه بلا تحريف وتعطيل (٣).

ومن الواضح : أن هذا كله من قبيل الضحك على اللحى ، ونحن نوضح هنا هذا الأمر بعض التوضيح بقدر ما تسمح لنا به المناسبة ، فنقول :

إن الحنابلة قد أثبتوا لله صفات وجدت الفرق الأخرى أنها قد أدت بالقائلين بها إلى إثبات صفة الجسمية له تعالى .. ويسمون أنفسهم صفاتية.

فأثبتوا لله تبارك وتعالى يدا ، وإصبعا ، وساقين ، وقدمين ، وعينين ، ونفسا ، ونواجذ وما إلى ذلك مما وردت به أحاديثهم .. وقد أثبتوها له بما لها

__________________

(١) الآية ٢٢ من سورة الحجر.

(٢) الآية ١٥٨ من سورة الأنعام.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٣٣ وفي (ط دار الكتب العلمية) ج ٦ ص ٤٠٥.

١٩٤

من معان حقيقية.

وقالوا : إنه تعالى فوق عرشه في السماوات ، وينزل إلى الأرض.

وقد جمع ابن خزيمة في كتابه : التوحيد وإثبات صفات الرب مئات من هذه الأحاديث ، ثم اختار منها البيهقي الصحاح والحسان ، وحاول تأويلها في كتابه : «الأسماء والصفات» بكثير من التكلف والتعسف. ولو أنه أقر بكذبها لكان أراح واستراح.

ويشير إلى كثرة أحاديث التجسيم ، التي يسمونها أحاديث الصفات قول ابن تيمية : «وقد جمع علماء الحديث من المنقول في الإثبات ، ما لا يحصي عدده إلا رب السماوات» (١). وقد بلغ بهم تشددهم في هذه العقيدة ، حدا جعلهم ينكرون المجاز ، وأطلقوا عليه أنه طاغوت (٢).

ولعل أصدق كلمة في التعبير عن واقع ومنحى هذه الأحاديث هو ما وصف به الفخر الرازي كتاب ابن خزيمة ، فقد قال وهو يتحدث عن آية : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٣) : «واعلم أن محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سماه : ب «التوحيد» ، وهو في الحقيقة كتاب الشرك ، واعترض عليها ، وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات ، لأنه كان رجلا مضطرب الكلام ، قليل الفهم ، ناقص العقل» (٤).

__________________

(١) مجموعة الرسائل ج ١ ص ١٩٨.

(٢) الرسائل السبعة (الضميمة الثالثة للإبانة) ص ٣٦.

(٣) الآية ١١ من سورة الشورى.

(٤) تفسير الفخر الرازي ج ٢٧ ص ٥٠.

١٩٥

مصدر هذه العقيدة :

ولعل مما سهّل تقبل الناس لعقيدة التجسيم : أنها كانت منسجمة مع عبادة الأصنام التي كانت شائعة في العرب ، فهم وإن كانوا قد اصبحوا يعبدون الله ، ولكنهم أعطوه نفس صفات أصنامهم.

يضاف إلى ذلك : أن هذه العقيدة كانت موجودة لدى أهل الكتاب. فالنصارى شبهوا المسيح بالله ، وجعلوه الابن ، وقالوا : إنه الأقنوم الثالث في الذات الإلهية. وكان في العرب نصارى ، وفي الحيرة وفي الشام ، وفي نجران (١).

واليهود الذين كانوا أكثر إغراقا في التجسيم الإلهي ، كانوا يقيمون في المدينة المنورة ، أو قريبا منها مثل خيبر ، وكان لهم وجود قوي في تيماء ، وفي وادي القرى. وفي اليمن كان لهم ملوك. وكان العرب مبهورين بهم ، خاضعين لهم ثقافيا ، وكان لكعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، وعبد الله بن سلام ، وأضرابهم تأثير في إشاعة ثقافة اليهود بواسطة فريق من الناس كانوا يأخذون منهم من دون أي تحفظ ، مثل أبي هريرة ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، ومقاتل وغيرهم ..

وإذا استثنينا عليا وأهل البيت «عليهم‌السلام» ، وكذلك شيعتهم ، فسنجد أن الحكام بعد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد ساعدوا على ذلك ، وكذلك الأمويون والعباسيون.

وأما علي «عليه‌السلام» «فخطبه في بيان نفي التشبيه (أي التجسيم)

__________________

(١) فجر الإسلام ص ٢٦.

١٩٦

وفي إثبات العدل أكثر من أن تحصى» (١). وعنه أخذ المعتزلة القول بالتنزيه.

وقد ذكرنا بعض ما يرتبط بهذا الأمر في الجزء الأول من هذا الكتاب.

الأشاعرة وعقيدة التجسيم :

وقد حاول الأشاعرة أن ينأوا بأنفسهم عن عقيدة الصفات (أعني إثبات الأعضاء والحركات) التي التزم بها أهل الحديث بزعامة أحمد بن حنبل ، وقبله وبعده .. ولكنهم عادوا ليلتزموا بطرف منه ، ووقعوا فيما هربوا منه ، حين اثبتوا رؤية الله تعالى في الآخرة ..

صفات الأفعال .. والتشبيه :

يبقى أن نشير إلى : أن ما زعمه ابن القيم من التفريق بين الأعضاء ، وبين الحركات والأفعال ، فقال : إن التجسيم إنما هو فيما كان من قبيل الأول ، أما الثاني ، فليس منه ، ما هو إلا محاولة فاشلة :

أولا : لأنهم إنما يثبتون له تعالى حركة تلازم صفة الجسمية من حيث كونها حركة له ، ولأجل ذلك قال ابن تيمية : إنه تعالى ينزل إلى السماء الدنيا كما ينزل هو عن المنبر ، ثم نزل ابن تيمية عن منبره (٢). أو أنه تعالى بعد نفخ

__________________

(١) فضل الإعتزال ص ١٦٣.

(٢) راجع : رحلة ابن بطوطة ص ٩٠ و (ط أخرى) ج ١ ص ٥٧ وأبو هريرة للسيد شرف الدين ص ٦٤ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٣ و ٤٢ و ٥٧ عن ابن بطوطة ، والقول الصراح في البخاري وصحيحه الجامع للأصبهاني ص ١٤٣ وكشف الإرتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب للسيد محسن الأمين ص ٣٨٢ وصفات الله عند ـ

١٩٧

الصور يطوف في الأرض ، قد خلت عليه البلاد (١).

ثانيا : إن الرواية قد تضمنت رؤية الناس لربهم ورؤيته لهم حين يخرجون من مصارعهم حين ينفخ في الصور.

ومن الواضح : أن نظرهم إلى ربهم لابد أن يكون على نحو الحقيقة ، كنظره تعالى إليهم ، وذلك لا يكون إلا إذا كان في مكان وجهة بعينها ، وكان جسما أيضا ، تماما كما هو الحال بالنسبة لإشراق الشمس والقمر علينا ، ورؤيتنا لهما. حسبما أوضحته الرواية نفسها.

كما أنها قد تضمنت : أن الله سبحانه وتعالى يأخذ بيده غرفة من الماء ، فينضح بها قبلكم ، ثم هي قد تحدثت عن ضحك الله عزوجل ..

وهما حركتان جسمانيتان بالدرجة الأولى ، ولا مجال لدفع ظهور الكلام في ذلك إلا بالإلتزام بالمجازات البعيدة ، والتأويلات السخيفة الأخرى لكلمة «اليد» ، و «غرفة الماء» ، و «الضحك» وما إلى ذلك ..

__________________

ـ المسلمين لحسين العايش ص ٣١ عن علاقة الإثبات والتفويض ص ٨٦ و ٨٧ وابن تيمية في صورته الحقيقية لصائب عبد الحميد ص ١٨ عن رحلة ابن بطوطة ص ٩٥ والدرر الكامنة ج ١ ص ١٥٤.

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤٠٤ والفايق في غريب الحديث للزمخشري ج ٣ ص ٤٠١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ١٥٧ والدر المنثور ج ٦ ص ٢٩٣ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٩٥ وكتاب السنة لابن عاصم ص ٢٨٧ وتفسير الآلوسي ج ١٥ ص ١٤٢ وغريب الحديث لابن قتيبة ج ١ ص ٢٢٨.

١٩٨

قدم الصفات :

وقال الصالحي الشامي ، تعليقا على قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «فلعمرو إلهك» ، هو قسم بحياة الله تعالى ، وفيه دليل على جواز الإقسام بصفاته ، وانعقاد اليمين بها ، وأنها قديمة ، وأنه يطلق عليه منها أسماء المصادر ، ويوصف بها ، وذلك قدر زائد على مجرد الأسماء ، وأن الأسماء الحسنى مشتقة من هذه المصادر دالة عليها (١).

ونقول :

إننا لا نريد أن نناقش في صحة جميع الفقرات التي أوردها ، غير أننا نكتفي بالقول : إن ما زعمه من قدم صفاته تعالى ، إذا انضم إلى ما يزعمونه من أن الصفات زائدة على ذاته تعالى. ثم ما يحتمه ذلك عليهم من الإلتزام بتعدد القديم ـ إن ذلك ـ يجعلنا نستذكر قول الفخر الرازي : «النصارى كفروا لأنهم أثبتوا ثلاثة قدماء ، وأصحابنا قد أثبتوا تسعة» (٢).

بنو المنتفق من اتقى الناس :

وبعد .. فقد تضمنت الرواية الآنفة الذكر : أن بني المنتفق من أتقى الناس في الأولى ، والآخرة ..

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٤٠٧.

(٢) نهج الحق (مطبوع ضمن دلائل الصدق) ج ١ ص ١٦٢ ، وشرح إحقاق الحق للسيد المرعشي ج ١ ص ٢٣٢ نقلا عن فخر الدين الرازي.

١٩٩

ونقول :

أولا : لا ندري لماذا صار بنو المنتفق من أتقى الناس في الأولى والآخرة ، ولم يكن بنو هاشم أو أية قبيلة أخرى بهذا المستوى؟!

على أننا لم نجد في هذه القبيلة من هو في مستوى سلمان ، أو أبي ذر ، أو المقداد ، أو عمار ، أو أبي الهيثم بن التيهان ، أو قيس بن سعد ، وغيرهم؟! ..

كما أنه لم يشتهر أحد من بني المنتفق بهذه الخصوصية ـ أعني خصوصية التقوى ـ حتى بعد وفاة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بحيث يكون متميزا على من عداه فيها؟!

ثانيا : لم نفهم المقصود بالأولى والآخرة في قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «من اتقى الناس في الأولى والآخرة ..».

فإن كان المقصود بالأولى : الدنيا .. وبالآخرة : الحياة الباقية يوم القيامة .. فما معنى أن يصفهم بالتقوى في الآخرة ، مع أنه لا تكليف فيها ، لتتحقق فيها الطاعة تارة ، والمعصية أخرى؟!

وإن كان المقصود بالأولى : الجاهلية .. وبالآخرة : الإسلام .. فلماذا يكون هؤلاء المشركون من أتقى الناس ، ولا يكون بنو هاشم هم الأتقى من كل أحد ، فإن بني هاشم كانوا على دين الحنفية ، بل كان فيهم الأنبياء والأوصياء ، وفقا للحديث : ما زال الله ينقله من نبي إلى نبي حتى أخرجه من صلب أبيه عبد الله (١).

__________________

(١) راجع : الخصال للصدوق ص ٤٨٣ ومعاني الأخبار ص ٣٠٨ ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) للمير جهاني ج ٣ ص ٩٣ والبحار ج ١٥ ص ٥ وشجرة طوبى ج ٢ ص ٢١٠ وتفسير نور الثقلين ج ١ ص ٦٨ ، وراجع : فتوح الشام للواقدي ج ٢ ص ٢٣.

٢٠٠